موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الاحد الثامن للسنة (مرقس 2: 18-22)
النص الإنجيلي (مرقس 2: 18-22)
18 وكانَ تَلاميذُ يوحَنَّا والفِرِّيسِيُّونَ صائِمين، فأَتاه بَعضُ النَّاسِ وقالوا له: ((لِماذا يَصومُ تَلاميذُ يوحَنَّا وتَلاميذُ الفِرِّيسيِّين، وتَلاميذُك لا يَصومون؟)) 19 فقالَ لَهم يسوع: ((أَيَستَطيعُ أَهلُ العُرسِ أَن يَصوموا والعَريسُ بَينَهم؟ فمادامَ العَريسُ بينَهم، لا يَستَطيعونَ أَن يَصوموا. 20 ولكِن سَتَأتي أَيَّامٌ فيها يُرفَعُ العَريسُ مِن بَينِهم. فعِندئِذٍ يَصومونَ في ذلك اليَوم. 21 ما مِن أَحَدٍ يَرقَعُ ثَوباً عَتيقاً بِقُطعَةٍ مِن نَسيجٍ خام، لِئَلاَّ تَأخُذَ القِطعَةُ الجديدَةُ على مِقْدارِها مِن الثَّوبِ وهو عَتيق، فيَصيرُ الخَرقُ أَسوَأ. 22 وما مِن أَحَدٍ يَجعَلُ الخَمرَةَ الجَديدَةَ في زِقاقٍ عَتيقة، لِئَلاَّ تَشُقَّ الخَمرُ الزِّقاقَ، فَتتلَفَ الخَمرُ والزِّقاقُ معاً. ولكِن لِلخَمرَةِ الجَديدة زِقاقٌ جَديدة)).
مقدمة
يُقدِّم إنجيل مرقس مفهوم يسوع في الصوم. فيما أوصت الشريعة الموسوية بصوم يوم واحد فقط، هو يوم الكفارة العظيم (الاحبار 23: 27-29) أُضيفت الى هذا بعض الأيام الأخرى حتى أصبح الصوم في ايام حياة المسيح مظهرا من مظاهر الحياة الدينية (لوقا 18: 12). فهاجم خصوم يسوع تلاميذه ووجَّهوا الاعتراض الى يسوع:" لِماذا يَصومُ تَلاميذُ يوحَنَّا وتَلاميذُ الفِرِّيسيِّين، وتَلاميذُك لا يَصومون؟" فتضامن يسوع مع تلاميذه وبيَّن لخصومهم أن هناك لا توافق بين صومهم ووجوده معهم. وتبع ذلك بثلاث أمثلة موضِّحا انَّه لا يقوم بترقيع النظام القانوني البالي لكنه يضع نظاما جديداً مبينا في الصوم على حضوره وغيابه. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.
أولاً: وقائع النص الانجيلي (مرقس 2: 18--22)
18 وكانَ تَلاميذُ يوحَنَّا والفِرِّيسِيُّونَ صائِمين، فأَتاه بَعضُ النَّاسِ وقالوا له: ((لِماذا يَصومُ تَلاميذُ يوحَنَّا وتَلاميذُ الفِرِّيسيِّين، وتَلاميذُك لا يَصومون؟))
تشير عبارة "تَلاميذُ يوحَنَّا" الى جماعة مؤمنين نشأت حول يوحنا المعمدان واستمرت بعد موته حتى القرن الثاني (متى 11: 2، يوحنا 3: 25؛ اعمال الرسل 18: 25). وهم الآن صائمون لانَّ معلمهم في السجن. أمَّا عبارة " الفِرِّيسِيُّونَ " فتشير الى جماعة يهودية متزمتة كانوا يؤيِّدون الطاعة الحرفية للشريعة والتقاليد اليهودية وكان لهم نفوذٌ كبيرٌ في المجامع، فاتفقوا مع المسيح باحترام الشريعة والايمان بقيامة الاموات والالتزام بطاعة الله، ولكنهم اختلفوا عنه، إذ رفضوا دعواه بانه المسيح، إذ لا يتبع كل تقاليدهم، وكان يختلط بالعشَّارين والخطأة ذوي السمعة السيئة. وكانوا يصومون مرتين في الأسبوع (لوقا 18: 12)، أمَّا في الشريعة، فلا نجد سوى صوم يوم التكفير (الاحبار 16: 29-31). ولكن بعد منفى بابل، نُظمت في العالم اليهودي أربعة أيام من الصوم (زكريا 7: 5؛ 8: 19). أمَّا عبارة " صائِمين" فتشير الى اصوام طوعية كان يمارسها اليهود الاتقياء وهي المقصودة هنا بالإضافة الى الاصوام الطقسية (احبار 16: 29 و23: 27). ومع ان يسوع لا يًعلّق على الاصوام الطوعية أهمية كبرى (متى 9: 14-17)، فأنه لا يُنكر الصوم في حد ذاته، بل هاجم الأسلوب الذي به يُمارس والوقت الذي فيه يُمارس إذ مع هؤلاء ضاع المعنى الحقيقي للصوم، أي الانفتاح الجذري لله الذي منه يُنتظر كل شيء (متى 4: 2، أعمال الرسل 13: 2-3) كما فعل الأنبياء (يوئيل 2: 13، وزكريا 7: 5). أمَّا عبارة "لِماذا يَصومُ تَلاميذُ يوحَنَّا وتَلاميذُ الفِرِّيسيِّين، وتَلاميذُك لا يَصومون؟))" فتشير الى سؤال اليهود السيد المسيح عن طقوس الصيام عند تلاميذه. فكان تلاميذ يوحنا يصومون للتوبة عن الخطيئة، والإعداد لمجيء المسيح. وربما تلاميذ يوحنا سألوا يسوع هذا السؤال بدافع الغيرة الروحية، إذ كانوا محافظين على شريعة موسى الطقسية من ناحية، وتلاميذ الفريسيين بدافع الغيظ من ناحية أخرى. وفي السؤال هناك شيء من العتاب أو اصطياد الأخطاء، عن عدم صوم تلاميذه. ولعلَّ بعض تلاميذ يوحنا رأوا في معلمهم ناسكًا متقشفا في كلماته كما في أكله وشربه وملبسه ومع هذا ينحني أمام السيد المسيح الذي لم يكن ناسكًا في أعينهم، ولا ألزم تلاميذه بأصوام يمارسونها مثلهم! وقد لاحظ تلاميذ الفريسيين في معلميهم أنهم يتقهقرون أمام المسيح، حيث كانت الجماهير تتركهم بالرغم مما بلغ إليه الفريسيون من مرتبة دينية وما يمارسونه من عبادات خاصة بالصوم. لنطرح نحن بدورنا على المسيح جميع أسئلة الساعة العالقة والمُحيِّرة، ونصغي الى إيحاءاته الإلهية لكي نهتدي بهديها. أمَّا عبارة " تَلاميذُك لا يَصومون؟" فتشير الى تلاميذ يسوع الذي كانوا "يأكُلونَ ويَشرَبونَ!" كما يوضِّح لوقا (لوقا 5: 33). فكان الصوم والانقطاع عن شرب الخمر في العهد القديم علامة تقشف استعدادا لمجيء المسيح المنتظر. ولكن تلاميذ يسوع هم الآن اهل العريس. والصوم يدل على الحزن، إذن لا مكان للصوم والعريس معهم، لان تلاميذ يسوع لم يكونوا بحاجة الى الصوم للإعداد لمجيء المسيح، لأنه كان معهم. فالأزمنة المسيحانية على الابواب وقد بدأ زمن الفرح.
19 فقالَ لَهم يسوع: ((أَيَستَطيعُ أَهلُ العُرسِ أَن يَصوموا والعَريسُ بَينَهم؟ فمادامَ العَريسُ بينَهم، لا يَستَطيعونَ أَن يَصوموا.
تشير عبارة "فقالَ لَهم يسوع" الى يسوع وتلاميذه الذين يؤلفون فريقا متضامنا امام تحدِّيات خصومه: الفريسيين والكتبة وبعض اليهود الذين يتضامنون تضامنا شاملا، ويتفقون اتفاقا عاما ضد يسوع وتلاميذه. وهنا بدأت تُحاك خيوط المؤامرة ضد يسوع التي ستؤدي به أخيرا الى آلامه وموته. أمَّا عبارة " أَيَستَطيعُ أَهلُ العُرسِ أَن يَصوموا والعَريسُ بَينَهم؟ فمادامَ العَريسُ بينَهم، لا يَستَطيعونَ أَن يَصوموا " فتشير الى جواب يسوع الحاسم على سؤال بعض الناس: "لِماذا يَصومُ تَلاميذُ يوحَنَّا وتَلاميذُ الفِرِّيسيِّين، وتَلاميذُك لا يَصومون؟ وفي الواقع يعفي اليهود العريس والعروس وأصدقاءهم من الصوم في أسبوع فرحهم حتى لو جاء يوم الكفارة وسط أيام فرحهم، لأنهم يعتبرون إسعاد العريس والعروس اثناء أسبوع فرحهم هو واجب ديني. ويُعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس "لماذا نحن نصوم، وتلاميذك لا يصومون؟" لماذا؟ لأنّ الصوم هو أمر متعلّق بالشريعة بالنسبة إليكم، وليس موهبة عفويّة. الصوم في حدّ ذاته لا قيمة له، والمهمّ هو رغبة الصائم. ماذا تستفيد من صومك إذا كنت تصوم بالرغم عنك وبهدف تطبيق أحكام الشريعة فحسب؟ تلاميذ المسيح وُضعوا وسط حقل القداسة الناضج مسبقًا؛ وهم يأكلون خبز المحصول الجديد. كيف يكونون مُجبرين على ممارسة صوم من الآن أصبح باطلاً؟ "أَيَستَطيعُ أَهلُ العُرسِ أَن يَصوموا والعَريسُ بَينَهم؟" (عظة عن القدّيس مرقس). أمَّا عبارة "أَهلُ العُرسِ " في اللغة اليونانية οἱ υἱοὶ τοῦ νυμφῶνος (معناها أبناء العرس) وهو تعبير عبراني " בְּנֵי הַחֻפָּה (معناها اهل العرس) فتشير الى الضيوف والأصدقاء الذين يدعوهم العريس الى عُرسه وهنا اهل العرس هم تلاميذ يسوع. أمَّا " صديق العريس " الوارد ذكره في إنجيل يوحنا (3: 29 و2 قورنتس 11: 2) فيدلُّ في التقليد اليهودي على الرجل الموثوق به الذي يقوم بتنظيم امر العُرس ويساعد العريس ويسهر على كل شيء أثناء العرس. أمَّا عبارة " عُرسِ" فتشير في الكتاب المقدس الى الاتحاد النهائي في الفرح بين الله وشعبه (متى 25: 1-12). وهكذا، العهد بين الله وشعبه يصوّر بشكل عرس، ويسوع هو العريس. ويُعلق القديس غريغوريوس الكبير: "يمكننا بوضوح وثقة أن نقول بأن الآب صنع للملك ابنه العُرس خلال سرّ التجسّد، حيث التصقت به الكنيسة المقدّسة". أمَّا عبارة "العَريسُ" فتشير الى صورة مألوفة لدى اليهود فهي jترمز الى الله (أشعيا 54: 4-8) وأحيانا الى الملك المشيح (مزمور 45: 7-8) وفي هذا النص ترمز الى يسوع (متى 9: 15، رؤيا 21: 2) وقد شَبَّهَ يسوع َنفْسَهُ صَرَاحَةً بِعَرِيسٍ بقوله " أَبِوُسعِكُم أَن تُصوِّموا أَهلَ العُرسِ والعَريسُ بَينَهم؟ ولكِن سَتَأْتي أَيَّامٌ فيها يُرفَعُ العَريسُ مِن بَينِهم، فعِندَئذٍ يصومونَ في تِلكَ الأَيَّام " (لوقا 5: 34-35)، وهكذا ملكوت السماوات يُشبه العرس. قارن يسوع نفسه بعريس لأنه في العهد القديم، كثيرا ما كانت تُطلق كلمة " عروس" على إسرائيل، وعريسها هو الله الذي يُحبُّها (ارميا 2: 2، حزقيال 16: 8-14) ويسوع يقدّم نفسه كالعريس المنتظر ويربط عالم البشر بعالم الله كما جاء في تعليم بولس الرسول" أَحِبُّوا نِساءَكم كما أَحَبَّ المسيحُ الكَنيسة وجادَ بِنَفسِه مِن أَجْلِها"(أفسس5: 25). فهي صورة تشير الى اتحاد يسوع بالطبيعة البشرية، إنه العروس الروحي. لقد بدأ السيِّد المسيح خدمته بدخوله عرس قانا الجليل ليقدّسه معلنًا أن رسالته تنطلق بدخوله إلينا ليقيم عرسنا الداخلي متقدّما كعريس أبدي، قادر وحده أن يتّحد بنا ويُقدّسنا ويكشف لنا أسراره الإلهيّة الفائقة. أمَّا عبارة "فما دامَ العَريسُ بينَهم" فتشير الى يسوع بمظهر العريس المسيحاني الذي سمح الفرح لتلاميذه الذين كانوا بمثابة "أهل العرس ". وما دام يسوع م مع تلاميذه فاحتفالات العرس قائمة وقد تستمر لبضعة أيام؛ وهناك تشابه بين وليمة العرس وملكوت الله، وقد بدأ الملكوت في شخص يسوع، لذلك كان تلاميذه مملوئين بالفرح، فلم يكن من الصواب ان ينوحوا او ان يصوموا ما دام العريس معهم.
20 ولكِن سَتَأتي أَيَّامٌ فيها يُرفَعُ العَريسُ مِن بَينِهم. فعِندئِذٍ يَصومونَ في ذلك اليَوم.
