موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٧ أغسطس / آب ٢٠٢٢

مفهوم المسيح في التواضع والضيافة

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الثاني والعشرون: مفهوم المسيح في التواضع والضيافة (لوقا 14: 1، 7-14)

الأحد الثاني والعشرون: مفهوم المسيح في التواضع والضيافة (لوقا 14: 1، 7-14)

 

النص الإنجيلي (لوقا 14: 1، 7-14)

 

1 ودَخَلَ يَومَ السَّبتِ بَيتَ أَحَدِ رُؤَساءِ الفِرِّيسِيِّينَ لِيَتَناوَلَ الطَّعام، وكانوا يُراقِبونَه. 7 وَضَرَبَ لِلمَدعُوِّينَ مَثَلاً، وقد رأى كيفَ يَتَخَيَّرونَ المَقاعِدَ الأُولى، قال لَهُم: 8 ((إِذا دُعيتَ إلى عُرْس، فلا تَجلِسْ في المَقعَدِ الأوّل، فَلرُبَّما دُعِيَ مَن هو أَكرَمُ مِنكَ، 9 فَيَأتي الَّذي دَعاكَ ودَعاه فيقولُ لَكَ: أَخْلِ المَوضِعَ لِهذا. فتَقومُ خَجِلاً وتتَّخِذُ المَوضِعَ الأَخير. 10 ولكِن إِذا دُعيتَ فامَضِ إلى المَقعَدِ الأَخير، واجلِسْ فيه، حتَّى إِذا جاءَ الَّذي دَعاكَ، قالَ لكَ: قُمْ إلى فَوق، يا أَخي. فيَعظُمُ شَأنُكَ في نَظَرِ جَميعِ جُلَسائِكَ على الطَّعام. 11 فمَن رفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَه رُفِع )). 12 وقالَ أَيضاً لِلَّذي دَعاه: ((إِذا صَنَعتَ غَداءً أَو عَشاءً، فلا تَدْعُ أَصدِقاءَكَ ولا إِخوَتكَ ولا أَقرِباءَكَ ولا الجيرانَ الأَغنِياء، لِئَلاَّ يَدْعوكَ هُم أَيضاً فتَنالَ المُكافأَةَ على صنيعِكَ. 13 ولَكِن إِذا أَقَمتَ مَأَدُبَة فادعُ الفُقَراءَ والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان. 14 فطوبى لَكَ إِذ ذاكَ لِأَنَّهم لَيسَ بِإِمكانِهِم أَن يُكافِئوكَ فتُكافَأُ في قِيامَةِ الأَبرار)).

 

 

مقدمة

 

يتناول إنجيل يوم الأحد (لوقا 14: 1، 7-14) إرشادات يسوع في التواضع والضيافة من أجل دخول ملكوت السماوات. وكم تعتبر هذه الإرشادات هامة في حياتنا المعاصرة التي هي سباق على اختيار المدعوِّين للمَقاعِدَ الأُولى، وتبوُّء المراكز الأولى، والبحث عن الظهور والتنافس على أماكن الصدارة، وصراع على مراتب الشرف والمناصب. ومن هذا المنطلق، يدعونا الإنجيل أن نحمل سمات التواضع وعدم محبَّة المتكئات الأولى، لا لإذلالنا ولا لتقليل من كرامتنا، وإنما للتصرف بذكاء حفاظا لكرامتنا الشخصية، ولأن يسوع اتَّضع وأخذ المركز الأخير "كعبدٍ"، ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 14: 1، 7-14)

 

1 ودَخَلَ يَومَ السَّبتِ بَيتَ أَحَدِ رُؤَساءِ الفِرِّيسِيِّينَ لِيَتَناوَلَ الطَّعام، وكانوا يُراقِبونَه

 

تشير عبارة " السَّبتِ " في الأصل اليوناني σάββατον وبالعبرية שַּׁבָּת (معناها الراحة) إلى اليوم الذي يترك فيه الإنسان أشغاله المادية حتى يستريح، وذلك تذكاراً لليوم السابع من الخليقة " واَنتَهى اللهُ في اليَومِ السَّابِعِ مِن عَمَلِه الَّذي عَمِلَه، واَستَراحَ في اليَومِ السَّابِعِ من كُلِّ عَمَلِه الَّذي عَمِلَه. وبارَكَ اللهُ اليَومَ السَّابِعَ وقَدَّسَه، لأَنَّه فيه اَستَراحَ مِن كُلِّ عَمَلِه الَّذي عَمِلَه خالِقًا" (تكوين 2: 1 -3). ويقول سفر الخروج يجب أن نستريح في اليوم السابع لأن الله استراح فيه من الخليقة "أُذكُرْ يَومَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَه.  في سِتَّةِ الأَمٍ تَعمَلُ وتَصنَعُ أَعمالَكَ كلَّها.  واليَومُ السَّابِعُ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، فلا تَصنَعْ فيه عَمَلاً" (الخروج 20: 9 -10). وأرسل لهم الله الأنبياء ليرشدوا الشعب إلى حفظ السبت حفظاً روحياً، بحسب رغبة الله (عاموس 8: 5 وهوشع 2: 11 وأشعيا 1: 13 وحزقيال 46: 3). فالراحة الحقيقية تتمثل في نبذ الشر وعمل الخير. وان السبت في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمة السبت ونظمه وفرائضه (مرقس 2: 27)؛ حيث إننا لا نحفظ السبت من اجل السبت، وإنما نحفظه بطريقة روحيَّة التي تقودنا لننعم بالراحة الأبديَّة؛ وعندما جاء المسيح كان موضوع حفظ السبت هو مادة النزاع الأولى بين المسيح وبين شيوخ اليهود. فهؤلاء أرادوا حفظ اليوم حرفياً كعبيد للسبت، بينما علم المسيح " إِن السَّبتَ جُعِلَ لِلإِنسان، وما جُعِلَ الإِنسانُ لِلسَّبت"(مرقس 2: 27). هو ذكرى راحة الرّبّ في الإنسان وراحة الإنسان في الرّبّ. يوم الراحة لنا كمسيحيين هو يوم الأحد هو بوم راحتنا في القائم وراحته فينا. ولم يجرد المسيح يوم السبت من قيمته كيوم للعبادة، فقد ذهب دوماً إلى المجامع للصلاة في يوم السبت (لوقا 4: 16)، ولكنه كان يتحنن ويعمل المعجزات في يوم السبت لأنه رب السبت (مرقس 2: 28). وكان يريد ليوم السبت أن يكون يوم الخدمة وعمل الرحمة. وذكر لوقا الإنجيلي اربع معجزات حصلت يوم السبت: شفاء رجل فيه روح شيطان (لوقا 4: 31)، وشفاء رجل يده اليمنى شلاّء (لوقا 6: 6)، وشفاء المرأة المنحنية الظهر (لوقا 13: 14)، وشفاء رجل مُصاب بالاستسقاء (لوقا 14: 1)، ويسوع شفى هؤلاء الأشخاص في يوم السبت كي يَحثَّ الرؤساء الدينيين على أن يعيدوا النظر في القواعد التي وضعوها ليعرفوا القصد الحقيقي من السبت، وهو تمجيد الله بمساعدة المحتاجين؛ أمَّا عبارة "دَخَلَ بَيتَ أَحَدِ رُؤَساءِ الفِرِّيسِيِّينَ " فتشير إلى يسوع الذي قَبِل دعوة الفريسي مُبيّنا علاقته التي تقوم أولًا على الصداقة. فإنه لم يأتِ لينافسه على كرسيه، بل لفتح قلبّهُ بالحب ولجعله صديقا له في ملكوته. وهذه هي المرة الثالثة التي يقبل يسوع فيها الدعوة لتناول الطعام في بيت أحد رؤساء الفِرِّيسِيِّينَ. في المرة الأولى دعا يسوع الفِرِّيسِيِّينَ للتوبة من خلال الحب (لوقا 7: 36-50)؛ وفي المرة الثانية طلب النقاوة الداخليَّة (لوقا 11: 37)؛ وفي المرة الثالثة يكشف يسوع عن المفهوم الحقيقي لحرمة السبت، وهي العبادة الروحية وعمل الخير في يوم الرب؛ أما عبارة " أَحَدِ رُؤَساءِ الفِرِّيسِيِّينَ " فتشير إلى رئيس المجمع كما ورد في إنجيل متى (9: 18).  أمَّا عبارة "الفِرِّيسِيِّينَ" فتشير إلى نظرة لوقا الإنجيلي إليهم كنظرته إلى أناس يُمثّلون فكر إسرائيل، حيث أن الصلاح كان محصوراً في طاعة الناموس، فجاءت ديانتهم ظاهرية وليست قلبيِّة داخلية. لذلك اشتهر معظمهم بالرياء والكبرياء وتحميل الناس أثقال العرضيات دون الاهتمام لجوهر الشريعة، فأنذرهم يسوع قائلا "الوَيلُ لكم أَيُّها الفِرِّيسِيُّونَ، فإِنَّكم تُؤَدُّونَ عُشْرَ النَّعنَعِ والسَّذابِ وسائِرِ البُقول، وتُهمِلونَ العَدلَ ومحبَّةَ الله. فهذا ما كانَ يَجبُ أَن تَعمَلوا بِه مِن دونِ أَن تُهمِلوا ذاك"(لوقا 11: 42)؛ أمَّا عبارة "يَتَناوَلَ الطَّعام" في الأصل اليوناني φαγεῖν ἄρτον (يأكل خبزًا) فتشير إلى العشاء وهذا دليل أنَّ الفِرِّيسِيِّينَ الذين يؤيِّدون يسوع حتى إنهم يدعونه إلى مائدتهم (لوقا 7: 36 و11: 37 و14: 1)، بعكس متى الإنجيلي الذي يعتبر الفِرِّيسِيِّينَ خصم ليسوع؛ وقبل يسوع الدعوة إلى العشاء لأنه كان مسافرًا ومحتاجًا للنزول ضيفا على الناس للضروريات الجسدية وإفادة المجتمعين بالتعليم. أمَّا عبارة “كانوا يُراقِبونَه" فتشير إلى دعوة الفِريسي ليسوع التي كانت فرصة للبعض لاصطياده في خطأ في كلامه أو في عمل محرَّم عليه في السبت ليشكوه للحكام، ويضعفوا تأثيره في الشعب، إذ كانوا مُغتاضين منه لتوبيخه إيَّاهم (لوقا 11: 4—51)، لكن يسوع لم يخفْ من مواجهة الفِرِّيسِيِّينَ.

