موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الثالث والثلاثيّن بالزمن العادي (ب)
مُقدّمة
تقترب بنا النصوص الكتابيّة لختام السنة الليتورجيّة بالطقس اللّاتيني، وتحمل لنا، كمؤمنين، دعوة مُلّحة للإنتباه إلى القدرة الإلهيّة بتعليمنا في ذلك الفصل الخريفيّ من فصول السنة درس من الطبيعة المخلوقة من الله. في هذا الوقت الخريفي الّذي يتجه نحو الشتاء مع الضوء الناعم والأيّام الّتي تقصُر، مما تعلمنا الطبيعة نفسها بإعلان عن نهاية وإنجاز فصل من فصول السنة الأربعة.
من خلال هذا الإنجاز والنهايّة يمكننا أنّ نفتتح مقالنا هذا حيث إنّه لا يمكننا أبدًا أنّ نمتلك بالله، بل علينا فقط ننتظره، وإلا فإننا إننا نخطأ في الإعتقاد بأنّ ملوكيّة الله تسود علينا ويمكننا أنّ ننادي "إلهنا" بـ"ملكنا". نعم، يعلنا لنا كلّا النصييّن اليّوم بإقتراب وقت النهاية، الّتي قد تزعجنا، وهذه الأيّام الخريفيّة تؤكد بشدة إقتراب حلول الزّمنُ الإلهيّ في زّمننا البشريّ، مما نكتشف أنّ الزّمن هو بمثابة المكان الّذي يجد فيه التاريخ معناه وملئه. وهذا ما يهدف إليه النص الأوّل من نبؤة دانيال (12: 1–3)، وهذا ما يدعمه مرقس بكلماته على لسان يسوع (13: 24–32) مؤكدًا بأنّ هناك شيء واحد غير قابل للزوال وسنتعرف كيف يمكننا أنّ نميّزه.
1. الزّمنُ الإلهيّ (دا 12: 1-3)
كما نعلم أنّ نبؤة دانيال تعتبر في الدراسات الكتابيّة من الكتب الرؤيويّة وهي الّتي تخمل الكثير من الغموض الّذي ليس من السهل تفسيره أوفهمه كالنصوص الأخرى. ومع ذلك، يفتتح النبي دانيال مُشدداً، وهو واحد من الأنبياء الأربعة الكبار، هذا الإصحاح، عن زّمن غير محدد قائلاً: «في ذلك الزَّمان، يَقومُ ميكائيلُ الرَّئيسُ العَظيم، القائِمُ لَدى بَني شَعبكَ، ولَكونُ وَقتُ ضِيقٍ لم يَكُنْ مُنذُ كانَت أُمَّةٌ إِلى ذلك الزَّمان. وفي ذلك الزَّمانِ يَنْجو شَعبُكَ كُلُّ مَن يوجدُ مَكْتوبًا في الكِتاب» (12: 1).
إذن هناك عامل لّاهوتي قوي بهذه النبؤة وهو أنّ هناك زّمن غير مُعلن وغير مكشوف عنه أمامنا نحن البشر ولكنه أساسيّ في المخطط الإلهي. هذا الزّمن بالرغم من إنّ النبيّ يصفه بزّمن الضيق، الّذي قد يكون موضع لقلقنا. إلّا أنّ التدخل الإلهيّ، من خلال ميكائيل، وهو الملاك ميخائيل رئيس الملائكة، يغير من وقع هذا الضيق الزمنيّ علينا كبشر. حيث يفاجئنا بأنّ «كثيرٌ مِنَ الرَّاقِدينَ في أَرضِ التُّرابِ يَستَيقِظون، بَعضهم لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة، وبَعضُهم لِلعارِ والرَّذلِ الأَبَدِيّ. ويُضيءُ العُقَلاءُ كضِياء الجَلَد، والَّذينَ جَعَلوا كَثيراً مِنَ النَّاسِ أَبْراراً كالكَواكِبِ أَبَدَ الدُّهور» (دا 12: 2- 3). هذا هو الزّمن الإلهي والّذي يكشف الله القدير عن عظكته فيضّم في مُلكه الأبرار ونكتشف أنّ ليس كلّ البشرييّن، بعد إنقضاء الحياة الأرضية سينضمون إلى مُلكه بل هناك مَن أعلن، من البشرييّن، في زّمانه الأرضيّ بعدم قبول الـمُلك الإلهيّ في زمانه الأرضيّ وبالتالي إختار نهايته وهي العار والرذل الأبديّ. وهذا النصّ يدعونا وبشدة للإستعداد وقبول سيادة الـمُلك الإلهيّ في زّمنا البشريّ حبًا وإيماننا بالرّبّ وليس طمعًا في نوّال التنعم بالزّمنُ الإلهيّ معه.
