موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (لوقا 9: 28-36)
28 وبَعدَ هذا الكَلامِ بِنَحوِ ثَمانِيَةِ أَيَّام، مَضى بِبُطرسَ ويوحنَّا ويعقوبَ وصعِدَ الجَبَلَ لِيُصَلِّي. 29 وبَينَما هو يُصَلِّي، تَبَدَّلَ مَنظَرُ وَجهه، وصارَت ثِيابه بِيضاً تَتَلألأُ كَالبَرْق. 30 وإِذا رَجُلانِ يُكَلِّمانِه، وهُما مُوسى وإِيلِيَّا، 31 قد تَراءَيا في المَجد، وأَخَذا يَتَكلَّمانِ على رَحيلِه الَّذي سَيتِمُّ في أُورَشَليم. 32 وكان بُطرُسُ واللَّذانِ معَه قد أَثقَلَهُمُ النُّعاس. ولكِنَّهُمُ استَيقَظوا فَعايَنوا مَجدَه والرَّجُلَينِ القائميَنِ مَعَه، 33 حتَّى إِذا هَمَّا بِالانصِرافِ عَنه قالَ بُطرُسُ لِيَسوع: ((يا مُعَلِّم حَسَنٌ أَن نَكونَ ههُنا. فلَو نَصَبنا ثَلاثَ خِيَم، واحِدَةً لَكَ وواحدةً لِموسى وواحِدةً لإِيليَّا!)) ولم يَكُنْ يَدري ما يَقول. 34 وبَينَما هو يَتَكَلَّم، ظهَرَ غَمامٌ ظَلَّلهُم، فلمَّا دَخَلوا في الغَمام خافَ التَّلاميذ. 35 وانطَلَقَ صَوتٌ مِن الغَمامِ يَقول: ((هذا هوَ ابنِيَ الَّذي اختَرتُه، فلَه اسمَعوا)). 36 وبَينما الصَّوتُ يَنطَلِق، بَقِيَ يَسوعُ وَحدَهُ، فالتَزَموا الصَّمْتَ ولم يُخبِروا أَحداً في تِلكَ الأَيَّامِ بِشَيءٍ ممَّا رَأَوا.
مُقَدِّمَةٌ
فِي ٱلْأَحَدِ ٱلثَّانِي مِنْ زَمَنِ ٱلصَّوْمِ، يَصِفُ لُوقَا ٱلْإِنْجِيلِيُّ تَجَلِّيَ سَيِّدِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِلْآلَامِ وَٱلْقِيَامَةِ، تَتْمِيمًا لِمَشِيئَةِ ٱلْآبِ. وَإِذْ كَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَى تَلَامِيذِهِ أَنْ يَفْهَمُوا لِمَاذَا ٱخْتَارَ مُعَلِّمُهُمْ ذَلِكَ ٱلطَّرِيقَ (مَتَّى ١٦: ٢٢)، أَرَاهُمْ شَيْئًا مِنْ مَجْدِهِ لِيُقَوِّمَ رُؤْيَتَهُمْ، وَيُعْلِنَ لَهُمْ حَقِيقَتَهُ، وَيُقَوِّيَ إِيمَانَهُمْ. لِذَلِكَ، أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُصْغُوا إِلَى تَعْلِيمِهِ لِكَيْ يَعِيشُوا خِبْرَةَ ٱلْمَجْدِ وَٱلْعَلَاقَةَ ٱلْكَامِلَةَ مَعَ ٱللَّهِ.
ٱلِٱحْتِفَاءُ بِتَجَلِّي ٱلرَّبِّ أَمَامَ تَلَامِيذِهِ ٱلْمُقَرَّبِينَ يُعْلِنُ وَجْهَ يَسُوعَ، بِحَسَبِ هُوِيَّتِهِ ٱلْإِلٰهِيَّةِ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَوَجْهَ ٱلْمُخَلَّصِينَ بَعْدَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى. إِذْ يَدْعُونَا ٱلْإِنْجِيلِيُّ ٱلْيَوْمَ لِنُصْبِحَ، مِثْلَ يَسُوعَ ٱلْمُمَجَّدِ. وَيُعَلِّقُ ٱلرَّاهِبُ أَنَسْطَاسُ ٱلسِّنَاوِيُّ: "ٱلْيَوْمَ، عَلَى جَبَلِ طَابُورَ، قَدْ تَجَلَّتْ سِرِّيًّا حَالَةُ ٱلْحَيَاةِ ٱلْمُسْتَقْبَلِيَّةِ وَمَلَكُوتُ ٱلسَّعَادَةِ" (عِظَةٌ حَوْلَ ٱلتَّجَلِّي). وَمِنْ هُنَا، تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ ٱلْبَحْثِ فِي وَقَائِعِ ٱلنَّصِّ ٱلْإِنْجِيلِيِّ وَتَطْبِيقَاتِهِ.
أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 9: 28-36)
28 بَعدَ هذا الكَلامِ بِنَحوِ ثَمانِيَةِ أَيَّام، مَضى بِبُطرسَ ويوحنَّا ويعقوبَ وصعِدَ الجَبَلَ لِيُصَلِّي
تَشِيرُ عِبَارَةُ "بَعْدَ هَذَا الكَلَامِ" إِلَى الأَقْوَالِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاعْتِرَافِ بُطْرُسَ وَالإِعْلَانِ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ عَنْ الآلَامِ وَالقِيَامَةِ مِنْ قِبَلِ يَسُوعَ (لوقا 9: 18-28)، وكَانَ يَسُوعُ قَدْ تَحَدَّثَ عَنْ خُرُوجِهِ (رَحِيلِهِ) مَعَ تَلَامِيذِهِ، وَهُوَ الآنَ يُوَاصِلُ الحَدِيثَ عَنْهُ مَعَ إِيلِيَّا وَمُوسَى، وَهُمَا شَاهِدَانِ عَلَى خُرُوجِ يَسُوعَ، الَّذِي أَوْشَكَ أَنْ يَكْتَمِلَ (لوقا 9: 31). أمَّا عِبَارَةُ "ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ" فَتُشيرإِلَى نِهَايَةِ عِيدِ ٱلْمَظَالِّ؛ وَعِيدُ ٱلْمَظَالِّ (סֻכּוֹת) أَوْ عِيدُ ٱلْعُرُوشِ أَوِ ٱلْأَكْوَاخُ هُوَ مِنَ ٱلْأَعْيَادِ ٱلثَّلَاثَةِ ٱلْهَامَّةِ مَعَ عِيدِ ٱلْفَطِيرِ وَعِيدِ ٱلْأَسَابِيعِ ٱلْوَارِدِ ذِكْرُهُمْ فِي تَثْنِيَةِ ٱلِٱشْتِرَاعِ (16: 13). يَبْدَأُ هَذَا ٱلْعِيدُ بَعْدَ يَوْمِ كِيبُّور יוֹם כִּפּוּר (يَوْمِ ٱلْغُفْرَانِ)، وَيَسْتَمِرُّ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ؛ وَهُوَ إِحْيَاءٌ لِذِكْرَى خَيْمَةِ ٱلسَّعَفِ ٱلَّتِي آوَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ أَثْنَاءَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ. وَفِي نِهَايَتِهِ يَحْتَفِلُ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِٱسْتِلَامِ ٱلتَّوْرَاةِ، وَتُسَمَّى فَرْحَةُ ٱلتَّوْرَاةِ "(שִׂמְחַת תּוֹרָה)، وَخِلَالَ ٱلْأَيَّامِ ٱلْخَمْسَةِ تُقَامُ ٱلْمَظَالُّ قُرْبَ ٱلْبَيْتِ أَوْ عَلَى ٱلسَّطْحِ وَشُرْفَاتِ ٱلْبُيُوتِ ٱلْمَفْتُوحَةِ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ تَبْدَأُ صَلَوَاتُ طَلَبِ ٱلْمَطَرِ. وَفِي ٱلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ تَدُلُّ عِبَارَةُ "ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ" عَلَى رَقْمِ ٱلْأَبَدِيَّةِ، وَبِٱلتَّالِي يُرْمَزُ بِهَا إِلَى ٱلْقِيَامَةِ وَٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ. فِي حِينِ يَرِدُ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى بَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ (مَتَّى 16: 1) فَٱلرَّقْمُ (6) هُوَ عَدَدُ ٱلنَّقْصِ، وهو يَرمُزُ إلى نَقْصِ الإنْسِانِ. فَٱلْإِنْسَانُ خُلِقَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلسَّادِسِ وَسَقَطَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلسَّادِسِ، وَيَجِدُ هَذَا ٱلرَّقْمُ كَمَالَهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلسَّابِعِ مِنَ ٱلتَّجَلِّي. مَتَّى وَمَرْقُسَ أَحْصَيَا ٱلْأَيَّامَ ٱلسِّتَّةَ ٱلَّتِي بَيْنَ يَوْمِ ٱلْوَعْدِ وَيَوْمِ ٱلتَّجَلِّي، أَمَّا لُوقَا ٱلْإِنْجِيلِيُّ فَأَحْصَى أَيْضًا ٱلْيَوْمَ ٱلَّذِي فِيهِ أَعْلَنَ ٱلرَّبُّ وَعْدَهُ وَأَحْصَى يَوْمَ ٱلتَّجَلِّي، وَهَكَذَا حَصَلَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ. وَهَكَذَا، فَإِنَّ حَدَثَ ٱلتَّجَلِّي لَيْسَ مُنْعَزِلًا، بَلْ هُوَ مُرْتَبِطٌ بِلَحْظَةٍ خَاصَّةٍ فِي حَيَاةِ يَسُوعَ. بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ حَدِيثِ ٱلْمَسِيحِ فِي قَيْصَرِيَّةِ فِيلِبُّسَ عَنْ صَلِيبِهِ، وَٱعْتِرَافِ بُطْرُسَ بِإِيمَانِهِ بِٱلْمَسِيحِ، تَجَلَّى ٱلرَّبُّ فِي مَجْدِهِ عَلَى ٱلْجَبَلِ، وها نحنُ في اليومِ الثامنِ لِقَولِهِ هذا، بحضورٍ فِعليٍّ لِثلاثةٍ من تلاميذِ يسوعَ المُقرَّبينَ، وهم بطرسُ ويعقوبُ ويوحنَّا. وحوارهُ مع الجمعِ وتلاميذهِ بقولهِ: "إنَّ في جُملةِ الحاضِرينَ ههُنا مَن لا يَذوقونَ الـمَوتَ حتَّى يُشاهِدوا مَلكوتَ الله" (لوقا 9: 27). وَأَمَّا عِبَارَةُ "بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَيَعْقُوبَ" فَتُشِيرُ إِلَى ٱلرُّسُلِ ٱلثَّلَاثَةِ "ٱلْمُقَرَّبِينَ" ٱلَّذِينَ لَهُمْ عِلَاقَةٌ حَمِيمَةٌ مَعَ يَسُوعَ، إِذْ أَخَذَهُمْ يَسُوعُ مَعَهُ شُهُودًا لِمَجْدِهِ، فَقَدْ رَافَقُوهُ فِي رِسَالَتِهِ حِينَ شَفَى ٱبْنَةَ يَائِيرُسَ (لُوقَا 8: 51)، وَفِي نِزَاعِهِ فِي بُسْتَانِ ٱلْجَثْسَمَانِي (لُوقَا 22: 39). وَيَبْدُو أَنَّ الرسلْ كانوا أَكْثَرُ ٱسْتِعْدَادًا لِفَهْمِ وَقَبُولِ ٱلْمَسِيحِ. وَإِنَّ ٱلرَّقْمَ ثَلَاثَةً يُعْتَبَرُ كَافِيًا لِإِثْبَاتِ ٱلشَّهَادَةِ فِي ٱلشَّرِيعَةِ ٱلْمُوسَوِيَّةِ. يُعَلِّقُ بُطْرُسُ ٱلْوَقُورُ، رَئِيسُ دَيْرِ كْلُونِي: "ٱلْيَوْمَ، يُعَظِّمُ ٱلنُّورُ ٱلْحَقِيقِيُّ هَذَا ٱلْجَسَدَ ٱلْبَشَرِيَّ، يُظْهِرُهُ إِلٰهِيًّا أَمَامَ ٱلرُّسُلِ، لِيَقُومُوا هُمْ أَيْضًا بِتَعْظِيمِهِ فِي ٱلْأُمَمِ" (ٱلْعِظَةُ ٱلْأُولَى عَنْ ٱلتَّجَلِّي). وَهَكَذَا، فَإِنَّ ٱلرُّسُلَ ٱلثَّلَاثَةَ شُهُودُ عِيَانٍ عَلَى ٱسْتِبَاقِ ٱلْقِيَامَةِ بِتَجَلِّي ٱلرَّبِّ أَمَامَهُمْ. أَمَّا عِبَارَةُ "ٱلْجَبَلَ" فَتُشِيرُ إِلَى جَبَلٍ غَيْرِ مُحَدَّدٍ، ٱلْجَبَلِ بِوَجْهٍ عَامٍّ (مَتَّى 14: 23)، كَمَا كَانَ ٱلْأَمْرُ فِي ٱلْجَلِيلِ حِينَ أَرْسَلَ يَسُوعُ ٱلتَّلَامِيذَ لِإِعْلَانِ ٱلْبِشَارَةِ قَبْلَ صُعُودِهِ إِلَى ٱلسَّمَاءِ (مَتَّى 28: 16)؛ أَمَّا فِي إِنْجِيلِ مَتَّى فَيُشِيرُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ (مَتَّى 17: 1)، كَمَا كَانَ ٱلْأَمْرُ حِينَ جُرِّبَ يَسُوعُ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ (مَتَّى 4: 8). وَأَمَّا ٱلتَّقَالِيدُ ٱلَّتِي تَرْجِعُ إِلَى ٱلْقَرْنِ ٱلرَّابِعِ ٱلْمِيلَادِيِّ فَقَدْ أَشَارَتْ إِلَى جَبَلِ طَابُورَ أَوِ ٱلطُّورِ ٱلَّذِي يَقَعُ عَلَى بُعْدِ عَشَرَةِ كِيلُومِتْرَاتٍ شَرْقَ مَدِينَةِ ٱلنَّاصِرَةِ فِي ٱلْجَلِيلِ، وَرَدَ ذِكْرُهَذَا ٱلْجَبَلَ 12 مَرَّةً فِي ٱلْعَهْدِ ٱلْقَدِيمِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ ٱسْمُهُ فِي ٱلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ. وَهَذَا ٱلْجَبَلُ مُنْفَرِدٌ عَنْ بَقِيَّةِ جِبَالِ ٱلْجَلِيلِ وَعُلُوُّهُ 420 م تَقْرِيبًا فَوْقَ ٱلسَّهْلِ وَ562 م فَوْقَ سَطْحِ ٱلْبَحْرِ ٱلْأَبْيَضِ ٱلْمُتَوَسِّطِ. وَآخَرُونَ يَرَوْنَ أَنَّ ٱلتَّجَلِّيَ حَدَثَ عَلَى جَبَلِ حَرْمُونَ أَوْ جَبَلِ ٱلشَّيْخِ ٱلَّذِي تَعْلُو قِمَّتُهُ ٱلْمُغَطَّاةُ بِٱلثَّلْجِ نَحْوَ 2743 م، وَهُوَ يَبْعُدُ 19 كِم شِمَالَ شَرْقِيِّ قَيْصَرِيَّةِ فِيلِبُّسَ (بَنِيَاسَ)، وَيُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ مِنْ مَنَاطِقَ كَثِيرَةٍ فِي فِلَسْطِين، وَهُوَ يَتَأَلَّقُ مِثْلَ ٱلذَّهَبِ فِي ضَوْءِ ٱلشَّمْسِ. ٱلْجَبَلُ، حَسَبَ ٱلتَّقْلِيدِ ٱلْقَدِيمِ فِي ٱلدِّيَانَاتِ، مَكَانُ سُكْنَى ٱلْآلِهَةِ عَلَى ٱلْأَرْضِ. فَإِنْ وَطِئَ ٱلْإِنْسَانُ جَبَلًا، فَهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ صَارَ قَرِيبًا مِنَ ٱللَّهِ. فَٱلْجَبَلُ لَهُ دَلَالَةٌ لَاهُوتِيَّةٌ أَكْثَرُ مِنْهَا جُغْرَافِيَّةٌ. فَهُوَ مَكَانٌ لِلْوَحْيِ (أَشَعْيَا 2: 2-3)؛ حَيْثُ إِنَّ ٱلْجَبَلَ يَرْتَبِطُ بِٱلِٱقْتِرَابِ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلِٱسْتِعْدَادِ لِسَمَاعِ أَقْوَالِهِ، فَقَدْ ظَهَرَ ٱللَّهُ لِكُلٍّ مِنْ مُوسَى (خُرُوج 24: 12-18)، وَإِيلِيَّا (1 مُلُوك 19: 8-18) عَلَى ٱلْجَبَلِ. يَسُوعُ بِالذَّاتِ، كَانَ يَنْزَوِي دَائِمًا عَلَى جَبَلٍ لِيُصَلِّيَ كي ِيَلْتَقِيَ مَعَ أَبِيهِ، وَأَمَّا هُنَا، عَلَى جَبَلِ طَابُورَ، فَإِنَّ خِبْرَةَ الجَمَالِ وَالنُّورِ الَّتِي عَاشَهَا يَسُوعُ وَتَلَامِيذُهُ عَلَى الجَبَلِ تَرْتَبِطُ ارْتِبَاطًا وَثِيقًا بِكَلَامِ الصَّلِيبِ وَالمَحَبَّةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "لِيُصَلِّيَ" فَتُشِيرُ إِلَى هَدَفِ صُعُودِهِ إِلَى ٱلْجَبَلِ، وَهُوَ لِقَاءُ يَسُوعَ مَعَ أَبِيهِ ٱلسَّمَاوِيِّ. فَيَبْتَدِئُ يَسُوعُ كُلَّ أَعْمَالِهِ ٱلْعُظْمَى بِٱلصَّلَاةِ كَمَا فَعَلَ يَوْمَ عِمَادِهِ، وَوَقْتَ ٱنْتِخَابِهِ ٱلرُّسُلَ، وَتَجَلِّيهِ، وَزَمَنِ صَلْبِهِ، وَغَالِبًا مَا يَذْكُرُ لُوقَا صَلَاةَ يَسُوعَ فِي إِنْجِيلِهِ (5: 16 و6: 12 و9: 18 و10: 21 و11: 1 و23: 34). وَصَلَاةُ رَبِّنَا يَسُوعَ هِيَ حَدِيثُ ٱلشَّرِكَةِ مَعَ ٱلْآبِ ٱلْوَاحِدِ مَعَهُ فِي ٱللَّاهُوتِ. هَذَا مَا يَجْعَلُ وَجْهَ يَسُوعَ مُضِيئًا، بِشَرِكَتِهِ مَعَ ٱللَّهِ ٱلْآبِ. بِٱلصَّلَاةِ ٱلْتَقَى يَسُوعُ وَجْهًا لِوَجْهٍ مَعَ ٱللَّهِ أَبِيهِ، فَشَعَّ فِيهِ نُورُ وَجْهِهِ، وَتَبَدَّلَ مَنْظَرُهُ. فَٱلصَّلَاةُ هِيَ ٱللَّحْظَةُ ٱلَّتِي نَضَعُ فِيهَا حَيَاتَنَا ٱلْحَقِيقِيَّةَ أَمَامَ ٱللَّهِ، إِذْ نَتَغَيَّرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. ٱلصَّلَاةُ هِيَ ٱنْفِتَاحُ وُجُودِنَا عَلَى حَيَاةِ شَرِكَةٍ قَادِرَةٍ عَلَى تَحْوِيلِ ٱلْحَيَاةِ كُلِّهَا. فَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَنْعَمَ بِتَجَلِّي ٱلرَّبِّ فِي أَعْمَاقِنَا، يَلْزَمُنَا أَنْ نَرْتَفِعَ عَلَى ٱلْجَبَلِ مَعَهُ لِنُصَلِّيَ، فَلَا طَرِيقَ لِلتَّجَلِّي دُونَ ٱلصَّلَاةِ! وَعَنْ طَرِيقِ ٱلصَّلَاةِ يَتَغَيَّرُ شَكْلُ ٱلْإِنْسَانِ، وَيُعَلِّقُ ٱلْبَابَا فِرَنسِيسُ: "إِنَّ ٱلصَّلَاةَ تُغَيِّرُ ٱلْوَاقِعَ، هِيَ تُغَيِّرُ عَلَى ٱلدَّوَامِ، فَإِمَّا تُغَيِّرُ ٱلْأُمُورَ أَوْ تُغَيِّرُ قُلُوبَنَا"، كَمَا جَاءَ فِي وَصِيَّةِ بُولُسَ ٱلرَّسُولِ: "تَحَوَّلُوا بِتَجَدُّدِ عُقُولِكُمْ" (رُومَةَ 12: 2).
29 وبَينَما هو يُصَلِّي، تَبَدَّلَ مَنظَرُ وَجهه، وصارَت ثِيابه بِيضاً تَتَلألأُ كَالبَرْق
تُشيرُ عبارةُ "تَبَدَّلَ مَنظَرُ وَجهِهِ" إلى التغيُّرِ الَّذِي يُكشَفُ فيهِ مجدُ يسوعَ المُختَفِي وَراءَ وَجهِه، حيثُ اضطُرَّ أن يُخفِيَهُ حتَّى يُمكِّنَنا مِن رؤيتِهِ وسَماعِهِ دونَ خوفٍ، ودونَ أن نموتَ، كما جاءَ في الشَّريعةِ: "لَا يَرَانِي الإِنْسَانُ وَيَحْيَا" (خُروجُ 33: 20). يَكشِفُ الوَجهُ شخصيَّةَ الإِنسانِ بكُليَّتِها، وبِعَلاقاتِهِ وتَواصُلِهِ معَ نَفسِهِ خارجيًّا، ويُعبِّرُ عن هُوِيَّتِهِ الإِنسانِيَّةِ. أمَّا عبارةُ "تَبَدَّلَ" فَفِي الأصلِ اليُونانِيِّ ἐγένετο (مَعنَاها صَارَ) فتُشِيرُ إلى ظُهُورِ مَجدِ يسوعَ المَسِيحِ الإِلَهِيِّ. فِي حِينِ أنَّهُ تَجَنَّبَ لُوقَا استِعمَالَ كَلِمَةِ "تَجَلَّى" فِي الأصلِ اليُونانِيِّ μετεμορφώθη (مَعنَاها تَحَوَّلَ، تَغَيَّرَتْ هَيئتُهُ)، كما وَرَدَ فِي إِنجِيلِ مَتَّى (17: 2)، وَمَرقُس (9: 2)، وهذه اللفظةُ أساسيَّةٌ في حياتِنا الكِتابيَّةِ والمَسيحيَّةِ، ولها صَداها في حياتِنا اليوميَّةِ. لكن هذه كَلِمَةَ "تَجَلَّى" لَهَا مَضمُونٌ وَثَنِيٌّ عِندَ قُرَّاءِ لُوقَا الإِنْجِيلِيِّ، أي تَحَوُّلُ الآلِهَةِ إِذَا أَرَادُوا الظُّهُورَ فِي شَكلٍ بَشَرِيٍّ. لذلك يَتَكَلَّمُ لوقا بِالأَحْرَى عَنْ "مَجدِ" يَسُوعَ، أي تَغَيُّرِ وَجهِهِ، أي تَغيَّر في هَيئتِه"، "وصَار آخرًا". وَنَجِدُ فِي هَذِهِ العِبَارَةِ إِشَارَةً إِلَى مُوسَى لَدَى لِقَائِهِ بِاللَّهِ عَلَى جَبَلِ سِينَاءَ (خُروجُ 34: 29)، عِلْمًا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ مُوسَى الجَدِيدُ. أمَّا عِبَارَةُ "ثِيابُهُ بِيضًا تَتَلألأُ" فَتُشِيرُ إِلَى المَجدِ السَّمَاوِيِّ المُنعَمِ بِهِ عَلَى المُختَارِينَ، الَّذِينَ يَصِيرُونَ كَالمَلَائِكَةِ (مَتَّى 28: 3). فَالثِّيَابُ المُشِعَّةُ هِيَ إِحْدَى عَلَامَاتِ المَجدِ السَّمَاوِيِّ الَّتِي تُمنَحُ لِلمُختَارِينَ كَمَا هُوَ مَألُوفٌ فِي الرُّؤْيَةِ اليَهُودِيَّةِ (رُؤْيَا 3: 4). أمَّا عِبَارَةُ "بِيضًا" فَتُشِيرُ إِلَى اللَّونِ السَّمَاوِيِّ لِلمَسِيحِ، الَّذِي لَا يَظهَرُ خِلَالَ حَيَاتِهِ عَلَى الأَرضِ إِلَّا فِي لَحْظَةٍ مُميَّزَةٍ، عِندَ التَّجَلِّي، حَيثُ صَارَتْ ثِيَابُهُ بِيضًا. فَاللَّونُ الأَبْيَضُ يُشِيرُ إِلَى لَونِ القِيَامَةِ وَالظَّفَرِ. وَالمَسِيحُ بِدَمِهِ يُبَرِّرُ المُؤمِنَ فَيَتَرَنَّمُ مَعَ صَاحِبِ المَزَامِيرِ: "نَقِّنِي بِالزُّوفَى فَأَطهُرَ، إِغسِلْنِي فَأَفُوقَ الثَّلجَ بَيَاضًا" (مَزمُورُ 51: 9). أمَّا العَلَّامَةُ مَكسِيمُوس فَيَقُولُ: "إِنَّ الثِّيَابَ الَّتِي أَضْحَتْ بَيضَاءَ تَرمُزُ إِلَى كَلِمَاتِ الكِتَابِ المُقَدَّسِ الَّتِي كَادَتْ تُصبِحُ وَاضِحَةً وَشَفَّافَةً وَنَيِّرَةً" (PG 91, 1128). أمَّا عِبَارَةُ "البَرْقُ" فَتُشِيرُ إِلَى يَسُوعَ المَسِيحِ، الَّذِي يَمُرُّ فِي الأَلَمِ كَالبَرْقِ، ثُمَّ يَرَى النُّورَ كَمَا قَالَ إِشَعْيَا النَّبِيُّ وَاصِفًا إِيَّاهُ: "سَبَبِ عَنَاءِ نَفْسِهِ يَرَى النُّورَ وَيَشْبَعُ" (إِشَعْيَا 53: 11). وَلَا يُدرِكُ هَذَا المَشهَدَ العَجِيبَ إِلَّا فِي فِكرَةِ قِيَامَةِ المَسِيحِ المَجِيدَةِ، وَهُوَ استِبَاقٌ لَهَا. يَدعو الرَّبُّ تلاميذَهُ الثلاثةَ إلى الخروجِ من دائرةِ ذواتِهمِ المُغلقةِ، ممَّا يجعلُهم ينفتحونَ على ما هو للرَّبِّ وعلى خطَّتهِ العجيبةِ، الَّتي تحمِلُ الحلولَ الَّتي تُخرجُهم من أزمَتِهم، لِوَضعِ جذورٍ إيمانيَّةٍ أكثرَ عُمقًا بالرَّبِّ، كما تجلَّى الرَّبُّ سابقًا لأبينا إبراهيم وأخرَجَهُ من أزمتِهِ، الَّذي عانى من عدمِ وُجودِ نَسلٍ لهُ، رغمَ مرورِ الوَقتِ على وَعدِ اللهِ لَهُ. فصارَ المُستحيلُ لديه غيرَ مُستحيلٍ لديهِ (التكوين 15: 5-18). لا تزالُ تجلّياتُ اللهِ لإبراهيمَ، ومرورًا بتلاميذِ يسوعَ، وحتّى يومِنا هذا، مستمرَّةً في الوقتِ الذي نَعتقِدُ فيهِ أنَّهُ بعيدٌ وغائبٌ في أزمَاتِنا. نحنُ مَدعُوُّونَ إلى أنْ نُطيعَ، ونَثِقَ أكثرَ، ونُؤمِنَ بالرَّبِّ، الذي يتجلَّى في حياتِنا الضَّعيفةِ، خاصَّةً في أزمَاتِنا.
