موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٣ فبراير / شباط ٢٠٢١

يسوع يُبْرئ أَبْرَص والأبْرَص يُبشِّر بيسوع

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد السادس للسنة: يسوع يُبْرئ أَبْرَص والأبْرَص يُبشِّر بيسوع (مرقس 1: 40-45)

الاحد السادس للسنة: يسوع يُبْرئ أَبْرَص والأبْرَص يُبشِّر بيسوع (مرقس 1: 40-45)

 

الاحد السادس للسنة (مرقس 1: 40-45)

 

النص الانجيلي (مرقس 1: 40-45)

 

40 وأَتاه أَبرَصُ يَتَوَسَّلُ إِليه، فجَثا وقالَ له: ((إِن شِئتَ فأَنتَ قادِرٌ على أَن تُبرِئَني)). 41 فأَشفَقَ عليهِ يسوع ومَدَّ يَدَه فلَمَسَه وقالَ له: ((قد شِئتُ فَابرَأ)) 42 فزالَ عَنهُ البَرَصُ لِوَقِته وبَرِئ. َ 43 فصَرَفَهُ يسوعُ بَعدَ ما أَنذَرَه بِلَهْجَةٍ شَديدَة 44 فقالَ له:( (إِيَّاكَ أَن تُخبِرَ أَحَداً بِشَيء، بَلِ اذهَبْ إِلى الكاهن فَأَرِهِ نَفسَك، ثُمَّ قَرِّبْ عن بُرئِكَ ما أَمَرَ بِه موسى، شَهادةً لَدَيهم)). 45 أَمَّا هو، فَانصَرَفَ وَأَخَذَ يُنادي بِأَعلى صَوتِه ويُذيعُ الخَبَر، فصارَ يسوعُ لا يَستَطيعُ أَن يَدخُلَ مَدينةً عَلانِيَةً، بل كانَ يُقيمُ في ظاهِرِها في أَماكِنَ مُقفِرَة، والنَّاسُ يَأتونَه مِن كُلِّ مَكان.

 

مقدمة

 

يصف مرقس الانجيلي اولى تجليات يسوع في الجليل بإبرائه الأَبرَص جسديا واجتماعيا وروحيا، وهذه هي إحدى الأدلة ان يسوع هو المسيح المُنتظر، مخلص العالم، قد أتى الى العالم لشفائه. ولم يتوقف يسوع فقط على شفاء الجسد من بَرَصه لكنه أيضا مسّ النفس من الداخل ليقودها الى الاهتداء والعودة إليه. وهذه هي الغاية الاساسية ليسوع المسيح: أن يقود الإنسان إلى الايمان به والثقة فيه لينال الخلاص. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.

 

أولاً: وقائع النص الانجيلي (مرقس 1: 40-45)

 

40 وأَتاه أَبرَصُ يَتَوَسَّلُ إِليه، فجَثا وقالَ له: إِن شِئتَ فأَنتَ قادِرٌ على أَن تُبرِئَني

 