 

7 وَضَرَبَ لِلمَدعُوِّينَ مَثَلاً، وقد رأى كيفَ يَتَخَيَّرونَ المَقاعِدَ الأُولى، قال لَهُم

 

تشير عبارة " مَثَلاً " في الأصل اليوناني παραβολή (معناها مقارنة) إلى قصة قالها يسوع إيضاحاً لتعاليمه باستعمال المقارنة في الكلام والتعليم بحسب العقلية الشرقية وتحبذ اللغز، لأنه يثير الفضول ويحمل على البحث. ويمثل هنا المثل أحداثاً قريبة من الواقع والحياة اليومية.  وسُمِّي كلام المسيح مثلا لتضمُّنه معنىً أدبيًا متعلقًا بالتواضع الواجب على المدعوِّين أن يأتوه في الولائم. ويوضِّح ذلك المبدأ بولس الرسول بقوله " على كُلٍّ مِنكم أَن يَتواضَعَ ويَعُدَّ غَيرَه أَفضَلَ مِنه، ولا يَنظُرَنَّ أَحَدٌ إِلى ما لَه، بل إِلى ما لِغَيرِه" (فيلبي 2: 3-4). أمَّا عبارة "وقد رأى" في الأصل اليوناني ἐπέχων (معناها لاحظ) فتشير إلى مراقبة يسوع ومشاهدته وإدراكه من خلال الانتباه الشَّديد اختيار المدعوين المَقاعِدَ الأولى، وذلك قبل تناول الطعام حين اتكأوا للعشاء. أمَّا عبارة "يَتَخَيَّرونَ المَقاعِدَ الأُولى" فتشير إلى قواعد التشريفات التي كانت سائدة في العالم اليهودي حيث أنَّ كل مدعو يحقُّ له أن يختار في بداية الوليمة مكانه المُخصَّص حسب رتبته أو مركزه بالمقارنة مع سائر المَدعوِّين؛ فقد جعل أهل قمران في دستورهم تفصيلا دقيقا لتوزيع المَقاعِدَ على الناس خاصة في الأعياد والمناسبات. وقد أتى الرسل مثل ذلك عند اجتماعهم لأكل الفصح الأخير ووقع بينهم جدال (لوقا 22: 24) لكن يسوع يُحذِّرنا من هذا السلوك "إِيَّاكُم والكَتَبَة، فإِنَّهم يَرغَبونَ في المَشْيِ بِالجُبَب، ويُحِبُّونَ تَلَقِّيَ التَّحيَّاتِ في السَّاحات، وصُدورَ المَجالِسِ في المَجامِع، والمَقاعِدَ الأُولى في المآدِب" (لوقا 20 46). فالمقعد هو المكان الأوّل الّذي يسعى إليه الجميع بل يبذل قصارى جهده ليصل إليه. لكن كما أن العشب الذي ينبت بدون جذر عميق ثابت فيجف سريعًا، هكذا من يهتم بالمَقاعِدَ الأولى والمناصب، بعد أن يصير ظاهرًا كالزهرة يسقط ويصير كلا شيء. قد كُتب: " كُلَّ بَشَرٍ كالعُشْب وكُلَّ مَجْدٍ لَه كزَهْرِ العُشْب: العُشْبُ يَيبَسُ والزَّهْرُ يَسقُط " (1 بطرس 1: 24). فالروح اليهودية روح متعجرفة تجري وراء الكرامات بطريقة غير لائقة، ومن يفعل هذا يصير مكروهًا وموضع سخرية. أمَّا عبارة " المَقاعِدَ الأُولى " باليونانية πρωτοκλισίας (معناها الاسِّرة الأولى) فتشير إلى المتَّكآت الأولى الأقرب من صدر المائدة حيث يجلس رب البيت حسب العادات اليهودية في ذلك الزمن (لوقا 7: 36)". وقد نبّه يسوع عن كبرياء الفريسيين ورياهم بطلب المَقاعِدَ الأولى " هم يُحِبُّونَ المَقعَدَ الأَوَّلَ في المآدِب، وصُدورَ المَجالِسِ في المَجامع" (متى 23: 6).

 

8 إِذا دُعيتَ إلى عُرْس، فلا تَجلِسْ في المَقعَدِ الأوّل، فَلرُبَّما دُعِيَ مَن هو أَكرَمُ مِنكَ

 

تشير عبارة "إِذا دُعيتَ " في الأصل اليوناني Οταν κληθῇς (معناها متى دُعيت) إلى مخاطبة يسوع المفرد تعميما للجميع شاملا كل فرد من الحاضرين. أما عبارة " عُرْس " فتشير إلى وليمة الزواج، لان وليمة العرس تكون كبيرة والمدعوّون كثيرون، إذ يأخذ العريس عروسه إلى بيته بحفل كبير، وتضاء المصابيح وتعقد الولائم، وتدوم الاحتفالات مدة أسبوع (متى 22: 1-10). وصورة العُرس هي من أكثر الصور الـمُفضلة في أسفار العهد القديم للحديث عن العلاقة بين الله وشعبه. لذلك في هذه الصورة، يكشف يسوع أنّ ما يقوله، حتى قبل أن يتعلق بالعلاقة بين الزوجين فهو يتعلق قبلاً بالعلاقة مع الله.  أمَّا عبارة "فلا تَجلِسْ في المَقعَدِ الأوّل" فتشير إلى عدم الحديث عن آداب المائدة والتشريفات، إنمَا الحديث عن الاهتمام بالتواضع وخدمة الآخرين من خلال أخذ المقام الأخير؛ فالمُتَكبِّر يتسارع في إثبات نفسه بجلوسه في المقعد الأول، غير مُدرك أن الناس تسخر منه، وهو لا يشعر لعماه الناجم عن كبريائه.  ولذلك ترك يسوع لنا هذه الوصية "إِن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات" (متى 18: 3). أمَّا عبارة " فَلرُبَّما دُعِيَ مَن هو أَكرَمُ مِنكَ" فتشير إلى مدعو أعظم منك رتبة أو منصبا أو أكبر منك سنا ولمثل هذا المرء الحق في أن يجلس في المقعد الأول وإلاّ نحن نجري وراء الكرامات بطريقة غير لائقة لا تناسبنا ولا تليق بنا، إذ تُظهرنا أغبياء ومتغطرسين، نطلب لا ما يُناسبنا بل ما يُناسب من هم أعظم منا وأسمى.

 

9 فَيَأتي الَّذي دَعاكَ ودَعاه فيقولُ لَكَ: أَخْلِ المَوضِعَ لِهذا. فتَقومُ خَجِلاً وتتَّخِذُ المَوضِعَ الأَخير

 

تشير عبارة "فَيَأتي الَّذي دَعاكَ ودَعاه" إلى رب البيت الذي يَحقَّ له أن يُعيّن لكل مدعو متكأه، وهو يرى أنَّ الذي أتى أخيرًا أعظم منك وانه أهلٌ للمتكأ الذي اتكأت أنت فيه ويأمرك أن تتركه له. أمَّا عبارة "أَخْلِ المَوضِعَ لِهذا " فتشير إلى إعادة المرء ما قد أخذه بغير حق من مجد وكرامة. إذ يقول صاحب الحكمة " لا تَرتَفع لِئَلاَّ تَسقُطَ فتَجلُبَ على نَفسِكَ الهَوان" (يشوع ابن سيراخ 1: 30)؛ كما يعلن ذات الأمر بطريقة تشبيهيّة: " مَن يُعْلِ بابَه يَلتَمِسِ التَّحَطُّم" (أمثال 17: 19). مثل هذا المرء يُبغضه الله بعدل، إذ يُخطئ في حق نفسه ويتعدَّى حدود طبيعته. أمَّا عبارة " فتَقومُ خَجِلاً وتتَّخِذُ المَوضِعَ الأَخير " فتشير إلى موقف سخريَّة عندما تضَّطر بغير إرادتك أن تترك محل الشرف أمام كل المدعوِّين وتجلس في مكان دونك، فترُدَّ للآخرين الكرامة التي ليست لك، لأنك طلبت المجد الباطل. وهذا الأمر يُذكرنا ما ورد في سفر الأمثال " لا تَفتَخِرْ أَمامَ المَلِك، وفي مَكانِ العُظماءِ لا تَقِفْ، فإِنَّه خَيرٌ أن يُقالَ لَكَ: ((اِصعَدْ إلى هنا)) مِن أَن تُحَطَّ أَمامَ الأَمير" (أمثال 25: 6-7). ويلوم النبي داود مُحبِّي الكرامات الزمنيَّة، قائلًا لهم " لِيَكونوا كعُشْبِ السُّطوح الَّذي يَيبَسُ قَبلَ أَن يُقلعَ" (مزمور 129: 6). فقد كُتب: "كُلَّ بَشَرٍ كالعُشْب وكُلَّ مَجْدٍ لَه كزَهْرِ العُشْب" (1 بطرس 1، 24). أمَّا عبارة "المَوضِعَ الأَخير" فتشير إلى متكأ الذي هو بعيد عن صدر المائدة، وذلك لم يكن من اختيار رب البيت بل لمقتضى الحال إذ لم يبق محل غيره.