30 وإِذا رَجُلانِ يُكَلِّمانِه، وهُما مُوسى وإِيلِيَّا،
تُشيرُ عبارةُ "وَإِذَا رَجُلَانِ يُكَلِّمَانِهِ" إِلَى ظُهُورِ مُوسَى وَإِيلِيَّا، وَلَمْ يَذْكُرْ لُوقَا فِي أَيِّ صُورَةٍ ظَهَرَا. أمَّا عبارةُ "مُوسَى وَإِيلِيَّا" فَتُشِيرُ إِلَى صُورَةٍ سَابِقَةٍ لِيَسُوعَ فِي العَهْدِ القَدِيمِ. يَظْهَرُ مُوسَى وَإِيلِيَّا هُنَا بِمَظْهَرِ الشَّاهِدَيْنِ لِلْعَهْدِ، أَكْثَرَ مِنْ كَوْنِهِمَا مُمَثِّلَيْنِ، أَحَدُهُمَا لِلشَّرِيعَةِ وَالآخَرُ لِلأَنْبِيَاءِ. عُرِفَ "مُوسَى" فِي الدِّينِ اليَهُودِيِّ عَلَى مِثَالِ إِيلِيَّا الَّذِي صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ (2 مُلُوكَ 2: 11)، وَعَلَى مِثَالِ أَخْنُوخَ (التَّكْوِينُ 5: 24) الَّذِي اخْتَطَفَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ (عِبْرَانِيِّينَ 11: 5). أمَّا عبارةُ "إِيلِيَّا" فَتُشِيرُ إِلَى سَابِقِ المَسِيحِ (مَلَاخِي 3: 23)، وَيُطَابِقُ الإِنْجِيلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يُوحَنَّا المَعْمَدَانِ (مَتَّى 17: 12). وَالتَّرْتِيبُ (مُوسَى -إِيلِيَّا فِي إِنْجِيلَي لُوقَا وَمَتَّى مَعْكُوسٌ فِي إِنْجِيلِ مَرْقُسَ (إِيلِيَّا – مُوسَى)، كَمَا جَاءَ فِيهِ: "تَرَاءَى لَهُم إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى" (مَرْقُسَ 9: 4). أمَّا عبارةُ "يُكَلِّمَانِهِ" فَتُشِيرُ إِلَى تَشْدِيدِ لُوقَا الإِنْجِيلِيِّ عَلَى حَدِيثِ مُوسَى وَإِيلِيَّا إِلَى يَسُوعَ، بِصِفَتِهِمَا صُورَةً سَابِقَةً لَهُ فِي العَهْدِ القَدِيمِ. لَكِنَّ مُوسَى وَإِيلِيَّا لَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ التَّلَامِيذِ مُبَاشَرَةً، حَيْثُ لَيْسَ لَدَيْهِمَا شَيْءٌ يَقُولَانِهِ إِلَّا مِنْ خِلَالِ يَسُوعَ. وَهَذَا الأَمْرُ يُبَيِّنُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ القَدِيمَةَ انْتَهَتْ! وَكُلُّ مَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَهُ سَيَقُولُهُ مِنْ خِلَالِ الاِبْنِ. وَلَكِنَّ الاِبْنَ يُحَاوِرُ أَبَاهُ السَّمَاوِيَّ عَنْ طَرِيقِ الشَّرِيعَةِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيُعَلِّقُ البَطْرِيرْكُ بِييرْبَاتِيسْتَا: "يُحَاوِرُ يَسُوعُ الآبَ عَنْ طَرِيقِ إِصْغَائِهِ إِلَى الشَّرِيعَةِ وَالأَنْبِيَاءِ فِي شَخْصِ مُوسَى وَإِيلِيَّا". يَدْعُونَا لُوقَا -كَمُؤْمِنِينَ-إِلَى الحِوَارِ مَعَ كَلِمَةِ اللَّهِ لِنُدْرِكَ مَعْنَى التَّجَلِّي، وَبِالتَّالِي القِيَامَةَ.
31 قد تَراءَيا في المَجد، وأَخَذا يَتَكلَّمانِ على رَحيلِه الَّذي سَيتِمُّ في أُورَشَليم
تُشِيرُ عِبَارَةُ "تَرَاءَيَا فِي المَجْدِ" إِلَى تَمَتُّعِ "مُوسَى" وَ"إِيلِيَّا" بِالمَجْدِ، أَيْ بِنُورٍ وَبَهَاءِ كَالسَّمَاوِيِّينَ. وَإِنَّ مُوسَى وَإِيلِيَّا لَمْ يَظْهَرَا بِالرُّوحِ بِلَا جَسَدٍ، وَإِنَّمَا بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ كَمَا كَانَ يَسُوعُ. فَإِنَّ إِيلِيَّا نُقِلَ بِالجَسَدِ إِلَى السَّمَاءِ (2 مُلُوكَ 2: 11)، أَمَّا جَسَدُ مُوسَى فَقَدْ أُقِيمَ مِنَ الأَمْوَاتِ (رِسَالَةُ يَهُوذَا، 9) وَعَادَ كُلٌّ مِنهُمَا إِلَيْهِ بِشَكْلٍ سِرِّيٍّ. إِنَّ مُوسَى وَإِيلِيَّا تَرَاءَيَا فِي المَجْدِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَشْرَكَهُمَا فِي عَمَلِهِ تَعَالَى (خُرُوجُ 34: 29-35)، وَعَادَا إِلَيْهِ بِطَرِيقَةٍ غَامِضَةٍ (تَثْنِيَةُ الاِشْتِرَاعِ 34: 5-6). وَسَيُهَبُ اللَّهُ المَجْدَ لِجَمِيعِ الَّذِينَ سَيُقْبَلُونَ فِي العَالَمِ الآتِي (1 تسالونيقي 2: 12). أَمَّا يَسُوعُ فَإِنَّهُ يَتَمَتَّعُ بِهَذَا المَجْدِ فِي هَذِهِ الأَرْضِ مُنْذُ الآنَ، قَبْلَ مَوْتِهِ وَقِيَامَتِهِ، كَمَا هُوَ الأَمْرُ فِي حَادِثَةِ التَّجَلِّي (لُوقَا 9: 23). أَمَّا عِبَارَةُ "المَجْدُ" فَتُشِيرُ إِلَى ظُهُورِ السِّرِّ الإِلَهِيِّ (رُومِيَةَ 3: 23)، الَّذِي يَنْسِبُهُ لُوقَا البَشِيرُ إِلَى يَسُوعَ لَدَى عَوْدَتِهِ فِي آخِرِ الأَزْمِنَةِ (لُوقَا 9: 26)، بَلْ مُنْذُ الفِصْحِ (لُوقَا 24: 26)، أَوْ بِالأَحْرَى مُنْذُ التَّجَلِّي (لُوقَا 9: ٣٢). أَمَّا عِبَارَةُ "أَخَذَا يَتَكَلَّمَانِ" فَتُشِيرُ إِلَى حِوَارِ مُوسَى وَإِيلِيَّا مَعَ يَسُوعَ حَوْلَ الحَدَثِ الفِصْحِيِّ الَّذِي سَيَتِمُّ فِي أُورَشَلِيمَ. وَهُنَا يَسْمَعُ يَسُوعُ كَلِمَةَ أَبِيهِ عَنْهُ مِنْ خِلَالِ مُوسَى وَإِيلِيَّا، وَهَذِهِ الكَلِمَةُ هِيَ بَذْلُ الذَّاتِ فِي سَبِيلِ النَّاسِ المَأْسُورِينَ بِخَطَايَاهُمْ، وَالَّتِي تَقُودُهُم إِلَى المَوْتِ. أَمَّا عِبَارَةُ "رَحِيلِهِ" فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ ἔξοδος (مَعْنَاهُ خُرُوج)، فَتُشِيرُ إِلَى عَمَلِ مُوسَى الَّذِي قَادَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ البَرِّيَّةِ إِلَى أَرْضِ المِيعَادِ، وَتُحَدِّدُ رِسَالَةَ يَسُوعَ لَدَى شَعْبِهِ؛ فَيَسُوعُ هُوَ مُوسَى الجَدِيدُ الَّذِي يُحَقِّقُ "الخُرُوجَ الجَدِيدَ" بِمَوْتِهِ وَقِيَامَتِهِ وَصُعُودِهِ، وَهَذَا الخُرُوجُ يُمَكِّنُ المُؤْمِنِينَ مِنَ الاِقْتِرَابِ مِنَ اللَّهِ مَعَهُ. وَسَيَتِمُّ هَذَا الخُرُوجُ فِي أُورَشَلِيمَ، مَرْكَزِ تَارِيخِ الخَلَاصِ (2 بُطْرُسَ 1: 15)؛ وَهَكَذَا يَلْتَحِمُ الصَّلِيبُ بِالمَجْدِ. فَبِالصَّلِيبِ نَتَحَرَّرُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الشَّيْطَانِ وَالخَطِيئَةِ، وَنَنْتَقِلُ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَبْنَاءِ اللَّهِ. وَنَحْنُ لا يُمْكِنُنَا أَنْ نَنْعَمَ بِمَجْدِ المَسِيحِ وَتَجَلِّيهِ فِينَا الآنَ، مَا لَمْ نَقْبَلِ الصَّلِيبَ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ لَنْ نَنْعَمَ بِالمَجْدِ الأَبَدِيِّ بِدُونِ الصَّلِيبِ. وَمَوْضُوعُ "الخُرُوجِ" لَهُ اهْتِمَامٌ خَاصٌّ لَدَى مُوسَى وَإِيلِيَّا بِسَبَبِ اخْتِبَارِهِمَا الشَّخْصِيِّ. وَالجَدِيرُ بِالذِّكْرِ أَنَّ "مَتَّى" وَ"مَرْقُسَ" ذَكَرَا أَنَّ مُوسَى وَإِيلِيَّا تَكَلَّمَا مَعَ يَسُوعَ، وَلَمْ يَذْكُرَا مَوْضُوعَ الكَلَامِ، وَلَكِنَّ لُوقَا كَشَفَ أَنَّ ذَلِكَ المَوْضُوعَ هُوَ المَوْتُ الَّذِي عَزَمَ يَسُوعُ أَنْ يَمُوتَهُ فِي أُورَشَلِيمَ لِأَجْلِ خَطَايَا العَالَمِ. فَهَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا وَجَدَ "طَرِيقَ رَحِيلِهِ" الخَاصَّ بِهِ، وَفَهِمَ رِسَالَتَهُ وَمُخَطَّطَ اللَّهِ الَّذِي وَضَعَهُ لَهُ؟ مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ يُصْبِحُ شَخْصًا آخَرَ، مُخْتَلِفًا، مَمْلُوءًا بِالنُّورِ وَالحَيَاةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "سَيَتِمُّ" فَتُشِيرُ إِلَى تَحْقِيقِ مَوْتِ المَسِيحِ إِتْمَامًا لإِرَادَةِ اللَّهِ، وَلِلنُّبُوءَاتِ المُتَعَلِّقَةِ بِهِ، وَلِعَمَلِ الفِدَاءِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أُورَشَلِيمَ" فَتُشِيرُ إِلَى مَكَانِ آلامِ المَسِيحِ وَقِيَامَتِهِ، وَبِالتَّالِي إِلَى مَرْكَزِ تَارِيخِ الخَلَاصِ، حَيْثُ سَيَتِمُّ السِّرُّ الفِصْحِيُّ. لَقَدِ اخْتَتَمَ مُوسَى وَإِيلِيَّا العَهْدَ القَدِيمَ، وَشَهِدَا لِقِيَامِ عَهْدِ يَسُوعَ المَسِيحِ، العَهْدِ الأَبَدِيِّ الَّذِي يَفْتَتِحُهُ لنا يَسُوعُ بِدَمِهِ عَلَى الصَّلِيبِ، إذ بعلاقة العهدّ ننتمي لله وهو ينتمي إلينا.
32 وكان بُطرُسُ واللَّذانِ معَه قد أَثقَلَهُمُ النُّعاس. ولكِنَّهُمُ استَيقَظوا فَعايَنوا مَجدَه والرَّجُلَينِ القائميَنِ مَعَه،
تشيرُ عبارةُ "قد أَثْقَلَهُمُ النُّعاسُ" في الأصِل اليُونَانِي βεβαρημένοι ὕπνῳ (مَعْناها مُثقَّلون بنوم) إلى نومِ الرُّسُلِ بسببِ تَعَبِهِمْ من صُعودِهِمْ على الجبلِ وحُلُولِ اللَّيْلِ. النَّوْمُ هُوَ عُنْصُرٌ مُتَكَرِّرٌ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ. فَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يَتَجَلَّى اللهُ، يَجِدُ الإِنْسَانُ صُعُوبَةً فِي مُوَاجَهَةِ بَهَاءِ مَجْدِهِ، وَغَالِبًا مَا يَنَامُ. نَامَ آدَمُ عِنْدَمَا خَلَقَ اللهُ المَرْأَةَ (تَكْوِين ٢: ٢١)، وَنَامَ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَمَا قَطَعَ اللهُ عَهْدًا مَعَهُ (تَكْوِين ١٥: ١٢). وَيَنَامُ أَيْضًا الرُّسُلُ الثَّلَاثَةُ، لِأَنَّ عَمَلَ اللهِ يَظَلُّ سِرًّا إِلَى حَدٍّ مَا، فَلَا يُمْكِنُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَرَاهُ بِكَامِلِهِ، وَلَا أَنْ يَمْتَلِكَهُ. أمَّا عبارةُ "لكِنَّهُمُ استَيْقَظُوا" فتشيرُ إلى الرُّسُلِ الَّذينَ نامُوا طِيلَةَ مُدَّةِ الحِوارِ بينَ يَسُوعَ ومُوسى وإِيلِيَّا، واستَيْقَظُوا عِندَما اقْتَرَبَ الحِوارُ مِنْ نِهايتِهِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا سِوَى قَليلٍ مِنْهُ. أمَّا عبارةُ "عَايَنُوا مَجْدَهُ" فتشيرُ إلى الرُّسُلِ الثَّلاثةِ الَّذينَ اكْتَشَفُوا مَجْدَ يَسُوعَ وكِيانَهُ العَميقَ ورِسالَتَهُ، بانْتِظارِ نُورِ القِيَامَةِ. ويُعَلِّقُ الرَّاهِبُ أَنَسْطاسُ السِّينَاوِيُّ قائلًا: "على جَبَلِ طَابُورَ أَتَاحَ الرَّبُّ يَسُوعُ أَمامَ تَلامِيذِهِ أَنْ يَشْهَدُوا تَجَلِّيًا رَبَّانِيًّا رَائِعًا، كَصُورَةٍ رَمْزِيَّةٍ مُسْبَقَةٍ عَنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، تَمَامًا كَمَا لَوْ قَالَ لَهُمْ: "الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الحَاضِرِينَ هَهُنَا مَنْ لَا يَذُوقُونَ المَوْتَ حَتَّى يُشَاهِدُوا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي مَلَكُوتِهِ" (مَتَّى 16: 28)" (عِظَةٌ لِمُناسَبَةِ عِيدِ التَّجَلِّي). أمَّا عبارةُ "مَجْدَهُ" فتشيرُ إلى الإِنْبَاءِ بالحَدَثِ الفِصْحِيِّ، أَيِ مَوْتِ يَسُوعَ عَلَى الصَّلِيبِ وَقِيَامَتِهِ. وينفردُ لُوقَا الإِنْجِيلِيُّ هُنَا مِنْ بَيْنِ الأَنَاجِيلِ بِذِكْرِ هَذَا المَجْدِ الَّذِي يَرْبِطُ بَيْنَ الصَّلِيبِ وَبَيْنَ اللهِ؛ بِحَيْثُ إِذَا كَانَ الصَّلِيبُ هُوَ المَحَبَّةَ الكَامِلَةَ، وَالمَحَبَّةُ الكَامِلَةُ هِيَ اللهُ، وَاللهُ هُوَ المَجْدُ (أَفَسُس 1: 17)، نَفْهَمُ إِذًا أَنَّ الصَّلِيبَ وَالمَجْدَ هُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَالصَّلِيبُ هُوَ طَرِيقُ المَجْدِ، فَمَنْ يَبْدَأُ بِالصَّلِيبِ يَنْتَهِي بِالمَجْدِ. وفي هذا الصَّدَدِ، قَالَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "إِذَا شَارَكْنَاهُ فِي آلامِهِ، نُشَارِكُهُ فِي مَجْدِهِ أَيْضًا" (رُومَةَ 8: 17). تَجَاوَبَ الرُّسُلُ الثَّلَاثَةُ مَعَ حَدَثِ تَجَلِّي الرَّبِّ أَوَّلًا بِالمُعَايَنَةِ.
33 حتَّى إِذا هَمَّا بِالانصِرافِ عَنه قالَ بُطرُسُ لِيَسوع: ((يا مُعَلِّم حَسَنٌ أَن نَكونَ ههُنا. فلَو نَصَبنا ثَلاثَ خِيَم، واحِدَةً لَكَ وواحدةً لِموسى وواحِدةً لإِيليَّا!)) ولم يَكُنْ يَدري ما يَقول.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "يَا مُعَلِّمُ" فِي العِبْرِيَّةِ מוֹרֶה، وَفِي الأَصْلِ رَابِي רַבִּי أَيْ "العَظِيمُ"، وَهُوَ لَقَبٌ يُطْلَقُ عَلَى عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ (مَرْقُسَ 11: 21). أَمَّا عِبَارَةُ "حَسَنٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا" فَتُشِيرُ إِلَى التِبَاسٍ: هَلِ الأَمْرُ حَسَنٌ لِبُطْرُسَ فِي فَرَحِهِ الحَاضِرِ، أَمْ حَسَنٌ لِيَسُوعَ وَإِيلِيَّا وَمُوسَى، الَّذِينَ يُرِيدُ بُطْرُسُ أَنْ يُقَدِّمَ لَهُمْ مُسَاعَدَةً؟ عَلَى كُلِّ حَالٍ، يُسِيءُ بُطْرُسُ فَهْمَ المَوْقِفِ، وَلَكِنَّ كَلَامَهُ يَدُلُّ عَلَى فَرَحَتِهِ وَاهْتِمَامِهِ بِخِدْمَةِ الضُّيُوفِ الثَّلَاثَةِ، شَأْنُهُ شَأْنُ إِبْرَاهِيمَ مَعَ ضُيُوفِهِ الثَّلَاثَةِ (التَّكْوِينُ 18). وَيُعَلِّقُ أَنَسْطَاسُ السِّينَاوِيُّ الرَّاهِبُ: "نَعَمْ يَا بُطْرُسُ، الحَقُّ أَنَّهُ مِنَ الجَيِّدِ أَنْ نَكُونَ هُنَا مَعَ الرَّبِّ يَسُوعَ، وَأَنْ نَبْقَى مَعَهُ دَوْمًا" (عِظَةٌ لِمُنَاسَبَةِ عِيدِ التَّجَلِّي). أَمَّا عِبَارَةُ "فَلَوْ نَصَبْنَا ثَلَاثَ خِيَمٍ، وَاحِدَةً لَكَ، وَوَاحِدَةً لِمُوسَى، وَوَاحِدَةً لِإِيلِيَّا!" فَتُشِيرُ إِلَى حُلْمِ بُطْرُسَ فِي البَقَاءِ فِي ذَلِكَ المَكَانِ وَرَغْبَتِهِ فِي تَمْدِيدِ المَشْهَدِ. وَهَذَا الأَمْرُ يُذَكِّرُنَا بِرَغْبَةِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "لِي رَغْبَةٌ فِي الرَّحِيلِ لِأَكُونَ مَعَ المَسِيحِ، وَهَذَا هُوَ الأَفْضَلُ جِدًّا جِدًّا" (فِيلِبِّي 1: 23). أَمَّا عِبَارَةُ "خِيَمٌ" فَتُشِيرُ إِلَى عِيدِ الأَكْوَاخِ أَوْ عِيدِ المَظَالِّ (خُرُوجُ 23: 16، وَأَحْبَارُ 23: 27-34، وَتَثْنِيَةُ الاِشْتِرَاعِ 16: 13). لَعَلَّ بُطْرُسَ كَانَ يُفَكِّرُ فِي عِيدِ المَظَالِّ، حَيْثُ كَانَتْ تُنْصَبُ الخِيَامُ لِلاِحْتِفَالِ بِتَذْكَارِ الخُرُوجِ، وَخَلَاصِ اللَّهِ لِشَعْبِ العَهْدِ القَدِيمِ مِنَ العُبُودِيَّةِ فِي مِصْرَ. وَفِيهِ يَتَذَكَّرُ الشَّعْبُ أَيْضًا حُضُورَ اللَّهِ وَسْطَ شَعْبِهِ فِي البَرِّيَّةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "وَلَمْ يَكُنْ يَدْرِي مَا يَقُولُ" فَتُشِيرُ إِلَى "العُذْرِ بِالجَهْلِ"، لِأَنَّ بُطْرُسَ لَمْ يَفْهَمْ عَظَمَةَ اللَّهِ فِي شَخْصِ يَسُوعَ، إِذْ كَانَ يَجْهَلُ أَنَّ جَسَدَ يَسُوعَ شَكَّلَ وِشَاحًا لِأُلُوهِيَّتِهِ، وَكَانَ يُشَكِّلُ جُزْءًا مِنْ قُوَّةِ اللَّهِ، أَيْ فِي شُعَاعِ المَجْدِ الَّذِي كَانَ يَلِيقُ بِشَكْلٍ خَاصٍّ وَبِالطَّبِيعَةِ البَشَرِيَّةِ الَّتِي أَخَذَهَا عَلَى عَاتِقِهِ. تَجَاوَبَ الرُّسُلُ الثَّلَاثَةُ مَعَ حَدَثِ تَجَلِّي الرَّبِّ ثَانِيًا بِالكَلَامِ.
34 وبَينَما هو يَتَكَلَّم، ظهَرَ غَمامٌ ظَلَّلهُم، فلمَّا دَخَلوا في الغَمام خافَ التَّلاميذ.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "غَمَامٌ" إِلَى عَلَامَةِ تَجَلِّي اللَّهِ (2 مُلُوكَ 2: 7-8)، كَمَا كَانَ الأَمْرُ عَلَى جَبَلِ سِينَاءَ (خُرُوجُ 19: 16)، وَعَلَى خَيْمَةِ المَوْعِدِ (خُرُوجُ 40: 34-35)، وَعَلَى الهَيْكَلِ يَوْمَ تَدْشِينِهِ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ (١ مُلُوكَ 8: 10-12)). أَمَّا عِبَارَةُ "ظَلَّلَهُمْ" فَتُشِيرُ إِلَى حُضُورِ اللَّهِ الفَعَّالِ وَسَطَ شَعْبِهِ، كَمَا اِخْتَبَرَهُ شَعْبُ العَهْدِ القَدِيمِ خِلَالَ مَسِيرَةِ الخُرُوجِ (خُرُوجُ 40: 34-35). وَمَا يَحْصُلُ عَلَى جَبَلِ التَّجَلِّي هُوَ اِمْتِدَادٌ لِمَا حَصَلَ عَلَى جَبَلِ سِينَاءَ، وَلَكِنَّ الجَدِيدَ هُوَ أَنَّ اللَّهَ أَصْبَحَ مَنْظُورًا فِي شَخْصِ يَسُوعَ. هذا الغمامُ ليسَ إلّا رمزًا وعلامةً كتابيَّةً تُشيرُ إلى المجدِ الإلهيِّ. فَيَسوعُ المُتَجَلِّي أمامَ تلاميذِهِ لمْ يَقُمْ بعرضٍ أمامَهُم، بلْ لِيُشْرِكَهُم في هذا المجدِ. إنَّهُ نَوعٌ من مُعاينةِ البَشَرِ لِمَلَكوتِ اللهِ كما وعد تلاميذه "إنَّ في جُملةِ الحاضِرينَ ههُنا مَن لا يَذوقونَ الـمَوتَ حتَّى يُشاهِدوا مَلكوتَ الله" (لوقا 9: 27). أَمَّا عِبَارَةُ "خَافَ التَّلَامِيذُ" فَتُشِيرُ إِلَى دُخُولِ التَّلَامِيذِ فِي حَالَةٍ فَقَدُوا فِيهَا السَّيْطَرَةَ عَلَى الأُمُورِ، لِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا أَنَّهُمْ أَمَامَ ظُهُورٍ إِلَهِيٍّ، فَخَافُوا حَتَّى المَوْتِ، كَمَا جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ: "لَا يَرَانِي الإِنْسَانُ وَيَحْيَا" (خُرُوجُ 33: 20).
35 وانطَلَقَ صَوتٌ مِن الغَمامِ يَقول: ((هذا هوَ ابنِيَ الَّذي اختَرتُه، فلَه اسمَعوا)).