تشير عبارة "أَتاه أَبرَصُ" الى مجيء أَبرَص الى المسيح بالرغم من الموانع الشرعيَّة.  إنه يعيش خارج الأماكن الآهلة "مُبْعَدا" منعزلاً طيلة مدة مرضه (الاحبار 13: 46)، ولا أحد يستطيع ان يقترب منه او يلمسه؛ ومع ذلك يأتي ويدنو من يسوع بثقة ورجاء، وكله يقين وإيمان بسلطان يسوع على إبرائه من بَرَصه. لم تُحدِّد الاناجيل المكان، لان الملكوت لا حدود له، يُحدد متى الإنجيلي فقط ان الأبرَص جاء الى يسوع بعدما نزل يسوع من الجبل (متى 8: 1) وأمَّا لوقا الإنجيلي بعد زيارة يسوع الى إحدى المدن (لوقا 5: 12). أمَّا عبارة " أَبرَصُ" فتشير الى مريض يتساقط لحمه، والبَرَص يُعدُّ نجاسة (الاحبار 12-15)، وعلامة للخطيئة التي تَفصل الفرد عن الجماعة بحيث يعيش في الإقصاء (الاحبار 13: 45-46)، وهو عقوبة إلهية بكل معنى الكلمة (تثنية الاشتراع 4: 27-28). أمَّا عبارة " يَتَوَسَّلُ إِليه " فتشير الى رغم معاناته لم يفقدْ الأَبرَص الإيمانَ بإمكانيّة شفائه، ولسان حاله هي حالة والد المصاب بالصرع والمرافقين له الذين لجأوا إلى المسيح متوسلين: "إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئاً فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا" (مرقس9: 22)، وأمثال غيرهم من المرضى يتوسّلون الشفاء (مرقس6: 56؛ 7: 32؛ 8: 22). أمَّا فعل "جَثا" فيشير الى السجود (متى 8: 2)، حيث أعلن الأَبرَص خضوعه بالجسد كما بالروح؛ وللسجود معنيان الاول بمعنى الاحترام، والمعنى الثاني هو العبادة للذي هو ابن الله لا سيما في ضوء القيامة. فالأَبرَص عرف سلطة يسوع كما عرفها قائد المائة في كفرناحوم بقوله ليسوع " يا رَبّ، لَستُ أَهْلاً لأَن تَدخُلَ تَحتَ سَقفِي، ولكِن يَكْفِي أَن تَقولَ كَلِمَةً فيَبرَأَ خادِمي"(متى 8: 9)؛ أمَّا عبارة "إِن شِئتَ فأَنتَ قادِرٌ" فتشير الى الكلمات التي بها أعلن الأَبرَص إيمانه بإرادة المسيح وبقدرته حيث أن المسيح قادرٌ على شفاء البَرَص الذي لا يقدر عليه إلاّ اللّه. فاعترف مثل أيّوب البار الذي ضُرب أيضًا بالبَرَص (أيوب 2: 7)، أنّ الله على كلّ شيء قدير ولا يستحيل عليه شيء (أيوب 42: 2)، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لم يقل "طهِّرني" بل ترك كل شيء بين يديه، وجعل شفاءه رهن إرادته، شاهدًا له بسلطانه. إنّهُ لم يفرضُ نفسَهُ، بل يعرضُ رغبتهُ، ويقول بإيمانٍ يدعو للإعجاب" إِن شِئتَ فأَنتَ قادِرٌ على أَن تُبرِئَني!" وذلك على مثال صلاة يسوع في بستان الزيتون " أَبَّا، يا أَبَتِ، إِنَّكَ على كُلِّ شَيءٍ قَدير، فَاصرِفْ عنَّي هذِه الكَأس. ولكِن لا ما أَنا أَشاء، بل ما أنتَ تَشاء" (مرقس 14: 36). ومع شدَّة حاجته احترم الأَبرَص حرية إرادة المسيح، فاستحق أن يُكرمه المسيح على ذلك، وأن يلتفت إليه. هذا التوسّل يجب ألاّ ينبع من أفواهنا، إنّما من قلوبنا، لأنّ القلوب تتكلّم بصوت أقوى. صلاة القلب تدخل السّموات وترتفع عاليًا، إلى عرش الله. ويُعلق القدّيس باشاز رادبيرت " كلّ يوم، يشفي الرّب يسوع المسيح نفس كلّ إنسان يتوسّل إليه، ويعبده بتقوى ويعلن بإيمان هذا الدعاء: يا ربّي يسوع، "إِن شِئتَ، فَأَنتَ قادِرٌ عَلى أَن تُبرِئَني" (شرح لإنجيل القدّيس متى). وهكذا أعطانا هذا الأَبرَص نصيحة مفيدة جدًّا عن كيفيّة الصلاة. أمَّا عبارة "تُبرِئَني" باليونانية καθαρίσαι (معناها يُطّهر) فتشير الى تطهير مما يدل على ان شريعة موسى تُلصق النجاسة الطقسية بالبَرَص (الاحبار 13: 45-46). ولا تُذكر كلمة شفاء في الكتاب المقدس لدى التكلم عن البَرَص بل كلمة تطهير. وطقوس التطهير تعيد إلى الجماعة، الاشخاص (أو الاشياء) الذين تنجّسوا.  ان إقرار الأَبرَص يعُبّر عن موقف إيمانيّ بأنّ يسوع قادرٌ أن يعمل ما هو لله، إذا شاء.

 

41 فأَشفَقَ عليهِ يسوع ومَدَّ يَدَه فلَمَسَه وقالَ له: قد شِئتُ فَابرَأ

 

تشير عبارة فأَشفَقَ عليهِ" الى حنان المسيح الذي يتجدَّد مرة أخرى على الشعب الجائع عند التكثير الأوّل والثاني للخبز والسّمك (مرقس 6: 34؛ 8: 2). وذكر الإنجيليون الثلاثة (متى 8: 2-4، لوقا 5: 21-16) هذه المعجزة، ولم يذكر أحد منهم سوى مرقس انفعالات يسوع وقتئذٍ: "أَشفَقَ عليهِ". فالذي دفع يسوع على عمل المعجزة ليس مجرَّد البرهان على انه إله بل إظهار نفسه إنسانا يشعر بمصائب الناس ويحزن لأحزانهم.  والشفقة أدَّت بيسوع للانخراط في تاريخ حياة هذا الأَبرَص المُهمّش والاقتراب منه وقبوله ولمْسه وإعادة دمجه في مجتمعه ولم يُؤجلْ شفاؤه، وذلك ليس للجاجة الأَبرَص، او لأجل الشهرة، إنما لأنه لا يستطيع ان يردّ له طلباً، فرضته الحاجة، وصاغه الإيمان. لا يزال الرب يشفق على الناس في امراضهم الجسدية والروحية الى الآن. ربّي يسوع، عساك تتكرّم بالاقتراب منّي بدافع الشفقة.  أمَّا عبارة " مَدَّ يَدَه " فتشير الى علامة لخلاص الربّ كما جاء في كلمات المزامير "تمدّ يدك فتخلّصني يمينُك" (مزمور 138: 7) التي تتردَّد في سفر الخروج، وبه يُخلّص الله شعبه (خروج 3: 5؛ 7: 5)؛ إنّه الله الذي يتابع عمله في تاريخ الإنسان على النحو ذاته. إنّه عمل خلاصيّ يقوم به يسوع الآن تجاه الأَبرَص. فقد هدم بمدِّ يديه الحاجز القائم بين الطاهر والنجس وأعاد المعوز والمُبعد الى ذويه ومجتمعه. أمَّا عبارة " فلَمَسَه " فتشير الى علامة صداقة ومودَّة واهتمام بالآخر، وعلامة على تكريمه وتقديره حيث تضامن يسوع مع الضُعف البشري الذي يُلفت النظر. مع ان يسوع كان بإمكانه أن يشفي الأَبرَص مع بقائه بعيداً عنه، كما فعل أليشاع مع نعمان السوري (2ملوك 5: 1-14)؛ وكان بإمكانه أن يكتفي بالتلفّظ بكلمات بركة وشفاء عليه، لكنه فضَّل لمْسه كي يُعطي الأَبرَص اليقين أنه لم يَعدْ بعيداً منبوذا.  "ويُعلق البابا فرنسيس "اللمْس هو لغة التواصل الحقيقية، تلك اللغة الوجدانية التي نقلت الشفاء للأَبرَص".  وبدون أن يكيّف نفسه مع العقليّة السائدة لدى الناس التي تنص بمنع الانسان أن يقترب من الأَبرَص ويلمسه لئلا يتنجَّس، تحدّى يسوع الخطر ولمسه فلم يتنجَّس، بل طهّر الأَبرَص من مرضه دلالة على حنانه وشفقته على الجنس البشري وعلامة الانتصار والسيادة الالهية. أعطاه من حنانه وحبِّه قبل أن يهبه الشفاء والتطهير. ويعلق أحد البحاثة "لشفقته على الجنس البشري كانت له يد يمدها ليلمس بها". ويربط مرقس الإنجيليّ فعل اللّمس بالشفاء، " حَيثُمِا كانَ يَدخُل، سَواءٌ دَخَلَ القُرى أَوِ المُدُنَ أَوِ المَزارِع، كانوا يَضَعونَ المَرْضى في السَّاحات، ويَسأَلونَه أَن يَدَعَهم يَلمِسونَ ولَو هُدْبَ رِدائِه. وكانَ جميعُ الَّذينَ يَلمِسونَه يُشفَون" (مرقس 6: 56)، وكأنّ يسوع يُعطي قوّة الخير التي فيه ليزيل الشرّ المُمثّل بالبَرَص. لم يتنجَّس يسوع بلمسة ألأَبرَص، بل يهرب البَرَص من لمْسته. كان البَرَص عادة يُسبب النجاسة الطقسية، ولكن يسوع اتى بالتطهير للبَرَص. فهو يريد أن يُدمج المنبوذين، ويقاوم إقصاء الآخر، ويخلّص الذين هم خارج الحظيرة (يوحنا 10). امَّا عبارة " قالَ له " فتشير الى اقوال المسيح التي كلها فعَّالة، وما قيل هنا يذكرنا ممَّا قيل في عمل الله في الخليقة " إِنَّه قالَ فكان وأَمَرَ فوجِد" (مزمور 33: 9). أمَّا عبارة " شِئتُ " فتشير الى إرادة يسوع القادرة على ان تفعل ما تريد. إن قدرة يسوع هي التي تفعل، لان إرادته هي إرادة الله. ويُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " أمام هذا الإيمان كلِّه، أظهرَ يسوع قدرتَه، وبسلطتِه الإلهيّة، شفى المرض مُثبِتًا بذلك مساواته مع أبيه" (عظات عن القدّيس متّى).  أمَّا عبارة " فَابرَأ " فتشير الى تطهير الأَبرَص على يد يسوع، وهي علامة من علامات المسيحانية. فالكلمتان " شِئتُ فَابرَأ " صيَّرن الأَبرَص إنساناً جديداً في الخارج وفي الداخل. فلا أحد ولا شيء نجس بحدّ ذاته. ويعلق القدّيس باشاز رادبيرت "يجب أن نتوجّه بطلباتنا إلى الله بكلّ ثقة، بدون أدنى شكّ بقدرته. هذا هو السبب الذي جعل الرّب يسوع يردّ فورًا على الأَبرَص الذي توسّل إليه ويقول له: "قَد شِئتُ، فَٱبرَأ"." (شرح لإنجيل القدّيس متى) فكان الشفاء من البَرَص يُنسب الى الله وحده، وهو يدلُّ على اقتراب ملكوت الله، وقيامة الأموات أي إعداد بِنعم الازمنة الاخيرة كما جاء في وصايا يسوع لرسله " أَعلِنوا في الطَّريق أَنْ قَدِ اقتَرَبَ مَلَكوتُ السَّمَوات.  اِشْفوا المَرْضى، وأَقيموا المَوتى، وأَبرِئوا البُرْص، واطرُدوا الشَّياطين. أَخَذتُم مَجَّاناً فَمَجَّاناً أَعطوا" (متى 10: 7-8).

 

42 فزالَ عَنهُ البَرَصُ لِوَقِته وبَرِئ.

