موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٠ مارس / آذار ٢٠٢٣

يوسف البار مُعلّم الصمت والتأمل

بقلم :
المطران كريكور كوسا - مصر
يوسف البار مُعلّم الصمت والتأمل

يوسف البار مُعلّم الصمت والتأمل

 

لم يذكر، ولم يكتب الإنجيليون الأربعة في الإنجيل المقدّس لهذا القديس العظيم أي كلمة خرجت من فمه، ولم تسمع الأرض نطقاً له. بل كان صمته وكماله، وجمال نفسه، وبديع صفاته، وسمو فضائله، مع بساطة حياته، اروع تعليم ، وافصح بيان ، واجمل فلسفة خرجت من فم إنسان.

 

القديس يوسف مثلٌ أعلى للشبّان وللرجال وللأزواج ولأرباب العائلات، وللرهبان البتوليين، وللبنات العذارى، لأنه جمع في شخصه وفي حياته اسمى المزايا وأكمل الفضائل التي يمكن ان يتحلى بها الإنسان في هذه الدنيا.

 

كان يوسف البتول من بيت لحم، من سبط يهوذا ومن عشيرة داود، " ... ويعقوب ولِدَ يوسُف زَوجَ مٓريم التي وُلِدَ منها يسوع وهو الذي يُقالُ له المسيح" (متى ١: ١٦). فكان بذلك من أشراف اسرائيل مولداً ومنشأ ، وحسباً ونسباً. إلا ان الله، الذي كان قد أراد لإبنه الوحيد حياة البساطة والإتضاع والفقر، شاء ان يكون الرجل الذي سوف ينتدبه ليكون الحافظ والحارس الأمين لأمه، والخادم الحكيم الصادق ليسوع في حداثته، فقيراً متواضعاً وبسيطاً، لا شأن له بين قومه، ولا ذكر له بين أهله وعشيرته.

 

لكن غنى القديس يوسف كان في قلبه. وكانت ثروته اخلاقه وفضائله. فاصطفاه الله بين جميع رجال اسرائيل لأعظم رسالة دعا إليها بشراً. فكان يوسف ذلك الرجل الذي حقق مقاصد الله وإرادته فيه. جعل يوسف حياته كلها، عواطفه واتعابه، شغله وقواه، سهره وافكاره وفقاً على خدمة مريم وإبنها يسوع، ومحبتهما والتفاني والتضحية في سبيلهما.

 

لم يذكر الإنجيل المُقدّس القديس يوسف كثيراً، ذكره القديس متى في الفصل الأول من الآية ١٩ حتى الآية ٢٥ واصفاً إياه "رجُلاً باراً". كما ذكره في الفصل الثاني عندما تراَى له الملاك في الحلم وقال له: "قم فٓخُذ الصبي وَأُمَّه واهرب إلى مصر وأقم هُناك حتى أُعلِمك، لأن هيرودُس سيبحث عن الطفل ليُهلِكه" (متى ١٢-١٥)، وما إن توفيَ هيرودُس حتى تراءى ملاك الرّبّ في الحلم ليوسف في مصر وقال له: "قُم فَخُذ الطفل وأُمَّه واذهب إلى أرضِ إسرائيل، فقد مات من كان يُرِيدُ إهلاك الطفل"... وجاء مدينة يُقال لها الناصرة فسكن فيها، ليتِمَّ ما قيل على لسان الأنبياء، إنه يُدعى ناصريًا (متى ٢: ١٩-٢٣).

 

ذكره القديس لوقا في الفصل الثاني أثناء ميلاد يسوع فكتب: "وصعد يوسف ايضًا من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي يُقال لها بيت لحم، فقد كان من بيتِ داود وعَشيرته، ليكتَتِب هو ومريمُ خطيبَتُه وكانت حاملاً" (لوقا ٢: ٤-٧). وكتب أيضًا: عندما بشر الملائكة الرعاة بميلاد يسوع، ذهب الرعاة مسرعين إلى المكان الذي ولِدَ فيه يسوع، فوجدوا مريـم ويوسف والطفل مُضجعاً في المذود (لوقا ٢: ١٦).