 

10 ولكِن إِذا دُعيتَ فامَضِ إلى المَقعَدِ الأَخير، واجلِسْ فيه، حتَّى إِذا جاءَ الَّذي دَعاكَ، قالَ لكَ: قُمْ إلى فَوق، يا أَخي. فيَعظُمُ شَأنُكَ في نَظَرِ جَميعِ جُلَسائِكَ على الطَّعام.

 

تشير عبارة "فامَضِ إلى المَقعَدِ الأَخير" إلى اتخاذ المقعد الأخير كي لا تحسب نفسك أعظم من الآخرين، وأنك لست براغبٍ في العظمة والرفعة، وأنك لست بمولعٍ في تحصيل حقوقك.  أمَّا عبارة "المَقعَدِ الأَخير" فتشير إلى التواضع، ونعمة لمن يعرف أنَّ المركز هو خدمة. والمسيح يُعلمنا أن نصير مثله متواضعين، ونختار المكان الأخير؛ وحين نأخذ المَقعَدِ الأَخير نجد المسيح هناك، ونشعر بوجوده بجانبنا. إن دعانا الربّ إلى المقعد الأخير، فذلك لأنّه هو نفسه اتّخذ لنفسه ذلك الموضع، ويُريدنا أن نحمل سماته فينا حتى نقدر أن نلتقي معه. بمعنى آخر، سعْينا للمتكأ الأخير لا يقوم على شعور بالنقص، وإنَّما عن حب حقيقي للمسيح صاحب المتكأ الأخير. ويُعلق القديس بوحنا الذهبي الفم "رفض يسوع طلب الأماكن المرموقة، وإنما بحث عن الأماكن المتضعة". وفي الواقع، لا أحد منا يرغب أن يكون في المرتبة الأخيرة، وهذا الأمر واضح في موقف الرسل الذين واجهوا مشاكل مشابهة إذ "وَقَعَ بَينَهم جِدالٌ في مَن يُعَدُّ أَكبَرَهم. فقالَ يسوع لَهم" أَمَّا أَنتُم فلَيسَ الأًمْرُ فيكُم كذَلِكَ، بل لِيَكُنِ الأَكبَرُ فيكم كأَنَّه الأَصغَر، والمُتَرَئِّسُ كأَنَّه الخادم (لوقا 22: 24-26)؛  كذلك واجهت الجماعة المسيحية الأولى أيضا نفس المشكلة كما جاء في تعليق يعقوب الرسول "إذا دَخَلَ مَجمَعَكم رَجُلٌ بِإِصبَعِه خاتَمٌ مِن ذَهَبٍ وعلَيهِ ثِيابٌ بَهِيَّة، ودَخَلَ أَيضًا فَقيرٌ علَيه ثِيابٌ وَسِخَة، فالتَفتُّم إلى صاحِبِ الثِّيابِ البَهِيَّة وقُلتُم له: ((اِجلِسْ أَنتَ ههُنا في الصَّدْر))، وقُلتُم لِلفَقير: ((أَنتَ قِفْ)) أَو ((اِجلِسْ عِندَ مَوطِئِ قَدَمَيَّ" (يعقوب 2: 1-3)؛  أمّا عبارة "حتَّى إِذا جاءَ" فتشير إلى يكون ذلك نتيجة غير مقصودة وإلاَّ كان التواضع رياءً. أمَّا عبارة " الَّذي دَعاكَ، قالَ لكَ " فتشير إلى رب البيت الذي كان يستقبل المدعوّين عند الباب ويدعوهم إلى الجلوس حول المائدة، ولا يحضر المائدة إلاَّ بعد دخول الكل واتكائهم.  أمَّا عبارة " قُمْ إلى فَوق، يا أَخي" فتشير إلى الوصول إلى المَقاعِدَ الأولى مرورًا بالمعقد الأخير. يريد يسوع أن يقول لنا انَّ الوصول إلى المراتب الأولى يتطلب المرور بالمراتب الأخيرة. هذه هي الطريقة التي أظهرها لنا الأب عبر العصور" حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروش ورفَعَ الوُضَعاء. َشَبعَ الجِياعَ مِنَ الخَيرات والأَغنِياءُ صرَفَهم فارِغين" (لوقا 1: 52-53). أما عبارة " فيَعظُمُ شَأنُكَ في نَظَرِ جَميعِ جُلَسائِكَ على الطَّعام" فتشير إلى اهتمام رب البيت بكَ اهتمامًا خاصًا وبيان أنكَ مستحق الإكرام، وأنك من المتواضعين، ويتبيَّن من ذلك انه ممنوع على المسيحي أن يقبل الإكرام من الناس، لكن لا يجوز أن يطلب ذلك ويرغب في الحصول عليه، ويدّعي انه مستحق له بل يجب أن يستحق الإكرام بفضائله ولا سيما تواضعه. ونحن أين نختار مقعدنا؟ المقعد الأول (الكبرياء) أو المقعد الأخير (التواضع)؟ أوليّة المعقد الّذي نختاره هو الّذي يمنحنا التقدير الحقيقي لحياتنا تجاه الله.

 

11 فمَن رفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَه رُفِع

 

تشير عبارة "مَن رفَعَ نَفْسَه وُضِع" إلى الكبرياء كمبدأ أساسي الذي تكرَّر في الكتاب المقدس (لوقا 11: 43، 18: 14). ويعلق القدّيس مُبارك (بِندِكتُس) " فيوضّح لنا بذلك أنّ الارتفاع هو شكل من أشكال الكبرياء. ويشهد كاتب المزامير على ذلك من خلال قوله: "يا رَبُّ، لم يَستَكبِرْ قَلْبي ولا اْستَعلَت عَينايَ ولم أَسلُكْ طَريقَ المَعالي ولا طَريقَ العَجائِبِ مِمَّا هو أَعْلى مِني" (مز131: 1) "(قواعد رهبانيّة، الفصل 7). وينص هذا المبدأ أنَّ الله يُجازي مَن يمعن في الكبرياء جزاءً وفيراً كما يقول صاحب المزامير "الرَّبّ يَحرُسُ المُؤمِنين وُيبالغُ في جَزاءِ المُتَكبِّرين" (مزمور 31: 24). إنهم "يَتَبَدَّدُون كدُخانٍ في الهَواء (حكمة 5: 14)، فارتفاعهم ما هو إلا مقدّمة لدمارهم كما ورد في سفر الأمثال "قَبلَ التَّحَطّمِ الكِبرِياء وقَبلَ السُّقوطِ تَرَفعٌّ الرُّوح (أمثال 16: 18). فكبرياء الإنسان تنخفض وغطرسته تحتقر ويتعالى شأن الرب وحده! كما جاء في نبوءات أشعيا (أشعيا 2: 6-22)، لذا يُسدي الحكيم يشوع بن سيراخ نصيحته: " لا تَرتَفع لِئَلاَّ تَسقُطَ فتَجلُبَ على نَفسِكَ الهَوان" (يشوع ابن سيراخ 1: 30)؛ ويعلن صاحب سفر الأمثال الأمر نفسه بطريقة تشبيهية "مَن يُعْلِ بابَه يَلتَمِسِ التَّحَطُّم" (أمثال 17: 19). وخير مثال على ذلك هو الشيطان نفسه" قد قُلتَ في قَلبِكَ: ... أَصعَدُ فَوقَ أَعالي الغُيوم وأَكونُ شَبيهاً بِالعَلِيّ. بَل تُهبَطُ إلى مَثْوى الأَمْوات إلى أَقاصي الجُبّ" (أشعيا 13:14-15)؛ وبناء على هذا المبدأ أدان يسوع ما عند الفِرِّيسِيِّينَ من ثقة بالنفس متشامخة كما هو الحال في مثل الفريسي والعشار (18: 14). إنَّ البِرَّ الذي يدَّعي الفَرِّيسي الحصول عليه بأعماله، هو عطية لا يستطيع أحد أن يهبها إلاّ الله كما يوضّح ذلك بولس الرسول "أَكونَ فيه (المسيح)، ولا يَكونَ بِرِّي ذلك الَّذي يأتي مِنَ الشَّريعة، بلِ البِرُّ الَّذي يُنالُ بِالإِيمانِ بالمسيح، أَيِ البِرُّ الَّذي يأتي مِنَ الله ويَعتَمِدُ على الإِيمان" (فيلبي 3: 9)؛ أمَّا عبارة " ومَن وَضَعَ نَفْسَه رُفِع " فتشير إلى مبدأ التواضع. والتواضع أساسًا يكمن في تحويل نظر المرء إلى خارج نفسه وتوجيه النظر للرّبّ، وعظمة الله تعالى ومحدودية الأنسان. وهذا المبدأ مقتبس من حزقيال النبي "يُرفَعُ الوضيعُ ويُوضَعُ الرَّفيع"(حزقيال 21: 31). وخير مثال على ذلك ما حدث مع المسيح نفسه "تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب. لِذلِك رَفَعَه اللهُ إلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء" (فيلبي 7:2-9). فصار المقعد الّذي اختاره كعرش له هو الصّليب. وقد فسّر يسوع هذا المبدأ بصورة عملية بقوله " فمَن وضَعَ نفسَه وصارَ مِثلَ هذا الطِّفل، فذاك هو الأَكبرُ في مَلَكوتِ السَّموات"(متى 18: 4). واستنادا على هذا المبدأ، أدان يسوع كل أدِّعاء وكبرياء. وأكّدته مريم البتول بنشيدها (تـعظّم) "حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروش ورفَعَ الوُضَعاء " (لوقا 1: 52). وفي الواقع سيظهر المتواضعون في يوم الرب، والمتواضعون وحدهم، شبيهون بالله، الذي هم أبناؤه " أَيُّها الأَحِبَّاء نَحنُ مُنذُ الآنَ أَبناءُ الله ولَم يُظهَرْ حتَّى الآن ما سَنَصيرُ إِليه. نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا نُصبِحُ عِندَ ظُهورِه أَشباهَه لأَنَّنا سَنَراه كما هو"(1 يوحنا 3: 2). وقد مدح يعقوب الرسول تلميذ المسيح المتواضع " يَفتَخِرِ الأَخُ الوَضيعُ بِرِفعَتِه والغَنِيُّ بِضَعَتِه" (يعقوب 1: 9). يبدو أن بطرس لم ينسَ هذا المبدأ بقوله " أَيُّها الشُّبَّان، اِخضَعوا لِلشُّيوخ. والبَسوا جَميعًا ثَوبَ التَّواضُعِ في مُعامَلةِ بَعضِكم لِبَعْض، لأَنَّ اللهَ يُكابِرُ المُتَكبِّرين وُينعِمُ على المُتَواضِعين" (1 بطرس 5: 5).  ذكر المسيح الكلام عن التواضع هنا، ولكن يظهر أنَّ هذا المبدأ غير محصور على التصرّف في الولائم بل يطال التواضع في كل أحوال الحياة.