 

تشير عبارة "لِوَقِته" في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال او للوقت) الى تعبير مميّز في إنجيل الذي تكرَّر 41 مرة. ويُعطيه مرقس الإنجيلي أهمية كبرى حيث تمّ الشفاء في الحال. ويريد مرقس، بذلك، إظهار فوريّة مفاعيل الخلاص لعمل يسوع (مرقس 10: 52). فكانت الأعجوبة ظاهرة، على الفور، كما كانت الحالة مع حماة بطرس التي قامت تخدمهم بعد شفائها الفوريّ (مرقس 1: 31). أمَّا عبارة "بَرِئ" فتشير الى يسوع الذي بإبرائه الأَبرَص تغلب على نجاسة مُعدية وألغى الحدود بين الطاهر والنجس، وأعاد دمج الأَبرَص المُبعد الى المجتمع، وأعطى بذلك آية لرسالته كما قال لتلاميذ يوحنا المعمدان "اِذهبوا فَأَخبِروا يُوحنَّا بِما تَسمَعونَ وتَرَون: العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون" (متى 11: 4-5).

 

43 فصَرَفَهُ يسوعُ بَعدَ ما أَنذَرَه بِلَهْجَةٍ شَديدَة.

 

تشير عبارة "فصَرَفَهُ" εὐθὺς ἐξέβαλεν (معناها طرده في الحال) الى تعبير مرقس الإنجيلي على إتمام إخلاء سبيله في الحال. أمَّا عبارة "أَنذَرَه بِلَهْجَةٍ شَديدَة" في الأصل اليوناني μβριμησάμενος αὐτῷ (معناها عنّفه او انتهره) فتشير الى تحذير الأَبرَص كي لا يتكلّم عمّا جرى ويذيع الخبر. ولعلَّ المسيح أراد منعه عن إذاعة الخبر وقتا قصيرا يمكنه فيه ان يحصل على شهادة التطهير من الكاهن.

 

 44 فقالَ له: إِيَّاكَ أَن تُخبِرَ أَحَداً بِشَيء، بَلِ اذهَبْ إِلى الكاهن فَأَرِهِ نَفسَك، ثُمَّ قَرِّبْ عن بُرئِكَ ما أَمَرَ بِه موسى، شَهادةً لَدَيهم

 