تُشِيرُ عِبَارَةُ "صَوْتٌ مِنَ الغَمَامِ" إِلَى كَلِمَةِ الآبِ الَّذِي يَدْعُو التَّلَامِيذَ إِلَى الإِصْغَاءِ لِلْخَبَرِ السَّارِّ، أَيْ لِاِبْنِهِ الحَبِيبِ، وَهُوَ يَسِيرُ نَحْوَ أُورَشَلِيمَ لِيَبْذُلَ نَفْسَهُ فِدَاءً عَنِ الجَمِيعِ. يَطلبُ الآبُ، بِصوتِهِ الّذي شَقَّ الغَمامَ، مِنِّي ومِنكَ ما طَلَبَهُ مِن إبراهيمَ سابِقًا، وهوَ الإصغاءُ، الَّذي هوَ أساسُ الإيمانِ. أَمَّا عِبَارَةُ "هَذَا هُوَ ابْنِيَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ" فَتُشِيرُ إِلَى شَهَادَةِ الآبِ بِحَقِيقَةِ المَسِيحِ أَنَّهُ إِلَهٌ، ابْنُ اللَّهِ المُخْتَارُ، الَّذِي يُسَلِّمُ حَيَاتَهُ حُبًّا لِلآبِ، وَيَبْذُلُهَا حَتَّى الصَّلِيبِ لِيُصْبِحَ خَادِمًا لِلْبَشَرِ الخطأة. وَهَذَا اللَّقَبُ أَطْلَقَهُ لُوقَا الإِنْجِيلِيُّ عَلَى يَسُوعَ، وَقَدِ اِقْتَبَسَهُ مِنْ إِشَعْيَا النَّبِيِّ: "أَجِلِ الرَّبِّ الأَمِينِ وَقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي آخْتَارَكَ" (إِشَعْيَا 49: 7). فَهُوَ الَّذِي يُسَلِّمُ حَيَاتَهُ حُبًّا لِلآبِ، فَيُصْبِحُ خَادِمًا لِلْبَشَرِ الخطأة. وَقَدْ وَرَدَ هَذَا اللَّقَبُ فِي المُؤَلَّفَاتِ الرُّؤْيَوِيَّةِ اليَهُودِيَّةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "فَلَهُ اسْمَعُوا" فَتُشِيرُ إِلَى يَسُوعَ النَّبِيِّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الشَّعْبِ كُلِّهِ أَنْ يَسْمَعَ لَهُ، كَمَا جَاءَ فِي عِظَةِ بُطْرُسَ الرَّسُولِ: "سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِكُمْ نَبِيًّا مِثْلِي، فَإِلَيْهِ أَصْغُوا فِي جَمِيعِ مَا يَقُولُ لَكُمْ" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 3: 22). وَذَلِكَ اِسْتِنَادًا إِلَى كَلَامِ مُوسَى النَّبِيِّ (تَثْنِيَةُ الاِشْتِرَاعِ 18: 15). وَالصَّوْتُ مُوَجَّهٌ إِلَى التَّلَامِيذِ، وَمِنْ خِلَالِهِمْ إِلَى الجُمُوعِ. فَهَذَا الصَّوْتُ هُوَ لَنَا نَحْنُ أَيْضًا. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسُ: "أَعْطِنَا يَا رَبُّ قَلْبًا مُحِبًّا، وَهُوَ سَيَفْهَمُ مَا تَقُولُهُ؟". فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَدَرَّبَ عَلَى السَّمَاعِ، وَسَطَ الأَصْوَاتِ العَدِيدَةِ، إِلَى صَوْتِ الابْنِ، الَّذِي يُرِيدُ إِخْبَارَنَا عَنْ مَشِيئَةِ الآبِ. وَهِيَ أَنَّهُ يَعْرِفُنَا وَيَخْتَارُنَا وَيُحِبُّنَا وَيَجْعَلُنَا أَبْنَاءً لَهُ. وَالكَلَامُ عِنْدَ اِعْتِمَادِ يَسُوعَ (مَتَّى 3: 17) كَانَ مُوَجَّهًا إِلَى يَسُوعَ، أَنَّهُ هُوَ الابْنُ (مَزْمُورُ 2: 7)، وَالعَبْدُ المُتَأَلِّمُ (إِشَعْيَا 42: 1). وَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ يَقُولُهَا المَسِيحُ هِيَ كَلِمَةٌ إِلَهِيَّةٌ، فَمَنْ يَسْمَعُهَا يَحْيَا، كَمَا جَاءَتْ وَصِيَّةُ أُمِّهِ العَذْرَاءِ: "مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ" (يُوحَنَّا 2: 5). تَجَاوَبَ الرُّسُلُ الثَّلَاثَةُ مَعَ حَدَثِ تَجَلِّي الرَّبِّ ثَالِثًا بِالسَّمْعِ. لِنَسمعْ ونُصغي بكُلِّ قلوبِنا للآبِ، الَّذي أعطانا كَلِمَةَ الحياةِ، وهوَ يسوعُ، الَّذي يَتجلَّى في حياتِنا حَتَّى وإنْ كانت أحداثُهُ مُتأزِّمَةً.
36 وبَينما الصَّوتُ يَنطَلِق، بَقِيَ يَسوعُ وَحدَهُ، فالتَزَموا الصَّمْتَ ولم يُخبِروا أَحداً في تِلكَ الأَيَّامِ بِشَيءٍ ممَّا رَأَوا.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "بَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ" إِلَى عَدَمِ ضَرُورَةِ وُجُودِ مُوسَى وَإِيلِيَّا، فَاخْتِفَاؤُهُمَا وَبَقَاءُ المَسِيحِ وَحْدَهُ دَلَالَةٌ عَلَى تَرْكِيزِ الأَنْظَارِ عَلَى المَسِيحِ وَحْدَهُ كَمُخَلِّصٍ، فَلَا الشَّرِيعَةُ وَلَا الأَنْبِيَاءُ يَسْتَطِيعونِ أَنْ يُخَلِّصَوا، وَلَكِنَّهُم يَقُودَاننا فَقَطْ إِلَى المَسِيحِ المُخَلِّصِ. وَهُنَا بَدَأَ بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا يَرَوْنَ يَسُوعَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، كَمَا هُوَ، دُونَ أَحْكَامٍ مُسْبَقَةٍ، وَدُونَ تَوَقُّعَاتٍ مُسْبَقَةٍ. وَهَذَا هُوَ الاِرْتِدَادُ الأَعْظَمُ لِلْحَيَاةِ: القُدْرَةُ عَلَى رُؤْيَةِ اللَّهِ كَمَا هُوَ عَلَيْهِ. وَهَكَذَا تَعَلَّمَ الرُّسُلُ أَنْ يَرَوْا فِي التَّجَلِّي وَجْهَ اللَّهِ الجَدِيدَ، صُورَةَ اللَّهِ الحَقِيقِيِّ فِي يَسُوعَ المَسِيحِ. أَمَّا عِبَارَةُ "التَزَمُوا الصَّمْتَ" فَتُشِيرُ إِلَى تَنْفِيذِ أَوَامِرِ المَسِيحِ لِتَلَامِيذِهِ (مَتَّى 17: 9، وَمَرْقُسَ 9: 9). وَالأَرْجَحُ أَنَّهُمْ ظَلُّوا صَامِتِينَ إِلَى مَا بَعْدَ القِيَامَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "الصَّمْتَ" فَتُشِيرُ إِلَى مَوْضُوعٍ مَأْلُوفٍ فِي الأَدَبِ الرُّؤْيَوِيِّ (دَانِيَالُ 12: 4)، وَهُوَ يُدِلُّ عَلَى السِّرِّ المَسِيحَانِيِّ (مَرْقُسَ 1: 34)، الَّذِي كَشَفَهُ صَوْتُ اللَّهِ، وَشَهِدَ بِهِ الإِيمَانُ المَسِيحِيُّ. أَمَّا عِبَارَةُ "لَمْ يُخْبِرُوا أَحَدًا" فَتُشِيرُ إِلَى التَّلَامِيذِ الَّذِينَ لَمْ يَفْهَمُوا شَيْئًا، لِذَلِكَ صَمَتُوا (لُوقَا 18: 34)، أَوْ تُشِيرُ إِلَى عَدَمِ حُلُولِ الوَقْتِ لِكَشْفِ مَعْنَى السِّرِّ المَسِيحَانِيِّ بِوَجْهٍ نِهَائِيٍّ (مَرْقُسَ 1: 44). وَفِي الوَاقِعِ، رَفَضَ يَسُوعُ الظُّهُورَ بِمَظْهَرِ المَسِيحِ، لَكِنَّهُ أَظْهَرَ ذَلِكَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ. وَيُوضِّحُ لُوقَا أَنَّ هَذَا السِّرَّ لَنْ يُكْشَفَ إِلَّا بَعْدَ القِيَامَةِ، وَأَنَّ حَدَثَ التَّجَلِّي لَا يُفْهَمُ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِ مَجْدِ سَيِّدِنَا يَسُوعَ المَسِيحِ فِي قِيَامَتِهِ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ. َلِذَلِكَ فَإِنَّ التَّلَامِيذَ حَافَظُوا عَلَى السِّرِّ حَتَّى قِيَامَةِ يَسُوعَ، حَيْثُ أَنَّ مَسِيرَةَ آلَامِ المَسِيحِ لَا تُفْهَمُ إِلَّا فِي إِطَارِ مُخَطَّطِ اللَّهِ الخَلَاصِيِّ الَّذِي نَكْتَشِفُهُ فِي الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "تِلْكَ الأَيَّامِ" فَتُشِيرُ إِلَى زَمَنِ يَسُوعَ، أَيْ رِسَالَتِهِ عَلَى الأَرْضِ، تَمْيِيزًا عَنِ الزَّمَنِ الفِصْحِيِّ، حَيْثُ سَيُعْلِنُ الرُّسُلُ سِرَّ المَسِيحِ: مَوْتَهُ وَقِيَامَتَهُ. سِرُّ تَجَلِّي يسوعَ يُشكِّلُ نُقطةً أَساسيَّةً، وهو أنَّهُ "باقٍ معنا" حتَّى هذا اليومِ. نعم، بالرَّغمِ مِن عُبورِ يسوعَ مِنَ الموتِ إلى القِيامَةِ، وصُعودِهِ، بِحَسَبِ لوقا، إلى مَجدِهِ، إلَّا أنَّهُ كَشَفَ لنا أنَّ حياتَنا يُمكِنُ أن تُصبِحَ انعِكاسًا وشَفّافِيَّةً لِمَجدِ اللهِ.
ثَانِيًا: تِطْبِيقَات النَّص الإنْجيلي (لوقا 9: 28-36)
بَعْدَ دِرَاسَةٍ وَتَحْلِيلٍ وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (لُوقَا 9: 28-36)، نَسْتَنْتِجُ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ تَجَلِّي يَسُوعَ فِي الْمَجْدِ أَمَامَ تَلَامِيذِهِ، مُؤَكِّدًا هُوِيَّتَهُ كَابْنِ اللهِ وَابْنِ الإِنْسَانِ. وَمِنْ هُنَا، يُمْكِنُنَا البَحْثُ فِي أَهَمِّيَّةِ حَدَثِ التَّجَلِّي فِي حَيَاةِ يَسُوعَ وَالتَّلَامِيذِ، وَدَوْرِهِ فِي تَعْزِيزِ إِيمَانِهِمْ وَإِعْدَادِهِمْ لِمُهِمَّتِهِمْ المُسْتَقْبَلِيَّةِ.
1) التَّجَلِّي فِي حَيَاةِ يَسُوعَ
كَشَفَ حَدَثُ التَّجَلِّي ثَلَاثَ صِفَاتٍ عَنْ كِيَانِ يَسُوعَ: ابْنِ اللهِ، وَابْنِ الإِنْسَانِ المُتَأَلِّمِ، وَالمُتَمِّمِ الشَّرِيعَةِ وَوُعُودِ الأَنْبِيَاءِ.
أ) يَسُوعُ ابْنُ اللهِ
تُعَدُّ حَادِثَةُ التَّجَلِّي قَلْبَ الإِنْجِيلِ، لِأَنَّهَا بَالِغَةُ الأَهَمِّيَّةِ فِي حَدِّ ذَاتِهَا لِشَخْصِ يَسُوعَ. إِنَّهَا تَكْشِفُ مَجْدَ يَسُوعَ ِإِعْلَانِ أُلُوهِيَّتِهِ، إِذْ أَخَذَ يَسُوعُ مَعَهُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا إِلَى قِمَّةِ الجَبَلِ لِيُرِيَهُم مَنْ هُوَ بِالحَقِيقَةِ؛ فَهُوَ لَيْسَ مُجَرَّدَ نَبِيٍّ عَظِيمٍ، بَلِ ابْنُ اللهِ ذَاتُهُ الَّذِي طَالَ انْتِظَارُهُ. وَيُؤَيِّدُ اعْتِرَافُ بُطْرُسَ الرَّسُولِ بِأَنَّ يَسُوعَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ اللهِ الَّذِي تَمَّ إِعْلَانُهُ فِي قَيْصَرِيَّةِ فِيلِبُّسَ: "مَسِيحُ اللهِ" (لُوقَا 9: 18-21).
ظَهَرَ يَسُوعُ أَنَّهُ ابْنُ اللهِ مِن خِلال صَلَاتِهِ عَلَى الجَبَلِ: "مَضَى بِبُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَيَعْقُوبَ وَصَعِدَ الجَبَلَ لِيُصَلِّي" (لُوقَا 9: 28). إِنَّ هَذِهِ الكَلِمَاتِ تُذَكِّرُنَا بِمَا حَدَثَ فِي سِينَاء حَيْثُ "مُجِّدَ" مُوسَى: "وَكَانَ إِذَا دَخَلَ مُوسَى إِلَى حَضْرَةِ الرَّبِّ، أَنَّ وَجْهَهُ صَارَ يُشِعُّ" (خُرُوج 34: 29-30). لَا يَظْهَرُ حُضُورُ اللهِ هُنَا بِتَكَلُّمِهِ مِنْ وَسَطِ السَّحَابِ وَالنَّارِ (تَثْنِيَة 5: 2-5)، وَإِنَّمَا فِي حَضْرَةِ مُوسَى وَإِيلِيَّا، إِذْ يَظْهَرُ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ مُتَجَلِّيًا بِمَجْدِ اللهِ.
ظَهَرَ يَسُوعُ أَنَّهُ ابْنُ اللهِ أيضًا مِنْ خِلَالِ النُّورِ الإِلَهِيِّ الَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُ عَلَى هَذِهِ الأَرْضِ، وَقَدْ ظَلَّ مُخْتَبِئًا خَلْفَ تَوَاضُعِ جَسَدِهِ، لَكِنَّهُ ظَهَرَ فِي التَّجَلِّي، إِذْ: "تَبَدَّلَ مَنْظَرُ وَجْهِهِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بِيضَاءَ مُتَلَأْلِئَةً كَالبَرْقِ" (لُوقَا 9: 29). وَهِيَ أُمُورٌ لَا تَخُصُّ حَالَةَ البَشَرِ الأَرْضِيَّةِ، إِنَّمَا تُعَبِّرُ مُقَدَّمًا عَنْ حَالَةِ المَسِيحِ القَائِمِ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، الَّذِي سَيَظْهَرُ لِلرَّسُولِ بُولُسَ فِي نُورٍ سَاطِعٍ: "وَفَجْأَةً أَبْرَقَ نُورٌ مِنَ السَّمَاءِ حَوْلَهُ" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 9: 3). وَالنُّورُ الَّذِي أَشَعَّ بِهِ وَجْهُ المَسِيحِ هُوَ نُورُ مَجْدِ اللهِ ذَاتُهُ: "لِيُضِيءَ نُورُ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ المَسِيحِ" (2 قُورِنْتُس 4: 6). وَحَيْثُ أَنَّهُ ابْنُ اللهِ، فَهُوَ: "شُعَاعُ مَجْدِهِ وَصُورَةُ جَوْهَرِهِ" (عِبْرَانِيِّينَ 1: 3). عِنْدَمَا تَجَلَّى يَسُوعُ، أَظْهَرَ الغَمَامُ أَيْضًا حُضُورَ اللهِ: "وَظَهَرَ غَمَامٌ ظَلَّلَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا فِي الغَمَامِ خَافُوا" (لُوقَا ٩: ٣٤). كَمَا كَانَ يَحْدُثُ فِي العَهْدِ القَدِيمِ، أَظْهَرَ الغَمَامُ أَيْضًا مَجْدَ الابْنِ: "وَسَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَالَ: هَذَا هُوَ ابْنِي الحَبِيبُ، لَهُ اسْمَعُوا" (مَتَّى 17: 5).
إِنَّ هَذَا المَجْدَ يُثِيرُ خَوْفَ التَّلَامِيذِ، لِأَنَّ الخَوْفَ الدِّينِيَّ يَعْتَرِي كُلَّ إِنْسَانٍ إِزَاءَ كُلِّ مَا هُوَ إِلَهِيٌّ (لُوقَا 1: 29-30)، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، يُثِيرُ لَدَى بُطْرُسَ فَرَحَهُ أَمَامَ مَجْدِ ذَاكَ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ أَنَّهُ المَسِيحُ المَوْعُودُ بِهِ.
وَلَكِنْ، مَجْدُ المَسِيحِ لَا يَكْتَمِلُ إِلَّا فِي قِيَامَتِهِ مِنَ الأَمْوَاتِ (لُوقَا 21: 27)؛ وَلِذَلِكَ، فَإِنَّ التَّجَلِّيَ مَا هُوَ إِلَّا اسْتِبَاقٌ لِتَجَلِّي قِيَامَةِ المَسِيحِ، وَبِلُغَةٍ أُخْرَى، هُوَ صُورَةٌ سَابِقَةٌ لِمَجْدِ القِيَامَةِ.
نَسْتَنْتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الحَقِيقَةَ الأَسَاسِيَّةَ الَّتِي يَكْشِفُهَا لَنَا التَّجَلِّي هِيَ العَلَاقَةُ القَائِمَةُ بَيْنَ المَجْدِ وَشَخْصِ يَسُوعَ المَسِيحِ؛ فَإِنَّ مَجْدَ اللهِ كُلَّهُ حَاضِرٌ فِيهِ. وَحَيْثُ إِنَّهُ ابْنُ اللهِ، فَهُوَ: "شُعَاعُ مَجْدِهِ وَصُورَةُ جَوْهَرِهِ" (عِبْرَانِيِّينَ 1: 3). وَإِنَّ مَجْدَ اللهِ يَتَجَلَّى "عَلَى وَجْهِ المَسِيحِ": "لِيُضِيءَ نُورُ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ المَسِيحِ" (2 قُورِنْتُس 4: 6). وَمِنْهُ يَشِعُّ عَلَى جَمِيعِ البَشَرِ: "وَنَحْنُ جَمِيعًا، نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ كَاشِفٍ، نَتَحَوَّلُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ نَفْسِهَا مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ" (2 قُورِنْتُس 3: 18). إِنَّهُ "رَبُّ المَجْدِ": "لَوْ عَرَفُوا، لَمَا صَلَبُوا رَبَّ المَجْدِ" (١ قُورِنْتُس 2: 8). هَذَا المَجْدُ سَبَقَ وَرَآهُ إِشَعْيَا وَتَكَلَّمَ عَنْهُ: "قَالَ إِشَعْيَا هَذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ" (يُوحَنَّا 12: 41). فَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ مُجَرَّدَ وَاحِدٍ مِنْ بَيْنِ الأَنْبِيَاءِ، بَلِ ابْنَ اللهِ الوَحِيدَ الَّذِي يَفُوقُ سُلْطَانَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ. أُلُوهِيَّةُ المَسِيحِ سِرٌّ عَظِيمٌ، وَلَيْسَ بِالأَمْرِ السَّهْلِ تَأْكِيدُ مِثْلِ هَذَا السِّرِّ وَإِثْبَاتُهُ. فَقَدْ كَانَ يَسُوعُ إِنْسَانًا أَيْضًا، وَكَانَ مِنَ الصَّعْبِ أَنْ نَعْرِفَهُ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ؛ فَهُوَ إِلَهٌ مَحْجُوبٌ، إِلَهٌ مُسْتَتِرٌ فِي نَاسُوتِهِ. فَإِنَّ التَّجَلِّي هُوَ دَعْوَةٌ قَوِيَّةٌ لَيْسَ فَقَطْ لِلإِيمَانِ بِأَنَّ يَسُوعَ هُوَ اللهُ، بَلْ أَيْضًا لِلدُّخُولِ فِي عَلاقَةٍ حَمِيمَةٍ مَعَهُ، لِنَكُونَ حَقًّا مِثْلَهُ وَمَعَهُ.
ب) يَسُوعُ ابْنُ الإِنْسَانِ المُتَأَلِّمُ
لَا يَكْشِفُ حَدَثُ التَّجَلِّي أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ابْنُ اللهِ فَحَسْبُ، إِنَّمَا يَكْشِفُ أَيْضًا أَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ المُتَأَلِّمُ، وَهُوَ لَقَبٌ تَنَبَّأَ عَنْهُ كُلٌّ مِنَ دَانِيَالَ وَإِشَعْيَا. فَقَدْ تَجَلَّى يَسُوعُ أَمَامَ تَلَامِيذِهِ فِي صُورَةٍ مِنَ المَجْدِ وَالعَظَمَةِ وَالجَلَالِ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ وَلَمَعَتْ ثِيَابُهُ كَالثَّلْجِ. وَهَكَذَا أَعْلَنَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَنَّهُ هُوَ ابْنُ اللهِ، وَهُوَ الوَحِيدُ القَادِرُ عَلَى كَشْفِ وَجْهِ الآبِ. يَكْشِفُ لَنَا يَسُوعُ عَنْ وَجْهِ اللهِ الَّذِي لَا يَطْلُبُ القَرَابِينَ بَلْ يُقَدِّمُ نَفْسَهُ كَنِعْمَةٍ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ التَّجَلِّيَ هُوَ دَعْوَةٌ إِلَى الإِيمَانِ بِأَنَّ يَسُوعَ هُوَ اللهُ.
إِنَّ مَا رَآهُ التَّلَامِيذُ لَمْ يَكُنْ بَهَاءَ اللَّاهُوتِ فَحَسْبُ، بَلْ كَانَ مَجْدَ النَّاسُوتِ الكَامِلِ الَّذِي هُوَ بِلَا خَطِيئَةٍ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْتِ حَقٌّ عَلَيْهِ. وَإِنَّ الرَّبَّ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ كَانَ مُسْتَعِدًّا لِلرُّجُوعِ إِلَى السَّمَاءِ دُونَ أَنْ يَمُوتَ، لِأَنَّ المَوْتَ نَتِيجَةٌ لِلْخَطِيئَةِ، وَقَدْ كَانَ هُوَ بِلَا خَطِيئَةٍ. لَكِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى السَّمَاءِ لِكَيْ يَشْتَرِكَ كَإِنْسَانٍ فِي سِرِّ المَوْتِ البَشَرِيِّ، كَيْ يُنْجِزَ فِدَاءَ العَالَمِ وَخَلَاصَهُ.
فِي الوَاقِعِ، كَانَ حَدِيثُ يَسُوعَ مَعَ مُوسَى وَإِيلِيَّا يَدُورُ حَوْلَ "رَحِيلِهِ" إِلَى أُورُشَلِيمَ (لُوقَا 9: 31)، مَكَانِ العُبُورِ بِالمَوْتِ عَلَى الصَّلِيبِ لِدُخُولِ المَجْدِ: "تَرَاءَيَا فِي المَجْدِ، وَأَخَذَا يَتَكَلَّمَانِ عَلَى رَحِيلِهِ الَّذِي سَيَتِمُّ فِي أُورُشَلِيمَ" (لُوقَا 9: 31). إِنَّ هَذَا "الرَّحِيلَ" مَا هُوَ إِلَّا مَوْتُ يَسُوعَ وَارْتِفَاعُهُ فِي المَجْدِ عَلَى الصَّلِيبِ. يَرَى لُوقَا فِي رَحِيلِ يَسُوعَ إِلَى أُورُشَلِيمَ طَرِيقَ المَجْدِ عَبْرَ الصَّلِيبِ، وَهُوَ لَيْسَ مُجَرَّدَ حَجٍّ كَمَا كَانَ يَقُومُ بِهِ أَتْقِيَاءُ إِسْرَائِيلَ حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى (لُوقَا 2: 46)، بَلْ رَحِيلٌ مَصِيرِيٌّ يَشْمَلُ حِقْبَةً مِنْ حَيَاةِ يَسُوعَ (لُوقَا 9: 51). وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، فَإِنَّ التَّجَلِّيَ يُسْبِقُ وَيُرْمِزُ إِلَى الحَدَثِ الفِصْحِيِّ، الَّذِي عَنْ طَرِيقِ الصَّلِيبِ سَيُدْخِلُ المَسِيحُ فِي كَامِلِ اِزْدِهَارِ مَجْدِهِ وَكَرَامَتِهِ النُّبُوِيَّةِ.
يَأْمُرُ اللهُ بِصَوْتِهِ الإِلَهِيِّ رُسُلَ يَسُوعَ بِأَنْ يَسْمَعُوا لِمَنْ هُوَ الابْنُ، مُخْتَارُ اللهِ: "هَذَا هُوَ ابْنِيَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ، فَلَهُ اسْمَعُوا" (لُوقَا 9: 35). فَإِنَّ يَسُوعَ يُنْعَتُ بِالْمُخْتَارِ كَمَا سَيُنْعَتُ بِهِ عَلَى الصَّلِيبِ، إِذْ: "وَقَفَ الشَّعْبُ هُنَاكَ يَنْظُرُ، وَالرُّؤَسَاءُ يَهْزَأُونَ فَيَقُولُونَ: خَلَّصَ غَيْرَهُ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ، إِنْ كَانَ مَسِيحَ اللهِ المُخْتَارَ!" (لُوقَا 23: 35). يَرَى لُوقَا فِي "مَسِيحِ اللهِ المُخْتَارِ" "عَبْدَ اللهِ المُتَأَلِّمَ" الَّذِي تَكَلَّمَ عَنْهُ النَّبِيُّ إِشَعْيَا. وَيُخَاطِبُ اللهُ عَبْدَهُ المُتَأَلِّمَ الَّذِي احْتَقَرَتْهُ الأُمَمُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ إِشَعْيَا: "هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ، فَادِي إِسْرَائِيلَ وَقُدُّوسُهُ، لِلْمُحْتَقَرِ فِي النَّفْسِ، الْمَكْرُوهِ فِي الأُمَمِ، عَبْدِ الْمُتَسَلِّطِينَ: الْمُلُوكُ يَرَوْنَ وَيَقُومُونَ، الرُّؤَسَاءُ يَسْجُدُونَ" (إِشَعْيَا 49: 7). وَقَدْ يَكُونُ فِي هَذَا تَلْمِيحٌ إِلَى آلامِ المَسِيحِ (لوقا 23: 31). يَظْهَرُ يَسُوعُ مُنْذُ التَّجَلِّي بِالمَجْدِ، لَكِنَّهُ لَنْ يَبْلُغَ كَامِلًا إِلَّا فِي مَوْتِهِ (لُوقَا 9: 31). وَيَبْدُو أَنَّ التَّلَامِيذَ لَمْ يَفْهَمُوا هَذَا السِّرَّ (لُوقَا 9: 36)، إِلَّا فِي نُورِ القِيَامَةِ (لُوقَا 24: 7). تَجَلَّى مَجْدُ اللهِ لَا فِي قِيَامَةِ يَسُوعَ فَقَطْ، بَلْ فِي حَيَاتِهِ وَخِدْمَتِهِ وَمَوْتِهِ أَيْضًا. وَأَسْمَى ظُهُورٍ لِلْمَجْدِ الإِلَهِيِّ فِيهِ كَانَ عُبُورُهُ الأَلَمَ وَالمَوْتَ (لُوقَا 9: 28-36). فَيَسُوعُ "يُقَدِّسُ" نَفْسَهُ مُقَدِّمًا ذَاتَهُ لِلْمَوْتِ (يُوحَنَّا 18: 19)، بِوَعْيٍ تَامٍّ وَرِضًى (يُوحَنَّا 13: 1)، وَبِطَاعَةٍ كَامِلَةٍ لِأَبِيهِ السَّمَاوِيِّ (يُوحَنَّا 14: 31).