 

12 وقالَ أَيضاً لِلَّذي دَعاه: إِذا صَنَعتَ غَداءً أَو عَشاءً، فلا تَدْعُ أَصدِقاءَكَ ولا إِخوَتكَ ولا أَقرِباءَكَ ولا الجيرانَ الأَغنِياء، لِئَلاَّ يَدْعوكَ هُم أَيضاً فتَنالَ المُكافأَةَ على صنيعِكَ

 

تشير عبارة "قالَ أَيضاً لِلَّذي دَعاه" إلى توجيه يسوع كلامه إلى ربِّ البيت الذي دعا يسوع لتناول الطعام على مائدته بعد توجيه كلامه للمدعوِّين؛ أمّا عبارة " إِذا صَنَعتَ غَداءً أَو عَشاءً" فتشير إلى أكثر المَدعوِّين حينئٍذ من الأعيان والأغنياء. ولعلَّ رب البيت دعاهم ليٌسر بهم ويُسروا به، ويدعونه إلى بيوتهم كما دعاهم. أمَّا عبارة "لا تَدْعُ أَصدِقاءَكَ ولا إِخوَتكَ ولا أَقرِباءَكَ ولا الجيرانَ الأَغنِياء " فتشير إلى حلقة من الأشخاص حوله امتدادا لنفسه. في حين أنَّ دعوة الإنجيل تحملنا إلى ابعد من هذه الحلقة من أَصدِقائنا وإِخوَتنا وأَقرِبائنا وجيرانَنا الأَغنِياء، يمكن للأصدقاء والأخوة والأقارب دعم قريبهم في أوقات الشدة ومساعدته بعدة طرق، كذلك يمكن للأغنياء أن يتبادلون الهدايا، والفقراء لا يستطيعون بل يمكنهم فقط تلقيها. لذلك يطلب منا يسوع توجيه الدعوة إلى الفقراء والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان والمنبوذين غير القادرين على تأدية الواجب بالمثل؛ فأكّد يسوع ذلك بقوله "إِن أَحسَنتُم إلى مَن يُحسِنُ إِليكُم، فأَيُّ فَضْلٍ لَكُم؟ " (لوقا 6: 33). أمَّا عبارة "لِئَلاَّ يَدْعوكَ هُم أَيضاً " فتشير أولا إلى يسوع الذي لا يمنع من دعوة الأصدقاء والأغنياء للوليمة بل المراد من كلامه عدم الاكتفاء بذلك بل انتهاز فرصة للدعوة إلى السخاء تجاه الفقراء، والنزاهة في عمل الخير فننال الجزاء من الله، وإلاَّ ننال الجزاء من الإنسان "الوَيلُ لَكُم أَيُّها الأَغنِياء فقَد نِلتُم عَزاءَكُم "(لوقا 6: 24). أمّا عبارة "فتَنالَ المُكافأَةَ على صنيعِكَ" فتشير إلى دعوة الآخرين لا كتجارة لان الضيافة تقتضي أن يُنفق على الضيف لمجرد إكرامه لا مقابل مكافأة.   لذلك علينا أن نتجنَّب المبدأ المبني على القول القديم: "أعطي الآخر اليوم ليُعطيك غداً"، ولنبتعد عن المقايضة والمتاجرة، ولنعش في المجانية لوجه الله، لإن المجانية توجّه الحياة لنيل المكافأة من الله وليس من الإنسان كما يوصي يسوع " أَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك"(متى 6: 4)؛ وهذه المكافأة هي القيامة كما صرّح يسوع المسيح: "فتُكافَأُ في قِيامَةِ الأَبرار" (لوقا 14: 14).

 

13 ولَكِن إِذا أَقَمتَ مَأَدُبَة فادعُ الفُقَراءَ والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان

 

تشير عبارة "الفُقَراءَ" إلى المحتاجين لخيرات هذه الدنيا إذ ليس لديهم طعام، ولا قدرة على تحصيل القوت الضروري من خلال العمل. وموضوع الشفقة على الفقراء ليست غريبة عن لوقا الإنجيلي (لوقا 14: 13 و16: 19-26 و19: 8). وقد عبّر يسوع عن معزّته الخاصة للفقراء (مرقس 10: 21 و21: 43)، وهي دليل على وجود الله المطلق، ودعوة انتظار كل شيء من نعمته تعالى وليس لديهم ما يعطونه؛ أمَّا عبارة " الكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان " فتشير إلى مختلف فئات الفقراء والمحتاجين الذين لا يستطيعون ردَّ الدعوة ولا يتمكنون من تبادل هذه الوليمة؛ فالكسيح غير قادر على المشي بمفرده وهو يحتاج إلى دعم، والأعرج لا يستطيع أن يذهب بعيدًا. والأعمى غير قادرين على رؤية ما فعله الله له ولا يستطيع رؤية ما يتقدم له. هم ليس لديهم إمكانية تبادل هذه الدعوة، ولكن كل شيء يتلقونه كهبة مجانية وغير مستحقة. وأمَّا عبارة "فادعُ الفُقَراءَ والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان" فتشير إلى نصيحة يسوع التي تعارض العادات المألوفة، وبالتحديد هي أنَّ الأغنياء ينتقون جلساءهم من نفس الطبقة الاجتماعية؛ لانَّ المجتمع كان ينبذ الفقراء ويمنع بعضهم من المشاركة في شعائر العبادة. والواقع، فإن نصوص التلمود المتأخرة تنص في قواعدها على استبعاد عن جماعة الله الفقراء والمساكين والكسحان والعرجان والعميان والبرص، وتُبعدهم شريعة موسى عن الخدمة الكهنوتية. فدعوة الإنجيل هي الانفتاح نحو الجميع، دون تمييز في المستوى الاجتماعي (لوقا 14: 12-14)، ودون تمييز في العِرق كما جاء في تعليم بولس الرسول " فَلا فَرْقَ بَينَ اليَهودِيِّ واليُونانِيّ، فالرَّبُّ رَبُّهم جَميعًا يَجودُ على جَميعِ الَّذينَ يَدعونَه" (رومة 10: 12)، ودون استثناء الخطأة (لوقا 7: 36-50). ويقدَّم العلامة أوريجانوس التفسير الرمزي لهذه الآية "فيرى في الوليمة، المائدة الروحيَّة حيث يليق بنا أن نطرد عنا المجد الباطل ونستضيف الفقراء أو المساكين أي الجهلاء الذين تعوزهم الحكمة، لكي يجدوا في مائدتنا السيِّد المسيح الذي يُغني الكل. ونستضيف الضعفاء الذين يقاومون الضمير الداخلي لكي يُبْرَئوا داخليًا. كما نستضيف العرج، أي الذين ضلّوا عن السلوك في الحق لكي يجدوا الطرق المستقيمة في الرب؛ ونستضيف العُميان الذين ليس لهم بصيرة روحيَّة لإدراك الحق لكي يتمتعوا بالنور الحقيقي. هؤلاء ليس لهم ما يكافؤننا به، إذ لا يجدوا ما يُجيبون به علينا أمام الكرازة المملوءة حبًا ". إن إكرام المساكين له مكافأته لأن المسيح يضع نفسه مكان المسكين والفقير والمريض والمحتاج كما صرَّح:" جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ. الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى31:25-46).

 

14 فطوبى لَكَ إِذ ذاكَ لِأَنَّهم لَيسَ بِإِمكانِهِم أَن يُكافِئوكَ فتُكافَأُ في قِيامَةِ الأَبرار

 

تشير عبارة " فطوبى لَكَ إِذ ذاكَ " إلى الغبطة التي تكون من نصيب من يدعو إلى الوليمة من لا يقدرون أن يكافئوهم بالمثل كما ورد في سفر أعمال الرسل " السَّعادَةُ في العَطاءِ أَعظَمُ مِنها في الأَخْذ" (أعمال الرسل 20: 25). أذا أعطينا دون مقابل نشعر بالمجانية وبالفرح والغبطة والنمو في الإنسانية أيضا.  أمَّا عبارة " لَيسَ بِإِمكانِهِم أَن يُكافِئوكَ " فتشير إلى الفقراء الذين لا يقدرون أن يدعوك إلى الولائم ولا يستطيعون مكافأتك بطرق أخرى، وهنا يدعو يسوع لعيش النزاهة بأسلوب صادق وحقيقي كما أوضحه يسوع "فإِن أَحبَبتُم مَن يُحِبُّكم، فأَيُّ فَضْلٍ لَكُم؟ لأَنَّ الخَاطِئينَ أَنفُسَهُم يُحِبُّونَ مَن يُحِبُّهُم. وإِن أَحسَنتُم إلى مَن يُحسِنُ إِليكُم، فأَيُّ فَضْلٍ لَكُم؟ لأَنَّ الخاطِئينَ أَنفُسَهُم يَفعَلونَ ذلك. وإِن أَقرَضتُم مَن تَرجُونَ أَن تَستَوفوا مِنه، فأَيُّ فَضْلٍ لَكُم؟ فهُناكَ خاطِئونَ يُقرِضونَ خاطِئينَ لِيَستَوفوا مِثلَ قَرْضِهم"(لوقا 6: 32 -34). وهي دعوة يسوع أيضا إلى العطاء بمجَّانية دون مقابل؛ أمَّا عبارة " فتُكافَأُ في قِيامَةِ الأَبرار" فتشير إلى انتظار المكافأة ليس من البشر بل من الله، لذلك علينا أن نعطي من اجل الله. علمنا يسوع أن الفقير والمسكين والمحتاج هو الأوْلى بالاهتمام، إذا كنا نرجو المكافأة في الحياة الأبدية، لأن المحتاج ليس له ما يعطينا إياه عوض ما قدمناه له، فيكون أجرنا مخزونًا عند الله في قيامة الأبرار. أمَّا عبارة " قِيامَةِ الأَبرار" فتشير إلى قيامة الحياة (يوحنا 5: 29) في اليوم الأخير الذي يكافأ الله فيه الأتقياء على كل أعمالهم الصالحة الذي أتوها على الأرض (متى 25: 34-36).  وتدّل الآية هنا على قيامة الأبرار فقط كما كان سائداّ في اعتقاد بعض جماعات من الدين اليهودي، لكن لوقا الإنجيلي يعترف بقيامة الخاطئين أيضًا "راجِيًا مِنَ اللهِ ما يَرجونَه هُم أَيضًا وهو أَنَّ الأَبرارَ والفُجَّارَ سيَقومون"(أعمال الرسل 24: 15). ولكن نهاية هؤلاء مثل نهاية أولئك؟ كلاَّ، فشتَّان بين قيامة الأبرار وقيامة الأشرار، وهـذا ما أوضحه بأجلي بيان سفر دانيال:" وكثيرٌ مِنَ الرَّاقِدينَ في أَرضِ التُّرابِ يَستَيقِظون، بَعضهم لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة، وبَعضُهم لِلعارِ والرَّذلِ الأَبَدِيِّ" (دانيال 12: 2)، وهذا ما أكده السيد المسيح بفمه الطاهر:" أَمَّا الَّذينَ عَمِلوا الصَّالحات فيَقومون لِلحيَاة وأَمَّا الَّذينَ عَمِلوا السَّيِّئات فيقومونَ للقضاء" (يوحنا 5: 29).

 

 

ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 14: 1، 7-14)

 

انطلاقا من تحليل وقائع النص الإنجيلي (لوقا 14: 1، 7-14)، نستنتج انه يتمحور حول موضوع إرشادات يسوع في التواضع والضيافة في سبيل ملكوت السماوات. ومن هنا نتساءل ما هو مفهوم يسوع للتواضع وكيف نعيش التواضع من خلال الضيافة؟

 

1)  ما معنى التواضع في مفهوم يسوع المسيح؟ (لوقا 14: 1-11)

 

ا) مبدأ التواضع:

 

يدعو يسوع تلاميذه إلى التواضع بقوله " إِذا دُعيتَ إلى عُرْس، فلا تَجلِسْ في المَقعَدِ الأوّل، فَلرُبَّما دُعِيَ مَن هو أَكرَمُ مِنكَ" (لوقا 14: 8) مقدّما لنا هذا المبدأ في التواضع بَيتَ أَحَدِ رُؤَساءِ الفِرِّيسِيِّينَ الذي دعاه لتناول الطعام " مَن رفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَه رُفِع)). (لوقا 14: 11). فالتواضع هو أحد الفضائل التي تجعل الناس "يعرفون قدر أنفسهم" ويعاملون سواهم باحترام، وهي عكس الزهو وحب الظهور والكبرياء.

 

إن الإنسان المتواضع بعيد عن الادّعاءات الكاذبة، ولا يتكل على حُكْمه الذاتي بل يقبل الواقع كما هو، ويقول المثل المأثور "ليعلم كل واحد قدره وحجمه"؛ وفي هذا الصدد يقول صاحب سفر الأمثال" لا تَكُنْ حَكيمًا في عَينَي نَفسِكَ إِتَّقِ الرَّبَّ وجانِبِ الشَّرّ"(أمثال 3: 7). يعلق القدّيس مُبارك (بِندِكتُس) " والتواضع في المرتبة الأولى هو أن نحفظ دومًا في نفوسنا مخافة الله، فلا ننساها مهما حصل "(قواعد رهبانيّة، الفصل 7).

 

ومن هذا المنطلق، ليس التواضع إذلالا بل اعترافا بالواقع، والواقع هو أننا لسنا وحدنا صانعي الخير الذي فينا، بل نحن مدينون به للغيرـ ولا سيما لله كما صرّح بولس الرسول " فمَنِ الَّذي يُمَيِّزُكَ؟ وأَيُّ شَيءٍ لَكَ لم تَنَلْه؟ فإِن كُنتَ قد نِلْتَه، فلِمَ تَفتَخِرُ كأَنَّكَ لم تَنَلْه؟" (1 قورنتس 4: 7). فالتواضع لا يشوّه الحقيقة بل ينسب الخير إلى الله ولا ينكره. وأوضح القديس جان فيانِّيه الإنسان المتواضع بقوله " أن يكون الإنسان متواضعا لا يعني أن يعتبر نفسه أدنى مما هو عليه من الذكاء أو المعرفة أو الفضيلة. يكفي المرء ألاَّ يدَّعي أكثر مما له، أن يعترف بفضل ربه والناس عليه، أن يقف أمام الله بحقيقته أي بالقليل من الخير الذي به وبالكثير من الشر. التواضع هو الصدق مع الذات".   

 

ب) مفهوم التواضع

 

المتواضع في اللغة اليونانية ταπεινός هو الشخص الذي لا يرتفع كثيرا عن الأرض. أمَّا الوديع في اليونانية πραΰς فهو المتواضع الذي يجعل خضوعه لله صبوراً، وهكذا نرى أن التواضع هو اتجاه قلب، "تواضع الذهن"، كما ورد في المزمور "القَلبُ المُنكَسِرُ المُنسَحِقُ لا تَزْدَريه يا أَلله" (مزمور 51: 19)، وليس مجرد سلوك خارجي كما جاء في تعليم يسوع "اِحمِلوا نيري وتَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب" (متى 11: 29). ويُعلق القدّيس أمبروسيوس: " ليس التواضع حقارة ولا دناءة بل رفعة مقدّسة، تمنع أن ننتفخ تيهًا في سعادتنا أو أن نحترق غيرة في سعادة غيرنا". ومن هنا التواضع هو فهم الذات عن طريق رؤية أنفسنا كما يرانا الربّ كما يؤكده صاحب المزامير "يا رَبِّ قد سَبَرْتَني فَعَرَفتني، عَرَفْتَ جُلوسي وقِيَامي. فَطِنتَ مِن بَعيدٍ لأَفْكاري، قَدَّرتَ حَرَكاتي وسَكَناتي وأَلِفتَ جَميعَ طرقي. قَبلَ أَن يَكونَ الكَلامُ على لِساني أنتَ يا رَبُّ عَرَفتَه كلَه (مزمور 139، 1-4).

 

ومن هذا المنطلق، فان المتواضع يُقيّم ذاته تقييماً واقعياً دون ادّعاء أنه ليس ما هو عليه. انه يعترف بمحدوديته. ويُعلق القديس بيو: "التواضع هو الحقيقة، والحقيقة هي أنِّي لا شيء. وبالتالي، فإنَ أي شيء جيد فيَّ يأتي من الله"(نهار سعيد)، فهذا ليس احتقار الذات أو وضعها في مرتبة دونيّة، لكنّه إثبات للواقع بمعرفة الذات معرفة حقيقية بما تتضمنه من قوّة وضعف. وتُعلق القدّيسة كاترينا السيانيّة، معلمة الكنيسة في حوار يسوع معها" من خلال معرفتِكِ لنفسِكِ، سوف تصبحينَ متواضعةً لأنّكِ سترين أنّكِ لا شيء من دوني وأنّ كيانَكِ نابعٌ منّي لأنّي أنا أحببتُكِ وأحببت البشر قبل أن يوجدوا "(حوارات (Dialogues)، الفصل الرابع). الاتضاع الحقيقي للإنسان لا يتحقق بمحاولته أن يكون متواضعاً، بل بعلاقته بالله. أنه لا يسعى المتواضع إلى المظهر بل إلى مكان يخدم فيه على خطى "ابنَ الإنسان لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس" (مرقس 10: 45)، فجعل يغسل أرجل تلاميذه "متّخذًا صورة العبد" (فيلبي 2: 7) ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم "لا يوجد شيء، ولا يوجد عمل من الأعمال الصالحة لا يحتاج إلى التواضع. ولا يمكن لفضيلة ما أن تثبت دون التواضع". وتقول الطوباويّة تيريزا الكالكوتيّة " لا نتعلّم التواضع إلاّ من خلال تقبّل الإهانات الموجّهة إلينا" (ما من حبّ أعظم).

 

على الصعيد اللاهوتي، التواضع هو عكس الكبرياء، فهو موقف الخليقة الخاطئة أمام الله الكلي القداسة؛ فالمتواضع يعترف أن ما لديه قد ناله من الله، وهنا يسأل بولس الرسول "فمَنِ الَّذي يُمَيِّزُكَ؟ وأَيُّ شَيءٍ لَكَ لم تَنَلْه؟ فإِن كُنتَ قد نِلْتَه، فلِمَ تَفتَخِرُ كأَنَّكَ لم تَنَلْه؟ (1 قورنتس 4: 7)، وهكذا المتواضع إنسان ضعيف (لوقا 7: 10)، وهو بذاته عَدَمٌ "فإِن ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّه شَيءٌ، مع أَنَّه لَيسَ بِشَيء، فقَد خَدَعَ نَفْسَه" (غلاطية 6: 3)، أو إنسان خاطئ كما اعترف بطرس الرسول أمام الرب "يا ربّ، تَباعَدْ عَنِّي، إِنِّي رَجُلٌ خاطِئ" (لوقا 5: 8). ومثل هذا المتواضع الذي ينفتح لنعمة الله، يُمجِّده الله، وقد قيل في الكتاب المقدس "الرَّبّ يُفقِرُ ويُغْنى يَضَعُ ويَرفَع" (1 صموئيل 2: 7). لذلك يحثنا الكتاب المقدس على التواضع "ازْدَد تَواضُعًا لما ازدَدتَ عَظَمَةً فتَنالَ حُظوَةً لَدى الرَّب لأَنَّ قُدرَةَ الرَّبَ عَظيمة والمُتَواضِعونَ يُمجِّدونَه" (يشوع ابن سيراخ 3: 20-21).