تشير عبارة "إِيَّاكَ أَن تُخبِرَ أَحَداً بِشَيء" الى الأمر الذي وجَّهه يسوع للأَبرَص بعدم إعلان المعجزة، وذلك بسبب السر المسيحاني، (مرقس 5: 43، 7:36، 8: 30)؛ حيث أنَّ شفاء البرص يدلُّ على مجيء المسيح حسب أشعيا. ويرفض يسوع أن يكشف الآن عن هويّته أنّه المسيح، أنما يريد ان يكشف عن ذاته، بطريقة تصاعديّة، لئلاّ يُفهم بشكل خاطئ. لذلك أمر يسوع بالسكوت، إذ لم يَحِن الوقت لكشف معنى المعجزة بوجه النهائي الا في ساعة آلامه وموته (مرقس 1: 44)، لأنه في هذا الوقت تمسي جميع أحلام العظمة الإنسانية والسياسية باطلة. لا يريد يسوع ن يُعرَف أنه المسيح، وذلك بسبب المفهوم الخاطئ للمسيح لدى الشعب الذي يتوقع مسيحا سياسيا منتصرا.  فالسكوت يُعدُّ من المواضيع الاساسية في انجيل مرقس. ويعلق القديس يوحنا فم الذهب "إن المسيح قصد أن يحضّ الذين شفاهم على التأمل بسكوت ووقار في مراحم الله الفائقة نحوهم، وأن يحميهم من الكبرياء إذا أدهشوا الكثيرين بما حدث لهم، وحصلوا بذلك على شهرة". وربما لم يردْ المسيح من الرجل أن يعلن عن شفائه على يده القديرة لئلا يحرمه كهنة أورشليم من الحصول على وثيقة الشفاء. أمَّا عبارة "اذهَبْ إلى الكاهن" فتشير الى امر يسوع للأَبرَص أن يذهب الى الكاهن بوصفه ممثّلًا للجماعة بهدف الحصول على الشهادة التي تعلن براءته وتعيد له كامل حقوقه بين شعبه، لأنه كان مُحرّماً على الأَبرَص المعافى العودة الى الجماعة الدينية إلاَّ إذا صادق على شفائه أحد الكهنة (احبار 14: 2-3)، وهكذا نرى يسوع يحترم الشريعة (احبار 14: 2-32)، ويطلب من الأَبرَص أن يقدّم القربان المفروض. أمَّا عبارة "كاهن" في الأصل اليوناني ἱερεύς فلا تشير الى الكاهن المسيحيّ في المعنى الحاليّ للكلمة، بل تُستعمل في أكثر الأحيان للكلام عن كهنة اليهود.  وفي العبرية كلمة כּהֵן (ومعناه وقف، كان ثابتًا) فتشير الى الذي يقف أمام الله للخدمة، وقد وردت في الكتاب المقدس (750) مرة. وقال آخرون الكاهن هو الشخص الذي ينحني من أجل الاكرام حسب اللغة الاكادية "كانو". ويُستعمل כּוֹמֶר بعض المرات للكلام عن الكاهن الوثنيّ.  فالكاهن لا يتفوّق على غيره من الرجال، فهو أخ بين الاخوة، غير ان الله وهبه نعمة خاصة، حين أقامه وسيطا. فالإنسان لا يستطيع ان يخلص نفسه بقواه الذاتية، بل بنعمة خاصة من الله، ولذلك فهو في أمس الحاجة الى المسيح. أمَّا عبارة "قَرِّبْ عن بُرئِكَ ما أَمَرَ بِه موسى" فتشير الى طقس تطهير الأَبرَص الذي شُفي، وهذا الطقس يتضمن ذبيحة تكفير وشكر وعرفان لله في الهيكل حيث تنص الشريعة الموسوية " يأمُرُ أَن يُؤخَذَ لِلمُطَّهِرِ عُصْفورانِ حَيَّانِ طاهِران وَعودُ أَرْزٍ وقِرمِز وزُوفى، ويأمُرُ الكاهِنُ فيُذبَحُ أَحدُ العُصْفورَيْنِ في إِناءِ خَزَفٍ على ماءٍ حَيّ.  ويأخُذُ العُصْفورَ الحَيَّ وعُودَ الأَرْزِ والقِرمِزَ والزُّوفى، وَيغمِسُ هذه مع العُصْفورِ الحَيِّ في دَمِ العُصْفورِ المَذْبوحِ على الماء الجاري وَيرُشُّ على المُطَّهِرِ مِنَ البَرَصِ سَبْعَ مَرَّاتٍ ويُطَهِّرُه ويُطلِقُ العُصْفورَ الحَيَّ في البَرِّيَّة... وفي اليَومِ الثَّامِن يأخُذُ أِلمُطَّهِرِ حَمَلَينِ تامَّين ورِخلَةً حَولِيَّةً تامَّةً وثَلاثَةَ أَعْشارٍ مِنَ السَّميذ، تَقدِمةً مَلْتوتةً بِزَيت، ولُجَّ زَيت"(احبار 13: 46؛ 14: 19-20). ومن تطهّر اغتسل بعد ذلك، ثم حلق شعره وغسل ثيابه. بعد ذلك، يقدّم الكاهن مختلف الذبائح والقرابين، ويقوم بالمسح والنضح (الاحبار 14 :2-32). أمَّا عبارة "شَهادةً لَدَيهم" فتشير إلى إثبات قانوني عن طريق شهادة الكاهن ان الأَبرَص قد تطهّر، وذلك احتراما للشريعة وفقا لقول يسوع "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل".  والتزم يسوع بهذه الشريعة وأمر الرجل ان يذهب الى الكاهن، ذلك لإثبات معجزة يسوع العظيمة أمام الكهنة واليهود. وفي الواقع صار الأَبرَص من حيث لا يدري، واعظاً بملكوت الله حتى الى الكهنة ليروا في شخص يسوع "المسيح المنتظر". أمَّا عبارة " شَهادةً " فتشير الى أقوال الشهود أمام جهة قضائية يُدلى بها على أحد الأشخاص (مرقس 6: 11) او امامه (مرقس 13: 9).  اختبر الأَبرَص أولا قوة المسيح ثم بعد ذلك استطاع ان يتمم مطالب الشريعة وفي هذا الصدد قال بولس الرسول "الَّذي لم تَستَطِعْهُ الشَّريعة، والجَسَدُ قد أَعيْاها، حَقَّقَه اللهُ بإِرسالِ ابِنه في جَسَدٍ يُشْبِهُ جَسَدنا الخاطِئ، كَفَّارةً لِلخَطِيئَة. فَحَكَمَ على الخَطيئَةِ في الجَسَد لِيَتِمَّ فِينا ما تَقتَضيهِ الشَّريعةُ مِنَ البِرّ" (رومة 8: 3-4). تتناول هذه الشهادة في آن واحد قدرة يسوع وطاعته للشريعة. ويبدو ان هذه الشهادة تكون للتأييد او الاتهام وفقا لقبولها ام لا. لكن هناك صعوبة في التوفيق بين فكرة الشهادة وفكرة الأمر بالسكوت (مرقس 1: 44) ومما يُلفت النظر في انجيل مرقس هو التنازع القائم بين الوجه السِّري لشخص يسوع وبين نشاطه؛ فمن ناحية يرفض يسوع الظهور بمظهر المسيح، لكنه يُظهره، في أقواله وأعماله وسلطانه وقدرته من ناحية أخرى.

 

45 أَمَّا هو، فَانصَرَفَ وَأَخَذَ يُنادي بِأَعلى صَوتِه ويُذيعُ الخَبَر، فصارَ يسوعُ لا يَستَطيعُ أَن يَدخُلَ مَدينةً عَلانِيَةً، بل كانَ يُقيمُ في ظاهِرِها في أَماكِنَ مُقفِرَة، والنَّاسُ يَأتونَه مِن كُلِّ مَكان

 