تشير عبارة "سَتَأتي أَيَّامٌ فيها يُرفَعُ العَريسُ" الى إعلان يسوع موته حين يُرفع على الصليب، وهي اول إشارة للصليب، والى رفعه في مجده حين يُرفع في الصعود؛ عندئذٍ يغيب يسوع، فيسيطر على الكنيسة الحزن الى ان يتمَّ لها اللقاء مع ربَّها. يعلن يسوع ان موته قادم، وبعد ذلك يستباح الصوم. ومع كونه إنساناً كاملا، كان يسوع المسيح يعلم انه الله المُتجسد، كما علم لماذا جاء؟ فقد جاء لكي يموت عن خطايا العالم. أمَّا عبارة " فعِندئِذٍ " في الأصل اليوناني τότε (في ذلك اليوم) فتشير الى بعد موت المسيح الذي يمكن إباحة الصوم ليس بدافع واجبٍ دينيّ بحسب التقليدي اليهودي، بل بدافعٍ آخر مُنبثق من واقع العرس الجديد؛ أيّ تحقيق مواعد الله القديمة باقترانه مع البشر في شخص الابن الوحيد يسوع خاصة في موته على الصليب وقيامته وصعوده. وكان الصوم في التقليد اليهودي يدلّ على الحزن، على خسارة ما. ولكن من هو مع يسوع لا ينقصه شيء ولا يمكن ان يحسب حساب خسارة. يا له من صوم فريد حقا ذاك الذي ينتظره المسيح-العريس من "أهل العرس" تلاميذه وقد رُفع عن عيونهم لا عن قلوبهم النابضة بمحبته! أمَّا عبارة " يَصومونَ" فتشير الى الصوم الذي يأخذ منحىً جديدأ في المدة الواقعة بين" موت يسوع وصعوده الى السماء وعودته في نهاية العالم. هل ننتظر بفارغ الصبر والصوم والصلاة هذا اللقاء الميمون؟ أمَّا عبارة " في ذلك اليَوم " فتشير الى "الأيّام" التي ستأتي، وهي زمن الكنيسة بعد موت مؤسّسها وربّها، بل الى "ذلك اليوم" بعينه الذي فيه يُرفع يسوع على الصليب. فالنص بتأكيده على "ذلك اليوم" يُبرِّر استبدال اليوم الذي كان فيه اليهود يصومون في "عيد التكفير" ويذبحون "كبش المحرقة" (الاحبار 16: 29-31) باليوم الذي فيه ذُبح يسوع حمل الفصح الحقيقي "كَفَّارةٌ لِخَطايانا لا لِخَطايانا وحْدَها بل لِخَطايا العالَمِ أَجمعَ". (1يوحنا 2: 2)، وهذا "اليوم" يعني يوم "الجمعة" بالتحديد. كما يُبرِّر النصّ من جهة أخرى تغيّر توقيت الصوم المسيحي وانفصاله النهائيّ عن الممارسات اليهوديّة -الفرّيسية التي كانت تتمّ يومَيّ الاثنين والخميس.
21 ما مِن أَحَدٍ يَرقَعُ ثَوباً عَتيقاً بِقُطعَةٍ مِن نَسيجٍ خام، لِئَلاَّ تَأخُذَ القِطعَةُ الجديدَةُ على مِقْدارِها مِن الثَّوبِ وهو عَتيق، فيَصيرُ الخَرقُ أَسوَأ.
تشير الآية الى مثل يوضِّح كلام يسوع السابق أي كما إن رقعة جديدة في ثوب عتيق تزيد الثوب خرابا ولا تقوم بإصلاحه كذلك لا يمكن ان نكيِّف الانجيل مع التعاليم اليهودية، التي إذا دخل فيها الانجيل فجَّرها وأعطاها اتجاها جديداً. لذلك يعتبر منتهى الجهالة في ان يضع المؤمن جديد الانجيل في العادات القديمة التي جاءت من العالم اليهودي. غاية مثل يسوع هنا توضيح تعليمه وتوسيعه.
22 وما مِن أَحَدٍ يَجعَلُ الخَمرَةَ الجَديدَةَ في، لِئَلاَّ تَشُقَّ الخَمرُ الزِّقاقَ، فَتتلَفَ الخَمرُ والزِّقاقُ معاً. ولكِن لِلخَمرَةِ الجَديدة زِقاقٌ جَديدة)).
تشير عبارة " ما مِن أَحَدٍ يَجعَلُ الخَمرَةَ الجَديدَةَ في زِقاقٍ عَتيقة" الى عادة اليهود في أيام المسيح ان تحفظ الخمر لا في زجاجات، بل في قِربٍ من جلد المَعز تُخاط أطرافها بحيث تُصبح مُحكمة فلا ينفذ منها الخمر؛ والخمر الجديد يزداد حجمها بالتخمير؛ وعند التخزين تضغط على القِرب، وعندما تتعتَّق الخمر يمكن ان ينفجر الجلد المتمدِّد إن أضيفت إليه كمية من الخمر الجديدة، لذلك كانت الخمر الجديدة توضع في قِرب جديدة لينة. وإذا حُفظت الخمر الجديدة في قِربة عتيقة، وتكون عادة جافة، فان القِربة تتفجر فتُراق الخمر فتكون العاقبة وخيمة. وبهذا المثل يوضِّح يسوع تعليمه عن الصوم وتوسيعه. ويدلُّ هنا على عدم توافق الجديد مع العتيق بمعنى لا يكيَّف الانجيل مع تقاليد الدين اليهودي، حيث ان المقصود بالعتيق هو عادات الدين اليهودي القديمة (مرقس 7: 3-4 و15) والجديد هو البشارة الجديدة أي الانجيل. فلا يجوز مزج الخمرة الجديدة أي الانجيل مع عتيق الممارسات الموسوية. أمَّا عبارة " الخَمرَةَ " فتشير الى رمز الفرح. أمَّا عبارة " لِلخَمرَةِ الجَديدة " فتشير الى الممارسة الروحية الجديدة. أمَّا عبارة " زِقاقٍ عَتيقة " فتشير الى رمز الإنسان قبل تجديد الطبيعة. أمَّا عبارة " لِئَلاَّ تَشُقَّ الخَمرُ الزِّقاقَ" فتشير الى قوة تخمّر الخمرة الجديدة التي هي أكبر من ان تحتملها القِرب الجديدة القديمة غير اللينة، ولذا فإنها تتمزَّق. بمعنى آخر إن الفريسي أو اليهودي أو الإنسان العتيق لن يستسيغ تعاليم المسيح والعهد الجديد بعد ان اعتاد على تعليم العهد القديم. أمَّا عبارة "زِقاقٍ" فتشير الى وعاء من جلد الماعز (قِرَبة ٌ)، الذي يُخاط اطرافه ليصبح صالح لحفظ السوائل كالخمر أو الماء أو أي سائل. وكانت الخمر تزداد في الحجم بمضي الوقت وبفعل التخمُّر، فتتمدَّد القِربة، لذلك لم يكن في الإمكان وضع الخمر الجديدة في قرْبة قديمة قد تمدَّدت فعلا، وتتمزق لانَّ الجلد القديم اليابس يتمزَّق إذ لم يعد قابلا للتمدُّد أكثر. فالمطلوب ان يختار الانسان بين " العتيق" الذي يمثل الاعمال الرتيبة في الدين اليهودي او الجديد الذي يمثل الانجيل. قلوبنا تشبه القِربة، وقد تُصبح يابسة تحول بيننا وبين قبول الحياة الجديدة التي يهبها المسيح. لذلك يطلب المسيح منا ان نحفظ قلوبنا منفتحة ومرنه لقبول حقائق رسالة الانجيل التي تغيِّر الحياة. لم يأتِ يسوع ليضع رقعة جديدة على النظام الديني اليهودي بكل شرائعه وتقاليده، فلو أنه فعل ذلك لمُزِّقت رسالته الجديدة مع هذا النظام العتيق. لقد كان هدف يسوع ان يأتي بشيء جديد، ولكنه شيء سبق التنبؤ به منذ قرون طويله، وهذه الرسالة الجديدة، الانجيل، هي ان يسوع المسيح، ابن الله، جاء الى الارض ليمنح كل الناس مغفرة الخطايا ويصالحهم مع الله. ومن هذا المبدأ عندما نتبع المسيح يجب ان نكون على استعداد ان نحيا بأساليب جديدة، وان ننظر الى الناس بنظرة جديدة، وان نخدم الله بطرق جديدة. من يعرف الجديد الذي يحمله يسوع فكيف يتعلق بالعتيق؟ ان يسوع المسيح قد جاء ليأتي بتدير إلهى جديد كليةً، لا يمكن ان ينسجم مع صورة التدبير اليهودي القديم. ان حكم الناموس او الشريعة ينبغي ان ينتهي حتى يكون للنعمة تصرُّف حرّ. أمَّا عبارة " لِلخَمرَةِ الجَديدة زِقاقٌ جَديدة" في الأصل اليوناني οἱ ἀσκοί ἀλλὰ οἶνον νέον εἰς ἀσκοὺς καινούς. فتشير في النص الأصلي لفظتان مختلفتان مترجمتان بكلة "جديد" فالكملة الأولى νέον . معناها جديدة بالنسبة الى الزمان أي خمر طازج حديث الصنع. والكلمة الثانية καινούς. ومعناها جديد بالنسبة للنوع مثل نوع الاناء ليس باليا او معطوبا بسبب الاستعمال. وهكذا يمكن ان تترجم كملة الرب: خمر طازجة في قِرب جديدة. أمَّا عبارة "زقاق جديدة" فتشير الى رمز الطبيعة الروحية الجديدة الممنوحة لنا بالمعمودية والروح القدس.