 

متى توفي القديس يوسف؟

 

لا أحد يعلم متى توفي القديس يوسف. ولكننا نستطيع القول بأنه مات بعدما انتهت رسالته بتربية يسوع والإهتمام به وبأُمه العذراء مريـم، وبعدما أُصبّح يسوع قادرًا، على حسب قوانين وقواعد الطبيعة البشرية القيام بمسؤولياته في الحياة والعيش مع والدته.

 

رقد القديس يوسف بالربّ بين يدي يسوع ومريم... لأنه كما نقرأ في الإنجيل المُقدّس، لما بدأ يسوع يُبشّر بملكوت الله، أخذ اليهود يتساءلون ويقولون: "أليس هذا ابن يوسف؟".

 

كان يوسف ملاكاً حارساً لمريم، وكان ستاراً لعفافها وشرفها، وكان الحافظ الأمين لطفولة يسوع، والخادم النشيط المحب لتلك العائلة المقدسة. فلما انتهت تلك الرسالة، مات بين يدي يسوع ومريم، مملوءًا نعمةً وقداسةً، وبذلك أصبح  شفيع المائتين بالرب. لأن يسوع ومريم ملآ ايامه الأخيرة تعزية وسلواناً وبهجةً، وشكرا له خدمته واتعابه، ولذلك وعده يسوع بإكليل المجد المُعد له في السماء. فذهب يبشّر الآباء والأنبياء وسائر القديسين، بمجيء المخلص، وبقرب نجاتهم وافتدائهم وخلاصهم.

 

لقد امتاز القديس يوسف بايمانه الحي الذي فاق كل ايمان ، وبتواضعه العميق ، وبثقته بالله التي لا حدّ لها.

 

إيمان القديس يوسف: أما إيمانه فقد ظهر حيًا في الحوادث التي رافقت حَبَل مريـم  خطيبته وولادتها إبنها الإلهي ، وهرب المولود الجديد من وجه هيرودس . ففي ذلك كلّه لم يضعف إيمان يوسف بقدرة الله ، وهذا الإيمان الحي كان يذكي فيه المحبة ليسوع ، وينير طريقه في حياته الروحية . إن الإيمان هو العين التي بها يرى القلب اسرار الله .

 

تواضع القديس يوسف: أما تواضعه فلقد فاق كلّ حدّ. لأنه تعلّم من مريم ومن يسوع ان لا ينظر إلى ذاتِهِ ولا يبحث عن مصلحته، ولا يتعالى ويتكبر في عين نفسه وأمام الآخرين. كان من سلالة ملوك يهوذا، ومع ذلك لم يغضب لِما ناله من التعب والفقر. كان أباً ومربياً ليسوع خالق السماوات والأرض، ومع هذا لم يأنف من أن يشتغل بيديه، ويتعب ليل نهار، لكي يقدر ان يعيش هو وعائلته الصغيرة. كان الحارس للمسيح الربّ الذي تنتظره الأجيال منذ ألوف من السنين، ومع هذا كله بقي صامتاً، متواضعاً، لا يبوح بسر يسوع ومريم، ولا بسرّه لأحد، كاتماً عن الجميع  أمر هذا الولد الإلهي العجيب، الذي يأوي إلى بيته ويشاطره مائدته وحجرته ، وهو رب المجد، المسيح المنتظر ومخلص العالم.

 

هذا هو يوسف البار الذي يشعر بالفرح في داخله وفي أعماق قلبه، عندما يبقى مجهولاً ومنسياً عند الناس، لكي يكرس كل قواه الروحية والجسديّة لخدمة الله وإبنه يسوع ومريم أمه. لأنه كيف يمكنه أن يرى ابن الله، وقد "تجٓرَّدَ من ذاته مُتَّخذاً صورة العبد" (فيليبي ٢: ٧)، ويسعى هو إلى الظهور والمجد الباطل؟ إن يوسف هو حقاً مثال العفاف والوداعة والتواضع.

 

+ المطران كريكور اوغسطينوس كوسا، اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك