موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (لوقا 13: 1-9)
1 في ذلِكَ الوَقتِ حَضَرَ أُناسٌ وأَخبَروهُ خَبَرَ الجَليليِّينَ الَّذينَ خَلَطَ بيلاطُس دِماءَهم بِدِماءِ ذَبائِحِهِم. 2 فأَجابَهُم: ((أَتظُنُّونَ هؤلاءِ الجَليليِّينَ أَكبَرَ خَطيَئةً مِن سائِرِ الجَليليِّينَ حتّى أُصيبوا بِذلك؟ 3 أَقولُ لَكم: لا، ولكِن إِن لم تَتوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم مِثلَهم. 4 وأُولئِكَ الثَّمانِيَةَ عَشَرَ الَّذينَ سَقَطَ عَليهِمِ البُرجُ في سِلْوامَ وقَتَلَهم، أَتَظُنُّونَهم أَكبرَ ذَنْباً مِن سائِرِ أَهلِ أُورَشَليم ؟ 5 أَقولُ لكم: لا ولكِن إِن لم تَتوبوا تَهِلكوا بِأَجمَعِكُم كذلِكَ)). 6 وضَرَبَ هذا المَثَل: ((كانَ لِرَجُلٍ تينَةٌ مَغروسَةٌ في كَرمِه، فجاءَ يَطلُبُ ثَمَراً علَيها فلَم يَجِدْ. 7 فقالَ لِلكَرَّام: ((ِإنِّي آتي مُنذُ ثَلاثِ سَنَواتٍ إِلى التِّينَةِ هذه أَطُلبُ ثَمَراً علَيها فلا أَجِد، فَاقطَعْها! لِماذا تُعَطِّلُ الأَرض؟)) 8 فأَجابَه: ((سيِّدي، دَعْها هذِه السَّنَةَ أَيضاً، حتَّى أَقلِبَ الأَرضَ مِن حَولِها وأُلْقِيَ سَماداً. 9 فَلُرَّبما تُثمِرُ في العامِ المُقبِل وإِلاَّ فتَقطَعُها)).
مُقَدِّمَة
الصَّوْمُ هُوَ زَمَنٌ يُمْنَحُ لَنَا لِكَيْ نَعُودَ وَنَتُوبَ مِنْ جَدِيدٍ. في الأحدِ الثَّالِثِ مِنَ الصَّوْمِ، يَصِفُ لُوقَا الإنْجِيلِيُّ حَدَثَيْنِ مُرَوِّعَيْنِ: مَذْبَحَةَ الجَلِيلِيِّينَ وَانْهِيارَ بُرْجِ سِلْوَامَ عَلَى الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ شَخْصًا (لُوقَا 13: 1-9). يَرَى فِيهِمَا يَسُوعُ إِنْذَارًا مُوَجَّهًا إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ: كُلُّنَا خُطَاةٌ وَنَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى التَّوْبَةِ، فَالرَّبُّ يُوَجِّهُ لَنَا إِنْذَارًا وَيَدْعُونَا إِلَى ضَرُورَةِ التَّوْبَةِ، مُعْطِيًا لَنَا مُهْلَةً لِلْعَوْدَةِ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَغُفْرَانِهِ، وَإِلَّا نِلْنَا عِقَابًا. لَعَلَّ كَلِمَةَ الرَّبِّ تُحَاوِرُ اليَوْمَ قُلُوبَنَا وَتُجَدِّدُ حَيَاتَنَا فِي مَسِيرَةِ التَّوْبَةِ وَالارْتِدَادِ فِي هَذَا الزَّمَنِ الأَرْبَعِينِيِّ، لِلتَّمَتُّعِ بِفَرَحِ القِيَامَةِ. وَمِنْ هُنَا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ البَحْثِ فِي وَقَائِعِ النَّصِّ الإنْجِيلِيِّ وَتَطْبِيقَاتِهِ.
أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 13: 1-9)
1 وفي ذلِكَ الوَقتِ حَضَرَ أُناسٌ وأَخبَروهُ خَبَرَ الجَليليِّينَ الَّذينَ خَلَطَ بيلاطُس دِماءَهم بِدِماءِ ذَبائِحِهِم.
تشيرُ عِبَارَةُ "وَفِي ذَلِكَ الوَقْتِ" إِلَى وَقْتِ الخِطَابِ الَّذِي وَرَدَ فِي الفَصْلِ السَّابِقِ، الثَّانِيَ عَشَرَ. أَمَّا عِبَارَةُ "الجَلِيلِيِّينَ" فَتَشِيرُ إِلَى سُكَّانِ الجَلِيلِ، إِذْ كَانَتْ فِلَسْطِينُ مُقَسَّمَةً فِي ذَلِكَ الوَقْتِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: الجَلِيلِ، وَالسَّامِرَةِ، وَاليَهُودِيَّةِ. وَكَانَ الجَلِيلِيُّونَ سُكَّانَ القِسْمِ الشِّمَالِيِّ مِنْهَا، وَهُمْ تَحْتَ حُكْمِ هِيرُودُسَ لاَ حُكْمِ بِيلاَطُسَ، وَكَانُوا يُقَاوِمُونَ شَرَائِعَ رُومَا. وَيَذْكُرُ المُؤَرِّخُ اليَهُودِيُّ يُوسِيفُوسُ فْلَافْيُوسُ أَنَّ الجَلِيلِيِّينَ كَانُوا أَشْرَارًا وَكَثِيرِي الفِتَنِ؛ وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُسُ الكَبِيرُ: "قِيلَ إِنَّ هَؤُلاَءِ الجَلِيلِيِّينَ هُمْ أَتْبَاعُ أَفْكَارِ يَهُوذَا الجَلِيلِيِّ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ مُعَلِّمُنَا لُوقَا (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 5: 27). هَذَا الَّذِي أَعْلَنَ أَنَّهُ يَجِبُ أَلاَّ يُدْعَى أَيُّ إِنْسَانٍ سَيِّدًا، وَقَدِ الْتَفَّ حَوْلَهُ جُمْهُورٌ كَبِيرٌ وَرَفَضُوا دَعْوَةَ قَيْصَرَ أَنْ يَكُونَ سَيِّدًا عَلَيْهِمْ، وَنَادَوْا بِعَدَمِ تَقْدِيمِ أَيَّةِ ذَبِيحَةٍ لِلَّهِ لَمْ تَرِدْ فِي الشَّرِيعَةِ المُوسَوِيَّةِ، مَانِعِينَ الشَّعْبَ مِنْ تَقْدِيمِ ذَبَائِحَ لِلَّهِ مِنْ أَجْلِ سَلاَمِ الإِمْبِرَاطُورِ وَالدَّوْلَةِ الرُّومَانِيَّةِ، لِهَذَا عَاقَبَهُمْ بِيلاَطُسُ". وَرُبَّمَا يَتَكَلَّمُ الإِنْجِيلُ عَنْ "الغَيُورِينَ" الثُّوَّارِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَخْبَرُوهُ خَبَرَ الجَلِيلِيِّينَ" فَتَشِيرُ إِلَى الاعْتِقَادِ أَنَّ هَؤُلاَءِ الجَلِيلِيِّينَ قَدْ عُوقِبُوا بِعَدْلٍ، لأَنَّهُمْ بَذَرُوا فِتْنَةً بَيْنَ الشَّعْبِ، وَحَرَّضُوا عَلَى الثَّوْرَةِ ضِدَّ الحُكَّامِ. فَأَرَادَ القَوْمُ الَّذِينَ عَرَضُوا هَذِهِ القَضِيَّةَ عَلَى المَسِيحِ أَنْ يَعْرِفُوا رَأْيَهُ، وَرُبَّمَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ مِنَ السَّيِّدِ المَسِيحِ أَنْ يَثُورَ عَلَى بِيلاَطُسَ البَنْطِيِّ الَّذِي انْتَهَكَ حُرْمَةَ الهَيْكَلِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "بِيلاَطُسُ" فِي الأَصْلِ اللَّاتِينِيِّ Pilatus (مَعْنَاهُ: مَنْ لَهُ حَرْبَةٌ أَوْ مِطْرَقَةٌ، لأَنَّ حَرْبَةَ الرُّومَانِ كَانَتْ عَلَى شَكْلِ مِطْرَقَةٍ)، وَيُلَقَّبُ Pontius البَنْطِيُّ، (مَتَّى 27: 2) فَتَشِيرُ إِلَى الوَالِي الَّذِي أَقَامَتْهُ الحُكُومَةُ الرُّومَانِيَّةُ نَائِبًا أَوْ حَاكِمًا عَلَى اليَهُودِيَّةِ فِي سَنَةِ 29 م. وَاسْتَمَرَّ حُكْمُهُ بُضْعَ سِنِينَ إِلَى مَا بَعْدَ صُعُودِ مُخَلِّصِنَا يَسُوعَ المَسِيحِ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَانَتْ قَيْصَرِيَّةُ مَرْكَزَ وِلاَيَتِهِ. وَكَانَ يَصْعَدُ بِيلاَطُسُ إِلَى أُورُشَلِيمَ إِلَى دَارِ الوِلاَيَةِ فَيَقْضِي لِلشَّعْبِ هُنَاكَ (يُوحَنَّا 18: 28). وَأَمَّا أَيَّامُ حُكُومَتِهِ فَلَمْ تَكُنْ مَرْضِيَّةً لِلْيَهُودِ، لأَنَّهُ كَانَ قَاسِيًا جِدًّا غَيْرَ مُهْتَمٍّ إِلَّا بِمَنْفَعَتِهِ الشَّخْصِيَّةِ. وَفَضْلًا عَنْ ذَلِكَ، هُوَ الَّذِي سَلَّمَ المَسِيحَ لِلْيَهُودِ لِصَلْبِهِ مَعَ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِبَرَاءَتِهِ وَعَدَمِ اقْتِرَافِهِ جُرْمًا يُوجِبُ تَسْلِيمَهُ لَهُمْ. وَيُرَجَّحُ أَنَّ تَلْبِيَةَ بِيلاَطُسَ لِطَلَبِ اليَهُودِ كَانَتْ لِغَايَةِ المُحَافَظَةِ عَلَى مَرْكَزِهِ، بِالرَّغْمِ مِنْ اقْتِنَاعِهِ بِبَرَاءَةِ يَسُوعَ (يُوحَنَّا 19: 6 وَ12)، وَهُوَ الَّذِي سَمَحَ لِيُوسُفَ الرَّامِيِّ أَنْ يَأْخُذَ جَسَدَ يَسُوعَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيَدْفِنَهُ (مَتَّى 27: 57-61)، وَرُبَّمَا لأَنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ. وَأَخِيرًا وَضَعَ حُرَّاسًا عَلَى القَبْرِ يَحْرُسُونَ جَسَدَ يَسُوعَ (مَتَّى 27: 62-66). وَقَدْ أُقِيلَ مِنْ وَظِيفَتِهِ لِقَسْوَتِهِ وَنُفِيَ إِلَى فَرَنْسَا وَمَاتَ هُنَاكَ. وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ مَاتَ مُنْتَحِرًا. أَمَّا عِبَارَةُ "خَلَطَ بِيلاطُسُ دِمَاءَهُمْ بِدِمَاءِ ذَبَائِحِهِمْ" فَتَشِيرُ إِلَى الجَلِيلِيِّينَ الَّذِينَ ذُبِحُوا عَلَى أَيْدِي الجُنُودِ الرُّومَانِ بَيْنَمَا كَانُوا يُقَدِّمُونَ الذَّبَائِحَ فِي الهَيْكَلِ، لأَنَّهُمْ نَادَوْا بِعَدَمِ تَقْدِيمِ ذَبَائِحَ لِلَّهِ مِنْ أَجْلِ سَلاَمِ الإِمْبِرَاطُورِ وَالدَّوْلَةِ الرُّومَانِيَّةِ، الأَمْرُ الَّذِي أَثَارَ بِيلاطُسَ، فَطَلَبَ قَتْلَهُمْ وَهُمْ يُقَدِّمُونَ ذَبَائِحَهُمْ فِي الهَيْكَلِ فِي أُورُشَلِيمَ عِقَابًا لَهُمْ. وَيَرَى بَعْضُ المُؤَرِّخِينَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ بِيلاطُسُ بِهِمْ سَبَّبَ عَدَاءً بَيْنَهُ وَبَيْنَ هِيرُودُسَ أَنْتِيبَاسَ، لأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ رَعَايَاهُ (لُوقَا 23: 12). وَيُعْتَبَرُ هَذَا العِقَابُ الدَّمَوِيُّ لِهَؤُلاَءِ الجَلِيلِيِّينَ صَادِرًا عَنْ إِرَادَةٍ بَشَرِيَّةٍ لِلحَاكِمِ الرُّومَانِيِّ، وَيُعَدُّ الإِنْذَارَ الأَوَّلَ لِلتَّوْبَةِ. كَانَ هٰذَا الحَدَثُ مَأْسَاوِيًّا وَمُؤَثِّرًا بِشَكْلٍ عَمِيقٍ، وَقَدْ يَرَى بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ تَأْوِيلًا دِينِيًّا أَنَّهُ عِقَابٌ إِلٰهِيٌّ لِخَطَايَا ارْتَكَبُوهَا. أَمَّا عِبَارَةُ "ذَبَائِحِهِمْ" فَتَشِيرُ إِلَى عَادَةِ تَقْدِيمِ اليَهُودِ الذَّبَائِحَ لِلَّهِ كَطَرِيقَةٍ لِلتَّكْفِيرِ عَنِ الخَطَايَا (التَّكْوِينُ 8: 20). فَكَانَ جُزْءٌ مِنَ الضَّحِيَّةِ (سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَيَوَانًا كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا) يُصْبِحُ مِنْ حَقِّ اللهِ، سَيِّدِ الحَيَاةِ، كَالدَّمِ المُرَاقِ وَالشُّحُومِ المُحْرَقَةِ، فِي حِينِ كَانَ يُسْتَخْدَمُ اللَّحْمُ كَطَعَامٍ لِلْمَدْعُوِّينَ. أَمَّا المَسِيحِيُّونَ الآنَ، فَهُمْ فِي غِنًى عَنْ هَذِهِ الذَّبَائِحِ، لأَنَّ المَسِيحَ رُفِعَ عَلَى الصَّلِيبِ ذَبِيحَةً طَاهِرَةً كَامِلَةً لِأَجْلِهِمْ (العِبْرَانِيِّينَ 13: 11-12). لِذَلِكَ، فَهُمْ يُقَدِّمُونَ ذَبَائِحَ مِنْ صِنْفٍ آخَرَ تَدُلُّ عَلَى شَرِكَتِهِمْ فِي المَسِيحِ، كَالتَّسْبِيحِ وَفِعْلِ الخَيْرِ وَالتَّوْزِيعِ، كَمَا جَاءَ فِي رِسَالَةِ العِبْرَانِيِّينَ: "فَلْنُقَرِّبْ لِلَّهِ عَنْ يَدِهِ ذَبِيحَةَ الحَمْدِ فِي كُلِّ حِينٍ، أَي مَا تَلْفِظُهُ الشِّفَاهُ المُسَبِّحَةُ لاِسْمِهِ. لاَ تَنْسَوْا الإِحْسَانَ وَالمُشَارَكَةَ، فَإِنَّ اللهَ يَرْتَضِي مِثْلَ هَذِهِ الذَّبَائِحَ"(العِبْرَانِيِّينَ 13: 15-16).
2 فأَجابَهُم: ((أَتظُنُّونَ هؤلاءِ الجَليليِّينَ أَكبَرَ خَطيَئةً مِن سائِرِ الجَليليِّينَ حتّى أُصيبوا بِذلك؟
تشيرُ عِبَارَةُ "الجَلِيلِيِّينَ" إِلَى مَنطِقَةِ الجَلِيلِ، وَالجَلِيلُ اسْمٌ يُونَانِيٌّ Γαλιλαία لِلقِسْمِ الشِّمَالِيِّ مِنْ جَبَلٍ غَرْبِيِّ الأُرْدُنِّ. تَرْجِعُ لَفْظَةُ "جَلِيل" إِلَى العِبْرِيَّةِ הַגָּלִיל الَّتِي تَعْنِي "مُقَاطَعَةً" أَوْ "بُقْعَةً". وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ كَاسْمِ عِلْمٍ لِمُقَاطَعَةِ فِلَسْطِينِ الشِّمَالِيَّةِ (يَشُوعَ 20: 7). وَبَعْدَ مَزْجِ السُّكَّانِ الأَصْلِيِّينَ مَعَ العَنَاصِرِ الوَثَنِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا تِغْلَثُ فَلَاسَرُ، مَلِكُ أَشُورَ (2 مُلُوكَ 15: 29؛ طُوبِيَا 1: 1-2)، صَارَ الكِتَابُ المُقَدَّسُ يَتَحَدَّثُ عَنْ "جَلِيلِ الأُمَمِ" (أِشَعْيَاءَ 9: 1؛ مَتَّى 4: 15). وَبَعْدَ أَنْ احْتَلَّ بُومْبِيُوسُ فِلَسْطِين، صَارَتِ الجَلِيلُ مُقَاطَعَةً فِي مَمْلَكَةِ يُوحَنَّا هِرْكَانُوسَ الثَّانِي، ثُمَّ فِي مَمْلَكَةِ هِيرُودُسَ الكَبِيرِ. وبَعْدَ مَوْتِ هِيرُودُسَ، َأَصْبَحَتِ الجَلِيلُ مَعَ بِيرِيَّةَ، تَحْتَ حُكْمِ هِيرُودُسَ أَنْتِيبَاسَ (4 ق.م -37 ب. م). وَحَسَبَ الأَنَاجِيلِ الإِزَائِيَّةِ، مَارَسَ يَسُوعُ رِسَالَتَهُ الأُولَى فِي الجَلِيلِ. وَإِنَّ يَهُوذَا ابْنَ غَامَالَا، الَّذِي يُعْتَبَرُ مُؤَسِّسَ حِزْبِ الغَيُورِينَ، قَدْ سُمِّيَ "الجَلِيلِيّ" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 5: 37)، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ اللَّفْظَةَ اتَّخَذَتْ رَنَّةً سِيَاسِيَّةً مَعَ المَفْهُومِ الجُغْرَافِيِّ. فِي هَذَا المَجَالِ، كَانَ الحَدِيثُ عَنْ ثَوْرَةِ "الجَلِيلِيِّينَ" عَلَى هِيرُودُسَ (يُوسِيفُوسَ، العَادِيَاتُ 14: 45؛ لُوقَا 13: 1). أَمَّا عِبَارَةُ "أَتَظُنُّونَ هَؤُلاءِ الجَلِيلِيِّينَ أَكْبَرَ خَطِيئَةً" فَتَشِيرُ إِلَى اليَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْتَبِرُونَ أَنَّ العِقَابَ الَّذِي يَحِلُّ بِالإِنْسَانِ هُوَ نَتِيجَةُ الخَطِيئَةِ المُقْتَرَفَةِ، كَمَا جاء فِي سُؤَالِهِمْ لِيَسُوعَ: "رَابِّي، مَنْ خَطِئَ، أَهَذَا أَمْ وَالِدَاهُ، حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟" فَخَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هَذَا المَنْطِقِ، فَأَجَابَهُمْ: "لاَ هَذَا خَطِئَ وَلاَ وَالِدَاهُ، وَلَكِنْ كَانَ ذَلِكَ لِتَظْهَرَ فِيهِ أَعْمَالُ اللهِ" (يُوحَنَّا 9: 1-3). المَوْتُ حَاضِرٌ وَيَنْتَظِرُنَا فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، بَغْضِ النَّظَرِ عَنْ طَرِيقَةِ مَوْتِنَا. لَيْسَتِ الطَّرِيقَةُ الَّتِي نَمُوتُ بِهَا هِيَ المُهِمَّةَ، إِنَّمَا أَنْ نَكُونَ مَعَ ذَوَاتِنَا مُتَّحِدِينَ مَعَ اللهِ. آنَذَاكَ يُصْبِحُ المَوْتُ عُبُورًا حَقِيقِيًّا بِاتِّجَاهِ الحَيَاةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "خَطِيئَةً" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ ἁμαρτωλός (مَعْنَاهَا "دَيْن" وهي تتكون من كلمتين عَدَمِ الإِصَابَةِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ عَمْدٍ، وَقَدْ يَكُونُ عَنْ غَيْرِ عَمْدٍ)، فَتَشِيرُ إِلَى مُخَالَفَةٍ، إِثْمٍ، تَمَرُّدٍ، ظُلْمٍ... وَتُضِيفُ اليَهُودِيَّةُ إِلَيْهَا لَفْظَ "دَيْن"، الَّذِي يُسْتَخْدَمُ فِي العَهْدِ الجَدِيدِ بِهَذَا المَعْنَى. وَتَدُلُّ لَفْظَةُ "دَيْن" فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ عَلَى وَاجِبٍ قَانُونِيٍّ وَتِجَارِيٍّ بَيْنَ البَشَرِ، وَكَانَ هَذَا الِالْتِزَامُ ذَا شَأْنٍ عَظِيمٍ جِدًّا فِي العَالَمِ القَدِيمِ، إِذْ يُعَرِّضُ مَنْ لاَ يَدْفَعُ دَيْنَهُ لِفُقْدَانِ الحُرِّيَّةِ، كَمَا وَرَدَ فِي مَثَلِ الخَادِمِ القَلِيلِ الشَّفَقَةِ (مَتَّى 18: 23-35). وَاسْتَعْمَلَ الكِتَابُ المُقَدَّسُ كَلِمَةَ "الدَّيْنِ" لِوَصْفِ مَوْقِفِ الإِنْسَانِ مِنَ اللهِ، فَهُوَ مَدِينٌ لَهُ تَعَالَى حَتَّى إِنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الوَفَاءِ بِهِ. وَفِي هَذِهِ الحَالِ، تَدُلُّ الِاسْتِعَارَةُ عَلَى أَنَّ الإِنْسَانَ خَاطِئٌ. وَهَكَذَا نَفْهَمُ صَلاَةَ يَسُوعَ فِي "أَبَانَا": وَأَعْفِنَا مِنْ خَطَايَانَا، فَإِنَّنَا نُعْفِي نَحْنُ أَيْضًا كُلَّ مَنْ لَنَا عَلَيْهِ" (لُوقَا 11: 4). فَإِنَّ يَسُوعَ شَبَّهَ الخَطِيئَةَ "بِدَيْنٍ"، بَلْ إِنَّهُ اسْتَخْدَمَ هَذَا اللَّفْظَ أَحْيَانًا: "أَعْفِنَا مِمَّا عَلَيْنَا، فَقَدْ أَعْفَيْنَا نَحْنُ أَيْضًا مَنْ لَنَا عَلَيْه" (مَتَّى 6: 12).
3 أَقولُ لَكم: لا، ولكِن إِن لم تَتوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم مِثلَهم.
تشيرُ عِبَارَةُ "لا" إِلَى "لا" النَّافِيَةِ، حَيْثُ يَنْفِي يَسُوعُ أَنَّ هَؤُلاءِ الجَلِيلِيِّينَ هم أَكْبَرُ خَطِيئَةً. فَإِنَّ البَلاَيَا الخَارِجِيَّةَ وَالضِّيقَاتِ لَيْسَتْ بِالضَّرُورَةِ عِلَّةَ خَطَايَا خَاصَّةٍ. فَقَتْلُ هَؤُلاءِ الرِّجَالِ لاَ يَعْنِي بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ شَرًّا مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الجَلِيلِيِّينَ، إِذْ كَانَ يَسُودُ بَيْنَ اليَهُودِ اعْتِقَادٌ أَنَّ كُلَّ ضِيقَةٍ يَجْتَازُهَا الإِنْسَانُ إِنَّمَا هِيَ عَلاَمَةٌ عَلَى غَضَبِ اللهِ عَلَيْهِ. لَكِنَّ الرَّبَّ لَيْسَ إِلَهًا يُعَاقِبُ الشَّرَّ وَيُزِيلُهُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ العَنِيفَةِ. لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَضَعَ أَيَّ إِنْسَانٍ فِي خَانَةِ المَوْتِ وَالهَلاَكِ وَنَحْكُمَ عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ نَنْسِبَ لِلرَّبِّ حُكْمَ المَوْتِ هَذَا، لأَنَّ الشَّرَّ يُقِيمُ فِي قُلُوبِ الجَمِيعِ، كَمَا وَرَدَ عَلَى لِسَانِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "بِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ قَدْ خَطِئُوا" (رُومَةَ 3: 23). يَدْعُونَا يَسُوعُ جَمِيعًا إِلَى التَّوْبَةِ وَعَدَمِ الحُكْمِ عَلَى الآخَرِينَ. فَخِلاَلَ حَيَاتِهِ الأَرْضِيَّةِ وَتَعَالِيمِهِ، لَمْ يَحْكُمْ يَسُوعُ أَبَدًا عَلَى أَيِّ إِنْسَانٍ وَلَمْ يُعَاقِبْ أَحَدًا، بَلْ سَاعَدَ الإِنْسَانَ عَلَى اكْتِشَافِ مَلَكُوتِ اللهِ مِنْ خِلَالِ الرَّحْمَةِ وَالمُسَامَحَةِ، حَتَّى الصَّلِيبِ، إِذْ قَالَ: "يَا أَبَتِ، اِغْفِرْ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَا يَفْعَلُونَ" (لُوقَا 23: 34). وَيُحَذِّرُ يَسُوعُ سَامِعِيهِ مِنْ تَحْمِيلِ الضَّحَايَا مَسْؤُولِيَّةَ المِحَنِ، لَكِنَّهُ يَدْعُونَا أَنْ نَتَّعِظَ مِنَ الكَوَارِثِ وَأَعْمَالِ العُنْفِ مِنْ أَجْلِ الِارْتِدَادِ وَالتَّوْبَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "تَتُوبُوا" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ μετανοέω (مَعْنَاهَا: "تَغْيِيرُ العَقْلِيَّةِ")، فَتَشِيرُ إِلَى اِسْتِغْلاَلِ السَّيِّدِ المَسِيحِ هَذَا الخَبَرَ لِيَحُثَّ سَامِعِيهِ عَلَى حَيَاةِ التَّوْبَةِ، حَتَّى لاَ يَخَافُوا مِنْ بِيلاَطُسَ، وَإِنَّمَا مِنَ الخَطِيَّةِ الَّتِي هِيَ عِلَّةُ الهَلاَكِ. فَالجَمِيعُ بِحَاجَةٍ إِلَى التَّوْبَةِ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى النَّجَاةِ، إِذْ هِيَ تَغْيِيرُ العَقْلِ لِلأَفْضَلِ، وَإِصْلاَحُ المَرْءِ نَفْسَهُ بِسَبَبِ مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ خَطَايَا وَمُنْكَرَاتٍ. وَيُعَلِّقُ البَابَا لاَوْنُ الكَبِيرُ قَائِلًا: "فَلْنَمُتْ عَنِ الخَطِيئَةِ لِنَحْيَا لِلْعَدَالَةِ؛ فَلْيَخْتَفِ الكَائِنُ القَدِيمُ لِيَقُومَ الكَائِنُ الجَدِيدُ" (العِظَةُ العِشْرُونَ عَنِ الآلاَمِ). فَاللهُ لاَ يُرِيدُ مَوْتَ الخَاطِئِ، بَلْ يُرِيدُ خَلاَصَ جَمِيعِ النَّاسِ، لأَنَّهُ مَاتَ مِنْ أَجْلِ الجَمِيعِ. وَيُوضِّحُ ذَلِكَ حِزْقِيَالُ النَّبِيُّ بِقَوْلِهِ: "الشِّرِّيرُ إِذَا رَجَعَ عَنْ جَمِيعِ خَطَايَاهُ الَّتِي صَنَعَهَا وَحَفِظَ جَمِيعَ فَرَائِضِي وَأَجْرَى الحَقَّ وَالبِرَّ، فَإِنَّهُ يَحْيَا حَيَاةً وَلاَ يَمُوتُ. وَجَمِيعُ مَعَاصِيهِ الَّتِي صَنَعَهَا لاَ تُذْكَرُ لَهُ، وَبِبِرِّهِ الَّذِي صَنَعَهُ يَحْيَا. أَلَعَلَّ هَوَايَ فِي مَوْتِ الشِّرِّيرِ؟ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. أَلَيْسَ فِي أَنْ يَتُوبَ عَنْ طُرُقِهِ فَيَحْيَا؟" (حِزْقِيَالَ ١٨: ٢١-٢٣). وَقَدْ دَعَا يَسُوعُ جَمِيعَ البَشَرِ إِلَى التَّوْبَةِ، لأَنَّهُمْ خَاطِئُونَ جَمِيعُهُمْ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "سَرَى المَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، لأَنَّهُمْ جَمِيعًا خَطِئُوا" (رُومَةَ 5: 12). فَالتَّوْبَةُ ضَرُورَةٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، إِذْ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ بِكُلِّ كِيَانِهِ، لَا جُزْءًا وَلَا فِي وَقْتٍ دُونَ آخَر، بَلْ كَرِحْلَةِ حَيَاةٍ دَائِمَةٍ نَحْوَ النُّورِ. فِي التَّوْبَةِ يَكْتَشِفُ الإِنْسَانُ حَقِيقَتَهُ، وَيَتَعَرَّفُ عَلَى ضَعْفِهِ وَحَاجَتِهِ العَمِيقَةِ إِلَى نِعْمَةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ مُجَرَّدَ تَأْنِيبِ ضَمِيرٍ أَوْ نَدَمٍ عَابِرٍ، بَلْ هِيَ تَحْوِيلُ القَلْبِ وَتَجْدِيدُ الذِّهْنِ، وَمَسِيرَةُ حُبٍّ حَقِيقِيٍّ تَجْعَلُ الإِنْسَانَ أَكْثَرَ شَبَهًا بِخَالِقِهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "تَهْلِكُوا بِأَجْمَعِكُمْ مِثْلَهُمْ" فَتَشِيرُ إِلَى الهَلاَكِ، إِمَّا بِيدِ الرُّومَانِ، كَمَا جَرَى بَعْدَ ذَلِكَ بِنَحْوِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، حِينَ تَمَّ خَرَابُ أُورُشَلِيمَ عَلَى يَدِ طِيطُسَ سَنَةَ 70 م. وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، فَحَوَى المَصَائِبُ نَتِيجَةٌ لِخَطَايَا خَاصَّةٍ وَتَحْذِيرٌ لِأُمَّةِ اليَهُودِ مِنْ دَيْنُونَةِ اللهِ المُعَدَّةِ وَحَثِّهَا عَلَى التَّوْبَةِ. وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ لِكُلِّ خُطَاةِ الأَرْضِ غَيْرِ التَّائِبِينَ، الَّذِينَ كَانَ قَتْلُ الجَلِيلِيِّينَ رَمْزًا لَهُمْ.