 

ج) التواضع والكبرياء

 

الكبرياء عكس التواضع، وله أنماط متباينة، فهناك المُعجب بنفسه، الذي يطالب بمراتب الشرف كما كان يعمل الكتبة والفريسيون "يُحِبُّونَ المَقعَدَ الأَوَّلَ في المآدِب، وصُدورَ المَجالِسِ في المَجامع، وتَلَقِّيَ التَّحِيَّاتِ في السَّاحات، وأَن يَدعُوَهُمُ النَّاسُ رابي" (متى 23: 6-7)؛ وهناك الذي يحسد الآخرين "لا نُعجَبْ بِأَنْفُسِنا ولا يَتحَدَّ ولا يَحسُدْ بَعضُنا بَعضًا"(غلاطية 5: 26)، وهناك الوقح الساخر المُترفع العينين كما يصفه صاحب الأمثال "ذو التَّكبُرِ والاْنتِفاخِ يُسَمىَّ ساخِرًا لأَنَّه يَعمَلُ بتَكبُرٍ زائِد" (أمثال 21: 24)، وهناك أيضا المُتَكبِّر المرائي الذي يصنع كل ما يصنع ليَظهر للناس، وكله غارق في الرذيلة كما كان يفعل الفريسيون "جَميعُ أَعمالِهم يَعمَلونَها لِيَنظُرَ النَّاسُ إِلَيهم: يُعَرِّضونَ عَصائبَهم ويُطِّولونَ أَهدابَهم"(متى 23: 5)، وهناك المُتَكبِّر الفرِّيسي الذي يثق بِبرّه المزعوم ويحتقر الآخرين كما ورد في مثل الفريسي والعشار (لوقا 18: 9-14). لقد صعد الفريسي إلى الهيكل مدّعيًا أنّه يريد الصلاة؛ لكنّه لم يطلب شيئًا من الله، بل بدأ يمدح نفسه. إضافة إلى ذلك، فقد أهان العشار من كان يصلّي إلى جانبه: هذه ذروة الوقاحة! أمّا العشار "فوقف بعيدًا"، ومع ذلك كان قريبًا من الله: كان توبيخ قلبه يُبعده عن الله، لكن حبّه كان يُقرّبه منه. والله اقترب منه ليسمعه. "الرَّبُّ تَعالى ونَظَرَ إِلى المُتَواضِع أَمَّا المُتَكَبّر"، كهذا الفرّيسي، "فيَعرِفُه مِن بَعيد" (مز 138: 6). وهناك المُتَكبِّر المُتعجرف ذاك الذي يرفض كل تَبعيّة، ويزعم أنه ند لله كما حدث في تجربة آدم وحواء " فاللهُ عالِمٌ أَنَّكُما في يَومِ تأكُلانِ مِنه تَنفَتِحُ أَعيُنُكُما وتَصيرانِ كآلِهَةٍ تَعرِفانِ الخَيرَ والشَّرّ" (تكوين 3: 5)، الكبرياء يجلب الانغلاق على الذات والبعد عن الله. وأخيراً هناك المُتَكبِّر الساخر الذي لا يقبل التوبيخ " السّاخِر لا يحِبّ أَن يُوَبَّخ وإلى الحُكَماءِ لا يَذهَب"(أمثال 15: 12). لذلك يوصي الحكيم يشوع بن سيراخ ابنه " لا تَطلُبْ ما يَتعَذَّر عَليكَ ولا تَنظُرْ فيما يَتجاوَز قُدرَتَكَ" (سيراخ 3: 21).

 

التَّواضُعُ قَبيحٌ عِندَ المُتَكبِّر" (يشوع بن سيراخ 13: 20) ، فالمُتَكبِّر يتعدَّى على الوصايا بلا حياء (عدد 15: 30-31) ، ويسخر بعبيد الله وبوعوده كما صرّح بطرس الرسول " سيَأتي في آخِرِ الأَيَّام قَومٌ مُستَهزِئُونَ كُلَّ الاستِهزاء، تَقودُهم أَهواؤُهَم فيَقولونَ: أَينَ مَوعِدُ مَجيئِه؟ ماتَ آباؤُنا ولا يَزالُ كُلُّ شَيءٍ مُنذُ بَدءِ الخَليقَةِ على حالِه" (2 بطرس 3: 3-4). ومَن تُنجّسه الكبرياء يكون مُغلقاً للنعمة" لذلك يوصي بطرس الرسول بالتواضع "البَسوا جَميعًا ثَوبَ التَّواضُعِ في مُعامَلةِ بَعضِكم لِبَعْض، لأَنَّ اللهَ يُكابِرُ المُتَكبِّرين وُينعِمُ على المُتَواضِعين" (1بطرس 5: 5)، ويعلق إسحَق السريانيّ الراهب " وتذكّر أخطاءك في وقت التجربة كي تَخلَصَ من التكبّر وتكتسب التواضع. لكن لا تيأس. صلّ لله بتواضع ليغفر خطاياك "(أحاديث نسكيّة، الجزء الأوّل، رقم 49).

 

يكون المُتَكبِّر أيضا مُغلقا عن الإيمان كما يوضّح يسوع لليهود بسؤاله "كَيْفَ لَكُم أَن تُؤمِنوا وأَنتَم تَتَلَقَّونَ المَجدَ بَعَضُكم مِن بَعض وأَمَّا المَجدُ الَّذي يأتي مِنَ اللهِ وَحدَه فَلا تَطلُبون؟" (يوحنا 5: 44). فالمُتَكبِّر أعمى بذنبه كما أكد ذلك يسوع للفريسيين "إِنِّي جِئتُ هذا العاَلمَ لإِصدارِ حُكْمٍ: أَن يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون ويَعْمى الَّذينَ يُبصِرون (يوحنا 9: 39-41). ويعلق إسحَق السريانيّ الراهب "من يعترف بخطاياه هو أعظم ممن يقيم الموتى بصلواته. من ينوح ساعةً على روحه هو أعظم ممن يحتضن العالم من خلال تأمّله. من أُعطي له أن يرى حقيقة نفسه هو أعظم ممن أُعطي له أن يرى الملائكة" (أحاديث نسكيّة، السلسلة الأولى، رقم 34).

 

د) يسوع نموذج التواضع

 

يسوع المسيح هو خير نموذج للتواضع. يسوع هو المسيح المتواضع الذي تنبأ عنه زكريا " هُوَذا مَلِكُكِ آتياً إِلَيكِ وَديعاً راكِباً على أَتان وجَحْشٍ ابنِ دابَّة "(متى 21: 5). إنه مسيح المتواضعين، كما جاء في التطويبات "طوبى لِلوُدَعاء فإِنَّهم يرِثونَ الأَرض"(متى 5: 4). التواضع في الخدمة أهمّ من المركز والجاه في عيون يسوع. فيسوع ليس إنساناً فحسب، بل هو أيضاً الرب الذي جاء لخلاص الخطأة، متخذاً جسداً يشبه جسدهم (رومة 38). إنه أبعد ما يكون عن البحث عن مجده (يوحنا 8: 5)، حتى بلغ به التواضع إلى حدّ غسل أرجل تلاميذه (يوحنا 13: 14-16)، وهو الذي مع مساواته لله، تجرَّد من ذاته حتى الموت، الموت على الصليب ليُخلصنا (فيلبي 2: 6-8). ففي يسوع تظهر ليس فقط القدرة الإلهية التي من دونها لما كُنَّا في الوجود، بل فيه تظهر أيضا المحبة الإلهية، التي من دونها لكنَّا قد هلكنا جميعاً (لوقا 19: 10)؛ فإن "كلمة الله" صار بشراً، ليقود الإنسان إلى أوج التواضع، الذي يقوم في خدمة الله وخدمة البشر في سبيل مجد الله خلاص البشر.

 

ولم يتردد بولس الرسول أن يصرِّح بان يسوع " هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب. لِذلِك رَفَعَه اللهُ إلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء " (فيلبي 2: 6-9). يسوع هو أول من اختار المقعد الأخير الّذي هو "الصّليب"، وهو المعقد الّذي دعاه الآب ليجلس أمامه على يمينه.

 

وما أعظم تواضعنا إذا عرفنا أن التواضع هي خدمة " كما يقول السيد المسيح هو خدمة "أَمَّا وقد عَلِمتُم هذا فطوبى لَكُم إِذا عَمِلتُم بِه " (يوحنا 13: 13). وما يشرّف الإنسان هو أن يكون خادما لله ولأخوته البشر. "لِيَكُنِ الأَكبَرُ فيكم كأَنَّه الأَصغَر، والمُتَرَئِّسُ كأَنَّه الخادم " (ة لوقا 22: 26). ويعلق الراهب سيلوانس المتنسك في الجبل المقدس آثوس "الإنسان الذي يعرف الله بفضل روح القدس يتعلّم منه تعالى التواضع وقد أمسى شبيها بمعلّمه الإلهيّ".

 

وما أعظم تواضع يوحنا المعمدان الذي يرسله الرب، ليُعدّ له الطريق! فلا يطلب إلاّ أن يكون نسياً منسياً ذاكَ الذي قال عن نفسه "ذاكَ الآتي بَعدِي، مَن لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه" (يوحنا 1: 27). وما أعظم تواضع مريم عذراء التي اختارها الله أُمّاً لابنه سيدنا يسوع المسيح ومع ذلك لم تودّ أن تكون سوى أمَة له كما أعلنت للملاك جبرائيل " أَنا أَمَةُ الرَّبّ " (لوقا 1: 38) إنه ينتصر بواسطة عذراء متواضعة "لأَنَّه نَظَرَ إلى أَمَتِه الوَضيعة. سَوفَ تُهَنِّئُني بَعدَ اليَومِ جَميعُ الأَجيال " (لوقا 1: 48).

 

نجد مثالاً للاتضاع في الرسول بولس على خطى الرب يسوع رغما من المواهب العظيمة والفهم التي أعطاه إياها الرب، إلاَّ أن بولس رأى نفسه أنه "أَصْغَرُ الرُّسُلِ" (1 قورنتس 15: 9)، ً "أول الخاطئين " (1 طيموتاوس 1: 15). ومثل بولس، فإن المتواضع الحقيقي سوف يُمجد من خلال نعمة الله والصليب، وليس بره الذاتي (فيلبي 3: 3-9).

 

ه) التواضع في خطى المسيح

 

يريدنا يسوع أن نحمل سمة التواضع حتى نقدر أن نلتقي معه، ويُرمز إلى التواضع هنا عدم تخيُّر المَقاعِدَ الأولى بل المقعد الأخير؛ فاختيارنا هذا المقعد لا إذلالا ولا شعور بالنقص إنَّمَا حباً وتشبّهاً بذلك الذي اختار المقعد الأخير. هذا التواضع "علامة المسيح" كما يقول القديس أوغسطينوس.

 

وهذا التواضع يعارض اهتمامات العالم اليهودي في درجات السلطة. ويمكن للإنسان أن يمارس التواضع حتى في الجلوس في المَقاعِدَ الأولى إذا كان مُستحقا لذلك، لكنه لا يطلب ذلك لنفسه بل يترك للآخرين ما يليق به، إذ يسمع الآخر يقول له" قُمْ إلى فَوق" (لوقا 14: 10). هو تواضع ابن الله، تواضع المحبة. "حيث التواضع فهناك المحبة" يقول أوغسطينوس.  ولا بد من إّتباع طرق هذا التواضع "الجديد" لكي نمارس وصية المحبة الجديدة كما جاء في تعليم بولس الرسول ""أُناشِدُكم إِذًا، أَنا السَّجينَ في الرَّبّ، أَن تَسيروا سيرةً تَليقُ بِالدَّعوَةِ الَّتي دُعيتُم إِلَيها، سيرةً مِلؤُها التَّواضُعُ والوَداعَةُ والصَّبْر، مُحتَمِلينَ بَعضُكُم بَعضًا في المَحبَّة (أفسس 4: 2). فليكن المقعد الأول الذي نسعى إليه هو مكان الذي نخدم فيه ولا مكان نبحث فيه عن المظاهر والكبرياء.

 

ويُعتبر التواضع من أنجع الطرق لمن يرغبون السير في درب القداسة، فقال بولس " وأَنتُمُ الَّذينَ اختارَهمُ اللهُ فقَدَّسَهم وأَحبَّهم، اِلبَسوا عَواطِفَ الحَنانِ واللُّطْفِ والتَّواضُع والوَداعةِ والصَّبْ " (قولسي 3: 12). وإذا تصرَّفَ أحدٌ بتواضعٍ فإنَّه يقتلعُ الخطايا من أصولهِا. ويشهدُ على ذلك العشّارُ الذي لم يقدِرْ أن يذكرَ بعضَ الحسَناتِ له، فقدَّمَ التواضعَ بدلَ كلِّ شيءٍ، وأزالَ بذلك عن مَنكِبَيْهِ حِمْلَ الخطايا الثقيل. وقد مدح يعقوب الرسول ذلك، إذ كتب هكذا: " لِيَفتَخِرِ الأَخُ الوَضيعُ بِرِفعَتِه والغَنِيُّ بِضَعَتِه" (يعقوب 1: 9-10)، وشدَّد الرسول على السير في التواضع " تَواضَعوا تَحتَ يَدِ اللهِ القادِرَة لِيَرفَعَكم في حينِه" (1 بطرس 5: 6). فالرب لا يزدري المتواضع "الذَّبيحةُ للهِ روحٌ مُنكَسِر القَلبُ المُنكَسِرُ المُنسَحِقُ لا تَزْدَريه يا أَلله." (مزمور 51: 19).

 

نستنتج مما سبق أنَّ الله ينظر إلى المتواضعين ويحنو عليهم كما يقول صاحب المزامير "الرَّبُّ تَعالى نَظَرَ إلى المُتَواضِع، أَمَّا المُتَكبِّر فيَعرِفُه مِن بَعيد" (مزمور 138: 6)، وأنّ الذين "يتحلَّوْن بثوب التواضع في علاقاتهم المتبادلة كما جاء في تعليم بطرس الرسول " والبَسوا جَميعًا ثَوبَ التَّواضُعِ في مُعامَلةِ بَعضِكم لِبَعْض، لأَنَّ اللهَ يُكابِرُ المُتَكبِّرين وُينعِمُ على المُتَواضِعين" (1 بطرس 5: 5)، المتواضعون هم الذين يبحثون عن منفعة الآخرين، ويجلسون في المقعد الأخير كما جاء في تعليم بولس الرسول "لا تَفعَلوا شَيئًا بِدافِعِ المُنافَسةِ أَوِ العُجْب، بل على كُلٍّ مِنكم أَن يَتواضَعَ ويَعُدَّ غَيرَه أَفضَلَ مِنه" (فيلبي 2: 3-4).

 

 

2) التواضع من خلال الضيافة (لوقا 13: 12-14)

 

بعدما طلب يسوع المسيح من الفِرِّيسِيِّينَ والكتبة أن يسلكوا بروح التواضع ويتحرَّروا من محبَّة المجد الباطل وألاَّ يطلبوا المَقاعِدَ الأولى، يطلب منهم أيضا محبَّة الفقراء: " إِذا أَقَمتَ مَأَدُبَة فادعُ الفُقَراءَ والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان" (لوقا 14: 13). ويعلق القديس كيرلس الكبير "فلا يستضيفوا في ولائمهم الأغنياء لطلب المديح وحب الظهور، بل المحتاجين والمعوقين والمتألَّمين". ومن هنا نبحث في الضيافة كفعل رحمة وشهادة إيمان.

 

ا) الضيافة فعل رحمة:

 

يذكّر الضيف في الكتاب المقدس الغريب المُستبْعد والمستعبد كما ورد في أعمال الرسل "سيَنزِلُ نَسْلُه في أَرضٍ غَريبة، فتُستَعبَدُ وتُعامَلُ بِالسُّوءِ مُدَّةَ أَربَعِمِائةِ سَنة (أعمال 7: 6)، وصفه أيضا كعابر سبيل على الأرض كما جاء في رسالة العبرانيين" في الإِيمانِ ماتَ أُولئِكَ جَميعًا ولَم يحصُلوا على المَواعِد، بل رَأَوها وحَيَّوها عن بُعْد، واعتَرفوا بِأَنَّهم غُرَباءُ نُزَلاءُ في الأَرض" (عبرانيين 11: 13). هذا الضيف في حاجة إذاً لقبوله، ومعاملته بمحبة، باسم الله الذي يُحبُّه كما قيل عن الله في الكتاب المقدس "منصِف اليَتيم والأرمَلة ومُحِبُّ النَّزيل، يُعْطيه طَعامًا وكسوَةً. فأَحِبُّوا النَّزيل، فإِنَّكم كُنتُم نُزَلاءَ في أَرضِ مِصْر" (تثنية 10: 18-19).

 

ويقول لنا المسيح لا يجوز التردّد في إزعاج الأصدقاء، عندما لا تتوفر لدينا الوسيلة اللازمة لسدّ احتياجات ضيف غير متوقع (لوقا 11: 5-6)، لان الترحيب بالضيف يدلّ على المحبة الأخوية التي على المسيحي أن يمارسها نحو الجميع كما يوصي بولس الرسول "كُونوا لِلقِدِّيسينَ في حاجاتِهِم مُشارِكين وإلى ضِيافةِ الغُرَباءِ مُبادِرين"(رومة 12: 13). " فمَن يَرحَمِ الفَقير َيُقرِضِ الرَّبّ فهُو يُجازيه على صَنيعِه" (أمثال 19: 17). إنه يعرف القرض ويعد بالوفاء به (متى 18: 23).

 

ب) الضيافة شهادة إيمان:

 

ليست الضيافة فعل رحمة تجاه الآخرين فحسب، إنما هي أيضا شهادة إيمان. وفي قائمة ثمار الروح، يضع بولس الإيمان إلى جانب التواضع "أَمَّا ثَمَرُ الرُّوح فهو المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ والوَداعةُ والعَفاف"(غلاطية 5: 22-23). فإن هاتين الفضيلتين مرتبطتان إحداهما بالأخرى، من حيث إن كليهما تُعبّران عن استعداد للانفتاح نحو الله، وخضوعٍ كله ثقة لنعمتِه وكلمتِه.

 

ويكشف يسوع عن سر الضيافة بانه هو نفسه يقوم بالخدمة على المائدة "طوبى لأُولِئكَ الخَدَم الَّذينَ إِذا جاءَ سَيِّدُهم وَجَدَهم ساهِرين. الحَقَّ. أَقولُ لكم إِنَّه يَشُدُّ وَسَطَه ويُجلِسُهُم لِلطَّعام، ويَدورُ علَيهم يَخدُمُهم"(لوقا 12: 37)، وهو نفسه الذي يجعلهم يشاركونه في مائدته كما قيل في الكتاب "هاءَنَذَا واقِفٌ على البابِ أَقرَعُه، فإِن سَمِعَ أَحَدٌ صَوتي وفَتَحَ الباب، دَخَلتُ إِلَيه وتَعَشَّيتُ معه وتَعَشَّى معي"(رؤيا 3: 20). لنتخرَّج إذاً في مدرسة المسيح المعلم الذي هو "وديعٌ مُتواضِعُ القَلْب" (متى 11: 29).

 

ويعلن المسيح في ساعة الدينونة الأخيرة ، أمام الجميع، انه من خلال الضيف وفي الضيف، المسيح نفسه هو الذي نقبله بالإيمان "لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني" (متى 25: 35)، أو نرفضه "كُنتُ غَريباً فما آوَيتُموني، وعُرياناً فما كَسوتُموني، ومَريضاً وسَجيناً فما زُرتُموني" (متى 25: 43)، إنه المسيح الذي نعترف به أو ننكره، كما حدث في زمن مجيئه على أرضنا بين خاصته: فهو ليس فقط عند ميلاده، لم يكن له موضع في الفندق (لوقا 2: 7)، بل حتى في آخر حياته، العالم لم يعترف به، وذوه لم يقبلوه (يوحنا 1: 9 -11). أمَّا الذين يؤمنون به، فيقبلون "باسمه "، المرسلين من قِبله كما صرَّح يسوع:" مَن قَبِلَ الَّذي أُرسِلُه قَبِلَني أَنا ومَن قَبِلَني قبِلَ الَّذي أَرسَلَني" (يوحنا 13: 20). فبدلاً من معاملة الضيف كمدين (سيراخ 29: 24-28)، أو كمزعج لا نوليه ثقة (سيراخ 11: 34). ونتذمّر عليه (1 بطرس 4: 9)، علينا أَن نؤثر استقباله هو الذي لن يتمكن من مكافأتنا عما نقدّمه له من خدمات كما أوصى يسوع "إذا أَقَمتَ مَأَدُبَة فادعُ الفُقَراءَ والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان" (لوقا 14: 13).

 

إن كل مسيحي (1 طيموتاوس 5: 10). ولاسيما "الأسقف" (1 طيموتاوس 3: 2)، ينبغي أن يرى فيمن يقرع بابه (رؤيا 3: 20)، ابن الله الذي يأتي بصحبة أبيه ليغمره بالنعم، وليجعل له عنده مقاماً كما وعد يسوع "إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً"(يوحنا 14: 23). فالمسيح يضع نفسه مكان المسكين والفقير والمريض والمُحتاج (متى 31:25-46). ويستقبل يسوع كل مسيحي حاول استقباله من خلال الضيف الفقير والمحتاج، ويُدخله عندئذ لا كضيف بل كابنٍ إلى ملكوته "في بَيتِ أَبي مَنازِلُ كثيرة ولَو لم تَكُنْ، أَتُراني قُلتُ لَكم إِنِّي ذاهِبٌ لأُعِدَّ لَكُم مُقاماً؟" (يوحنا 14: 2-3).

 

ونستنتج مما سبق انه علينا أن نعيش بتواضع، عندئذٍ الرب يعدنا أنه إذا كنا متواضعين فسوف نُرفع أمام وجه ونجد نعمة؛ ولا نتردَّد أن نقدم الضيافة والحسنات، متذكرين أننا فُدينا من الخطيئة بثمن دمه (1 قورنتس 6: 19-20). وأننا إذا كنا محسنين مع أولئك الذين لا يستطيعون سدادنا، فسنكفِّر عن خطايانا ونجد البركة في قيامة الأبرار، مع العلم أننا لَسنا أَهلاً لِأَن يدخل الرب تَحتَ سَقْفنا (لوقا 7: 6) ولَسنا أَهْلاً بَعدَ خطيئتنا لأَن ندعى لله أبناء (لوقا 21:15).

 

 

الخلاصة

 

يبدو لأول وهلة أن يسوع يهتم في آداب الولائم واللباقة الاجتماعية كما ورد في سفر الأمثال (أمثال 25: 6-7) لكن نصيحته تنتهي بعبرة في التواضع تتعارض مع اهتمامات الكتبة والفِرِّيسِيِّينَ بالمراتب والمقامات والمراكز والمناصب. ومن هذا المنطلق، فإن يسوع يُعلمنا أولا ألاَّ نسعى لاختيار أماكن الصدارة. فالخدمة أهم من المركز والجاه في ملكوت الله. ثانيا: ألاَّ نقتصر دعوتنا على من هم قادرون أن يقابلوننا بالمثل، بل أن نقدّم خدمتنا لكل إنسان وخاصة لمن لا يقدر على رد الدعوة كي نتمكن الحصول على الثواب في قيامة الأبرار كما جاء في تعليم المسيح "طوبى لَكَ إِذ ذاكَ لِأَنَّهم لَيسَ بِإِمكانِهِم أَن يُكافِئوكَ فتُكافَأُ في قِيامَةِ الأَبرار" (لوقا 14: 14).

 

ولاحظ سيدنا يسوع المسيح أيضا أن المدعوين لبيت الفريسي يختارون الأماكن الأولى. لذلك دعانا يسوع أن نسلك بالاتضاع بعضنا مع بعض، حتى ترتاح نفوسنا، وننال الكرامة الحقيقية. ومن خلال حديثه للفريسي الذي دعاه، لاحظ أنه أشرك في وليمته الأقرباء والأغنياء، وعلمنا أن الفقير والمسكين والمحتاج هو الأولى بالاهتمام، إذا كنا نرجو المكافأة في الحياة الأبدية، وليس في هذه الأرض. لأن المحتاج ليس له ما يعطينا إياه عوض ما قدمناه له، فيكون أجرنا مخزونًا في قيامة الأبرار. " ما كانَ في العالَمِ مِن حَماقة فذاكَ ما اختارَه اللهُ لِيُخزِيَ الحُكَماء، وما كانَ في العالَمِ مِن ضُعْف فذاكَ ما اختارَه اللهُ ليُخزِيَ ما كانَ قَوِيًّا، وما كانَ في العالَمِ مِن غَيرِ حَسَبٍ ونَسَبٍ وكان مُحتَقَراً فذاكَ ما اختارَهُ الله: اِختارَ غَيرَ المَوجودِ لِيُزيلَ المَوجود، حتَّى لا يَفتَخِرَ بَشَرٌ أَمامَ الله" (1 قورنتس 1، 27-29).

 

يدعونا يسوع المسيح أن نكون تلاميذه ونتشبَّه به "احمِلوا نيري وتَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب، تَجِدوا الرَّاحَةَ لِنُفوسِكم " (متى 11: 29).  فهو رب الكل وع ذلك أخذ المكان الأخير ليترك المجال لأن نكون الأول، ويدعونا وأيضاً أن نكون مثل الله عندما لم يدع إلى مائدته الأغنياء بل المساكين والعرجان والعميان الذين حطَّمتهم الخطيئة.

 

 

دعاء
 

أيها الآب السماوي، علّمنا، من خلال ابنك يسوع، أن نقاوم جميع أشكال الكبرياء والمجد الباطل، وساعدننا كي نصبح على مثالك متواضعين فنأخذ المَقْعد الأخير، ونتبع ابنك يسوع في طريق التواضع الحقيقي من خلال خدمة الآخرين، وأن نرى حضورك في الفقراء والمساكين والمنبوذين والمرضى.  آمين.

 

 

قصة حقيقية: التواضع

 

كان الشاعر الإنجليزي توماس هاردي (1840 – 1928) ذا شهرة كبيرة وأصبح ملكا لمؤسسة التراث القومي بحيث كانت أية صحيفة مستعدة أن تدفع مبالغ هائلة مقابل نشر قصائده. ومع ذلك كان هو معتاداً أن يُرسل قصيدته الشعريّة بالبريد ومع القصيدة كان يُرسل دائماً مغلّفاً مختوماً ومُعنوناً من أجل إعادة كتاباته في حالة رفضها. بالرغم من كلّ عظمته فقد كان متواضعاً بما يكفي كي يفكّر بإمكانيّة رفض عمله. "إِزْدَد تَواضُعًا كلما ازدَدتَ عَظَمَةً فتَنالَ حُظوَةً لَدى الرَّب" (سيراخ 3، 18).

 

 

قصة حقيقية: الضيافة

 

بعد الاحتفال العروسين السيد فيكتور ريبيرو والسيدة بولا ميريغيتي في كنيسة كاثوليكيّة في مدينة غواراباري في البرازيل، قرَّرا دعوة الأطفال الفقراء إلى وليمة العرس وحضر 160 شخصا الحفل.

 

وقال العريس: "قرَّرنا دعوة من هم حقاً بحاجة لأن لأفراد عائلتنا لا يحتاجون إليه. لا أعتبر الوليمة التقليديّة أمراً سيئاً، فالزواج يستحق الاحتفال لكنَّنا قرَّرنا ببساطة عدم الاحتفال بهذه الطريقة".

 

 ويقول العروسان انهما فكرا في هذه المبادرة بعد أن ألهمهما النص الإنجيلي " إِذا صَنَعتَ غَداءً أَو عَشاءً، فلا تَدْعُ أَصدِقاءَكَ ولا إِخوَتكَ ولا أَقرِباءَكَ ولا الجيرانَ الأَغنِياء، لِئَلاَّ يَدْعوكَ هُم أَيضاً فتَنالَ المُكافأَةَ على صنيعِكَ" (لوقا 14: 12). 

 

يدعونا يسوع أن نقدّم خدمتنا لكل إنسان وخاصة لمن لا يقدر على رد الدعوة للحصول على الثواب في قيامة الأبرار كما جاء في تعليم المسيح "طوبى لَكَ إِذ ذاكَ لِأَنَّهم لَيسَ بِإِمكانِهِم أَن يُكافِئوكَ فتُكافَأُ في قِيامَةِ الأَبرار" (لوقا 14: 14).