2. الزّمنُ التاريخيّ: زّمنُ الـمُثابرة (مر 13: 24- 26)
في سيّاق مناقشتنا عن الزّمن الإلهيّ وهو ما نشير إليه بالزّمنُ الأبديّ الّذي لا نهايّة له. أمّأ بالنسبة للزّمن البشريّ، هو المحدد والّذي ينتهي بنهايّة حياتنا الأرضيّة. على ضوء ما قرأنها بالعهد الأوّل سنستمر في التعرّف على وجهة نظر مرقس الإنجيليّ، وكما إكتشفنا بنص النبيّ دانيال، وهو أحد الأنبياء الأربعة الكبار، عن وقت غير محدد حيث يعلن الإنجيلي في مقدمة هذا الـمقطع «في تلكَ الأَيَّامِ بَعدَ هذهِ الشِّدَّة [...] حينَئذٍ يَرى النَّاسُ ابنَ الإِنسانِ آتِياً في الغَمام في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال» (مر 13: 24- 26). حيث يعلن عن زّمن يمتد من أيّام بدء الآلام البشريّة وحتّى مجيء ابن الإنسان في مجده. أيّ إننا في فترة تشير إلى الزّمن البشريّ والزّمن الإلهيّ.
"في هذا الزّمان" إنّه الزّمنُ التاريخيّ، هناك أحداث تُعلن النهاية سواء الإضطرابات التاريخيّة والكونيّة، مثل الحروب والزلازل والمجاعات. هناك حقائق عرفها وإختبرها كلّ جيل من الرجال والنساء وهناك علامات نتلمس فيها الحدّ والهشاشة البشرييّن أنّ التاريخ البشريّ بالنسبة لنا كتلاميذ ليسوع، هو بمثابة زّمن المثابرة (مر 13: 13)، حيث يصير زّمنُ الـمُعاناة من الإضطهاد على المستوى البشريّ زّمن القدرة على تمييّز حضور الرّبّ الحقيقي فندخل في الزّمنُ الإلهيّ بإيماننا ولنّ تصير الكلمة الأخيرة للألم والمعاناة بالزّمن البشريّ بل للقدرة الإلهيّة وسيّادة إلهنا وزّمنه الأبدي.
3. ملء الزّمنُ الإلهيّ (مر 13: 27- 32)
قد نعتقد كمؤمنيّن بأنّ قرأتنا للنص الإنجيليّ، في هذا القرن الحادي والعشرون، يمكن أنّ يغير وجه إماننا المسيحيّ بأكمله، والّذي غالبًا ما يُفهم على إنّه إحتفال بالماضي، كما لو أنّ مستقبل الله ليس لديه ما يقوله لحاضرنا، وهذا إعتقاد خاطئ.
بالفعل في هذا السياق المرقسيّ، الّذي قد يجد صعوبة منا في توقفنا أمام كلمات الإنجيلي، وإعتباره كنص إلهي وإنّه كلمة موحىّ بها من الله، حيث يعلن يسوع صراحة: «تُظلِمُ الشَّمسُ والقَمَرُ لا يُرسِلُ ضَوءَه، وتَتَساقَطُ النُّجومُ مِنَ السَّماء، وتَتَزَعزَعُ القُوَّاتُ في السَّموات. وابنَ الإِنسانِ آتِياً في الغَمام في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال. وحينَئذٍ يُرسِلُ مَلائكَتَه ويَجمَعُ الَّذينَ اختارَهم مِن جِهاتِ الرِّياحِ الأَربَع، مِن أَقْصى الأَرضِ إِلى أَقْصى السَّماء» (مر 13: 24- 27). من خلال إعلان يسوع لإنتهاء الزّمن البشريّ من خلال إعلان نهايّة أعمال الخلائق البشريّة والّتي إنجزت مهمتها الهدف الّذي خُلقت له. وهذا يتمّ بالإنجازات الكونيّة العُظمى في الشمس والقمر والنجوم والقوىّ السّماويّة هي أيضًا تلك الحقائق الطبيعيّة الّتي عبدتها الشعوب القديمة كآلهة. وهنا يأتي صوت المعلّم يسوع موضحًا بأنّه في النهاية سيتم إلغاء كلّ أنواع العبادات الصنميّة والباطلة وستكون سريعة الزّوال مقارنة بما تبقى مما هو إلهيّ. وعلى ضوء زّمن النهايّة ينكشف ما بقيّ من الزّمن الإلهيّ وهو الأبديّ، يظهر نّور النهايّة قيمة المخلوقات، ويكشف ما هو إلهيّ وما هو غير إلهيّ. في هذا السيّاق، حيث يتعثر كلّ يقيّن كاذب، وينكشف باطل كل وثن، حيث يأتي مجيء ابن الإنسان، ويحل ملء الزّمان الأبديّ سيظهر ما بقيّ في مُلكه.