4 وأُولئِكَ الثَّمانِيَةَ عَشَرَ الَّذينَ سَقَطَ عَليهِمِ البُرجُ في سِلْوامَ وقَتَلَهم، أَتَظُنُّونَهم أَكبرَ ذَنْباً مِن سائِرِ أَهلِ أُورَشَليم؟
تشيرُ عِبَارَةُ "الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ" إِلَى رَقْمٍ يُعَبِّرُ عَنِ الشَّرِّ وَالعَجْزِ وَالنَّقْصِ، حَيْثُ إِنَّ الرَّقْمَ (18) هُوَ حَاصِلُ ضَرْبِ الرَّقْمِ 3 × 6، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الرَّقْمَ 3 هُوَ رَقْمُ التَّحْدِيدِ وَالوُضُوحِ، وَالرَّقْمَ 6 هُوَ رَقْمُ الشَّرِّ وَالنَّقْصِ وَالعَجْزِ. وَتَكَرَّرَ ذِكْرُ الرَّقْمِ 18 سِتَّ مَرَّاتٍ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْهَا فِي العَهْدِ القَدِيمِ، وَثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي العَهْدِ الجَدِيدِ.أَمَّا عِبَارَةُ "سَقَطَ عَلَيْهِمِ البُرْجُ فِي سِلْوَامَ وَقَتَلَهُمْ" فَتَشِيرُ إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَخْصًا مَاتُوا نَتِيجَةَ انْهِيارِ بُرْجِ سِلْوَامَ (يُوحَنَّا 9: 7). وَقَدْ سُمِّيَ بِهَذَا الاِسْمِ إِمَّا لِقُرْبِهِ مِنْ عَيْنِ سِلْوَامَ، وَإِمَّا لِبِنَائِهِ عَلَى السُّورِ قُرْبَ بِرْكَةِ سِلْوَامَ (نَحَمْيَا ٣: ١٥). وَقَدْ تَمَّتْ هَذِهِ الحَادِثَةُ بِيَدٍ إِلَهِيَّةٍ مِثْلَ الكَوَارِثِ الطَّبِيعِيَّةِ كَالزَّلاَزِلِ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى فِكْرَةِ القَضَاءِ الإِلَهِيِّ دُونَ تَوَقُّعٍ. كَانَ الفِكْرُ الدِّينِيُّ السَّائِدُ آنَذَاكَ يَرَى أَنَّ مَنْ يُصِيبُهُ مِثْلُ هٰذَا المَصِيرِ، إِنَّمَا أَصَابَهُ بِسَبَبِ خَطِيئَةٍ اقْتَرَفَهَا. وَنَجِدُ هٰذَا التَّصَوُّرَ فِي السُّؤَالِ: "رَابِّي، مَنْ خَطِئَ، أَهٰذَا أَمْ وَالِدَاهُ، حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟" (يُوحَنَّا 9: 2). وَلَكِنْ يُعَلِّمُنَا بُولُسُ الرَّسُولُ: "إِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ لِخَيْرِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ" (رُومَةَ 8: 28). أَمَّا عِبَارَةُ "سِلْوَامَ" فَهِيَ اسْمٌ عِبْرِيٌّ שִׁלּחַ (مَعْنَاهُ: "مُرْسَل")، وَتَشِيرُ إِلَى اسْمِ بُرْجٍ لاَ يُعْرَفُ مَكَانُهُ حتى أيَّامنا بِدِّقَّةِ، وَلَعَلَّهُ فِي القَرْيَةِ الَّتِي تُسَمَّى اليَوْمَ سِلْوَانَ عِنْدَ سَفْحِ جَبَلِ النَّجَاسَةِ، أَحَدِ قِمَمِ جِبَالِ الزَّيْتُونِ، حَيْثُ بَنَى سُلَيْمَانُ هَيَاكِلَ لِلآلِهَةِ الغَرْبِيَّةِ، كَمَا ذَكَرَ الكِتَابُ المُقَدَّسُ: َنَجَّسَ المَلِكُ يُوشِيَّا المُرْتَفَعَاتِ الَّتِي مُقَابِلَ أُورُشَلِيمَ، عَنْ يَمِينِ جَبَلِ الفَسَادِ، الَّتِي بَنَاهَا سُلَيْمَانُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ لِعَشْتَارُوتَ رِجْسِ الصَّيْدُونِيِّينَ، وَلِكَمُوشَ رِجْسِ المُوآبِيِّينَ، وَلِمَلْكُومَ رِجْسِ بَنِي عَمُّونَ" (2 مُلُوكَ 23: 13). أَمَّا عِبَارَةُ "البُرْجُ فِي سِلْوَامَ" فَتَشِيرُ إِلَى البُرْجِ الكَائِنِ فِي قَرْيَةِ سِلْوَانَ جَنُوبَ أُورُشَلِيمَ. وَفِي الوَاقِعِ، كَشَفَ البَاحِثُ م. وَاِيلْ (M. Weill) عَامَ 1913-1914 عِنْدَ المُنْحَدَرِ الشَّرْقِيِّ لِلتَّلِّ، عَلَى مَسَافَةِ 150م مِنْ نَبْعِ العَذْرَاءِ عَلَى جِهَةِ اليَمِينِ مِنَ الشَّارِعِ، عَنْ أَسَاسَاتِ بُرْجٍ دَائِرِيِّ الشَّكْلِ يَبْلُغُ طُولُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةِ أَمْتَارٍ، وَسُمكُهُ 1.20م. وَقَدْ أَطْلَقَ البَاحِثُ مَكَالِسْتَر (Macalister) عَلَى هَذَا البُرْجِ اِسْمَ "بُرْجِ دَاوُدَ"، إِلاَّ أَنَّ تَنقِيبَاتِ كَاثْلِين كِينْيُون (Kathleen Kenyon) بَيَّنَتْ أَنَّ البُرْجَ لاَ يَعُودُ إِلَى زَمَنِ دَاوُدَ، وَإِنَّمَا إِلَى القَرْنِ الثَّانِي ق.م.، فِي زَمَنِ المَكَابِيِّينَ، وَقَدْ بَنَاهُ سِمْعَانُ (143-135 ق.م.) أَوْ هِرْقَانُ بْنُ سِمْعَانَ (135-105 ق.م.)، وَهُوَ بِنَاءٌ أُضِيفَ إِلَى سُورِ نَحَمْيَا، لأَنَّهُ مُقَامٌ عَلَى بُيُوتٍ مِنَ القَرْنِ السَّابِعِ ق.م.، وَالَّتِي هَدَمَهَا البَابِلِيُّونَ عَامَ 586 ق.م.، وَلاَ تَزَالُ أَنْقَاضُهَا ظَاهِرَةً لِلعِيَانِ حَوْلَ البُرْجِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَتَظُنُّونَهُمْ أَكْبَرَ ذَنْبًا مِنْ سَائِرِ أَهْلِ أُورُشَلِيمَ؟" فَتَشِيرُ إِلَى تَحْذِيرِ يَسُوعَ لِسَامِعِيهِ مِنْ "تَحْمِيلِ الضَّحَايَا مَسْؤُولِيَّةَ المِحَنِ". وَيُعَلِّقُ البَابَا بِنْدِكْتُسُ قَائِلًا: "لأَنَّ الجَوَابَ الأَكْثَرَ فَعَالِيَّةً بِوَجْهِ الشَّرِّ يَقُومُ عَلَى الِاتِّعَاظِ الشَّخْصِيِّ مِنَ النَّوَائِبِ لِلِارْتِدَادِ وَالتَّوْبَةِ". أَمَّا عِبَارَةُ "ذَنْبًا" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ ὀφειλέται (مَعْنَاهَا مُذْنِبُونَ)، فَتَشِيرُ إِلَى الَّذِينَ يُكَرِّرُونَ السَّيِّئَاتِ عَمْدًا. وَيَخْتِمُ يَسُوعُ تَعْلِيمَهُ بِالتَّوْكِيدِ عَلَى أَنَّ المَوْتَ أَوِ الحَيَاةَ لَيْسَا مِقْيَاسًا لِلْبِرِّ، فَكُلُّ إِنْسَانٍ لاَ بُدَّ أَنْ يَمُوتَ، وَقَدْ وَعَدَنَا يَسُوعُ: "لاَ يَهْلِكُ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يُوحَنَّا 3: 16). هَلْ نَضَعُ نُفُوسَنَا فِي المَكَانِ، وَنَطْلُبُ نِعْمَةَ التَّوْبَةِ؟ وَأَنَّ كُلَّ كَارِثَةٍ مَا هِيَ إِلاَّ إِنْذَارٌ بِالهَلاَكِ لِلآخَرِينَ إِنْ لَمْ يَتَفَادَوْهُ بِالتَّوْبَةِ. إِذًا، هَذِهِ الحَادِثَةُ يَجِبُ اِعْتِبَارُهَا إِنْذَارًا، فَالمَوْتُ يَأْتِي كَالسَّارِقِ، كَمَا قَالَ يَسُوعُ: "وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ رَبُّ البَيْتِ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ يَأْتِي السَّارِقُ، لَمَا دَعَ بَيْتَهُ يُنْقَبُ. فَكُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا مُسْتَعِدِّينَ" (لُوقَا 12: 39-40).
5 أَقولُ لكم: لا ولكِن إِن لم تَتوبوا تَهِلكوا بِأَجمَعِكُم كذلِكَ))
تشيرُ عِبَارَةُ "إِنْ لَمْ تَتُوبُوا تَهْلِكُوا بِأَجْمَعِكُمْ كَذَلِكَ" إِلَى تَكْرَارِ هَذِهِ الآيَةِ كَدَعْوَةٍ مُلِحَّةٍ لِلتَّوْبَةِ، مَا دَامَ الوَقْتُ يَتَّسِعُ لَهَا. فَاللهُ صَبُورٌ، والتَّوْبَةَ قَضِيَّةُ حَيَاةٍ أَوْ مَوْتٍ. وَهُنَا يُنَبِّهُنَا يَسُوعُ أَلاَّ نَحْكُمَ عَلَى أَحَدٍ، بَلْ نَنْظُرَ إِلَى خَطَايَانَا تَائِبِينَ. أَمَّا عِبَارَةُ "بِأَجْمَعِكُمْ كَذَلِكَ" فَتَشِيرُ إِلَى اليَهُودِ وَسَائِرِ النَّاسِ عَلَى سَوَاءٍ. وَقَصْدُ يَسُوعَ مِنْ هَذَا المَثَلِ هُوَ أَنْ نَحْسِبَ كُلَّ المَجَاعَاتِ وَالأَوْبِئَةِ وَالزَّلاَزِلِ وَالطُّوفَانِ وَالحُرُوبِ وَالمَصَائِبِ إِنْذَارًا لِلنَّاسِ لِلتَّوْبَةِ. وَيُعَلِّقُ البَابَا بِنْدِكْتُسُ قَائِلًا: "دَعْوَةُ يَسُوعَ إِلَى الإِجَابَةِ عَلَى الشَّرِّ تَقُومُ عَبْرَ فَحْصِ ضَمِيرٍ جِدِّيٍّ، وَمِنْ خِلَالِ الاِلْتِزَامِ بِتَطْهِيرِ السِّيرَةِ الذَّاتِيَّةِ". وَبِهَذَا الأَمْرِ، يَصْدُقُ المَثَلُ القَائِلُ: "إِشْعَالُ عُودِ ثِقَابٍ خَيْرٌ مِنْ لَعْنِ الظَّلاَمِ" . بِمَعْنَى أَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ السَّبِيلُ الأَفْضَلُ لِلقَضَاءِ عَلَى الشَّرِّ وَلِمُحَارَبَتِهِ.
6 وضَرَبَ هذا المَثَل: ((كانَ لِرَجُلٍ تينَةٌ مَغروسَةٌ في كَرمِه، فجاءَ يَطلُبُ ثَمَراً علَيها فلَم يَجِدْ.
تشيرُ عِبَارَةُ "المَثَلُ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ παραβολή (مَعْنَاهَا: المُقَارَنَةُ فِي الكَلاَمِ وَالتَّعْلِيمِ) إِلَى عَرْضٍ تَمْثِيلِيٍّ لِرُمُوزٍ، أَيْ لِصُوَرٍ مُقْتَبَسَةٍ مِنَ الحَقَائِقِ الأَرْضِيَّةِ الَّتِي تُعَبِّرُ عَنِ الحَقَائِقِ الرُّوحِيَّةِ الَّتِي أَوْحَى بِهَا اللهُ (التَّارِيخُ المُقَدَّسُ، المَلَكُوتُ...). وَهِيَ تَحْتَاجُ فِي الغَالِبِ إِلَى المَزِيدِ مِنَ الشَّرْحِ العَمِيقِ، إِذْ تَحْمِلُ قِصَّةً رَمْزِيَّةً، حَيْثُ يَكُونُ لِكُلِّ عُنْصُرٍ فِيهَا مَعْنًى رَمْزِيٌّ خَاصٌّ بِهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "كَانَ لِرَجُلٍ تِينَةٌ مَغْرُوسَةٌ فِي كَرْمِهِ، فَجَاءَ يَطْلُبُ ثَمَرًا عَلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ" فَتَشِيرُ إِلَى أَنَّ شَجَرَ التِّينِ لاَ يُثْمِرُ مَا لَمْ يُفْلَحْ. وَهُنَا تَدُلُّ العِبَارَةُ عَلَى الإِنْذَارِ التَّقْلِيدِيِّ لِلشَّجَرَةِ الَّتِي لاَ تُخْرِجُ ثَمَرًا، كَمَا قَالَ يُوحَنَّا المَعْمَدَانُ: "هَا هِيَ ذِي الفَأْسُ عَلَى أُصُولِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تُثْمِرُ ثَمَرًا طَيِّبًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ" (لُوقَا 3: 9). وَضَرَبَ يَسُوعُ هَذَا المَثَلَ بَعْدَ أَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى التَّوْبَةِ، مُبَيِّنًا أَنَّ إِبْطَاءَ اللهِ فِي إِجْرَاءِ الدَّيْنُونَةِ عَلَى الخُطَاةِ إِنَّمَا هُوَ لِإِعْطَائِهِمْ فُرْصَةً لِلتَّوْبَةِ، وَإِذَا لَمْ يَتُوبُوا، يَنَالُونَ العِقَابَ لاَ مَحَالَةَ. أَمَّا عِبَارَةُ "كَانَ لِرَجُلٍ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ εἶχέν τις (مَعْنَاهَا: "كَانَتْ لِوَاحِدٍ")، فَتُشِيرُ إِلَى اللهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "تِينَةٌ" فَتُشِيرُ إِلَى الشَّعْبِ اليَهُودِيِّ، لأَنَّ اللهَ جَعَلَ لَهُ أَفْضَلَ الوَسَائِطِ لِكَيْ يُنْتِجَ إِثْمَارَ البِرِّ لِمَجْدِهِ تَعَالَى. وَشَجَرُ التِّينِ مَشْهُورٌ فِي فِلَسْطِين، وَثَمَرُهُ أُجَاصِيُّ الشَّكْلِ. وَكَانَ القُدَمَاءُ يَعْتَبِرُونَ جُلُوسَ كُلِّ إِنْسَانٍ تَحْتَ تِينَتِهِ مِنْ دَلَائِلِ السَّلاَمِ وَالفَلَاحِ (1 مُلُوكَ 4: 25؛ يُوحَنَّا 1: 48). وَمِنْ خَوَاصِّ التِّينِ الغَرِيبَةِ أَنَّ ثَمَرَهُ يَظْهَرُ فِي البِدَايَةِ قَبْلَ أَوْرَاقِهِ، فَإِذَا ظَهَرَتِ الأَوْرَاقُ وَلَمْ يَظْهَرِ الثَّمَرُ، لاَ يُؤْمَلُ أَنْ تُثْمِرَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ (مَتَّى 21: 19). وَفِي الأَشْجَارِ الأُخْرَى، تَسْقُطُ الزَّهْرَةُ بِتَوَلُّدِ الثَّمَرَةِ مَكَانَهَا، أَمَّا فِي شَجَرَةِ التِّينِ فَتَسْقُطُ الثَّمَرَةُ الأُولَى لِيَحِلَّ مَحَلَّهَا ثَمَرٌ آخَرُ. وَأَوْرَاقُ التِّينِ فِي فِلَسْطِين مِنْ أَكْبَرِ الأَدِلَّةِ عَلَى اقْتِرَابِ الصَّيْفِ (لُوقَا 21: 29-30). وَفِي بَعْضِ الظُّرُوفِ، قَدْ يَنْضُجُ قَلِيلٌ مِنَ الثَّمَرِ فِي الوَقْتِ الَّذِي طَلَبَ فِيهِ المَسِيحُ ثَمَرًا وَلَمْ يَجِدْهُ، وَيَقْصِدُ السَّيِّدُ المَسِيحُ بِشَجَرَةِ التِّينِ الأُمَّةَ اليَهُودِيَّةَ. وَفِي أَيَّامِنَا، تُرْمَزُ التِّينَةُ إِلَى أَيِّ كَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِنَا الَّتِي يَتَعَهَّدُهَا اللهُ بِمَوَاهِبِهِ وَنِعَمِهِ، وَيَطْلُبُ مِنْهَا الثَّمَرَ. وَالكَنِيسَةُ الَّتِي بِلاَ ثَمَرٍ سَيَقْطَعُهَا اللهُ (رُؤْيَا 2: 5). أَمَّا عِبَارَةُ "كَرْمِهِ" فَتُشِيرُ إِلَى صُورَةِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ، كَمَا يَقُولُ هُوشَعُ النَّبِيُّ: "إِنَّ إِسْرَائِيلَ كَرْمَةٌ مُخْضِرَةٌ" (هُوشَعَ 10: 1)، وَكَمَا وَرَدَ فِي مَوَاضِيعَ كَثِيرَةٍ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ (مَزْمُورُ 80: 9، 15؛ أِشَعْيَاءُ 27: 2، 23؛ حِزْقِيَالُ 17: 6). أَمَّا عِبَارَةُ "جَاءَ يَطْلُبُ ثَمَرًا عَلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ" فَتُشِيرُ إِلَى اللهِ الَّذِي طَلَبَ مِنَ الشَّعْبِ اليَهُودِيِّ فِي كُلِّ العُصُورِ أَثْمَارَ المَحَبَّةِ وَالإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَالَّذِي لَهُ حَقٌّ فِي أَنْ يَنْتَظِرَهَا، وَلَكِنْ كَانَ عُقْمُ شَجَرَةِ التِّينِ إِشَارَةً إِلَى إِثْمِ الشَّعْبِ اليَهُودِيِّ، يُؤَنِّبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ عَلَى مَرِّ الأَزْمِنَةِ (أِشَعْيَاءُ 5: 2؛ إِرْمِيَا 15؛ هُوشَعَ 10: 1). فَهُنَاكَ ارْتِبَاطٌ بَيْنَ التَّوْبَةِ وَالثَّمَرِ الرُّوحِيِّ، إِذْ إِنَّ الثَّمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَعْمَالِ الخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ (غَلاَطِيَّةَ 5: 1-6).
7 فقالَ لِلكَرَّام: ((ِإنِّي آتي مُنذُ ثَلاثِ سَنَواتٍ إلى التِّينَةِ هذه أَطُلبُ ثَمَراً علَيها فلا أَجِد، فَاقطَعْها! لِماذا تُعَطِّلُ الأَرض؟))
تشيرُ عِبَارَةُ "لِلْكَرَّامِ" إِلَى يَسُوعَ المَسِيحَ، الكَرَّامَ الحَقِيقِيَّ، كَمَا جَاءَ فِي الإِنْجِيلِ الطَّاهِرِ: "كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يُثْمِرُ يَفْصِلُهُ، وَكُلُّ غُصْنٍ يُثْمِرُ يُقَضِّبُهُ لِيَكْثُرَ ثَمَرُهُ" (يُوحَنَّا 15: 1). أَمَّا عِبَارَةُ "إِنِّي آتِي مُنْذُ ثَلاَثِ سَنَوَاتٍ إِلَى التِّينَةِ" فَتُشِيرُ إِلَى تَبْشِيرِ يَسُوعَ لِمُدَّةِ ثَلاَثِ سَنَوَاتٍ لِلشَّعْبِ اليَهُودِيِّ (مَرْقُسَ 11: 14). وَأَمَّا عِبَارَةُ "ثَلاَثِ" فَتُشِيرُ مِن ناحية، إِلَى وَقْتٍ طَوِيلٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُمْرِ شَجَرَةِ التِّينِ، وَهُوَ وَقْتٌ كَافٍ لِامْتِحَانِ الشَّجَرَةِ لِيَتَبَيَّنَ أَمُثْمِرَةٌ هِيَ أَمْ لاَ. وَالقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ أَعْطَى شَعْبَهُ فُرْصَةً كَافِيَةً لِكَيْ يُطِيعُوا وَصَايَاهُ أَمْ لاَ. وَفِي الوَاقِعِ، مَجِيءُ رَبِّنَا لِشَجَرَةِ التِّينِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يُشِيرُ إِلَى بَحْثِهِ عَنْ طَبِيعَةِ الإِنْسَانِ فِي ثَلاَثِ مَرَاحِلَ: قَبْلَ الشَّرِيعَةِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، تَحْتَ الشَّرِيعَةِ مَعَ مُوسَى، وتَحْتَ النِّعْمَةِ الإِلَهِيَّةِ مَعَ يَسُوعَ.
وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، إِنَّ الرَّقْمَ (٣) يُعْتَبَرُ مِنَ الأَرْقَامِ الكَامِلَةِ، وَيُرَمِّزُ إِلَى الكَمَالِ، وَهُوَ أَيْضًا رَقْمُ القِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ (2 مُلُوكَ 20: 5؛ 1 قورنتس 15). المَسِيحُ قَامَ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ. ويُونَانُ خَرَجَ مِنْ جَوْفِ الحُوتِ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ لِلْخَلِيقَةِ، ظَهَرَتِ الحَيَاةُ وَالثَّمَرُ وَالبُذُورُ. وَتُرْمِزُ الثَّلاَثُ سَنَوَاتٍ هُنَا إِلَى إِعْطَاءِ اللهِ وَقْتًا كَافِيًا لِلتِّينَةِ لِتُثْمِرَ. أَمَّا عِبَارَةُ "طَلَبْتُ ثَمَرًا عَلَيْهَا فَلاَ أَجِدُ، فَاقْطَعْهَا!" فَتُشِيرُ إِلَى الإِنْذَارِ التَّقْلِيدِيِّ لِلشَّجَرَةِ الَّتِي لاَ تُثْمِرُ، كَمَا قِيلَ: "هَا هِيَ ذِي الفَأْسُ عَلَى أُصُولِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تُثْمِرُ ثَمَرًا طَيِّبًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ" (لُوقَا 3: 9). وَقَدْ سَبَقَ وَأَكَّدَ ذَلِكَ إِرْمِيَا النَّبِيُّ: "سَأُبِيدُهُمْ إِبَادَةً، يَقُولُ الرَّبُّ، لاَ عِنَبَ فِي الكَرْمَةِ وَلاَ تِينَ فِي التِّينَةِ، وَالوَرَقُ قَدْ ذَوَى، وَأَجْعَلُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَدُوسُهُمْ" (إِرْمِيَا 8: 13). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسِيُوسُ: "لَمْ يَسْتَطِعِ الشَّعْبُ اليَهُودِيُّ أَنْ يَتَطَهَّرَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، لأَنَّهُ أَخَذَ خِتَانَ الجَسَدِ لاَ الرُّوحِ. وَلاَ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَقَدَّسَ مَعَ الشَّرِيعَةِ، لأَنَّهُ جَهِلَ قِيمَةَ الشَّرِيعَةِ بِتَمَسُّكِهِ بِمَا هُوَ جَسَدِيٌّ لاَ بِمَا هُوَ رُوحِيٌّ، وَلاَ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَبَرَّرَ مَعَ يَسُوعَ، إِذْ لَمْ يَتُبْ عَنْ خَطَايَاهُ، فَكَانَ جَاهِلًا بِالنِّعْمَةِ". هَكَذَا يُقَدِّمُ لَنَا القِدِّيسُ أَمْبْرُوسِيُوسُ فِي هَذَا المَثَلِ صُورَةً حَيَّةً لِلشَّعْبِ اليَهُودِيِّ، الَّذِي بَقِيَ ثَلاَثَ سَنَوَاتٍ بِلاَ ثَمَرٍ:
لَمْ يَنْتَفِعْ بِالخِتَانِ قَبْلَ الشَّرِيعَةِ (مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِلَى مُوسَى).
وَلاَ بِالشَّرِيعَةِ (مِنْ مُوسَى إِلَى مَجِيءِ المَسِيحِ).
وَلاَ حَتَّى بِالنِّعْمَةِ الَّتِي جَاءَ السَّيِّدُ المَسِيحُ لِيُقَدِّمَهَا لَهُمْ.
وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللهَ لاَ يَكُفُّ عَنِ العَمَلِ لِخَلاَصِ كُلِّ العَالَمِ.