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 2: 18-22)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (مرقس 2: 18-22)، يمكن ان نستنتج ان النص يتمحور حول الصوم في نظر يوحنا المعمدان وفي نظر الفريسيين وفي نظر يسوع المسيح ثم نبحث توقيت الصوم وما هي مدَّتها وما هو دور الكنيسة في تحديد أيام الصيام؟
1) الصوم في نظر يوحنا المعمدان والفريسيين ويسوع المسيح
(أ) الصوم في نظر يوحنا المعمدان
كان امام يوحنا المعمدان هدفان: ان يجعل الناس يتوبون عن الخطيئة، وان يعدَّهم لمجيء المسيح. وكان هذا الوقت لفحص النفس العميق، لذا استلزم صوما كعلامة خارجية للاتضاع والندم على الخطيئة. والصوم يفرِّغ الجسم من الطعام، والتوبة تفرِّغ حياتنا من الخطيئة. واما تلاميذ يسوع لم يكونوا في حاجة الى الصوم استعداداً لمجيئه لأنه كان معهم.
(ب) الصوم في نظر الفرِّيسيين
ايام الصيام عند اليهود معروفة وأبرزها صيام يوم التكفير. فالكتبة نسخوا الناموس وشرحوه. لكنهم حمَّلوا الناموس بالتقليد وقد اضافوا – ضمن أشياء أخرى – اصواما جديدة متعددة، وأكره ما عند الكتبة والفريسيين في أمر الصيام انهم لا يقصدون به وجه الله، ولا يتخذون من الصيام ركنا من اركان الدين، وإنما يقصدون به أنفسهم. ويتخذونه وسيلة يظهرون بها للناس على غير حقيقتهم، لكي يمتدحهم الناس بما ليس فيهم. وهم أحب الناس للظواهر والمراءة كما قال فيهم يسوع “إِذا صُمتُم فلا تُعبِّسوا كالمُرائين، فإِنَّهم يُكلِّحونَ وُجوهَهُم، لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّهم صائمون. الحَقَّ أَقولُ لكم إِنَّهم أَخذوا أَجَرهم." (متى 6: 16).
وتحولت العبادة في اليهودية إلى مظاهر طلبًا للمجد الدنيوي، فكان الفريسيُّون يصومون ويصلون ليثيروا انتباه الناس إلى تقواهم، وهم هنا بسؤالهم عن عدم صوم تلاميذ المسيح يشيروا بطريقة غير مباشرة لأفضليتهم عن تلاميذ المسيح. فاخذوا يجادلون المسيح في الصيام، وكأن الصيام غاية لا وسيلة. ويوضّح يسوع كم كان من الصعب على الذين أدركوا قيمة الديانة اليهودية القديمة ان يتخلوا عنها ليحل مكانها شيء جديد غير مجرَّب "وما مِن أَحَدٍ إِذا شرِبَ مُعَتَّقَةً، يَرغَبُ في الجَديدة، لأَنَّهُ يقول: ((المُعَتَّقَةُ هيَ الطَّيِّبة!))" (لوقا 5: 39).
أن الفريسيين لم يستطيعوا مقاومة السيد المسيح مباشرة فهاجموه في شخص تلاميذه لعدم صومهم، ولم يُدرك هؤلاء الفريسيون أنهم يصومون ظاهريًا أمَّا قلوبهم فمملوءة شرًا، بينما كان التلاميذ يمارسون صوم القلب الداخلي ليصوموا أيضًا بالجسد في الوقت المناسب. ويعلق القديس كيرلس "أيها اليهود، فإنكم تجهلون ماهية الصوم ومع ذلك تلومون التلاميذ لأنهم لا يصومون على شاكلكم. ولننظر نحن إلى الصوم من ناحية أخرى، فأولئك الذين استناروا بحكمة المسيح يصومون صومًا ذهنيًا، وذلك بتواضعهم أمام الحضرة الإلهية، وتأديب أنفسهم طوعًا لا كرهًا بالعمل والتقشف، فإن هذا لمدعاة إلى غفران ذنوبهم أو نيل نعمة روحية جديدة أو قتل ناموس الخطيئة الذي يسود أعضاء الجسد اللحمية. ومثلك يهمل أيها الفريسي هذا الصنف من الصوم، لأنك رفضت قبول العريس السماوي غارس الفضائل ومعلمها يسوع المسيح المخلص والفادي".
(ج) الصوم في نظر تلاميذ يسوع
اتخذ تلاميذ يسوع الانجيل ثوبا جديدا وإذا كانوا لا يصومون، فليس ذلك الا لأنهم مع المسيح في عرس وعيد. وليس من شريعة تفرض على اهل العرس صوما. والعرس عيد. والعيد ان يقيموا مع المسيح، وان يستمتعوا بأقواله، ويشاهدوا معجزاته. وللعرس حدوده من الأيام. فاذا ما انقضت أيام العرس، بارتفاع العريس بينهم صاموا. لأنهم من بعد العرس، يبقون وحدهم يتابعون رسالة المسيح من خلال المصاعب والمقاومات والاضطهادات. وعندئذ يصومون فيتَّخذون الصيام وسيلة يذلّلون بها أجسادهم ويخضعوها لشريعة المسيح للتقرب الوجداني بها الى الله، لكسب رضاه.
ولم يكن لطريق الرب يسوع ان تتطابق بسهولة مع الطرق القديمة. فالمسيح يتطلب مداخل جديدة، وتقاليد جديدةـ وتنظيمات الجديدة ووضَّح ذلك من خلال ثلاث امثلة: العرس والنسيج الخام وحفظ الخمر.
مثل العُرس (مرقس 2: 19-20)
كانت صورة العريس معروفة بالنسبة للتقليد اليهودي كدلالة على الخلاص المسيحاني في نهاية الزمان. وفي إجابته للفريسيين شرح يسوع مفهومًا جديدًا للصوم في المسيحية، أن المسيحي هو عروس للمسيح العريس، والمسيح دفع دمه ثمنًا لهذه الخطبة. فطالما هو موجود بالجسد، فالتلاميذ ينعمون بوجود عريسهم معهم، فهم في فرح، والفرح لا يصحُّ معه النوح والتذلل والصوم. أمَّا بعد أن يُرفع العريس، فالعروس سوف تفهم أنه طالما أن عريسها في السماء فهي غريبة على الأرض. فرحنا يقوم كليا على أساس حضور يسوع وغيابه. النفس التي تذوقت حب عريسها لن تكتفي بالصوم بهذا المفهوم، بل ستترك عن طيب قلب كل ملذات العالم، وستبكي وتنوح على خطاياها التي سبَّبت الألم لعريسها، لذلك نسمع في إنجيل متى قول السيد "أَيَسْتَطيعُ أَهْلُ العُرسِ أَن يَحزَنوا ما دامَ العَريسُ بَيْنَهُم؟ " (متى 9: 15).