4. الكلمة: ملء الزّمنيّن (مر 13: 28- 32)
ثم يسلمنا يسوع في تعليمه جوهرة لّاهوتيّة من خلال الحياة الزراعيّة الطبيعيّة وهي مثل التّينة قائلاً: «مِنَ التِّينَةِ خُذوا العِبرَة: فإِذا لانَت أَغْصانُها ونَبَتَت أَوراقُها، عَلِمتُم أَنَّ الصَّيفَ قَريب. وكذلكَ أَنتُم إِذا رأَيتُم هذهِ الأُمورَ تَحدُث، فَاعلَموا أَنَّ ابنَ الإِنسانِ قَريبٌ على الأَبواب» (مر 13: 28- 29). تعلن كلمات يسوع بقُرب شخصًا على الأبواب. إنّ تعلّيم يسوع هذا لا يتعلق بالمستقبل، بل بحاضرنا اليّوم ونحن مدعوين لإدراك حضور يسوع، ابن الإنسان. رمزيّة شجرة التين (راج نش 2: 13)، من الحياة الطبيعية والّتي تحتلّ مركز الصّدارة، حيث يخاطبنا يسوع: "تعلموا من التينة". ما نحتاج أنّ نتعلمه من شجرة التين لا يتمثل في معرفة كيفية التنبؤ بلحظة مجيء ابن الإنسان المستقبليّ، بل في تمييّز حضور شخص يُتمم الأزمنة بمجيئه على الأبواب.
أخيرًا، يعلن يسوع بسلطانه الأبديّ قائلاً: «الحَقَّ أَقولُ لَكم [ليّ ولك]: لن يَزولَ هذا الجيل حتَّى تَحُدثَ هذه الأُمورُ كُلُّها. السَّماءُ والأَرضُ تزولانِ وكَلامي لن يزول. "وأَمَّا ذلكَ اليومُ أَو تِلكَ السَّاعة فما مِن أَحَدٍ يَعلَمُها: لا المَلائكةُ في السَّماء، ولا الِابنُ، إِلاَّ الآب"» (مر 13: 30- 32). السماء والأرض، المخلوقات الّتي نظمت إيقاع الزّمن البشريّ وفصوله الأربع. هذه الحقائق، بالمقارنة مع كلمات يسوع، سيكون سريع زوالها لأنها خُلقت بكلمة الله (راج تك 1:1- 2: 4أ) وكلماته لن تزول. علينا فقط كتلاميذ، أنّ نعتمد دون خوف من خيبة أملنا في ذاواتنا، بالتحليّ باليقظة دون الثقة في الأشياء الّتي تبدو أبديّة ومستقرة، ولا في في أولئك الّذين يتظاهرون بأنّهم المسيح، ولا في الكنوز الّتي نعتقد إنها تضمن المستقبل ولا في المباني الّتي تبدو غير قابلة للتدمير (راج مر 13: 1 – 4). الحقيقة الوحيدة الّتي يجب أنّ نتعلم تمييّزها هو التعّرف على الآتي على باب حياتنا هي كلمة الله، يسوع تلك الكلمة الّتي يعلنها والّتي تكشف عنه شخصيًا. حتّى لو تعثر، الزّمن البشريّ، وهو ما ينظم إيقاعات الزّمن والطبيعة، وحتى لو لم تعد النجوم مرشدًا أكيدًا، فإن كلمة يسوع تظلّ ثابتة كمصباح يهدي خطواتنا كتلاميذ في الزّمنُ البشريّ وهي الّتي تقودنا نحو الزّمن الإلهيّ وهو الملكوت الأبديّ.
الخلّاصة
من الكلمات القليلة للنبي دانيال والّتي أتت على مسامعنا بالنص الأوّل (دا 7: 12- 13)، مما كشف لنا بالقديم عن جوهريّة زّمننا البشريّة، معلنا تحررنا من المخلوقات بقبول زّمن إلهيّ يعطي معنا ويجعلنا نعيش بملء وبثقة في التدخلّ الإلهي الّذي سيفتتحته في "ابن الإنسان". نعم، ابن الإنسان الّذي دخل بتجسده في زّمننا البشريّ حاملاً كلمة أبديّة حيث تتسم بالأبديّة وبأنّها لاتزول (مر 13: 24- 32). ابن الإنسان الّذي كُشف لنا في يسوع هو ما أعلن عنه كاتب نبؤة دانيال قائلاً: «ينْوي أَن يُغَيِّرَ الأَزمِنَةَ والشَّريعَة وسيُسلَمونَ إِلى يَدِه إِلى زَمانٍ وزمانَينِ ونِصفِ زَمان. [...] ويُعْطى الـمُلكُ والسُّلْطانُ وعَظمَةُ المُلكِ تَحتَ السَّماءِ بِأَسرِها لِشَعبِ قِدِّيسي العَلِيّ وسيَكونُ مُلكُه مُلكاً أَبَدِيّاً ويَعبُدُه جَميعُ السَّلاطينِ ويُطيعوَنه» (دا 7: 25-27). ما علينا إلّا بطاعته وقبولنا بتدخلاته في زّمننا البشريّ حتّى ينعم علينا بدخولنا الزّمنُ الإلهيّ متى ميّزنا حضوره على أبواب حياتنا. دُمنا في تمييز لزمنيّن نحياهم في حضور إلهيّ بشكل أبديّ من هنا والآن.