أَمَّا عِبَارَةُ "اقْطَعْهَا!" فَتُشِيرُ إِلَى صِيغَةِ الأَمْرِ، حَيْثُ يَأْمُرُ صَاحِبُ الكَرْمِ الكَرَّامَ بِالقَضَاءِ الإِلَهِيِّ وَالدَّيْنُونَةِ الإِلَهِيَّةِ. وَمِنَ الحَقِّ وَالعَدْلِ أَنْ يُجْرِي اللهُ رَبُّ الشَّرِيعَةِ الدَّيَّانُ مِثْلَ هَذَا القَضَاءِ عَلَى شَعْبٍ غَيْرِ طَائِعٍ لِوَصَايَاهُ. وَيَرِدُ الفِعْلُ "قَطَعَ" مَرَّتَيْنِ فِي هَذَا المَثَلِ لِأَهَمِّيَّتِهِ. إِذَا لَمْ يَكُنِ الإِنْسَانُ أَمِينًا فِي حَيَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ، فَإِنَّ مَصِيرَهُ القَطْعُ وَالابْتِعَادُ عَنِ الحَضْرَةِ الإِلٰهِيَّةِ. وإِذَا لَمْ يَتُبِ الإِنْسَانُ وَبَقِيَ فِي خَطَايَاهُ، فَلاَ مَنَاصَ لَهُ مِنَ الهَلاَكِ. نجدُ هذهِ الصُّورةَ أيضًا على لسانِ يُوحَنَّا المَعمدانِ: "وَكُلُّ شَجَرَةٍ لا تُثمِرُ ثَمَرًا طَيِّبًا تُقطَعُ وتُلقَى في النَّارِ" (متَّى 7: 19). وهذا المفهومُ يتكرَّرُ في مواضِعَ أُخرى من الكِتابِ المُقدَّسِ، حيثُ يقولُ المسيحُ: "كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لا يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ" (يُوحَنَّا 15: 2)، ممَّا يُوضِحُ أنَّ الارتباطَ باللهِ يجبُ أن يكونَ مُثمِرًا، وإلَّا فَسَيُقطَعُ الغُصْنُ غيرُ المُثمِرِ. فَالرِّحْلَةُ الرُّوحِيَّةُ تَتَطَلَّبُ جِهَادًا وَثَبَاتًا، وَمَتَى فَقَدَ الإِنْسَانُ أَمَانَتَهُ، عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَطْعِ وَالِانْفِصَالِ عَنِ المَصْدَرِ الَّذِي يُحْيِيهِ. يتوجب علنا لْنَسْتَيْقِظْ كُلَّ يَوْمٍ وَنُجَدِّدِ العَهْدَ مَعَ اللهِ، لِكَيْ نَبْقَى أَمِينَينَ إِلَى النِّهَايَةِ، فَنَسْتَحِقَّ أَنْ نَدْخُلَ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِنَا. أَمَّا عِبَارَةُ "لِمَاذَا تُعَطِّلُ الأَرْضَ؟" فَتُشِيرُ إِلَى عِلَّةِ قَطْعِهَا، فَإِنَّهَا لاَ تَنْفَعُ شَيْئًا، وَتَشْغَلُ مَحَلَّ شَجَرَةٍ أُخْرَى مُثْمِرَةٍ، وَتَأْخُذُ قُوَّةَ الأَرْضِ عَبَثًا. وَكَذَلِكَ كَانَتِ الأُمَّةُ اليَهُودِيَّةُ، فَهِيَ لَمْ تَكُنْ نَافِعَةً، بَلْ مُضِرَّةً، لأَنَّهَا أَغَاضَتِ اللهَ وَعَصَتْ أَوَامِرَهُ، وَكَانَتْ عَثْرَةً لِغَيْرِهَا، فَصَدَقَ عَلَيْهَا قَوْلُ بُولُسَ الرَّسُولِ: "جَدَّفَ بِاسْمِ اللهِ بَيْنَ الوَثَنِيِّينَ وَأَنْتُمْ السَّبَبُ" (رُومَةَ 2: 24). وَكَذَلِكَ، فَإِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لاَ يَأْتِي بِثَمَرِ البِرِّ، فَهُوَ عَدِيمُ النَّفْعِ وَمُضِرٌّ، إِذْ يَكُونُ عَثْرَةً لِغَيْرِهِ فِي سَبِيلِ الخَلاَصِ.
8 فأَجابَه: ((سيِّدي، دَعْها هذِه السَّنَةَ أَيضاً، حتَّى أَقلِبَ الأَرضَ مِن حَولِها وأُلْقِيَ سَماداً.
تشيرُ عِبَارَةُ "فَأَجَابَهُ: سَيِّدِي" إِلَى الكَرَّامِ، وَيُرَادُ بِهِ هُنَا يَسُوعُ المَسِيحُ، الَّذِي هُوَ "شَفِيعٌ لَنَا عِندَ الآبِ وَهُوَ يَسُوعُ المَسِيحُ البَارُّ" (1 يُوحَنَّا 2: 1)، كَمَا يُضِيفُ صَاحِبُ الرِّسَالَةِ إِلَى العِبْرَانِيِّينَ: "إِنَّهُ حَيٌّ دَائِمًا أَبَدًا لِيَشْفَعَ لَهُم" (العِبْرَانِيِّينَ 7: 25)، وَهُوَ "كِفَارَةٌ عَنَّا" (2 قورنتس 5: 19). وَهُنَا نَكْشِفُ عَنْ عَطِيَّةِ الآبِ (صَاحِبُ شَجَرَةِ التِّينِ)، وَعَمَلِ الِابْنِ يَسُوعَ الَّذِي يَعْتَنِي بِالتِّينَةِ بِصَبْرٍ. أَمَّا عِبَارَةُ "دَعْهَا هَذِهِ السَّنَةَ أَيْضًا" فَتُشِيرُ إِلَى صِيغَةِ الأَمْرِ، بِهِ يَأْمُرُ الكَرَّامُ صَاحِبَ الكَرْمِ، طَالِبًا مِنْهُ مُهْلَةً أَخِيرَةً، فَالتَّغْيِيرُ مَا زَالَ مُمْكِنًا وَمُتَاحًا. لَمْ يُرِدِ الكَرَّامُ أَنْ يَتْرُكَ الشَّجَرَةَ فِي عُقْمٍ دَائِمٍ، بَلْ أَنْ تُمهَلَ لِيَسْعَى فِي إِصْلاَحِهَا. أَجَل! يُعْطِي اللهُ فُرْصَةً للخُطأة لِتَوْبَتِهِمْ، قَبْلَ أَنْ يُنَفِّذَ حُكْمَهُ العَادِلَ فِيهِمْ، كَمَا يَقُولُ المَلاَكُ إِلَى الكَنِيسَةِ فِي يِتِيَاطِيرَةَ: "قَدْ أَمْهَلْتُهَا مُدَّةً لِتَتُوبَ" (رُؤْيَا 2: 21). وَمُفَادُ الآيَةِ أَنَّ اللهَ طَوِيلُ الأَنَاةِ، يُبْطِئُ فِي الدَّيْنُونَةِ عَلَى الخطأة لِيَمْنَحَهُمْ فُرْصَةً أَخِيرَةً لِلتَّوْبَةِ، وَهَذَا هُوَ جَوْهَرُ اهْتِدَاءِ الإِنْسَانِ. رَغْبَةُ اللهِ هِيَ أَنْ تُزْهِرَ حَيَاتُنَا وَتَصِيرُ خَصِبَةً، فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَعَاوَنَ مَعَ عَمَلِ الآبِ وَالِابْنِ لِنُثْمِرَ. وكما لاحظَ اللهُ بؤسَ شعبِهِ، وسمعَ صراخَه، وعَلِمَ بمعاناتِهِ، وقرَّرَ أن يُخلِّصَه، مُعلِنًا: "إِنِّي قد رأيتُ مَذَلَّةَ شعبي الذي بمصرَ، وسمعتُ صُراخَه بسببِ مُسَخِّريهِ، وعَلِمتُ بآلامِهِ، فنَزَلتُ لأُنقِذَه"(خروج 3: 7-8)، كذلكَ كشفَ يسوعُ عن اهتمامِهِ ورعايتِهِ تجاهَنا نحنُ المنكوبينَ بالخطايا والشرورِ الداخليةِ والخارجيةِ ليُنقِذَنا طالبًا من الآبِ الصبرَ علينا. "دَعْهَا" — هٰذَا التَّعْبِيرُ القَصِيرُ يُعَبِّرُ عَنْ قَلْبِ يَسُوعَ الرَّحِيمِ، الَّذِي لَا يَسْتَعْجِلُ الدَّيْنُونَةَ، بَلْ يُفْضِّلُ الرَّحْمَةَ وَالْمُهْلَةَ. فَالتَّارِيخُ المُقَدَّسُ بِأَسْرِهِ هُوَ قِصَّةُ مَحَبَّةِ اللهِ لِشَعْبِهِ، مَحَبَّةٌ لَا تَكِلُّ وَلَا تَمَلُّ، مَحَبَّةٌ تَنْتَظِرُ وَتُرَافِقُ وَتُعْطِي الفُرْصَةَ تِلْوَ الأُخْرَى. يَمْنَحُ اللهُ الإِنْسَانَ مُهْلَةً لِيَتَغَيَّرَ وَيَتُوبَ، فَهُوَ كَصَاحِبِ الكَرْمِ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى شَجَرَةِ التِّينِ غَيْرِ المُثْمِرَةِ، وَلَا يَسْتَعْجِلُ قَطْعَهَا، بَلْ يَقُولُ: "دَعْهَا هٰذِهِ السَّنَةَ أَيْضًا". إِنَّهُ الإِنْذَارُ المَمْزُوجُ بِالرَّجَاءِ، وَالحَقُّ الَّذِي لَا يَفْقِدُ الحَنَانَ. أَمَّا عِبَارَةُ "هَذِهِ السَّنَةَ أَيْضًا" فَتُشِيرُ إِلَى السَّنَةِ الَّتِي فِيهَا صَارَ الِابْنُ الوَحِيدُ كَلِمَةَ اللهِ إِنْسَانًا، جَاءَ ككَرَّامٍ يَحُثُّ الشَّعْبَ اليَهُودِيَّ إِلَى التَّوْبَةِ، إِذْ طَلَبَ السَّيِّدُ المَسِيحُ تَرْكَهَا سَنَةً أُخْرَى، وَهِيَ عَهْدُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ الوَقْتُ الَّذِي بَدَأتَ فِيهِ الأَزْمِنَةُ الأَخِيرَةُ. وَالأَزْمِنَةُ الأَخِيرَةُ هِيَ أَزْمِنَتُنَا، حَتَّى يَتَمَكَّنَ الإِنْسَانُ مِنْ مَعْرِفَةِ عَلاَمَةِ مَحَبَّةِ الرَّبِّ وَيَتُوبَ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُسُ الكَبِيرُ: "قَدْ سَبَقَ وَتَوَعَّدَ اللهُ الشَّعْبَ اليَهُودِيَّ مِرَارًا بِالخَرَابِ وَالدَّمَارِ وَالحُرُوبِ وَالقَتْلِ وَالحَرْقِ وَالسَّبْيِ وَالسُّخْطِ، وَمِنْ جَانِبٍ آخَرَ، قَدَّمَ لَهُ المَوَاعِيدَ إِنْ آمَنُوا بِهِ، فَيَصِيرُونَ أَشْجَارًا مُثْمِرَةً، إِذْ يَهَبُهُمُ الحَيَاةَ وَالمَجْدَ وَنِعْمَةَ التَّبَنِّي وَالرُّوحَ وَمَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ". أَمَّا عِبَارَةُ "حَتَّى أَقْلِبَ الأَرْضَ مِنْ حَوْلِهَا وَأُلْقِيَ سَمَادًا" فَتُشِيرُ إِلَى اسْتِعْمَالِ كُلِّ الوَسَائِلِ المُنَاسِبَةِ لِتَغْذِيَةِ الأَرْضِ وَتَنْشِيطِهَا، مِثْلَ قَلْعِ الحَشَائِشِ الضَّارَّةِ، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ لِلتَّجَارِبِ الَّتِي يَسْمَحُ بِهَا اللهُ لِتَنْقِيَةِ أَوْلاَدِهِ، وَمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى الاِنْسِحَاقِ، كَمَا حَدَثَ مَعَ مَجَاعَةِ الِابْنِ الضَّالِّ (لُوقَا 15: 11-32). وَتَبْدُو هُنَا الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْبَةِ وَاضِحَةً وَمَاسَّةً. يَعْمَلُ يَسُوعُ دُونَ يَأْسٍ، وَيَهْتَمُّ بِالكَرْمَةِ بِكَوْنِهَا غَرْسَةً إِلَهِيَّةً، حَتَّى تَأْتِيَ بِالثَّمَرِ الحَقِيقِيِّ اللَّائِقِ. فَضَرُورَةُ التَّوْبَةِ مُلِحَّةٌ لِلْغَايَةِ، وَاللهُ يَمْنَحُ فُرْصَةً وَاحِدَةً أَخِيرَةً. هَكَذَا لَمْ يَطْلُبِ المَسِيحُ مِنَ الآبِ أَنْ يَتْرُكَ الشَّعْبَ اليَهُودِيَّ فِي عِصْيَانِهِمْ وَإِثْمِهِمْ، بَلْ أَنْ يُمْهِلَهُمْ مُدَّةً قَبْلَ إِجْرَاءِ القَضَاءِ، وَهُوَ يَسْتَعْمِلُ كُلَّ النِّعْمَةِ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ وَيَأْتُونَ بِإِثْمَارِ التَّوْبَةِ. وَيُعَلِّقُ البَابَا بِنْدِكْتُسُ: "لاَ يَقُومُ يَسُوعُ بِعَرْضِ ضَرُورَةِ التَّوْبَةِ بِأُسْلُوبٍ أَخْلاَقِيٍّ مُتَزَمِّتٍ، بَلْ بِأُسْلُوبٍ وَاقِعِيٍّ، هُوَ بِمَثَابَةِ الجَوَابِ الوَحِيدِ بُوَجْهِ مِحَنٍ تُضْعِضُعُ يَقِينَ الإِنْسَانِ".
9 فَلُرَّبما تُثمِرُ في العامِ المُقبِل وإِلاَّ فتَقطَعُها)).
تشيرُ عِبَارَةُ "تُثْمِرُ" إِلَى ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، وَهَذَا هُوَ المَطْلُوبُ مِنْ صَاحِبِ الكَرْمِ وَالكَرَّامِ، وَالثَّمَرُ هُوَ التَّوْبَةُ، اسْتِجَابَةً لِدَعْوَةِ يَسُوعَ: "تُوبُوا، قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ" (مَتَّى 4: 17). أَمَّا عِبَارَةُ "العَامِ المُقْبِلِ" فَتُشِيرُ إِلَى كِرَازَةِ يَسُوعَ، حَيْثُ يُعْلِنُ سَنَةَ نِعْمَةٍ وَرَحْمَةٍ (لُوقَا 4: 19). يُعْطِينَا الرَّبُّ زَمَنًا جَدِيدًا وَيَنْتَظِرُ مِنَّا ثَمَرًا. َهَذَا يُعَلِّمُنَا أَنَّ طُولَ أَنَاةِ اللهِ إِنَّمَا هُوَ إِعْطَاءُ فُرْصَةٍ لِلتَّوْبَةِ وَاكْتِسَابِ الخَلاَصِ، كَمَا جَاءَ فِي رِسَالَةِ بُطْرُسَ الرَّسُولِ:"عُدُّوا طُولَ أَنَاةِ رَبِّنَا وَسِيلَةً لِخَلاَصِكُمْ" (2 بُطْرُسَ 3: 15). أَمَّا عِبَارَةُ "فَتَقْطَعُهَا" فَتُشِيرُ إِلَى قَوْلِ الرَّبِّ أَعْلَاهُ: "إِنْ لَمْ تَتُوبُوا، تَهْلِكُوا بِأَجْمَعِكُمْ مِثْلَهُمْ" (لُوقَا 13: 3). الشَّجَرَةُ بِلاَ ثَمَرٍ تَمْتَصُّ فَوَائِدَ الأَرْضِ فَتُعَطِّلُهَا، أَوْ هِيَ تَأْخُذُ مَكَانًا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تُزْرَعَ فِيهِ شَجَرَةٌ مُثْمِرَةٌ. وَهَكَذَا، فَإِنَّ هَلاَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ رَيْبَ فِيهِ إِنْ بَقُوا فِي عِصْيَانِهِمْ. وَمَا صَدَقَ فِي هَذَا المَثَلِ عَلَى الأُمَّةِ اليَهُودِيَّةِ، يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ النَّاسِ. فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ الإِنْجِيلَ وَلاَ يَسِيرُ بِمُقْتَضَاهُ، فَهُوَ شَجَرَةُ تِينٍ بِلاَ ثَمَرٍ فِي كَرْمِ اللهِ. هَذَا الزَّمَنُ هُوَ زَمَنُ الرَّحْمَةِ، وَيُمْتَدُّ زَمَنُ الرَّحْمَةِ لِيُتِيحَ فُرْصَةً لِلتَّوْبَةِ، لاَ لِتَأْجِيلِ العِقَابِ. وَلَكِنْ بَعْدَ المَوْتِ، فَهُوَ زَمَنُ العَدْلِ. فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَسْتَغِلَّ صَبْرَ اللهِ، سَيَكُونُ العِقَابُ شَدِيدًا جِدًّا. هَلْ نَرَى أَنَّ الرَّبَّ الكَرَّامَ يَعْمَلُ فِينَا دُونَ يَأْسٍ؟ هَلْ نَرَى أَنَّ حِلْمَ اللهِ وَشَفَاعَةَ المَسِيحِ، لَوْلاَهُمَا لَهَلَكَ العَالَمُ بِأَسْرِهِ مُنْذُ زَمَانٍ؟
ثانياً: تطبيقاتُ النَّصِّ الإنجيليِّ (لوقا 13: 1-9)
بعدَ دِراسةِ وقائِعِ النَّصِّ الإنجيليِّ وتحليلِهِ (لوقا 13: 1-9)، نَستَنتِجُ أنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حولَ تَوجيهاتِ يَسوعَ للنَّاسِ مِن خِلالِ الإنذارِ، والتَّوبةِ، والعِقابِ.
1) الإنذارُ
وَجَّهَ يَسوعُ للشَّعبِ اليَهوديِّ ثلاثةَ إنذاراتٍ كي يُمَيِّزوا المَغزَى مِن أحداثِ زَمانِهِم. وهذهِ الإنذاراتُ هي:
الإنذارُ الأوَّلُ: مَذبَحَةُ الجَليليِّينَ على يَدِ بيلاطُسَ (لوقا 13: 1-3)، وهيَ نَتيجةٌ لإرادةٍ بَشَرِيَّةٍ؛ إذ قَمَعَ بيلاطُسُ، الواليُ الرُّومانيُّ، تَمرُّدَ "الغُيُورينَ" الَّذينَ كانوا يُريدونَ زَعزعةَ النِّظامِ الرُّومانيِّ القائِمِ، وقدِ اتَّخَذوا الجَليلَ مَقَرًّا لَهُم.
الإنذارُ الثَّاني: إنذارُ سُقوطِ بُرجِ سِلوامَ، وهيَ نَتيجةُ عَوارِضَ طَبيعيَّةٍ غيرِ بَشَرِيَّةٍ (لوقا 13: 4). لا تُوجَدُ كَوارِثُ عَبثِيَّةٌ في الحَياةِ، فَكُلُّ كارِثَةٍ تَحدُثُ إمَّا لِلتَّوبةِ، أو عِقابًا، أو هِبةً مِنَ السَّماءِ.
الإنذارُ الثَّالِثُ: شَجَرَةُ التِّينِ (لوقا 13: 5-9). كانَتِ الشَّجَرَةُ في العَهدِ القَديمِ رَمزًا لِلحَياةِ الصَّالِحَةِ، كما جاءَ في أقوالِ صاحِبِ المَزاميرِ: "يَكونُ كالشَّجَرَةِ المَغروسةِ على مَجاري المِياهِ تُؤْتي ثَمَرَها في أَوانِهِ، ووَرَقُها لا يَذبُلُ أَبدًا" (مزمور 1: 3). وقد أشارَ يَسوعُ إلى ما يَحدُثُ لِلشَّجَرَةِ غَيرِ المُثمِرَةِ، والَّتي استَهلَكَتْ وَقتًا ومَكانًا وعَمَلًا، ولم تُعطِ ثَمَرًا.
حَذَّرَ يَسوعُ سامِعِيهِ مِن أنَّ اللهَ لَن يَحتَمِلَ عَدمَ إثمارِ النَّاسِ إلى الأبدِ. وفي هذا الصَّدَدِ قالَ يُوحَنَّا المَعمَدَانُ: "ها هِيَ ذي الفَأسُ على أُصولِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لا تُثمِرُ ثَمَرًا طَيِّبًا تُقطَعُ وتُلقى في النَّارِ" (لوقا 3: 9). فالتِّينَةُ الَّتي لا تَحمِلُ ثَمَرًا، وتُعَطِّلُ الأرضَ عَبَثًا، لا بُدَّ مِن قَطعِها؛ فَاقتِلاعُها خَيرٌ مِن وُجودِها في الأرضِ بِدونِ ثَمَرٍ.
كانَتْ شَجَرَةُ التِّينِ تُمَثِّلُ بَني إسرائيلَ في العَهدِ القَديمِ (إرميا 24: 3، هوشع 9: 10)، وصاحِبُ الشَّجَرَةِ يُرمِزُ إلى اللهِ بِاعتِبارِهِ إِلهًا لِإسرائيلَ، والكَرَّامُ يُرمِزُ إلى يَسوعَ المَسيحِ. صَوَّرَ يَسوعُ في هذا المَثَلِ فَشَلَ إسرائيلَ في الاستِجابَةِ لِمُعامَلَةِ اللهِ بالرغم من طُولِ أناتِهِ مَعَ هذِهِ الأُمَّةِ، ثُمَّ لَمَّحَ إلى دَينُونَتِها (لوقا 13: 6-9).
تُصَوِّرُ حِكايةُ التِّينَةِ مَعَ صاحِبِها حالَ كُلِّ إنسانٍ مَعَ رَبِّهِ. ولا شَكَّ في أنَّ مَثَلَ التِّينَةِ يَهدِفُ إلى الحَثِّ على التَّوبةِ. فَصاحِبُ الكَرمِ يُمهِلُ التِّينَةَ سَنَةً واحِدَةً، امتِثالًا لِطَلَبِ الكَرَّامِ الَّذي يُحاوِلُ مَرَّةً نِهائِيَّةً أنْ يُنقِذَ التِّينَةَ، وكأنَّ يَسوعَ يَدعُونا إلى الاعْتبَار الزَّمَنَ الحاضِرَ مِثلَ هذِهِ السَّنَةِ، فُرصَةً أَخِيرَةً، كما لو كانَتِ السَّنَةَ الأَخِيرَةَ.
نَستَنتِجُ مِمَّا سَبَقَ أنَّ المُهِمَّ في الأَمرِ هو أنْ نَعيشَ الزَّمَنَ الحاضِرَ مُوَجِّهِينَ اهتِمامَنا إلى ما يَقومُ بِهِ الكَرَّامُ لِتَحسينِ ثَمَرِنا، حَيثُ إنَّ اللهَ في انتِظارٍ دائِمٍ لَنا، ولا يَفقِدُ الأَمَلَ فينا أَبَدًا؛ لأنَّهُ يَثِقُ بِنا، ونحنُ لا نَثِقُ بِهِ. هذا هوَ مَعنَى مَثَلِ التِّينَةِ اليابِسَةِ. التِّينَةُ لا تُعطي ثَمَرًا، لكنَّ الكَرَّامَ يَستَمِرُّ بِالاهتِمامِ بِها واثِقًا أَنَّها سَتَقومُ وتُعطي ثِمارًا مِن جَديدٍ.
فَإذَا كانَ اهتِمامُ الكَرَّامِ هوَ الَّذي يَسمَحُ لَها بِأَنْ تُعطي الثِّمارَ، فَحُضورُ اللهِ في حَياتِنا، في داخِلِنا، هوَ الَّذي يَسمَحُ لَنا بِالعَودَةِ إلى حَقيقَتِنا، إلى التَّوبةِ، إلى الحَياةِ، وأنْ نُعطي ثِمارًا؛ لأنَّ اللهَ هوَ إِلهُ الحَياةِ، كما يَقولُ لَنا الإنجيليُّ لوقا: "فَما كانَ إِلهَ أَمواتٍ، بل إِلهَ أَحياءٍ، فَهُم جَميعًا عِندَهُ أَحْياءٌ" (لوقا 20: 38). ومِن هُنا نَتَناوَلُ ضَرورَةَ التَّوبَةِ، والعِقابِ في حالَةِ رَفضِنا الدَّعوَةَ إلى التَّوبَةِ.
2) التَّوبَةُ
استخدمَتْ أسفارُ العَهدِ القَديمِ في الكِتابِ المُقَدَّسِ لِلتَّعبيرِ عنِ التَّوبَةِ الفِعلَ שׁוּב "شوب"، وَمَعناهُ: اِرجِعْ، وخاصَّةً الأنبياءَ مِثلَ: إرميا (25: 5)، وحَزقيال (14: 6)، ويوئيل (2: 12)، وحَجَّاي (1: 3)، وبِغَيرِهِ مِن أَلفاظٍ: رَماد، اعتِراف، كَفَّارَة، إيمان، مَغفِرَة، تَوبَة، اهتِداء، وفِداء. الفِعلُ שׁוּב "شوب" يُعبِّرُ عن فِكرَةِ تَغييرِ الطَّريقِ، والعَودَةِ، والرُّجوع. وبِعِبارَةٍ أُخرى، التَّوبَةُ تَعني أَنَّنا نَحيدُ عَمَّا هوَ شَرٌّ، ونتَّجِهُ نَحوَ اللهِ. فَهَذا هوَ جَوهَرُ الاهتِداءِ، الَّذي يَقتَضي تَغييرًا في السُّلُوكِ، واتِّجاهًا جَديدًا في أُسلوبِ التَّصَرُّفِ بِالحَياةِ كُلِّها.
أما التَّوبَةُ في أسفارُ العَهدِ الجَديدِ فاستخدمَتْ الفِعلَ اليونانيَّ μετανοέω، وَمَعناهُ: التَّوبَةُ الباطِنِيَّة، أي تَغييرُ العَقلِيَّةِ، والرُّجوعُ الذَّاتِيُّ في الباطِن. مِن هُنا، يَنبَغي أَن نُقيمَ اعتِبارًا لِهَذَينِ الوَجهَينِ المُتَمايِزَينِ المُتكامِلَينِ:
- التَّوبَةُ الباطِنِيَّة: أي تَغييرُ العَقلِيَّةِ.
- التَّوبَةُ الخارِجِيَّة: أي تَغييرُ السُّلُوكِ الخارِجيِّ.
يُعلِّقُ البابا لاوون الكَبير قائِلًا: "إنَّ عَيشَ التَّوبَةِ هوَ الانتِقالُ مِن حالَةٍ إلى أُخرى، يَعني نِهايةَ شَيءٍ – أي أَلَّا نَعودَ كَما كُنَّا – وبِدايَةَ شَيءٍ آخَر، أي أَن نُصبِحَ ما لَم نَكُن عَلَيهِ" (العِظَةُ العِشرونُ عَن الآلامِ). فالتَّوبَةُ تَعني الوَعيَ بِأَنَّنا ابتَعَدنا عَن مَركَزِ ومَحوَرِ حَياتِنا، وعَن حَقيقَتِنا، ولَم نَعُد مُوَحَّدينَ مَعَ ذاتِنا، بَل أَصبَحنا مُنتَشِرينَ ومُنفَصِلينَ داخِلِيًّا. وبِالتَّالي، نَحنُ بِحاجَةٍ إلى مُحاوَلَةِ الوِحدَةِ مَعَ الذاتِ بِالعَودَةِ إلى اللهِ.
يُؤَكِّدُ السَّيِّدُ المَسيحُ، في تَعاليمِ يَسوعَ المَسيحِ عن التَّوبَةُ أنَّنا لا نَستَطيعُ أن نَلتَقي باللهِ ونَقبَلَ مَحبَّتَهُ فينا إلَّا مِن خِلالِ التَّوبَةِ، إذ قال: "إِنْ لَم تَتُوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم مِثلَهُم" (لوقا 13: 3). يدعو يسوع جَميعَ البَشَرِ أَنْ يَعتَرِفوا بِأَنَّهُم خُطاةٌ، وَأَنْ يُثمِروا ثَمَرًا يَلِيقُ بِالتَّوبَةِ (متى 3: 8)، وَيَتبَنَّوا سُلُوكًا جَديدًا ملائمًا لِحَياتِهِم الجَديدَةِ (لوقا 3: 10-14). ويُعلِّقُ البابا بِندِكتُسُ قائِلًا: "التَّوبَةُ، رَغمَ أَنَّها لا تَقي مِنَ المَشاكِلِ والمَضايِقِ، لَكِنَّها تَسمَحُ لَنا بِمُواجَهَتِها بِشَكلٍ مُختَلِفٍ، إذ تُساعِدُنا على تَحاشِي الشَّرِّ مِن خِلالِ تَعطِيلِ تَهديداتِهِ، وتَسمَحُ بِالانتِصارِ عَلَى الشَّرِّ بِالخَيرِ. إذ تَقضِي التَّوبَةُ على جُذورِ الشَّرِّ، الَّتي هِيَ الخَطيئَةُ، حَتَّى ولَو لَم تَستَطِع تَحاشِي عَواقِبِها بِالكُلِّيَّةِ".
أمَّا رِسالَةُ يُوحَنَّا المَعمَدَانِ في التَّوبَةِ فيُلَخِّصُها لوقا الإنجيليُّ بجملتين: "يَرُدُّ كَثيرًا مِن بَني إِسرائيلَ إلى الرَّبِّ إِلهِهِم" (لوقا 1: 16)، "تُوبوا، قَدِ اقتَرَبَ مَلكوتُ السَّمواتِ" (متى 3: 2).
يُعَدُّ المَزمورُ "اِرحَمني يا اللهُ"، أَفضَلَ تَعبيرٍ عَنِ التَّوبَةِ؛ إذ يَتَحَوَّلُ التَّعليمُ عَنِ التَّوبَةِ إلى صَلاةٍ، في إطارِ حِوارٍ مَعَ اللهِ. أولاً: الاِعتِرافُ بِالآثامِ: "إِلَيكَ وَحدَكَ خَطِئتُ، والشَّرَّ أَمامَ عَينَيكَ صَنَعتُ" (مزمور 51: 6). ثانيا: التِّماسُ التَّطَهُّرِ داخِلِيًّا: "اِرحَمني يا أَللهُ بِحَسَبِ رَحمَتِكَ، وبِكَثرَةِ رَأفَتِكَ اِمحُ مَعاصِيَّ" (مزمور 51: 3). ثالثًا: طَلَبُ النِّعمَةِ الإلهِيَّةِ: "قَلبًا طاهِرًا اِخلُقْ فيَّ يا أَلله، ورُوحًا ثابِتًا جَدِّدْ في باطِني" (مزمور 51: 12). رابعًا: اتِّجَاهُ القَلبِ نَحوَ اللهِ: "أيُّها السَّيِّدُ، اِفتَحْ شَفَتَيَّ، فيُخبِرَ فَمِي بِتَسبيحَتِكَ" (مزمور ٥١: 17). خِتامًا: هَل نَطلُبُ نِعمَةَ التَّنَبُّهِ إلى أَهمِّيَّةِ التَّوبَةِ؟ فَهَل نَطلُبُ نِعمَةَ التَّوبَةِ الحَقِيقِيَّةِ؟
3) العِقابُ
تُواجِهُ رِسالَةُ التَّوبَةِ بَعضَ العَرَاقِيلِ، اِبتِداءً مِن:
- التَّعَلُّقِ بِالمَالِ (مرقس 10: 21-25)،
- الكِبرِياءِ (تَثنِيَة 8: 12-14)،
- اللَّامُبَالاةِ (لوقا 17: 26-29)،
- الاِكتِفاءِ بِالذَّاتِ (تَثنِيَة 32: 15)،
- احتِقارِ الآخَرِينَ (لوقا 18: 9)،
- وخُصوصًا اِنغِماسِ الإِنسانِ في الشَّرِّ الباطِنِيِّ.
وَإِنْ لَم يُغَيِّرِ المَرءُ سُلوكَهُ، سَيَهلِكُ، كَما قالَ يَسوعُ: "إِنْ لَم تَتُوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم" (لوقا 13: 5)، ويوضِّح يسوع ذلك بَمِثلُ التِّينَةِ العَقِيمَةِ (لوقا 13: 6-9)، فَإِنْ لَم يُقدِمِ السَّامِعونَ على التَّوبَةِ، سَيَهلِكونَ. وَهَذا ما حَدَثَ لِسُكَّانِ أُورَشَليمَ في سَنَةِ ٧٠م، على يَدِ القائِدِ الرُّومانِيِّ طِيطُسَ.
العِقابُ في مفهوم الكتاب المقدس هو َوسِيلَةٍ لِلتَّوبَةِ. كَمَا فِي مَثَلِ الاِبنِ الضَّالِّ، فَبِفَضلِ العِقَابِ يَسجُدُ صَاحِبُ القَلبِ المُفتُوحِ لِسِرِّ مَحَبَّةِ اللهِ الَّذِي بِصَبرِهِ وَرَحمَتِهِ يَصِلُ الخَاطِئُ إِلَى التَّوبَةِ وَالاِهتِدَاءِ (لوقا 15: 14-20). يُعلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ قائِلًا: "رُبَّما تَقولُ: أَيُعَاقَبُ إِنسانٌ لِكَي يُصلِحَ حالي أَنا؟ بَلى، إِنَّهُ يُعَاقَبُ مِن أَجلِ جَرائِمِهِ، وَهَذا يُهَبُ فُرصَةً لِخَلاصِ ناظِرِيهِ".
يَقول صاحبُ المزامير "إِذَا سَمِعتُم صَوتَهُ فَلا تُقَسُّوا قُلُوبَكُم" (مَزمُورُ 95: 7-8). إِنَّ تَصَلُّبَ الإِنسانِ المُتَوَاصِلَ في انفِصالِهِ عَنِ اللهِ يُسَمَّى قَساوَةً وَعَمىً. فَالقَساوَةُ صِفَةٌ مُمَيَّزَةٌ لِحالَةِ الخاطِئِ، الَّذي يَرفُضُ أَن يَتُوبَ، وَيَلبَثُ مُنفَصِلًا عَنِ اللهِ. كُلَّما زادَ عَدَمُ الإِيمانِ، زادَت قَساوَةُ القَلبِ كُلَّما زادَت قَساوَةُ القَلبِ، زادَ رَفضُ التَّوبَةِ. هَذا ما حَدَثَ لِأَهْلِ رُومَةَ لَدَى سَماعِهِم كَلامَ بولُسَ الرَّسُولِ (أَعمالُ 28: 24-27).
إِنَّ هَذِهِ القَساوَةَ تُظهِرُ صَبرَ اللهِ، الَّذي لا يُبِيدُ الخاطِئَ، بَل يَتواصَلُ معه بِلا انقِطاعٍ، مُعرِبًا عَن رَحمَتِهِ، بِمَدِّ يَدَيهِ نَحوَ شَعبٍ مُتَمَرِّدٍ، كَما جاءَ في تَعليمِ بولُسَ الرَّسُولِ: "يَقولُ الرَّبُّ: بَسَطتُ يَدَيَّ طَوالَ النَّهارِ لِشَعبٍ عاصٍ مُتَمَرِّدٍ" (رُومَةَ 10: 21). وَبِما أَنَّهُم خُطاةٌ، لا يَفهَمونَ أَنَّ صَبرَ اللهِ هُوَ لِدَفعِهِم إلى التَّوبَةِ، كَما جاءَ في قَولِ بولُسَ الرَّسُولِ: "أَم تَزدَرِي جَزيلَ لُطفِهِ وَحِلمِهِ وَطُولِ أَناتِهِ، وَلا تَعلَمُ أَنَّ لُطفَ اللهِ يَحمِلُكَ على التَّوبَةِ؟" (رُومَةَ 2: 4).
العِقابُ َنتِيجَةٍ لِلرَّفضِ المُتَواصِلِ. يُصِرُّ بَعضُ النَّاسِ على عَدمِ فَهمِ مَدلُولِ الكَوارِثِ الَّتِي تَتَخَلَّلُ صَفَحاتِ تَاريخِهِم، وَيُكابِرونَ في عَدمِ التَّوبَةِ، كَما جاءَ في سِفرِ الرُّؤيا: "أَمَّا أُولئِكَ الَّذِينَ لَم يَموتوا مِن هَذِهِ النَّكَباتِ، فَلَم يَتُوبوا مِن أَعمَالِ أَيدِيهِم" (رُؤيا 9: 20-21). وَبِدَلًا مِن أَن يَتُوبوا وَيُمَجِّدوا اللهَ، جَدَّفوا عَلَيهِ (رُؤيا 16: 9)، فَكانَتِ النَّتيجَةُ العِقَابُ.
العِقابُ ثَمَرَةُ الخَطِيئَةِ وَعَلامَةٌ عَلَيهَا. يَقولُ بولُسُ الرَّسُولُ: "فَكَما أَنَّ الخَطِيئَةَ دَخَلَتْ فِي العَالَمِ عَن يَدِ إِنسانٍ واحِدٍ، وَبِالخَطِيئَةِ دَخَلَ المَوتُ، وَهَكَذا سَرى المَوتُ إِلَى جَميعِ النَّاسِ، لِأَنَّهُم جَميعًا خَطِئُوا" (رُومَةَ 5: 12).
نَستَطيعُ أَنْ نُمَيِّزَ ثَلاثَ مَراحِلَ في كَيفِيَّةِ نَشأَةِ العِقابِ: هِبَةُ اللهِ: (الخَلقُ، الاِختِيارُ)، الخَطِيئَةُ، رَفضُ الخاطِئِ نِداءَ اللهِ لِلاهتِداءِ. كَما جاءَ في تَعليمِ صاحِبِ الرِّسالَةِ إِلَى العِبرانِيِّينَ: "فَاحذَروا أَنْ تُعرِضوا عَن سَماعِ ذَاكَ الَّذِي يُكَلِّمُكُم. فَإِذا كانَ الَّذِينَ أَعرَضوا عَنِ الَّذِي أَنذَرَهُم فِي الأَرضِ لَم يُفلِتوا مِنَ العِقابِ، فَكَم بِالأَحْرَى لا نُفلِتُ نَحنُ إِذا تَوَلَّينا عَنِ الَّذِي يُكلِّمُنا مِنَ السَّمَاءِ؟" (عِبرانِيِّينَ 12: 25). ونَتِيجَةُ العِقَابِ بِحَسَبِ انْفِتاحِ القَلبِ أَو انْغِلاقِهِ: إِذا كانَ القَلبُ مُغلَقًا قاسيًا: يَكونُ العِقابُ دَينونَةً، كَما حَدَثَ مَعَ: الشَّيطانِ (رُؤيا 20: 10). وبَابِلَ (رُؤيا 18) وحَنَنِيَّا وَسَفِّيرَةَ (أَعمالُ 5: 7-11). وَنَظَرًا لِهَذِهِ القَساوَةِ في الرَّفضِ، يُقَرِّرُ اللهُ إِنزالَ العِقابِ، كَما جاءَ فِي تَعليمِ يَسوعَ عَن أُورَشَلِيمَ: "أُورَشَلِيمَ أُورَشَلِيمَ، يَا قاتِلَةَ الأَنبياءِ وَراجِمَةَ المُرسَلِينَ إِلَيْهَا! كَم مَرَّةٍ أَرَدتُ أَنْ أَجمَعَ أَبناءَكِ كَمَا تَجمَعُ الدَّجاجَةُ فِراخَها تَحتَ جَناحَيْها! فَلَم تُرِيدُوا. هَا هُوَذا بَيتُكُم يُترَكُ لَكُم" (لوقا 13: 34-35).
مِن هَذَا المُنطَلَقِ، يَكونُ العِقابُ دَينُونَةً عَلَى المَاضِي، إِنْ لَم يَتَحَوَّلِ القَلبُ إِلَى اللهِ. فَلَيسَ العِقَابُ هُوَ الَّذِي يَفصِلُ عَنِ اللهِ، وَإِنَّما الخَطِيئَةُ هِيَ الَّتِي يَترَتَّبُ العِقابُ جَزاءً لَهَا. "العِقَابُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الخَطِيئَةَ لا تَسِيرُ مَعَ القَدَاسَةِ الإِلَهِيَّةِ" (عِبرانِيِّينَ 10: 29-30). وخلاصة القول: إِذا كانَ القَلبُ مُفتوحًا، فَإِنَّ العِقَابَ يَكونُ دَعوَةً إِلَى التَّوبَةِ. يَدعُونَا المَسِيحُ اليَومَ لِلتَّوبَةِ، فَالأَحْدَاثُ الَّتِي تَمَّت فِي إِنجِيلِ اليَومِ هِيَ بِمَثَابَةِ فُرَصٍ لِلإِنسانِ لِلتَّوبَةِ وَفَهمِ مَعْنَى الحَيَاةِ وَالوُجُودِ البَشَرِيِّ.
4) العَلاقَةُ بَينَ الحَوَادِثِ الَّتِي تُصِيبُ الإِنسانَ وَخَطَايَاهُ
كانَ اليَهودُ في زَمَنِ المَسِيحِ يَعتَقِدونَ أَنَّ ضَحايَا الشَّرِّ إِنَّمَا هم الذين حَصَدُوا مَا قَد زَرَعُوا، لِأَنَّ الأَلَمَ هُوَ عِقَابٌ لِلخَطِيئَةِ الشَّخصِيَّةِ. فَكانُوا يَقولُونَ: لَدَى سُقُوطِ البُرجِ، مَن وَقَعَ عَلَيهِ اعتُبِرَ خَاطِئًا، وَمَن نَجَا، كَانَ بَارًّا. تَفسِيرُ يَسُوعَ يَختَلِفُ عَن تَفسِيرِ اليَهودِ. يَرفُضُ يَسُوعُ تَعلِيمًا يَربِطُ بَينَ خَطِيئَةٍ اقتَرَفنَاهَا وَحَادِثٍ حَصَلَ فِي حَيَاتِنَا. الجَوَابُ الحَقِيقِيُّ: كُلُّنَا خُطَاةٌ كَما جاءَ فِي تَعلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "ما مِن أَحَدٍ بَارّ، لا أَحَدَ" (رُومَةَ 3: 10). فَبِمَعصِيَةِ آدَمَ، دَخَلَتِ الخَطِيئَةُ إِلَى العَالَمِ (رُومَةَ 5: 12). وَهُم خُطَاةٌ بِذَنبٍ شَخصِيٍّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُم "وَهُوَ مَبِيعٌ لِسُلطَانِ الخَطِيئَةِ" (رُومَةَ 7: 14)، وَقَد قَبِلَ بِرِضَاهُ نِيرَ الشَّهَوَاتِ الخَاطِئَةِ (رُومَةَ 7: 5). لِذَلِكَ، عَلَينَا جَمِيعًا أَنْ نَتُوبَ.
الكَوَارِثُ وَالمَآسِي نِدَاءٌ إِلَهِيٌّ لِلتَّوبَةِ. لَيسَتِ الكَوَارِثُ وَالمَآسِي عِقَابًا إِلَهِيًّا، بَل هِيَ نِدَاءٌ وَدَعوَةٌ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الجَمِيعِ كَي يَرتَدُّوا. لِذَلِكَ، يَنبَغِي قِرَاءَةُ كُلِّ مَا يَحدُثُ عَلَى مُستَوَى الإِيمَانِ، فَيُصبِحُ الحَدَثُ رِسَالَةً وَعَلَامَةً إِيمَانِيَّةً. إِنَّ الشُّرُورَ الَّتِي تُصِيبُنَا أَو تُصِيبُ الآخَرِينَ، إِنَّمَا هِيَ عَلَامَةٌ تَقُودُنَا إِلَى الاِرتِدَادِ الشَّخصِيِّ وَإِلَى التَّوبَةِ. فَلا يَجِبُ: إِدَانَةُ النَّفسِ، أَو إِدَانَةُ الآخَرِينَ، أَو التَّنكِيلُ بِهِم دُونَ تَفكِيرٍ.