ويكرِّر مرقس ولوقا القول مستبدلين كلمة ينوحوا بكلمة يصوموا. "أَيَستَطيعُ أَهلُ العُرسِ أَن يَصوموا والعَريسُ بَينَهم؟"(مرقس 2: 19، لوقا 5: 34). وهذا ما يذكرنا نبوءة يوئيل " إِرجعوا إِلَيَّ بكُلِّ قُلوبِكم وبِالصَّوم والبُكَاءَ والانتحاب" (يوئيل 2: 12). فالصوم يأخذ آنذاك منحى جديداً. ويعلق البابا القديس يوحنّا بولس الثاني " إنّ زمن الصوم ما هو إلا تذكير لنا بأن العريس رُفِع من بيننا. رُفع وألقي القبض عليه وسُجن وضرب وجُلد بالسياط وكُلِّل بإكليل من الشوك وصُلب" (المقابلة العامّة بتاريخ 21/03/1979).
زمن الصوم ما هو إلا تذكير لنا بأن العريس (يسوع) رُفِع من بيننا. فمن جهة أصبح الصوم للمسيحيين "حزن" لأن العريس قد رُفِع بشكلٍ مُؤلم عنهم، ومن جهةٍ أُخرى فعل محبّة وتضامن مع "عريس نفوسنا" الذي حمل "أوجاعنا وأحزاننا". وهكذا استبدل المسيحيون اليوم الذي كان فيه اليهود يصومون في "عيد التكفير" ويذبحون "كبش المحرقة" باليوم الذي فيه ذُبح يسوع حمل الفصح الحقيقي " كَفَّارةٌ لِخَطايانا لا لِخَطايانا وحْدَها بل لِخَطايا العالَمِ أَجمعَ" (1يوحنا 2: 2).
لم يلغِ يسوع فكرة الصوم عند تلاميذه، ولكنه أوضح أنه وسيلة ً للوجود معه. ولما كان هو العريس وسط تلاميذه أثناء تجسُّده، فلا حاجة للصوم والعُرس قائم. ولكن، متى ارتفع عنهم بصعوده، سيكون الصوم واجبا عليهم. ولم يُقلل السيد من شأن الصوم، ولا أعلن امتناع تلاميذه عنه مطلقًا، وإنما سحب قلوبهم من الرؤيا الخارجية لأعمال الصوم الظاهرة إلى جوهر الصوم ذاته، وهو التمتع بالعريس السماوي نفسه، إذ يقول: "أَيَستَطيعُ أَهلُ العُرسِ أَن يَصوموا والعَريسُ بَينَهم؟ (مرقس 2: 19). أنه يأتي وقت فيه يمارس التلاميذ والرسل الصوم بحزمٍ، عندما يرتفع عنهم جسديًا ويُرسلهم للكرازة لأجل تمتع كل نفس بعريسهم.
ونستنج ان يسوع هو مَحوَر الصوم، حول وجوده وعدم وجوده. هذا يعني أن الصوم يستمد معناه من يسوع وليس من أي مصدر آخر. بمعنى آخر يمكننا القول بأن المسيح أعطى للصوم معنى جديد وجذري. يقول لنا أنه عندما يكون حاضراً بيننا فلا حاجة لنا للصوم. والكنيسة تقول استناداً للإنجيل، بأن المسيح حيّ بيننا وهو حاضر معنا دائماً. هذا يعني أن المسيحي ليس بحاجة إلى الصيام، بما أن المسيح "العريس" حاضر في حياته وفيه؛ ولكن المشكلة هي من طرفنا، بمعنى أننا نحن بعيدون عن المسيح ونخرجه من حياتنا، وغالباً نعيش كما لو أننا لسنا بحاجة إليه، وبالتالي على المسيحي أن تكون حياته كلها صيام، بمعنى أنها محاولات جادّة لجعل المسيح أكثر حضوراً في حياتنا.
مثل النَسيجٍ الخام (مرقس 2: 21)
حوّل السيد المسيح أنظار الفرِّيسيين والكتبة من ممارسة الصوم إلى التغير الكامل الذي يَليق بتلاميذه أن ينعموا به، إذ قال "ما مِن أَحَدٍ يَرقَعُ ثَوباً عَتيقاً بِقُطعَةٍ مِن نَسيجٍ خام، لِئَلاَّ تَأخُذَ القِطعَةُ الجديدَةُ على مِقْدارِها مِن الثَّوبِ وهو عَتيق، فيَصيرُ الخَرقُ أَسوَأ. (مرقس 2: 21). ويُعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس " هذا النسيج الخام هو قماش الإنجيل الذي يحيكه الآن من صوف حمل الله: اللباس الملكيّ الذي سيُصبغ بالأرجوانِ من دم الآلام. كيف سيقبل المسيح بتوحيد هذا النسيج الخام مع حرفيّة شريعة إسرائيل البالية؟" (عظة عن القدّيس مرقس).
قصد بالمسيح بهذا المثل الفرق بين أصوام الناموس وفرائض اليهود الحرفية والمظهرية "ثوب عتيق"، أي ثوب قديم، وبين الأصوام الروحية أي "القطعة الجديد، رمز القلب الجديد، ولا يمكن الجمع بينهما حتى لا يصير "الْخُرْقُ أردأَ"، إذ أن القماش الجديد عادة ما ينكمش بعد الغسل، فيشق بدوره القماش القديم ويزيد من تلفه. وما هي الرقعة من القطعة الجديدة إلا الصوم بكونه جزءً من تعاليم السيد المسيح فإنها لا تخيط على ثوب عتيق، وإنما ليتغير الثوب كله بالتجديد الكامل بالروح القدس، وعندئذ نتقبل القطعة الجديدة، أي الصوم بالمفهوم الجديد كجزء لا يتجزأ من العبادة كلها.
ويرفض يسوع فكرة الترقيع، إذ لا فائدة من ترقيع الثوب القديم، لان الثوب الجديد يخرِّق الثوب القديم إذ يوجد تنافر بين الجديد والقديم وعندما نُمزق ثوبا جديد كي نصلح ثوبا قديما، نتلف لا محالة الاثنين. ولذلك لا يصحّ أن يصوم تلاميذه وهو معهم بنفس الأفكار القديمة الفرِّيسية، بل يريدهم التحول الجذري في الصوم في خط الانجيل. لا يريد يسوع ان يرتبط بمقولات "معلبة" بل يحاول ان يصل الى عمق الانسان. وكانت تلك غلط المعلمين اليهود فيما بعد الذين وجَّه بولس الرسول جدله إليهم " أَمَّا الآن، وقَد عَرَفتُمُ الله، بل عَرَفَكمُ الله، فكَيفَ تَعودونَ مَرَّةً أُخْرى إِلى تِلكَ الأَرْكانِ الضَّعيفةِ الحَقيرة وتُريدونَ أَن تَعودوا عَبيدًا لَها مَرَّةً أُخْرى؟ " (غلاطية 4: 9-10).
ونستنتج مما سبق انه بعد أن كان الصوم في العهد القديم حرمانًا للجسد، صار في العهد الجديد تحريرًا للنفس وإنعاشًا للقلب في الداخل، فطلب يسوع من تلاميذه ان يصوموا بفكرٍ مسيحيٍ جديدٍ ولائقٍ حين يرتفع العريس عنهم، بعد حلول الروح القدس عليهم وحصلوهم على الطبيعة الجديدة أي الخليقة الجديدة كما جاء في تعليم بولس الرسول " فإِذا كانَ أَحَدٌ في المسيح، فإِنَّه خَلْقٌ جَديد. قد زالتِ الأَشياءُ القَديمة وها قد جاءَت أشياءُ جَديدة" (2 قورنتس 5: 17). ويعلق القديس أمبروسيوس: "ينبغي ألاَّ نخلط بين أعمال الإنسان العتيق وأعمال الإنسان الجديد، فالأول جسدي يفعل أعمال الجسد، أمَّا الإنسان الداخلي الذي يتجدد، فيليق به أن يميز بين الأعمال العتيقة والجديدة، إذ حمل صبغة المسيح، ولاق به أن يتدرب على الاقتداء بذاك الذي وُلد منه من جديد في المعمودية". وبمعنى آخر، ليس الإنجيل ثوبا خلقاً مرقّعا للمسيحيين، بل ثوبا جديداً، نلبسه كل يوم، ليقي نفوسنا من تحدٍّيات العصر وهبوب رياحه المدمِّرة.
مثل حفظ الخمر (مرقس 2: 22)
حوّل السيد المسيح أنظار الفريسيين والكتبة من ممارسة الصوم إلى التغير الكامل الذي يليق بتلاميذه أن ينعموا به، إذ قال " ما مِن أَحَدٍ يَجعَلُ الخَمرَةَ الجَديدَةَ في زِقاقٍ عَتيقة، لِئَلاَّ تَشُقَّ الخَمرُ الزِّقاقَ، فَتتلَفَ الخَمرُ والزِّقاقُ معاً. ولكِن لِلخَمرَةِ الجَديدة زِقاقٌ جَديدة" (مرقس 21-22). يقصد يسوع انه لا يتقبل تلاميذه الصوم في مفهومه الجديد -كخمر جديدة-في زقاق قديم، إنما ليتجدد زقاق حياتهم الداخلية فيتقبلوا الخمر الجديد. ويُعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس " هذه الزقاق تُمثّل المسيحيّين. وحده صوم المسيح سوف يطهّر هذه الزقاق من كلّ قذارة بحيث تحفظ طعم الخمرة الجديدة سليمًا. وهكذا يُصبح المسيحي زقاقًا جديدةً جاهزةً لاحتواءِ الخمرة الجديدة، خمرة عرس الابن التي عُصِرت في معصرة الصليب (عظة عن القدّيس مرقس).
ولا يمكن لمن عاش ومارس أصوامه بمظهرية طوال حياته، أن يحتمل أو يفهم متطلبات الصوم الروحي. ويُعلق القديس كيرلس الكبير "كانت قلوب اليهود زقاقًا قديمة لا تسع خمرًا جديدة، أمَّا القلب المسيحي فقد وهبه المسيح بركات روحية فائقة، فتح الباب على مصراعيه للتحلي بمختلف الفضائل السلمية والسجايا العالية". فالعمل لأجل ملكوت يسوع والدخول فيه يتطلّب منطقًا جديدًا. ولا يمكن العمل لأجل الملكوت مع صور قديمة لله البعيد عن الناس، فتلميذ المسيح لا يصوم كفرض عليه، وإنما حبًا في عريسها، وسموًا بالنفس إلى مجال الروح حتى تنتعش وتتخلص من رباط المادة. لقد صار الصوم في المسيحية تحريرًا للنفس من الأرضيات لتلتقي بعريسها في علاقة سرية سواء في الصوم والتقشف والنوح أو في الفرح والتعزية.
بعد مغادرة المسيح بالجسد للأرض سيبدأ تلاميذه في الصوم ولكن بالمفاهيم المسيحية الجديدة. ولكنهم في حبهِّم للمسيح الذي أحبَّهم سيقبلون ليس فقط الصوم بل الموت. هذا هو الخمر الجديد. الحب الجديد الذي يجعلهم يصومون في فرح، ويتألمون من أجل المسيح في فرح، ويحسبون هذا الألم هبة من المسيح أن يشتركوا معه في آلامه " لأَنَّه أُنعِمَ علَيكُم، بِالنَّظَرِ إِلى المسيح، أَن تَتأَلَّموا مِن أَجلِه، لا أَن تُؤمِنوا بِه فحَسبُ"(فيلبي 1: 29).
ونستنتج مما سبق إن كان قد أعلن يسوع أن تلاميذه يصومون حين يرتفع العريس عنهم، لكنهم أيضًا يصومون بفهمٍ جديدٍ يليق بالعهد الجديد. فبعد صعوده حلّ الروح القدس عليهم، فصاروا أشبه بثوبٍ جديدٍ أو زقاقٍ جديدٍ، يحملون الطبيعة الجديدة التي على صورة خالقهم، يمارسون العبادة بفكر جديد. بعد أن كان الصوم في العهد القديم حرمانًا للجسد، صار في العهد الجديد تحريرًا للنفس وإنعاشًا للقلب في الداخل.
وخلاصة القول يمكن أن تشير الأمثال الثلاثة السابقة ومن الناحية الرمزية، إلى تأثير العهد الجديد على العهد القديم بالحياة المتجددة بالإيمان المسيحي. ولا يمكن ان تنحصر رسالة الانجيل الجديدة في طقوس الشريعة اليهودية القديمة كما يمارسها الفريسيون لان الديانة الجديدة هي ديانة روحية عامة، وهي ديانة النمو والحرية والحياة، فلا يمكنها ان تكون في عبودية نظام طقسي ضيق. فالصوم في جوهره تدريب للنفس، واخضاع الجسدي للروحي طواعية وباختيار "وكُلُّ مُبارٍ يَحرِمُ نَفْسَه كُلَّ شَيء، أمَّا هؤُلاءِ فلِكَي يَنالوا إِكْليلاً يَزول، وأمَّا نَحنُ فلِكَي نَنالَ إِكْليلاً لا يَزول. 26 وهكذا فإِنِّي لا أَعْدو على غَيرِ هُدً ى ولا أُلاكِمُ كَمَن يَلطِمُ الرِّيح، بل أقَمَعُ جَسَدي وأُعامِلُه بِشِدَّة، مَخافةَ أَن أَكونَ مَرفوضًا بَعدَ ما بَشَّرتُ الآخَرين" (1 قورنتس 9: 24-27).
2) ما هي أيام الصيام وتوقيته؟
في العهد القديم نجد أن وقت الصيام كان في أيام مختلفة حسب الظروف منها:
(أ) يوم الكفارة:
هو اليوم الوحيد الذي أمرت الشريعة بالصوم فيه. وهو اليوم العاشر من الشهر السابع حسب التقويم العبري وكل ما هو مطلوب: تذليل النفوس، والامتناع عن كل عمل، وهو يوم عطلة مقدسة، يصومون فيه اليهود ويقدِّمون قربانا للرب (الاحبار 16: 29-34 وعدد 29: 7).
ب) وقت الشدة:
كان اليهود يصومون في أوقات أخرى لم تأمر الشريعة بها وهي: وقت الاستعداد لملاقاة الله: كما حدث مع موسى (خروج 34: 28) ومع دانيال (9: 3). وفي زمن الحرب أو التهديد بالحرب (قضاة 20/26). وقت المرض: صام داود عندما مرض ابنه (2 صموئيل12: 16). ووقت النوح: صام داود سبعة أيام من أجل مقتل شاول (1 صموئيل31: 13). ووقت الندم والتوبة: كانت المصائب تعتبر دليلا على غضب الله، فكان الندم والتوبة وسيلة الخلاص منها. فصام أخاب واتضع أمام الله عندما أنذره إيليا بالمصير الذي ينتظره لقتله نابوت اليزعيلي (1 ملوك21: 27). ووقت الخطر الدائم: نادى عزرا بصوم طالبا رعاية الرب له وللشعب الراجع من بابل إلى وطنه (عزرا 8: 21). وفي ذكرى الكوارث: اليوم 10 من الشهر الخامس الذي فيه أُحْرق الهيكل (ارميا 52: 12). واليوم العاشر من الشهر العاشر الذي بدأ فيه البابليون حصار أورشليم (2 ملوك 25: 1). وزمن الأزمات: يحدث الصوم حالة دمار البلاد (يوئيل 14:1).
