موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في حاضرة الفاتيكان في الأمس القريب الذي صادف الرابع من أيلول في مطلع الربع الأول من هذا الشهر، أصبح لدينا قديسة جديدة. نعم في ساحة القديس بطرس التي امتلأت بالآف الجموع، هذه الساحة التي تعبق برائحة قديسيها وقديساتها، أصبحت شاهدة على انضمام الأم تريزا دي كالكوتا الى كوكبة كبيرة من القديسين والقديسات الذين سبقوها على مدى العصور في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. قبل أسابيع قليلة غصّ المكان بالجموع من جميع أنحاء روما وخارجها، من المؤمنين والمكرسين والضيوف والملوك الذين حضروا من كل أنحاء العالم للمشاركة بمراسم اعلان تقديس الأم تريزا. وفي هذا اليوم التاريخي الهام، أعلن قداسة البابا فرنسيس الأم تريزا دي كالكوتا قديسة بهذه الكلمات "من الآن وصاعدًا ستدعى الأم تريزا من كالكوتا قديسة". وما إن زف الخبر حتى انطلقت أجراس الفرح مدوية وامتلأ المكان ابتهاجًا وسرورًا بين الجموع الكبيرة. اللافت أن هذا الحدث جاء بعد مرور ?? عشر عام بعد وفاة الأم تريزيا، لتكون بذلك أول قديسة ترفع على الهياكل في أقصر فترة زمنية بعد وفاتها . رتبة القداسة ليست بالأمر السهل، واعتقد أن مثل هذا الحدث الكبير يتطلب مرورًا زمنيًا كبيرًا لحدوثه ويأتي ضمن عدة شروط ودراسات معمقة وتفصيلية، فضلاً عن حصول معجزة. والكثير يعلم أيضًا أن الأم تريزا هي ليست الأولى في تاريخ الكنيسة التي اعتلت مرتبة القداسة، ولن تكون الأخيرة، ولكن هذا الحدث العظيم وضعنا في السؤال مجددًا لماذا الأم تريزا مبكرًا دون غيرها؟ وللاجابة على هذا السؤال، نحن بحاجة لسرد مسيرة حياة بأكملها لهذه القديسة التي تقدمت جدًا دون غيرها. وربما هذه السطور المتواضعة لا تسطيع حتى إيجاز عمر من عطائها المستمر، الذي لم يعرف أن يتوقف يومًا في مصارعة التحديات، ولم يعرف اليأس رغم كل الصعوبات والمواجهات التي نعرف جزءًا بسيطًا عنها ولا نعرفها كلها. من حضر أو راقب من خلال محطات التلفزة الدينية المنتشرة التي نقلت الحدث مباشرة في يوم التقديس أو المواقع الإلكترونية المتخصصة كموقع أبونا "إعلام من أجل الانسان" الذي رصد لنا الحدث بكل تفاصيله من قلب روما، أو المواقع وصفحات التواصل الأخرى، أو حتى السفر إلى روما والمشاركة الحية، لا بدّ أنه أدرك بأنه كان يومًا حافلاً في القداسة بامتياز، وأن هذا الحدث لم يكن صدفة، ولا بد أن حياة الأم تريزا خضعت لدراسة موسعة من قبل الفاتيكان عن حياتها وعملها الدؤوب والمتواصل وشغفها لترجمة الكلمة بالعمل، وحرصها على أن تكون على أرض الواقع إكرامًا للإنسان والإنسانية. وإن هذا المجهود المضني الذي قامت به لم يكن ليتحقق دون تعب وصبر ممزوج بالإيمان، والثبات القوي، والإصرار والعزيمة والعطاء بحب غير مشروط، وإن ما ميز هذا العطاء المستفيض من شخصها كان مملوء بمحبة وتضحية كبيرة ومتواصلة حتى إنكار الذات، دون تميز او تفريق بين طبيعة البشر على مختلف أجناسها. إذًا باختصار شديد هذا ما كانت علية قديسة اليوم "الأم تريزا دي كالكوتا"، بل كبرت بإيمانها إلى أن وصلت على صنع المعجزات! واستحقت أن تنال نعمة القداسة لتلفت بذلك أن أنظار العالم من جديد. من حظَي بمتابعة مسيرتها وسيرة حياتها من خلال مرافقتها في حياتها، أو من خلال قراءة ومشاهدة إنجازاتها المتواصلة في العطاء والرحمة لخدمة الكلمة، انطلاقًا من الهند كالكوتا معقل بداياتها وصولاً إلى العالم، يرى أنه وبالرغم من أنها سيرة كبيرة وطويلة وشائكة وصعبة ولكنها ربما لم تاخذ حقها بالكامل، وإن حياتها السابقة ما زالت تستحق إلى بحث أكبر ودراسة أعمق وأشمل وأدق، وربما الى فليم سينمائي بإنتاج ضخم وعلى مستوى عالمي "على طريقة ميل جيبسون"، علنا نرد الجميل ونسلط الضوء أكثر، لا سيما في التحديات والصعوبات الجسام التي واجهتها والقوة الروحية التي كانت تتمتع بها وعلاقتها الإيمانية والروحية التي دفعتها لتكون اليوم على ما هي علية، فقديسة اليوم الأم تريزا، والتي أصبحت أيقونة في القداسة هي مدرسة في الرحمة بحد ذاتها في زمن انعدمت به الرحمة وحلت الغوغاء والفوضى والكراهية، كم نحن بحاجة دائمة كي نتعلم وننهل من هذه الأم العظيمة.. القديسة.. الاستثنائية. نعم فمن خلالها نستطيع أن نتعلم نحن وغيرنا طريق الصعود إلى مرتبة القداسة، ونتعلم أيضًا فن الحب بشغف والاندفاع للخدمة حتى الرمق الأخير، لأن من خلال عيشها لهذا الحب الإلهي المليء بالشغف، أثبتت أنها استطاعت أن تقدم الرحمة وأداء رسالتها في الحياة على طريقتها، حيث كانت متمسكة برسالتها وتعلم علم اليقين أن الحياة على هذه الارض ليست صدفة كما يقول الكاتب "ريك وارين" أنت لست صدفة لقد خلقت لله ولأجل الله ولن يكون للحياة معنى إطلاقًا ما لم تصل إلى فهم ذلك". وها هي قديسة اليوم كانت تعلم أن الحياة مرحلة موقتة، وأن ما تتوق إليه كان السماء الأبدية، تمامًا على خطى الكتاب المقدس "ونحن غير ناظرين الى الاشياء التى ترى، بل الى التي لا ترى. لأن التي ترى وقتيه، وأما التي لا ترى فأبدية" (كورونثوس الثانية ?:?). وهذا جل ما ينقصنا نحن وربما كثيرين في هذه الأيام، حيث لا زلنا غير مبالين ومتمسكين بمباهج الحياة وترفها ومغرياتها وكراسيها ومناصبها، وأصبحنا نفتعل الحروب للفوز بهذه الحياة الفانية، متجاهلين الكنوز السماوية التي تنتظرنا، غير ناظرين كم نستطيع أن نقدم لأنفسنا وللآخرين، إلى متى سنقف متفرجين جالسين عند حدود السؤال؟ متى سيكون لنا هدف حقيقي؟ متى سيكون لحياتنا معنى؟ متى سنبدأ خطوة على درب القداسة من خلال أعمالنا الحياتية على مثال تريزا؟ متى سنعرف أن وجودنا ليس صدفة؟ لماذا لا نبدأ؟ لماذا نتباطأ؟ لماذا ننسى أن نقدم شكرً لله على نعمه وصبره علينا ونتامل معا عظمة عطاياه في قديسية لا سيما قديسة اليوم الام تريزا دي كالكوتا، التي لم تعرف المخاض يوما ولم تختبره الا انها رغم ذلك انتزعت لقب الأمومة من حضن هذا العالم بتبنيها طريق الرحمة والمحبة لجميع المستضعفين وأفقر الفقراء! ويعود السؤال والآندهاش كيف استطاعت؟ كيف اتسع قلبها الصغير تلك الآلاف المهمشة التي احتضنتهم وأحبتهم وأعطتهم؟ كيف استطاعت شفيعة كالكوتا أن تجمع العالم حولها اليوم من جديد، لتكون الحدث. والجواب أن الرحمة التي تعاملت بها مع البشرية قد انتصرت، انتصرت وأثلجت قلوب الكثيرين المتعطشين والمعوزين للرحمة في هذا العالم، وأكدت لنا من جديد أنه لا زال هنالك الكثير من الأعمال تنتظرنا لتتحق عدالة السماء، وأن لا حياة دون رحمة وعطاء منصهر بالمحبة، وأن القداسة هي جهاد مستمر في سبيل الآخرين، ولا يزال الباب مفتوحًا لمن أراد . تقول الأم تريزا "ثمرة الصمت هي الصلاة، وثمرة الصلاة هي الايمان، وثمرة الايمان هي المحبة، وثمرة المحبة هي خدمة الاخرين، وثمرة خدمة الاخرين هي السلام. في هذه الحياة لا نقدر أن نعمل أشياء عظيمة، لكننا نقدر أن نعمل أشياء صغيرة بمحبة عظيمة". فيا قديسة العصر، يا تلميذة الكلمة، يا من أحببت بشغف حتى إنكار الذات حتى وأنت اليوم في السماء بين القديسين والأبرار، نطلب منك ان تصلي لأجلنا نحن أيضًا وجميع المهمشين والفقراء، وصلي لأجلنا يا قديسة في سبيل رحمة هذا العالم لتشرق شمسه من جديد، العالم الذي تخلى عن الرحمة وازداد فقرًا وجوعًا وعطشًا إليها، إلى البشارة السارة، إلى المحبة، وإلى الكلمة. ونقول ختامًا: طوبى لك يا قديسة كالكوتا، طوبى لك يا قديسة الرحمة في سنة الرحمة، اليوم باستحقاق لبستِ القداسة واستبقت الزمن وقصرت المسافات.