ج) يَسُوع مُتَمِّمُ الشَّرِيعَةِ وَالأَنْبِيَاءِ
يُؤَيِّدُ التَّجَلِّي وَحْيَ يَسُوعَ، ابْنَ الإِنْسَانِ المُتَأَلِّمَ وَالمُمَجَّدَ، الَّذِي بِمَوْتِهِ وَقِيَامَتِهِ يُتَمِّمُ الكُتُبَ المُقَدَّسَةَ وَنُبُوءَاتِهَا عَنِ المَسِيحِ: "وَقَالَ لَهُم: هذَا مَا قُلْتُهُ لَكُمُ إِذْ كُنْتُ مَعَكُمْ: يَجِبُ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا كُتِبَ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالمَزَامِيرِ" (لُوقَا 24: 44-46). وَذَلِكَ بِظُهُورِ مُوسَى وَإِيلِيَّا فِي المَجْدِ مَعَ المَسِيحِ: "وَظَهَرَا بِمَجْدٍ وَتَكَلَّمَا عَنْ رَحِيلِهِ الَّذِي سَيَتِمُّ فِي أُورُشَلِيمَ" (لُوقَا 9: 31). كَانَ مُوسَى وَإِيلِيَّا مِنْ أَعْظَمِ الأَنْبِيَاءِ فِي العَهْدِ القَدِيمِ: مُوسَى يُمَثِّلُ الشَّرِيعَةَ، فَهُوَ كَاتِبُ التَّوْرَاةِ وَالنَّامُوسِ (الأَسْفَارُ الخَمْسَةُ الأُولَى فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ)، وَقَدْ تَنَبَّأَ عَنْ مَجِيءِ نَبِيٍّ عَظِيمٍ: "يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ نَبِيًّا مِثْلِي مِنْ وَسَطِكَ، مِنْ إِخْوَتِكَ، فَلَهُ تَسْمَعُونَ" (تَثْنِيَةُ 18: 15-19). وَيَشْهَدُ مُوسَى لِلنَّبِيِّ المُنْتَظَرِ، يَسُوعَ المَسِيحِ: "وَبَدَأَ يُفَسِّرُ لَهُم مَا يَخُصُّهُ فِي جَمِيعِ الكُتُبِ، بَدْءًا مِنْ مُوسَى وَسَائِرِ الأَنْبِيَاءِ" (لُوقَا 24: 27). وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ وُجُودَ مُوسَى بِجِوَارِ يَسُوعَ فِي التَّجَلِّي يُؤَكِّدُ أَنَّ المَسِيحَ لَيْسَ نَاقِضًا لِلشَّرِيعَةِ، بَلْ هُوَ مُوسَى الجَدِيدُ، الَّذِي يَقُودُ شَعْبَ اللهِ إِلَى الخَلَاصِ (لُوقَا 9: 31)، وَيُبْلِغُ الشَّرِيعَةَ إِلَى كَمَالِهَا: "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ، مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ، بَلْ لأُكَمِّلَ" (مَتَّى 5: 17). لِأَنَّهُ هُوَ غَايَتُهَا، كَمَا قَالَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "غَايَةُ الشَّرِيعَةِ هِيَ المَسِيحُ، لِتَبْرِيرِ كُلِّ مُؤْمِنٍ" (رُومَا 10: 4).
إِيلِيَّا يُمَثِّلُ الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنْ مَجِيءِ المَسِيحِ: "هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلِيَكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمُ الرَّبِّ، الْعَظِيمُ وَالمَخُوفُ" (مَلاخِي 4: 5-6). فَبِالنِّيَابَةِ عَنْ الأَنْبِيَاءِ، يُقَدِّمُ إِيلِيَّا المَسِيحَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ مَحْوَرُ النُّبُوءَاتِ، وَيُبَرْهِنُ ظُهُورُهُ مَعَ مُوسَى أَنَّ يَسُوعَ يُتَمِّمُ الشَّرِيعَةِ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ وَالأَنْبِيَاءَ يَجِبُ أَنْ يُفْسِحُوا الطَّرِيقَ لِلمَسِيحِ، وَيُؤَيِّدُ ظُهُورُهُمَا رِسَالَتَهُ السَّمَاوِيَّةَ. وَبِهَذَا نَفْهَمُ أَنَّ المَسِيحَ هُوَ غَايَةُ الشَّرِيعَةِ وَمَرْكَزُ النُّبُوءَاتِ: "فَإِنَّ شَهَادَةَ يَسُوعَ هِيَ رُوحُ النُّبُوَّةِ" (رُؤْيَا 19: 10).
صَوْتُ الآبِ فِي التَّجَلِّي يُذَكِّرُنَا صَوْتُ الآبِ فِي التَّجَلِّي:
"هَذَا هُوَ ابْنِيَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ، فَلَهُ اسْمَعُوا" (لُوقَا 9: 35). بِثَلَاثِ نُبُوءَاتٍ مِنَ العَهْدِ القَدِيمِ:
1. بُنُوَّةُ المَسِيحِ الإِلَهِيَّةُ: "أَنْتَ ابْنِي، أَنَا اليَوْمَ وَلَدْتُكَ" (مَزْمُور 2: 7).
2. عَبْدُ اللهِ المُتَأَلِّمُ وَاخْتِيَارُهُ: "هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أُسْنِدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي" (إِشَعْيَا 42: 1).
3. الإِعْلَانُ عَنْ مُوسَى الجَدِيدِ: "يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ نَبِيًّا مِثْلِي مِنْ وَسَطِكَ، مِنْ إِخْوَتِكَ، فَلَهُ تَسْمَعُونَ" (تَثْنِيَةُ 18: 15). فَالسَّمَاعُ لَهُ هُوَ فِي الحَقِيقَةِ السَّمَاعُ لِلْكَلِمَةِ الَّذِي صَارَ جَسَدًا، وَالَّذِي يَرَى فِيهِ المُؤْمِنُ مَجْدَ اللهِ: "وَالكَلِمَةُ صَارَ بَشَرًا فَسَكَنَ بَيْنَنَا، فَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا" (يُوحَنَّا 1: 14).
2) التَّجَلِّي فِي حَيَاةِ التَّلَامِيذِ
لَمْ يَلْعَبِ التَّجَلِّي دَوْرًا هَامًّا فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ المَسِيحِ فَحَسْبُ، إِنَّمَا لَعِبَ دَوْرًا مِحْوَرِيًّا فِي حَيَاةِ التَّلَامِيذِ الرُّوحِيَّةِ. فَقَدْ أَصْبَحَ التَّجَلِّي يَوْمًا غَيْرَ مَسْبُوقٍ وَلَا مَعْهُودٍ فِي حَيَاتِهِم، إِذِ اِنْفَتَحَتِ السَّمَاءُ، وَبَرَزَ لَهُم ظِلُّ ضَوْءِ الفِصْحِ مُسْبَقًا، إِذْ شَاهَدُوا مَجْدَ المَسِيحِ الإِلَهِيَّ، الَّذِي سَيَقُولُ عَنْهُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "مَا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ، مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ" (1 قُورِنْتُس 2: 9).
تَرَكَ التَّجَلِّي أَثَرًا بَالِغًا عَلَى الكَنِيسَةِ الأُولَى، كَمَا يَقُولُ بُطْرُسُ الرَّسُولُ: "إِنَّا لَمْ نَتَّبِعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ أَعْلَنَّا لَكُمْ قُدْرَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ المَسِيحِ وَمَجِيئَهُ، بَلْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ، إِذْ أَخَذَ كَرَامَةً وَمَجْدًا مِنَ اللهِ الآبِ إِذْ أَتَاهُ صَوْتٌ مِنَ المَجْدِ جَلَّ جَلالُه -: هَذَا هُوَ ابْنِي الحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ، وَنَحْنُ سَمِعْنَا هَذَا الصَّوْتَ صَادِرًا مِنَ السَّمَاءِ إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الجَبَلِ المُقَدَّسِ" (2 بُطْرُس 2: 16-18). وَقَدْ ثَبَّتَ التَّجَلِّي إِيمَانَهُمْ الَّذِي لَوْلَاهُ لَتَزَعْزَعَتْ شَهَادَةُ بُطْرُسَ بِأَنَّ يَسُوعَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ اللهِ (لُوقَا ٩: ١٨-٢٢). فَقَدْ أَظْهَرَ التَّجَلِّي أَنَّ فِكْرَةَ المَسِيحِ المُتَأَلِّمِ لَمْ تَكُنْ مُنَاقِضَةً لِإِعْلَانِ العَهْدِ القَدِيمِ، بَلْ كَانَتْ مُطَابِقَةً تَمَامًا لِشَهَادَةِ الشَّرِيعَةِ وَالأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانَ مُوسَى وَإِيلِيَّا يُمَثِّلَانِهِمَا.
حَثَّ التَّجَلِّي التَّلَامِيذَ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الاسْتِمَاعِ لِلرَّبِّ عِنْدَمَا تَكَلَّمَ يَسُوعُ عَنْ آلَامِهِ المُقْبِلَةِ، لَمْ يَكُنْ بُطْرُسُ مُسْتَعِدًّا أَنْ يَسْمَعَ (مَرْقُس 8: 29). لَكِنْ فِي التَّجَلِّي، طَلَبَ صَوْتُ الآبِ مِنَ التَّلَامِيذِ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ: "هَذَا هُوَ ابْنِيَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ، فَلَهُ اسْمَعُوا" (لُوقَا ٩: ٣٥). وَجَاءَتْ كَلِمَةُ الآبِ لِتُؤَكِّدَ صِحَّةَ تَعَالِيمِ يَسُوعَ، وَكَانَ هَذَا الصَّوْتُ مُوَجَّهًا إِلَى التَّلَامِيذِ. فَعِنْدَمَا يَقُولُ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ إِنَّهُ سَيَتَأَلَّمُ وَسَيَمُوتُ وَسَيَقُومُ، فَهَذِهِ حَقِيقَةٌ، يَجِبُ أَنْ يَسْمَعُوهَا وَيُؤْمِنُوا بِهَا. إِنَّ يَسُوعَ كَابْنِ اللهِ، لَهُ قُوَّةُ اللهِ وَسُلْطَانُهُ، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَلِمَاتُهُ المَرْجِعَ الأَخِيرَ. فَعَلَيْنَا أَنْ نَسْمَعَ لِيَسُوعَ وَلَيْسَ لِأَفْكَارِنَا وَرَغَبَاتِنَا الخَاصَّةِ، وَيَنْبَعُ سَمَاعُنَا لَهُ مِنْ ثِقَتِنَا بِأَنَّهُ ابْنُ اللهِ.
التَّجَلِّي يُثَبِّتُ إِيمَانَ التَّلَامِيذِ فِي وَجْهِ الصَّلِيبِ، فَهِمَ تَلَامِيذُهُ "المُقَرَّبُونَ" مِنْ خِلَالِ التَّجَلِّي مَنْ هُوَ يَسُوعُ بِصُورَةٍ أَفْضَلَ. فَقَدْ تَغَيَّرَتْ هَيْئَةُ المَسِيحِ بِصُورَةٍ دِرَامِيَّةٍ، لِكَيْ يَتَمَكَّنَ تَلَامِيذُهُ مِنْ رُؤْيَتِهِ فِي مَجْدِهِ. وَهَكَذَا، التَّلَامِيذُ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَرَفُوهُ فَقَطْ فِي جَسَدِهِ البَشَرِيِّ، أَدْرَكُوا الآنَ أُلُوهِيَّةَ المَسِيحِ، رُغْمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوهَا بِالكَامِلِ. وَهَذَا أَعْطَاهُمُ الثِّقَةَ وَالتَّأْكِيدَ والرجاء الَّذِي كَانُوا بِحَاجَةٍ إِلَيْهِمَا بَعْدَ أَنْ سَمِعُوا الأَخْبَارَ المُفْزِعَةَ عَنْ مَوْتِهِ المُتَوَقَّعِ. يُعَلِّقُ القِدِّيسُ لاَوُن الكَبِيرُ:"لاَ شَكَّ فِي أَنَّ هَدَفَ هَذَا التَّجَلِّي كَانَ خَاصَّةً إِزَالَةَ عَارِ الصَّلِيبِ مِنْ قَلْبِ تَلَامِيذِهِ، وَعَدَمَ زَعْزَعَةِ إِيمَانِهِمْ بِسَبَبِ ذُلِّ آلَامِهِ الإِرَادِيَّةِ. لَكِنَّ هَذَا التَّجَلِّي كَانَ يُؤَسِّسُ فِي كَنِيسَتِهِ الرَّجَاءَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسَانِدَهَا." وَيُؤَكِّدُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "إِنَّ آلاَمَ الزَّمَنِ الحَاضِرِ لاَ تُعَادِلُ المَجْدَ الَّذِي سَيَتَجَلَّى فِينَا" (رُومَا 8: 18). وَيُضيف في موضعٍ آخرٍ: “إِذَا ظَهَرَ المَسِيحُ الَّذِي هُوَ حَيَاتُكُمْ، تَظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ فِي المَجْدِ" (قولسي 3: 3-4) (العظة 51 عن التجلّي)
التَّجَلِّي صُورَةٌ مُسْبَقَةٌ لِمَجْدِ المَسِيحِ وَتَحَوُّلِ المُؤْمِنِينَ. رَغِبَ بُطْرُسُ فِي أَنْ يَسْتَمِرَّ مَشْهَدُ التَّجَلِّي وَيَدُومَ، فَصَاحَ بِفَرَحٍ: “يَا مُعَلِّمُ، حَسَنٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا! فَلَوْ نَصَبْنَا ثَلَاثَ خِيَامٍ..." (لُوقَا ٩: ٣٣). لَكِنَّ التَّجَلِّي كَانَ عَابِرًا وَقَصِيرًا، وَكَانَ عَلَى التَّلَامِيذِ أَنْ يَنْزِلُوا مِنَ الجَبَلِ إِلَى السَّهْلِ، وَأَنْ يَسْلُكُوا طَرِيقَ الصَّلِيبِ وَيَتْبَعُوا يَسُوعَ. فَلَمْ يُدْرِكُوا مَا رَأَوْهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ قَامَ يَسُوعُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، مُظْهِرًا قُوَّتَهُ عَلَى المَوْتِ وَسُلْطَانَهُ لِيَكُونَ مَلِكًا عَلَى الكُلِّ. وَلَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا لِلتَّلَامِيذِ أَنْ يَكُونُوا شُهُودًا أَقْوِيَاءَ لِلَّهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَدْرَكُوا هَذِهِ الحَقِيقَةَ إِدْرَاكًا كَامِلًا.
التَّجَلِّي صُورَةٌ مُسْبَقَةٌ َلِمَجْدُ القِيَامَةِ. عَرَفَ التَّلَامِيذُ أَنَّ يَسُوعَ يَصْعَدُ إِلَى أُورُشَلِيمَ (مَتَّى 16: 21)، فَأَرَاهُمْ مَجْدَهُ السِّرِّيَّ، الَّذِي هُوَ أَوَّلُ صُورَةٍ عَنْ مَجْدِ القِيَامَةِ. فَالتَّجَلِّي يَحْمِلُ بُعْدًا رَمْزِيًّا يُمَكِّنُنَا مِنَ اسْتِشْرَافِ نُورِ القِيَامَةِ، الَّذِي يُخَصِّبُ آلَامَ المَسِيحِ. وَيَشْهَدُ التَّجَلِّي أَيْضًا عَلَى تَحَوُّلٍ عَمِيقٍ عَلَى مُسْتَوَى نُورِ القِيَامَةِ وَعَلَى مُسْتَوَى القِيَمِ الَّتِي تُرَافِقُ مَجِيءَ المَلَكُوتِ. وَيَخْتِمُ لُوقَا إِنْجِيلَهُ بِعَرْضِ تَجَلِّي سِيَادَةِ يَسُوعَ، بَعْدَ أَنْ اعْتَرَفَ بِهَا تَلَامِيذُهُ.
وَبِمَا أَنَّ المَسِيحِيِّينَ يُصْبِحُونَ بِالعِمَادِ شُرَكَاءَ فِي سِرِّ القِيَامَةِ، فَهُمْ مَدْعُوُّونَ مُنْذُ الآنَ أَنْ يَتَجَلَّوْا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ بِقُوَّةِ الرَّبِّ: "نَحْنُ جَمِيعًا نَعْكِسُ صُورَةَ مَجْدِ الرَّبِّ بِوُجُوهٍ مَكْشُوفَةٍ كَمَا فِي مِرْآة، فَنَتَحَوَّلُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ، وَنَزْدَادُ مَجْدًا عَلَى مَجْدٍ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ رُوحٌ" (٢ قُورِنْتُس 3: 18). وَهَذَا التَّحَوُّلُ المُسْتَمِرُّ هُوَ تَحْضِيرٌ لِلتَّجَلِّي الكَامِلِ فِي المَجْدِ الأُخْرَوِيِّ مَعَ أَجْسَادِهِمْ، يَوْمَ مَجِيءِ المَسِيحِ الثَّانِي المَجِيدِ: "يَسُوعُ المَسِيحُ سَيُغَيِّرُ هَيْئَةَ جَسَدِنَا الحَقِيرِ، فَيَجْعَلُهُ عَلَى صُورَةِ جَسَدِهِ المَجِيدِ، بِمَا لَهُ مِنْ قُدْرَةٍ يُخْضِعُ بِهَا لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ" (فِيلِبِّي 3: 21).
أَخِيرًا، فَإِنَّ مَجْدَ المَسِيحِ فِي التَّجَلِّي كَانَ إِشَارَةً لِلْمَجْدِ الَّذِي سَيَنَالُهُ بَعْدَ إِتْمَامِهِ سِرَّ الخَلَاصِ، مِنْ خِلَالِ آلَامِهِ وَمَوْتِهِ وَقِيَامَتِهِ وَانْتِقَالِهِ إِلَى الآبِ. وَهَذَا المَجْدُ الَّذِي ظَهَرَ فِي التَّجَلِّي هُوَ صُورَةٌ مُسْبَقَةٌ لِتَجَلِّي تَلَامِيذِهِ وَأَعْضَاءِ جَسَدِهِ السِّرِّيِّ. فَهُمْ مَدْعُوُّونَ أَنْ يَرَوْا يَسُوعَ وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَيَتَمَتَّعُوا بِمَجْدِهِ فِي كَمَالِهِ، كَمَا يَقُولُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "إِذَا ظَهَرَ المَسِيحُ الَّذِي هُوَ حَيَاتُكُمْ، تَظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ فِي المَجْدِ" (قولسي 3: 4).
نَسْتَنْتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ يَسُوعَ اصْطَحَبَ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا إِلَى الجَبَلِ وَأَظْهَرَ لَهُمْ مَجْدَ أُلُوهِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ حَقًّا ابْنَ اللهِ وَحَقًّا اللهَ، كَمَا قَالَ نَفْسُهُ عِنْدَ اقْتِرَابِ آلَامِهِ الطَّوْعِيَّةِ: "فَمَجِّدْنِي الآنَ عِنْدَكَ يَا أَبَتِ بِمَا كَانَ لِي مِنَ المَجْدِ عِنْدَكَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ العَالَمُ" (يُوحَنَّا 17: 5). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَفْرَامُ السُّرْيَانِيُّ: "ظَهَرَ يَسُوعُ فِي إِشْعَاعِ ابْنِ اللهِ الوَحِيدِ وَكَلِمَتِهِ الأَزَلِيِّ، وَضِيَاءِ مَجْدِهِ، كَمَا سَيَظْهَرُ فِي قِيَامَتِهِ المَجِيدَةِ."
الخُلاصَةُ
فِي هَذَا الأَحَدِ، نَتَأَمَّلُ فِي إِنْجِيلِ التَّجَلِّي الذي يَسْبِقُهُ إِعْلَانُ يَسُوعَ عن نَبَأَ آلَامِهِ وَمَوْتِهِ وَصِدَامُهُ مَعَ بُطْرُسَ. يَجْرِي حَدَثُ التَّجَلِّي لِلسَّيْرِ نَحْوَ إِيمَانٍ شَفَّافٍ وَارْتِدَادٍ حَقِيقِيٍّ. لِذَلِكَ اِنْفَرَدَ يَسُوعُ لِلصَّلَاةِ عَلَى الجَبَلِ، وَاصْطَحَبَ الثَّلَاثَةَ مِنَ التَّلَامِيذِ، لِيُصْلِحَ رُؤْيَتَهُمْ وَيُعْلِنَ لَهُمْ حَقِيقَةَ هُوِيَّتِهِ الإِنْسَانِيَّةِ وَاللَّاهُوتِيَّةِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الدِّمَشْقِيُّ:"ظَهَرَ يَسُوعُ فِي صُورَةِ الإِنْسَانِ بِطَبِيعَتِهِ (فِيلِبِّي ٢: ٧) كَيْ يَجْعَلَنَا نَفْهَمُ اللهَ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ البَشَرُ سَبْرَ غَوْرِهِ. مِنْ خِلَالِهِ وَبِهِ، أَظْهَرَ بَهَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ." (عِظَةٌ بِمُنَاسَبَةِ عِيدِ التَّجَلِّي).
رِوَايَةُ التَّجَلِّي تَأْتِي كَتَوْضِيحٍ لعدم فَهْمِ التَّلَامِيذُ ليسوع حَتَّى الآنَ، وَهِيَ تُرِيدُ أَنْ تُظْهِرَ مَنْ هُوَ يَسُوعُ، وَكَيْفَ تَمَّمَ العَهْدَ القَدِيمَ. ظَهَرَ يَسُوعُ فِي مَجْدٍ عَظِيمٍ وَسَاعَةِ نُورٍ، مُظْهِرًا نَفْسَهُ أَنَّهُ المَسِيحُ المُنْتَظَرُ، ابْنُ اللهِ الحَيُّ، فِي حُلَّةِ المَجْدِ، وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ تَقْتَرِبُ مَأْسَاةُ الصَّلِيبِ. وَإِنَّ المَجْدَ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ يَسُوعُ، لَيْسَ إِلَّا صُورَةً رَمْزِيَّةً عَابِرَةً لِمَجْدِهِ فِي السَّمَاءِ، فَقَدْ تَمَتَّعَ يَسُوعُ بِهَذَا المَجْدِ فِي هَذِهِ الأَرْضِ قَبْلَ قِيَامَتِهِ (لُوقَا 9: 32)، وَسَيَمْنَحُ "المَجْدَ" لِجَمِيعِ الَّذِينَ سَيُقْبَلُونَ فِي العَالَمِ الآتِي (١ تسالونيقي 2: 12).
لَمْ يَنْسَ التَّلَامِيذُ أَبَدًا مَا حَدَثَ عَلَى الجَبَلِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ. فشهدوا للمسيح ومَجْده الأبَدي. فَقَدْ كَتَبَ يُوحَنَّا فِي إِنْجِيلِهِ: "فَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْدًا مِنْ لَدُنِ الآبِ لاِبْنٍ وَحِيدٍ" (يُوحَنَّا 1: 14). وَكَتَبَ بُطْرُسُ أَيْضًا: "قَدْ أَطْلَعْنَاكُمْ عَلَى قُدْرَةِ رَبِّنَا يَسُوعَ المَسِيحِ وَعَلَى مَجِيئِهِ، لاَ اتِّبَاعًا مِنَّا لِخُرَافَاتٍ سُوفِسْطَائِيَّةٍ، بَلْ لأَنَّنَا عَايَنَّا جَلاَلَهُ. فَقَدْ نَالَ مِنَ اللهِ الآبِ إِكْرَامًا وَمَجْدًا، إِذْ جَاءَهُ مِنَ المَجْدِ-جَلَّ جَلاَلُهُ-صَوْتٌ يَقُولُ: هَذَا هُوَ ابْنِيَ الحَبِيبُ الَّذِي عَنْهُ رَضِيتُ، وَذَاكَ الصَّوْتُ قَدْ سَمِعْنَاهُ آتِيًا مِنَ السَّمَاءِ، إِذْ كُنَّا مَعَهُ عَلَى الجَبَلِ المُقَدَّسِ." (2 بُطْرُسَ 1: 16-18). هَؤُلاَءِ الرُّسُلُ شَهِدُوا التَّجَلِّي وَحَمَلُوا الشَّهَادَةَ لِلتَّلَامِيذِ الآخَرِينَ وَإِلَى المَلايِينِ عَبْرَ الأَجْيَالِ وَالقُرُونِ.
الخُلاَصَةُ الرُّوحِيَّةُ لنا من رواية التَّجلي: هِيَ عَيْشُ خِبْرَةِ المَجْدِ وَالكَمَالِ وَالعَلَاقَةِ الكَامِلَةِ مَعَ اللهِ، وَلِذَلِكَ، فَإِنَّنَا لاَ نَبْلُغُ قِمَّةَ المَجْدِ إِلَّا بِالتَّضْحِيَةِ بِذواتنا وَحَمْلِنَا الصَّلِيبَ وَرَاءَ يَسُوعَ وَاتِّبَاعِهِ. إِنَّ المَجْدَ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ يَسُوعُ فِي التَّجَلِّي، لَيْسَ إِلَّا صُورَةً رَمْزِيَّةً عَابِرَةً لِمَجْدِهِ فِي السَّمَاءِ. وَحَتَّى نَدْخُلَ فِي هَذِهِ الأَسْرَارِ مَعَ التَّلَامِيذِ المُقَرَّبِينَ، يلزمنا الإصْغاء إِلَى الصَّوْتِ الإِلَهِيِّ المُقَدَّسِ الَّذِي يَدْعُونَا نَحْنُ أَيْضًا إِلَى يَسُوعَ المَسِيحِ، الَّذِي هُوَ دَلِيلُنَا وَالسَّائِرُ أَمَامَنَا فِي الأَرْضِ كَمَا فِي السَّمَاءِ. وَلْنَتَجَدَّدْ نَحْنُ الَّذِينَ آمَنَّا بِهِ رَبًّا وَإِلَهًا، وَلْنَقُلْ مَعَ بُطْرُسَ الرَّسُولِ: "يَا مُعَلِّمُ، حَسَنٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا!" أَجَل! يَا بُطْرُسُ، الحَقُّ أَنَّهُ مِنَ الجَيِّدِ أَنْ نَكُونَ هُنَا مَعَ الرَّبِّ يَسُوعَ، وَأَنْ نَبْقَى مَعَهُ دَوْمًا.
الدُّعَاءُ
أَيُّهَا الآبُ السَّمَاوِيُّ، نَسْأَلُكَ النِّعْمَةَ أَنْ نَصْحَبَ يَسُوعَ عَلَى الجَبَلِ لِنُصَلِّيَ مَعَهُ، كَيْ يُنِيرَ حَيَاتَنَا وَيُمَلِئَهَا بِشُعَاعِ حُبِّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَيَسْكُنَ فِي "خِيَامِ" قُلُوبِنَا وَ "يَتَجَلَّى" عَنْ طَرِيقِنَا وَفِي سُلُوكِنَا، كَمَا أَوْصَانَا يَسُوعُ مُعَلِّمُنَا، المَجْدُ لاِسْمِهِ: "لِيُضِيءَ نُورُكُمْ لِلنَّاسِ، لِيَرَوْا أَعْمَالَكُمْ الصَّالِحَةَ، فَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ!" (مَتَّى 5: 16).