وفي العهد الجديد نجد مناسبتين يطلب الله فيها الصيام:
طرد الشياطين: هناك شياطين لا تخرج إلا بالصلاة والصوم. ويشير الصوم هنا كمؤشر للإيمان (متى 17: 21 ومرقس 9: 29). وعلى هذا المبدأ سار المسيح الذي صام أربعين يوما وحارب بعدها الشيطان وجابهه، وعلى خطاه سار الرسل وآباء الكنيسة فيقول على سبيل المثال القديس باسيليوس: "الصوم يُهدِّئ النفس، يُنقي الفكر، يُبعد الشياطين ويطردهم بعيدا ويقرّب الإنسان إلى الله". واتبع هذه الطريق القديسون، ونذكر منهم القديس جان ماري فيانيه شفيع الكهنة، الذي اعتمد على الصوم والصلاة لطرد الشيطان: "سأقهرك، أيها الشيطان الخطّاف، بنعمته تعالى".
القيام برسالة الانجيل: قال الروح القدس للتلاميذ في أنطاكية:" أَفرِدوا بَرْنابا وشاوُلَ للعَمَلِ الَّذي دَعَوتُهما إِليه. فصاموا وصلَّوا" (أعمال الرسل 13: 1-3).
3) ما هي مدة الصوم؟
في العهد القديم كان الصوم عادة لمدة يوم واحد من شروق الشمس إلى مغربها (قضاة 20/26)، إذ صموئيل (14: 24) وربما كان لليلة واحدة (دانيال 6: 18) واستمر صوم استير ثلاثة أيام ليلاً ونهاراً (استر 4: 16) وصام أهل يابش جلعاد سبعة أيام لموت شاول (1 صموئيل 13: 13) وصام داود سبعة أيام عند مرض ابنه (2 صموئيل 12: 16-18). وقد صام موسى أربعين يوماً (خروج 34: 28؛ 28، تثنية الاشتراع 9: 9) وكذلك صام إيليا (1ملوك 19: 8). ويدل رقم "أربعين" وهو عمر جيل بكامله على فترة زمنية طويلة لا تعرف مدتها معرفة دقيقة. يرجح أن هذه المدة تشير إلى الوقت الذي قضاه موسى على الجبل أو إلى الأربعين سنة التي قضاها إسرائيل في البرية (عدد 14: 34) والتي تشير إلى مسيرة إيليا أربعين يوماً (1ملوك 19: 8).
وفي العهد الجديد كان الفريسيون يصومون يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع بدافع من تقواهم الخاصة (لوقا 2: 37، 18: 9-12). الخميس هو يوم ذهاب موسى النبي للجبل لاستقبال الوحي الإلهي، والاثنين هو اليوم الذي عاد فيه من الجبل. وأمَّا قرنيليوس فكان صائماً لمدة أربعة أيام عندما ظهر له الملاك (أعمال الرسل 10: 1-3). وصام الرجال الذين مع بولس في السفينة مدة أربعة عشر يوماً (أعمال الرسل 27: 33)). وأمَّا الأرملة حنّة فكانت تواظب ليل نهار على الصلاة والصوم "لا تُفارقُ الهيكلَ، مُتعبِّدةً بالصوم والصلاة ليلَ نهار" (لوقا 2:37). وصام يسوع أربعين يوماً ليفتتح رسالته بفعل تسليم لأبيه بثقة كاملة (متى4: 1-4).
ويمكننا القول أنَّ ازدياد الوعي المسيحي لمركزية الحدث الفصحى أي سر موت يسوع وقيامته قد ترافق منذ البداية مع تطور تدريجي لمدة زمن الصوم. فمن يوم واحد كان يبتدئ مساء الخميس، إلى ثلاثة أيام ترافق المخلص من يوم تسليمه وموته حتى ساعة الاحتفال بقيامته، إلى سائر أيام الأسبوع العظيم (أيام يسوع الأخيرة على الأرض)، ثم في مرحلة أخيرة في مجمع نيقيه سنة 325 طيلة أربعين يوما. وإن هذه الأربعين يومأً هي أيام مسيرتنا الجماعية إلى ليلة الفصح المقدسة، إنها تمثِّل صعود يسوع إلى أورشليم. إنها تمثل طول الطريق التي تُبعدنا عن الله، وسلوكنا لدرب العودة والرجوع وملاقاة الله ومصالحته في عيد الفصح. "فلا نترك الفصح يمرّ من غير أن ندخل في حقيقته وفي مطالبه" كما وصانا قداسة البابا بولس السادس (10 نيسان 1968).
وفي الواقع، ان الصوم قبل أن يتخذ معنى الاستعداد للعيد الكبير عبر التوبة والحزن النادم بسبب ارتكاب الخطايا، هو المعنى الطبيعي متأتٍ من حزن التلاميذ لفراق معلمهم (متى 9: 15) من جهة، ومن جهة أخرى من موقف الخاطئ التائب أمام رحمة الله التي تجلت في كمالها بموت الابن الوحيد مصلوبا. وهكذا نجد ان الصوم هو جزء مهم وأصيل في العبادة للوصول إلى الله: الصوم والصلاة والصدقة (متى 6: 18).
4) ما هو دور الكنيسة في شريعة الصوم؟
رسم السيد المسيح لنا الخطوط الرئيسية للصوم، غير أنه لم يُحدِّد أياما للصيام، ولا ساعة لبداية الصوم كما لم يُحدِّد لهذا الصيام التزامات أو ممنوعات أو مباحات، إنما أنهى عن الصوم الشكلي والظاهري، تاركا التفاصيل للكنيسة لتبتّ فيها، ولتفسِّر للمؤمنين كيفية الصوم بحسب البيئة والظروف، وبما تراه مناسبا لتحقيق مفهوم وهدف الصوم. فوضعت الكنيسة قوانين للصيام. وغايتها أن تكفل للمؤمنين الحد الأدنى الذي لا بدَّ منه في روح الصلاة وفي الجهد الأخلاقي كي يتحد الجميع في ممارسة مشتركة لأعمال الصوم والانقطاع للكفر بذواتهم ونمو في محبة الله والقريب.
فهناك صيام واجب وصيام مستحب. الصيام الواجب هو ما جاء في الوصية الرابعة من وصايا الكنيسة: "انقطع عن أكل اللحم وصم الصوم في الأيام التي تقرّها الكنيسة" (التعليم المسيحي رقم 2043). يقوم الصوم بالاقتصار على وجبة واحدة في النهار، مع تناول شيء من الطعام صباحاً ومساء، وفقاً للعادات المحلية الموافق عليها، من حيث النوع والكمية (منشور: توبوا، البابا بولس السادس القسم 3: 3: 2). والانقطاع يعني الامتناع عن “الزفر”. والزفر هو عندنا اللحوم ومشتقاتها. (كتاب التعليمات، 23). ويعلق البابا القديس يوحنّا بولس الثاني " يجب أن يصوم الإنسان في أيامنا هذه ليس فقط عن المأكل والمشرب فحسب بل عن وسائل استهلاك كثيرة، التي تثير الحواس وترضيها " (المقابلة العامّة بتاريخ 21/03/1979).
ويحافظ على الصوم والانقطاع معاً يومي: أربعاء الرماد والجمعة العظيمة في ذكرى آلام ربنا يسوع المسيح وموته (منشور: توبوا البابا بولس السادس القسم 3:3:2). وتلزم فريضة الانقطاع وحدها كل يوم جمعة مدة الصوم الأربعين الذي يمتد من أربعاء الرماد إلى ما قبل عشاء الرب. وقد جرت العادة أن يوضع الرماد على الرؤوس في أربعاء الرماد وفقاً لما عهده العهد القديم (ايوب 42: 6، المراثي 2: 1) دلالة على التوبة والحداد، كما تدل هذه الإشارة على حالة الإنسان الخاطئ الذي يقرّ بذنبه بين يدي الله بطريقة ظاهرة وبها يُعرب عن عزمه الباطن على الرجوع لله راجياً منه تعالى أن يكون به رؤوفا رحيماً.
ويلزم بفريضة الانقطاع (عن اللحم، أو طعام آخر، وفقاً لما تقرره الهيئة الأسقفية،) من أتموا الرابعة عشرة من العمر. أمَّا قانون الصوم، فيُلزم جميع من بلغوا سن الرشد (21 من العمر) وحتى بداية الستين من عمرهم، غير انه، على رعاة النفوس والوالدين ان يسهروا، على تربية من هم غير مُلزمين، لصغر سنهم، بالانقطاع والصوم على اكتساب معنى صادق للتوبة (الحق القانوني للكنيسة الكاثوليكية اللاتينية، 1252).
وهناك الصوم القرباني الواجب ورد في قوانين الكنيسة "على المؤمنين أن يراعوا الصوم المفروض في كنيستهم ليحسنوا الاستعداد لقبول هذا القربان المقدس" (الحق القانوني رقم 1387) حيث يصبح فيها المسيح ضيفنا. وفي الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية ينص قانون الصوم القرباني على ما يلي: "على المقبل على تناول الإفخارستيا المقدسة أن ينقطع لمدة ساعة على الأقل قبل المناولة المقدسة عن كل طعام وشراب، عدا الماء والدواء" (الحق القانوني للكنيسة الكاثوليكية اللاتينية 919، البند 1).
وأمَّا الصيام المُستحب فهو ما يفرضه كل شخص من صيام على نفسه وعائلته حسب ظروفه الصحية وعمله. هناك من يصومون يومي الأربعاء والجمعة طوال السنة، لأنَّ يوم الأربعاء تمًّت فيه المؤامرة على السيد المسيح عندما وعد يهوذا رؤساء الكهنة أنْ يسلمه لهم مقابل ثلاثين من الفضة. أمَّا الصوم يوم جمعة فهو تذكار لليوم الذي صُلب فيه السيِّد المسيح ومات على الصليب. فالكنيسة الكاثوليكية منفتحة في هذا الخصوص تحترم حريتنا وتعطينا المجال للاختيار، فهي تعرض ولا تفرض، ولكي يتم تجنب الفوضى تُحدِّد عمر الصائم وفترة الصوم وأنواع المأكولات وغايات الصوم وطرقها وتطلب من المؤمنين تطبيقها طواعية وليس بالإكراه من باب مبدأ "الروح يحُيي والحرف يقتل".
أمَّا شريعة الصوم في كنيسة الروم الكاثوليك كما وردت في الكتب الطقسيّة وفي نشرات الأبرشيّات والرعايا فهي كما يلي:
1. الصوم الأربعين الكبير: أيام الصوم هي أيام الأربعاء والجمعة من أسبوع مرفع الجبن. وأيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة من أسابيع الصوم والأسبوع العظيم المقدّس. ما عدا اليوم الذي يقع فيه عيد البشارة 25 آذار. فبالصّوم أربعين يومًا في رفقة المسيح وتأمّل أعماله وكلماته (يوحنا 6: 63) نصل حتمًا لنعيش معه رسالته ونبلغ ذلك "اليوم" الوحيد الذي فيه تتمّ التّقدمة المُطلقة الكاملة حبًّا على الصليب.
2. سبت النور: هو السبت الوحيد الذي يجب الصوم فيه. بينما يمنع الصوم في السبوت الأخرى لارتباط السبت بأحد القيامة
3. أيام القطاعة تشمل الصوم الأربعين بكامله بما فيها أيام الآحاد. بالإضافة إلى الأسبوع العظيم المقدّس. ما عدا عيد البشارة وأحد الشعانين حيث يسمح بأكل السمك.
4. القطاعة هي الامتناع عن اللحم ومرق اللحم، وعن البياض، أعني البيض والجبن والألبان والزبدة الخ. أمَّا السمك فيسمح به في أيام معيّنة. وكذلك الزيت والخمر في أيام معيّنة. هذا مع العلم أن السينودس المقدّس قد ترك لكلّ مطران أن يعطي تعليمات وتوجيهات إضافيّة مناسبة لأبرشيّته
خلاصة
يتناول النص الإنجيلي مرقس 2: 18-22) موضع الصوم، والذي من خلاله يتم التمييز بين تلاميذ يسوع وتلاميذ يوحنا والفريسيين (مرقس 2: 18). والجواب الذي يتبع، يشبِّه تلاميذ يسوع بأهل العريس، ويتكلم عن الصوم مميزاً بين وجود العريس وعدم وجوده (مرقس 2: 19-20). وفي النهاية نجد كلمتين تشبيهيّتين، " الثوب " (مرقس 2: 21) و" الخمر" (مرقس 2: 22)، كتعليق عما قيل بخصوص التناقض يبن الجديد والقديم، وينتهي النص بدعوة الى الحياة الجديدة المُعبّر عنها في الدعوة الموجهة إلينا:" الخمرة الجديدة في الزقاق الجديدة" (مرقس 2: 22). فلا بد من الاختيار بين الجِدة التي اتى بها يسوع الذي يصف نفسه بانه عريس شعبه او البقاء في أعراف وعادات قديمة بالية.
ويعلمنا يسوع من خلال جداله مع الفريسيين ان الصوم ليس غرضا في ذاته بل يجب ان يٌمارس في ظروف مناسبة. وترك يسوع المقولات الجامدة من ثوب عتيق وأوعية جدل عتيقة ليصل الى عمق الانسان وما فيه من صلاح. ومثله يفعل تلاميذه بعد ان دخلوا في العهد الجديد الذي دشَّنه يسوع بحضوره.
وبعد أن حاولنا أن نجيب على الأسئلة التي يطرحها حول الصوم نجد أن الأهم هو أن يصوم الإنسان ويختبر معنى الصوم وحينئذ يفهم ويكتشف فائدته، إن لم يصم لن يكتشف حقيقة الصوم ولو قرأ وسمع الكثير عن هذا الموضوع. لذا فخير ما نختتم هذا التأمل هو ما قاله القديس يوحنا فم الذهب في إحدى عظاته عن الصوم: "اشحذ منجلك التي أتلفتها الشراهة، اشحذها بالصوم". وليكن طعامنا في زمن الصوم الأربعين الكلمة التي تخرج من فم الله، لأنه "ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله " (متى 4:4)، والعمل بمشيئته وهو القائل "طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه "(يوحنا 4: 34) وان نلبي دعوته ونقبل بتوبة وإيمان إلى تناول جسده وشرب دمه وهو القائل: " لأَنَّ جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ " (يوحنا 6 : 55). ليتنا نراجع أنفسنا بسؤال محدد: كيف نصوم... كيف نصلي؟ يريد يسوع منا ان نصلي ونصوم ونسجد بالروح. فالصوم في العهد القديم كان حرمانا للجسد... أمَّا في العهد الجديد، فهو تحرير للروح.
دعاء
امنحنا، يا رب، أن تؤهلنا رحلة الصوم هذه للاحتفال بأسرار موتك وقيامتك المجيدة. وامنحنا يا ربّ أن تكون كلّ أفكارنا، أقوالنا، وأفعالنا موافقة لإرادتك لأنك إله حنون رحيم طويل الأناة كثير الرحمة لكلّ من يدعونك بقلب نادم متواضع. آمين.