يَسُوعُ عَاجِزٌ تِجَاهَ القَلبِ المُغلَقِ القَاسِي الَّذِي يَرفُضُ النُّورَ، كَمَا قَالَ: "أَمَّا مَن جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ القُدُسِ، فَلا غُفرَانَ لَهُ أَبَدًا، بَل هُوَ مُذنِبٌ بِخَطِيئَةٍ لِلأَبَدِ" (مَرقُسَ 3: 29). وَيَسُوعُ عَاجِزٌ أَيْضًا تِجَاهَ مَن يَتَصَوَّرُ أَنَّهُ فِي غَيرِ حَاجَةٍ إِلَى الصَّفحِ، كَالفِرِّيسِيِّ فِي مَثَلِ الفِرِّيسِيِّ وَالعَشَّارِ (لوقا 18: 9-11). أَمَّا إِذَا كَانَ القَلبُ مُفتُوحًا، فَإِنَّ العِقَابَ يَدعُو إِلَى الاِهتِدَاءِ (2 قورنتس 2: 6).
إِنَّ القَساوَةَ فِي الخَطِيئَةِ، لَا يُمكِنُ أَنْ تَزُولَ إِلَّا بِالتَّوبَةِ. وَلَكِن كَيفَ يَستَطِيعُ الخَاطِئُ، بَعدَ أَنْ تَقَسَّى قَلبُهُ، أَنْ يَتُوبَ؟ فيجيب أشعيا النبي:"لِمَ ضَلَّلتَنَا يَا رَبُّ عَن طُرُقِكَ وَقَسَّيتَ قُلُوبَنَا عَن خَشيَتِكَ؟ اِرجِعْ إِلَينَا مِن أَجلِ عَبِيدِكَ أَسبَاطِ مِيرَاثِكَ" (إِشَعيا 63: 17). القَلبُ الجَدِيدُ يتم بعَمَلُ الرُّوحِ القُدُسِ كما يول حزقيال البني: أُعطِيكُم قَلبًا جَدِيدًا وَأَجعَلُ فِي أَحشَائِكُم رُوحًا جَدِيدًا، وَأَنزِعُ مِن لَحمِكُم قَلبَ الحَجَرِ، وَأُعطِيكُم قَلبًا مِن لَحمٍ، وَأَجعَلُ رُوحِي فِي أَحشَائِكُم وَأَجعَلُكُم تَسِيرُونَ عَلَى فَرَائِضِي وَتَحفَظُونَ أَحكَامِي وَتَعمَلُونَ بِهَا" (حِزقِيَالَ 36: 26-27).
نَستَنتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الأَنبِيَاءَ لا يَشجُبُونَ الخَطِيئَةَ، وَلا يُبَيِّنُونَ جَسَامَتَهَا، إِلَّا لِأَجلِ دَعوَةِ النَّاسِ دَعوَةً أَعمَقَ إِلَى التَّوبَةِ وَالاِهتِدَاءِ. إِنْ كَانَ الإِنسانُ غَيرَ أَمِينٍ، فَاللهُ يَبقَى عَلَى الدَّوَامِ أَمِينًا. فَالإِنسانُ يَرفُضُ مَحَبَّةَ اللهِ، وَلَكِنَّ اللهَ لَا يَكُفُّ عَن عَرضِ هَذِهِ المَحَبَّةِ عَلَيهِ. وطَالَمَا يَظَلُّ الإِنسانُ قَابِلًا لِلرُّجُوعِ إِلَى اللهِ، فَإِنَّ اللهَ يَحُثُّهُ عَلَى أَنْ يَرجِعَ، وَيُرَتِّبُ كُلَّ شَيءٍ لِهَذَا الرُّجُوعِ، كما يقول حِزقِيَالَ " فَاللهُ نَفسُهُ يَسعَى فِي البَحثِ عَنِ الخِرَافِ الضَّالَّةِ (حِزقِيَالَ 34). وَهُوَ الَّذِي يُعطِي الإِنسانَ "قَلبًا جَدِيدًا"، وَ "رُوحًا جَدِيدًا"، وَيَهَبُهُ رُوحَهُ القُدُوسَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ حِزقِيَالُ:
"أَجعَلُ رُوحِي فِي أَحشَائِكُم" (حِزقِيَالَ 36: 26-27). وَيَصِفُ سِفرُ التَّثنِيَةِ هَذِهِ الحَالَةَ الرُّوحِيَّةَ بِقَولِهِ: "لِيُحِبُّوا الرَّبَّ بِكُلِّ قُلُوبِهِم وَبِكُلِّ نُفُوسِهِم فَيَحيَوا"(تَثنِيَةَ 30: 6). خِتَامًا: إِن كَانَ الإِنسانُ غَيرَ أَمِينٍ، فَاللهُ يَبقَى دَائِمًا أَمِينًا. الإِنسانُ يَرفُضُ مَحبَّةَ اللهِ، وَلَكِن اللهَ لَا يَكُفُّ عَن عَرضِ مَحبَّتِهِ عَلَيهِ. وَطَالَمَا يَظَلُّ الإِنسانُ قَابِلًا لِلرُّجُوعِ إِلَيهِ، فَإِنَّ اللهَ يَحُثُّهُ عَلَى أَنْ يَرجِعَ. فَهَل نَستَجِيبُ لِدَعُوَةِ التَّوبَةِ؟
الخُلاصَةُ
يَدعُو يَسُوعُ فِي إِنجِيلِهِ النَّاسَ إِلَى ضَرُورَةِ التَّوبَةِ، وَيَربِطُ بَينَ التَّوبَةِ وَالإِنذَارِ وَالعِقَابِ، مُستَشهِدًا بِهَلَاكِ بَعضِ الجَلِيلِيِّينَ عَلَى يَدِ بِيلاطُسَ، وَهَلَاكِ بَعضِ سُكَّانِ سِلوَانَ تَحتَ البُرجِ الَّذِي انهَارَ عَلَيهِم. ويُنَبِّهُنَا يَسُوعُ أَنْ نَتُوبَ، إِذْ لَا نَعلَمُ فِي أَيِّ وَقتٍ سَيَقَعُ البُرجُ عَلَينَا، أَو سَيَبطِشُ بِنَا عُظَمَاءُ هَذَا الدَّهرِ، عَالَمُ الظُّلمِ وَالظُّلُمَاتِ. النَّتِيجَةُ الَّتِي يُرِيدُ يَسُوعُ أَنْ يُوصِلَ سَامِعِيهِ إِلَيهَا هِيَ: "ضَرُورَةُ التَّوبَةِ، فَتُوبُوا، لِأَنَّكُم لَا تَعلَمُونَ لَا اليَومَ وَلَا السَّاعَةَ!"
لَم يَنُفِ سَيِّدُنَا يَسُوعُ المَسِيحُ إِمكَانَ تَعَرُّضِنَا لِبَعضِ العِقَابِ عَلَى خَطَايَانَا هُنَا، وَلَكِن لَيسَتِ الكَوَارِثُ هِيَ الوَسِيلَةُ الوَحِيدَةُ لِذَلِكَ. فَالعِقَابُ الحَقِيقِيُّ لِلخَطِيئَةِ هُوَ الهَلَاكُ الأَبَدِيُّ، وَلَا نَجَاةَ مِن هَذَا الهَلَاكِ إِلَّا بِالتَّوبَةِ.
قَدَّمَ يَسُوعُ مَثَلَ التِّينَةِ وَفُرصَةُ النَّجَاةِ. َفشبَهُ الأُمَّةَ اليَهُودِيَّةَ بالتينة، فَقَد غَرَسَهَا اللهُ فِي العَالَمِ، وَجَاءَ يَطلُبُ مِنْهَا ثَمَرًا، فَلَم يَجِد. ثُمَّ جَاءَ يَسُوعُ، الكَرَّامُ، فَنَقَّبَ حَولَهَا، وَذَكَّرَهَا بِخَطَايَاهَا، وَعَلَّمَهَا إِرَادَةَ الآبِ، وَشَفَعَ فِيهَا، وَمَاتَ عَنهَا، حَتَّى تَستَطِيعَ أَنْ تُثمِرَ.
مَعْنَى المَثَلِ هو إعطاء فُرصَةُ أو مُهْلَةِ. لَا يَقُومُ مَركَزُ المَثَلِ فِي البَحثِ عَنِ الثِّمَارِ، وَلَا فِي الرَّغبَةِ فِي قَطعِ التِّينَةِ، وَلَا حَتَّى فِي القَرَارِ النِّهَائِيِّ بِقَطعِهَا بَعدَ سَنَةٍ مِنَ المُهْلَةِ إِن لَم تُثمِر. تَكمُنُ الجَدِيدَةُ الرِّسَالَةِ فِي المَثَلِ هي تَمَّ مَنحُ الفُرصَةِ لِتِينَةٍ قَد استَمَرَّ عُقمُهَا ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ، بِطَلَبٍ أَو صَلَاةِ الكَرَّامِ! نَحنُ مَدعُوُّونَ فِي زَمَنِ الصَّومِ هَذَا، زَمَنِ التَّوبَةِ الصَّادِقَةِ وَالنَّدَامَةِ، لِتَجديدِ حَيَاتِنَا وَإِحدَاثِ تَغَيِيرٍ جَذْرِيٍّ، بِصَلَاتِنَا وَالتِجَائِنَا إِلَى الآبِ السَّمَاوِيِّ.
إجمالًا، المغزى الرُّوحِيُّ لِهَذَا النَّصِّ هُوَ التَّوْبَةُ وَالتَّغْيِيرُ الشَّخْصِيُّ وَالصَّبْرُ الإِلَهِيُّ وَالمُحَاسَبَةُ النِّهَائِيَّةُ. إِذْ يُشَدِّدُ يَسُوعُ فِي هَذَا النَّصِّ عَلَى ضَرُورَةِ التَّوْبَةِ العَاجِلَةِ، مُوَضِّحًا أَنَّ الكَوَارِثَ لَا تَعْنِي أَنَّ الضَّحَايَا كَانُوا أَكْثَرَ خَطِيئَةً مِنْ غَيْرِهِمْ، بَلْ هِيَ دَعْوَةٌ لِلْجَمِيعِ لِيَعُودُوا إِلَى اللَّهِ. كَمَا أَنَّ مَثَلَ شَجَرَةِ التِّينِ يُوَضِّحُ صَبْرَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ، لَكِنَّهُ فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ تَحْذِيرٌ بِأَنَّ الفُرْصَةَ لَيْسَتْ بِلَا نِهَايَةٍ، وَمَنْ لَا يَتُبْ سَيُوَاجِهُ الدَّيْنُونَةَ.
دُعَاءُ التَّوبَةِ وَالرَّحمَةِ
سَاعِدنَا يَا رَبُّ كَي نُحسِنَ مَعرِفَةَ عَلامَاتِ الأَزمِنَةِ وَضَرُورَةِ التَّوبَةِ.
سَاعِدنَا يَا رَبُّ كَي نُغَيِّرَ أَفكَارَنَا، مِن أَفكَارِ البَشَرِ إِلَى أَفكَارِ اللهِ، مِن أَفكَارِ الخَطِيئَةِ إِلَى أَفكَارِ التَّوبَةِ
مِن أَفكَارِ الاِمتِلَاكِ إِلَى أَفكَارِ المُشَارَكَةِ، وَمِن التَّذَمُّرِ إِلَى الثِّقَةِ بِاللهِ
سَاعِدنَا يَا رَبُّ أَنْ نَتُوبَ فَنُقبِلَ إِلَيكَ قَبلَ فَوَاتِ الأَوَانِ، فنَنَالَ رَحمَةً فِي سِرِّ الاِعتِرَافِ، وَغِذَاءً فِي سِرِّ القُربَانِ، كَي لَا يَكُونَ مَصِيرُنَا مِثلَ التِّينَةِ الَّتِي لَم تُثمِر.
سَاعِدنَا يَا رَبُّ أَنْ نَرجِعَ إِلَى المَسِيحِ رَاعِي نُفُوسِنَا وَحَارِسِهَا:
سَاعِدنَا يَا رَبُّ أَنْ نَنتَقِلَ مِنَ المَوتِ إِلَى الحَيَاةِ، فِي حِينِ لَا نَزَالُ فِي هَذَا الجَسَدِ.
سَاعِدنَا يَا رَبُّ أَنْ نعرِفَ مِن أَجلِ مَن نمُوتُ، وَمِن أَجلِ مَن نحيَا، لِأَنَّ هُنَالِكَ مِيتَةً تُحيِي، وَهُنَالِكَ حَيَاةً تُميتُ.
فَلنَمُتْ عَنِ الخَطِيئَةِ وَلنَحْيَا لِلهِ.
سَاعِدنَا يَا رَبُّ أَنْ نَبدُلَ جُهدًا كَبِيرًا كَي نَكُونَ شُرَكَاءَ فِي قِيَامَتِكَ المَجِيدَةِ.
سَاعِدنَا يَا رَبُّ كَي تَكُونَ عُيُونُنَا رَحِيمَةً، حَتَّى لَا تَنتَابَنَا الشُّبُهَاتُ، وَلَا نَحكُمُ اِستِنَادًا إِلَى المَظَاهِرِ الخَارِجِيَّةِ.
سَاعِدنَا يَا رَبُّ كَي يَكُونَ سَمعُنَا رَحُومًا، كَي نَنحَنِي عَلَى اِحتِيَاجَاتِ قَرِيبِنَا، وَلَا تَكُونَ آذَانُنَا غَيرَ مُبَالِيَةٍ بِآلَامِهِ وَأَنِينِهِ.
سَاعِدنَا يَا رَبُّ كَي يَكُونَ لِسَانُنَا رَحُومًا، لَا يَتَكَلَّمُ بِالسُّوءِ عَنِ القَرِيبِ، بَل يَحمِلُ كَلِمَةَ مُوَاسَاةٍ وَمُسَامَحَةٍ لِكُلِّ شَخصٍ.
سَاعِدنَا يَا رَبُّ كَي تَكُونَ أَيدِينَا رَحُومَةً وَمَفعَمَةً بِالأَعمَالِ الصَّالِحَةِ.
سَاعِدنَا يَا رَبُّ كَي تَكُونَ أَرجُلُنَا رَحُومَةً، كَي نَهُبَّ دَائِمًا لِمُسَاعَدَةِ القَرِيبِ، مُتَغَلِّبِينَ عَلَى قُنُوطِنَا وَتَعَبِنَا.
سَاعِدنَا يَا رَبُّ كَي تَكُونَ قَلْوبُنَا رَحِيمًة، كَما أَنَّ الآبَ السَّمَاوِيَّ رَحِيمٌ" كَي نشَارِكُ فِي مُعَانَاةِ القَرِيبِ كُلِّهَا. آمِين. (يَوميَّاتُ الرَّاهِبَةِ فَاوُستِينَا، 163).