 تشير عبارة "ينادي" في الأصل اليوناني κηρύσσειν (معناها يكرز) الى اعلان البشارة (مرقس 1: 4)، والفعل هو ذاته الذي قام به يوحنّا المعمدان (مرقس 1: 4، 7) ويسوع نفسه (مرقس 1: 14، 34 -39)، والرّسل الاثنا عشر أيضًا (مرقس 6: 12) في اعلان بشارة الانجيل. امَّا عبارة "الخَبَر" في الأصل اليوناني λόγος (معناها الكلمة) فتشير الى كلمة الله. وان وضعنا الفعل "ينادي" الى جانب كلمة "خبر" قد يوحي بأن الأَبرَص المعافى قد صار صورة سابقة للمُبشِّرين بالإنجيل (مرقس 5: 19-20 و7: 36). ولم يحترم الأَبرَص وصية يسوع بالسكوت، لأنه لم يستطعْ ان يتمالك نفسه دون إشعاع قدرة ابن الله في حياته.  وكتم السر، هو أمر صعب في مثل تلك الظروف، لكن هذه الرواية لا يُدرك معناها حقاً الا بعد قيامة يسوع. لكن الأَبرَص لم يطعْ امر المسيح، ولعل ذلك ان المسيح امره بالسكوت تواضعا وانه من واجب الشكر ان ينادي بخبر شفائه. أمَّا عبارة "فصارَ يسوعُ لا يَستَطيعُ أَن يَدخُلَ مَدينةً عَلانِيَةً" فتشير الى عدم مقدرة يسوع أن يدخل مدينة ظاهراً، بل كان خارجاً في مواضع خالية يعتزل في البراري وكأنّه أَبرَص" (لوقا 5:16). ان الحماس الظاهري والحشود الكبيرة والعجائب نفسها تستطيع ان تكون طريقا مؤدِّياً الى الإيمان الصحيح، ويمكن ان تكون حجة وهروبا من الواقع وتعبيرا عن عاطفة دينية غير واضحة المعالم. أمَّا عبارة "كانَ يُقيمُ في ظاهِرِها في أَماكِنَ مُقفِرَة" فتشير الى تهرب يسوع من حماسة الجماهير الصاخبة الذين سيحاولون ان يقيموه ملكا كما سيفعلون بعد تكثير الأرغفة (يوحنا 6: 14-15). لكن إقامة يسوع في المكان "المُقفِر" الذي يجب أن يُقيم فيه البُرص، دلّ على أنّه طهّر المكان بحضوره، فلا مكان نجس. وفيما كان هذا المكان علامة البُعد عن الآخرين وإقصائهم، صار الناس يأتون إليه من كلّ مكان. ممّا يعني أنّ البريّة، خارج المدينة، التي كانت مسكن البرص والمُبعدين، أصبحت مكانًا مأهولاً، مقصودًا من الجميع، لأنّ يسوع ذهب إلى هناك فتحققت نبوءة أشعيا "لِتَفرَحِ البَرِّيَّةُ والقَفْر ولْتَبتَهِجَ الباديَةُ وتُزهِرْ كالنَّرجِس" (أشعيا 35: 1). إنّ زمن الخلاص، الذي يتكلّم عنه أشعيا، قد بدأ بمجيء يسوع. فها هو يُفرِّح البريّة، بحضوره، فتصبح مأهولة. أنّ وجود يسوع في البريّة وشفاء الأَبرَص، هما تحقيق لأزمنة الخلاص المسيحانيّة التي تنبأ عنها أشعيا النبي. امَّا عبارة "أَماكِنَ مُقفِرَة" فتشير الى أماكن لم تسكن ولم تُزرع، والارجح انه مراعي للمواشي. أمَّا عبارة "النَّاسُ يَأتونَه مِن كُلِّ مَكان" فتشير الى شفاء الأَبرَص الذي زاد اهتمام الشعب زيادة عظمى بيسوع نتيجة لإبرائه فأقبلت الجموع أفواجا طلبا للشفاء. لكن الشهرة الكبيرة التي حصل عليها يسوع أثارت معارضة رؤساء اليهود علي يسوع من ناحية، واعتزاله الى أماكن مُقفرة من ناحية أخر؛ ويضيف لوقا الإنجيلي انَّ اعتزال يسوع للصلاة "كانَ خَبرَه يَتَّسِعُ انِتشاراً، فتَتوافدُ عليهِ جُموعٌ كَثيرةٌ لِتَسمَعَه وتَشْفى من أَمراضِها، ولكِنَّه كانَ يَعتَزِلُ في البَراري فيُصَلِّي" (لوقا 5: 16) فالصلاة امر عادي في حياة يسوع وهذا ما يشير اليه لوقا مراراً (لوقا 3: 21). أما عبارة "مِن كُلِّ مَكان" فتشير الى ذهاب الناس إليه من الأماكن البعيدة دليل على رغبتهم في الأمور الروحية وشعورهم بحاجتهم اليه خلافا الجموع الذين كانوا يزدحمون عليه من المدن والقرى رغبة في مشاهدة اعماله المُعجزة.

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 1: 40-45)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (مرقس 1: 40-45)، نستنتج انه يتمحور حول نقطتين: البَرص في مفهوم الكتاب المقدس وموقف يسوع المسيح منه.

 

1) ما هو مفهوم البرص في الكتاب المقدس وعلم الطب؟

 

يُعتبر البرص في الكتاب المقدس مرضاً ونجاسة وعقاب وأمَّا في علم الطب فهو مرض عضال. .

 

أ) البَرص مرض

 

ورد البرص 22 مرة في الكتاب القدس ويُشار إليه في الكتاب المقدس بلفظة נֶגַע צָרַעַת تعني "جُرْح، ضربة"، وهو يدل على أمراضٍ جلدية كثيرة تنتشر عدواها بسرعة فائقة في الجسم؛ والبرص من الأمراض الأكثر عدوى (الاحبار 14: 33) وهو المرض الوحيد الوراثي، الذي ينتقل من الوالدين إلى الأولاد. وكثيرا ما يبدأ كنتوء (ورم) او بياض كالقوباء؛ فيشعر المصاب بألمٍ وتنميل في أعضاء جسمه ثمّ تصير اماكن تواجد هذه الأورام تدريجياً سميكة الملمس وذات قشور. وبزيادة هذه السماكة يبدأ الجسم بالتقرُّح والتهاب الاعصاب وانقطاع جريان الدم. وعندما يتقدَّم المرض يبدأ جسم المُصاب يتآكل فتتساقط الأطراف مثل أصابع اليد أو الانف والرموش وجفون العين وتخرج رائحة كريهة إلى درجة النتنة من المصاب، او يعقب حرقا بالنار او دمّلا (الأحبار 13: 2-3).

 

ويختلف البرص حدةً بعضه عن بعض اختلافا كبيراً، وكانت بعض الأمراض الجلدية تُسمَّى بَرَصا. ولم يُذُكر في كتب اليهود الطبية من أدوية ومعالجات للأمراض كافة، علاجٌ لمرض البِرَص، لأنهم تأكدُّوا أنه عديم الشفاء إلا بمعجزة إلهية. وظهر اعتقادهم هذا جلياً في جواب الملك يهورام زمن النبي أليشع في قصة نعمان السرياني (2 ملوك 5:7).

 

أمَّا المصطلح البرص في المفهوم الطبي يشير عادةً إلى (المَهَق) والجذام، ويُعلق عليه الدكتور حمدي صادق: البَرَص او الجذام المعروف أيضاً باسم مرض هانسن Hansen هو عدوى مزمنة تنجم عن البكتيريا الفطرية الجذامية، وله جانبان: جانب الإصابة الجلدية، وهو الطور الأول وقد لا يتطور بعد ذلك، وجانب آخر هو الجانب العصبي أو تطوَّر الإصابة الجلدية بتشوهات في الجهاز العصبي. فتصاب جميع أطراف أعصاب الجسم أو بعض أجزائه بتشوهات".  فهو يدمر النهايات العصبية ويُسبب أيضا تدمير بعض أنسجة الجسم مثل الأصابع والأنف.

 

والإصابة الجلدية تبدأ في المناطق الأكثر عرضة مثل الجبهة والذقن والأطراف؛ وتبدأ ببقع تتحوَّل إلى مناطق لا لون لها بيضاء، إذ تموت الخلايا الصبغية في هذه المنطقة، وكذلك لون الشعر الذي يسقط بعد ذلك؛ ثم يتعمق المرض فتتحوَّل البقعة إلى نقرة تنتشر إلى ما حولها، ويبدأ الجلد يتشوه ويتكتل في كتل بين نقر وحفر، ويصبح منظر الإنسان مسخ كريه الشكل شنيع المنظر مرعب الهيئة.  لم يعُد مرض البَرَص موجودًا الآن، إلا في عددٍ قليلٍ من البلدان في إفريقيا. وتقول مُنظَّمةُ الصّحة العالمية إنه "لا يزال حوالي 10 ملايين مصابين به حتى اليوم". ومع ان مرض البَرَص لا يشبه بكثرة في هذه الأيام، الذي كان شفاؤه بالأمس عسيراً أصبح شفاؤه اليوم يسراً. إلا ان تأثيره على المجتمعات القديمة يشبه لحدٍ كبيرٍ تأثير مرض الايدز او كورونا على مجتمعاتا اليوم.

 

ب) البَرَص نجاسة

 

ليس البَرَص مرضا فحسب، انما هو ايضا نجاسة مُعدية بحسب الشريعة، وقد اعتُبر هذا المرض منذ القديم رمزاً للخطيئة ونجاستها، حتى سُمِّي الشفاء منه "تطهيراً".  فالبَرَص قاتل، يملأ النفس نجاسة، ورجاسة، فساداً، لذلك كان هذا المرض هو الوحيد الذي يفرض على المُصاب به أن يعْتزل عن جميع الناس، حتى عن أهل بيته، وعن مدينته، ويذهب للعيش مع غيره من البُرُص الى ان يشفى او يموت. وإنْ دخل مدينة يُجازَى بأربعين جلدة. وكان اليهود يعتبرون الأَبرَص كأنه ميت، يتنجس من يلمسه. وكان الأَبرَص مجبوراً أن يمارس فروض الحداد من تمزيق ثيابه، والكشف عن رأسه، وتغطية فمه، وترك الاغتسال، وما أشبه، وأن يُحذِّر كل إنسان من الاقتراب منه بصراخه الدائم: "نجس! نجس!" (الاحبار 13: 34). ان البَرَص كالخطيئة تُعزلنا عن بعضنا، وعن الله بالذّات. هل يمكننا أن نتخيّل المعاناة العميقة لشخصٍ يتآكل جسديًّا وهو بالإضافة إلى ذلك، مُحتقَر ومنبوذ اجتماعيًّا؟

 

 كان الأَبرَص يعتبر نجساً: كل شيء يلمسه يتنجَّس، ولا يستطيع ان يشارك في العبادة ولا في الحياة الاجتماعية. وكان معزولا أي ممنوع الاقتراب منه، ولا يحقُّ لأي إنسان ان يلمسه. وكانت الأوساط اليهودية تحرم الأَبرَص من حقوقه المدنية مع عزله عن المجتمع كما جاء في الشريعة "ما دامَت فيه الإِصابة، يَكونُ نَجِساً، إِنَّه نَجِس. فلْيُقِمْ مُنفَرِداً، وفي خارِجِ المُخَيَّمِ يَكونُ مُقامُه " (الاحبار 13: 46)، لذلك يُنبذ الأَبرَص من الجماعة لحين شفائه وتطهيره الطقسي وتقديم ضحيَّة عن الخطيئة (الاحبار 13-14). وجاءت كلمات الحاخامات عن المصابين بالبَرَص تُعلن نظرتهم إليهم كأنهم موتى، ليس لهم حق الحياة وسط الجماعة المقدَّسة. ويعلق العلامة أوريجانوس على إقامة الأَبرَص خارج المحلة بقوله "كل دنس يلقي الإنسان خارج مجمع الأبرار، أنه ينفيه بعيدًا عن الجماعة ويعزله عن موضع القديسين أمَّا مناداته: نجساً نجساً، فإشارة إلى دنسه الداخلي ودنسه الخارجي، أو دنس النفس والجسد معًا". 

 

لا يحسب سيّدنا يسوع المسيح البَرَص "نجاسة" بل مَرضاَ. ولا يرى في المرض لعنة بل اختبارا. وينظر الى البَرَص كرمز للخطيئة التي تشوّه نفس الانسان، عقله وارادته وقلبه، حريته وضميره. الخطيئة التي إذا تملّكت في الجسد، استعبده لشهواته ولأهوائه. هذه العبودية بَرَص روحي واخلاقي يشوّه جمال النفس المخلوقة على صورة الربّ. ويعلق القمص تادرس يعقوب" إذ ينظر إلى البَرَص كرمز للخطية وثمر لها، حيث جاء الحكم على الأَبرَص أن تعلن نجاسته بقسوة إذ يفقده طعم الحياة ويعزله تمامًا عن الجماعة المقدَّسة". ويشفي يسوع بَرَص الخطيئة وشلل الأنانية ويفتح عين الإلحاد وأُذنَ اللامبالاة، وهو صاحب المعجزات الذي كان "يَشْفي الشَّعبَ مِن كُلِّ مَرَضٍ وعِلَّة" (متى 4: 23).

 

ج) البَرَص عقاب إلهي

 

البَرَص هو "التقرُّح" بالذات الذي يضرب (بالعبرية נֶגַע) الله به الخاطئين. كما اعتبره اليهود إعلان غضب اللّه على الخطأة. كان البَرَص بحسب الشريعة اليهودية يعتبر أقسى داء، ويمثل عقاب قاسي، فكان الأَبرَص يُحرم من أهله وأصدقائه ومجتمعه ويُعزل حتى يتمَّ شفائه.

 

وكان إسرائيل مُهدَّدٌ به (تثنية 28: 27 و35). وقد ضُرِب به المصريون (خروج 9: 9-11)، وكذلك مريم اخت موسى قد أصيبت بالبَرَص، لأنّ الله غضب عليها، إذ تكلّمت ضدّ موسى (عدد 12: 10-15)، وأصيب الملك عُزِّيّا بالبَرَص إذ خالف الربّ إلهه ودخل هيكل الربّ ليحرق البخور على مذبح البخور (2 أخبار 26: 19-23). فالبَرَص هو مبدئيا علامة الخطيئة، ومع ذلك إذا ضرب الله "الخادم" المتألم أي يسوع المسيح بحيث يأخذ الناس في التحول عنه كما عن الأَبرَص، لأنه، رغم براءته يحمل خطايا البشر الذين سوف يشفون بجراحه (أشعيا 53: 3-12). ومن هنا نبحث في موقف يسوع.

 

2) ما هو موقف يسوع من البَرَص؟

 

وقف يسوع من الأَبرَص موقف تضامن وموقف شفاء

 

أ) موقف تضامن

 

كان البَرَص في عهد المسيح من الامراض العُضَال وأشدها فتكاَ بالإنسان. وكان رؤساء اليهود يعتبرون معظم الامراض المُعدية نوعا من العقاب الالهي، وكانوا يُعلنون ان المصابين بالبَرَص نجسون، وكان معنى هذا أنهم لا يستطيعون الاشتراك في الانشطة الدينية والاجتماعية، لان شريعتهم تنص على ان لمْس نجسٍ يُنجِّسهم هم ايضا، بل إن البعض كانوا يلقون بالحجارة على البُرَص ليُبعدوهم عنهم مسافة كافية، وينبذونهم كما ورد في الشريعة "الأَبرَص الَّذي بِه إِصابة تكونُ ثِيابُه مُمَزَّقةً وشَعَرُه مَهْدولاً ويَتَلَثَّمُ على شَفَتَيه ويُنادي: نَجِس، نَجِس. ما دامَت فيه الإِصابة، يَكونُ نَجِساً، إِنَّه نَجِس. فلْيُقِمْ مُنفَرِداً، وفي خارِجِ المُخَيَّمِ يَكونُ مُقامُه" (الاحبار 13: 45-46). والسؤال هنا: لماذا تُشق ثياب الأَبرَص؟ كثيرون يخفون مرض جسدهم باهتمامهم بارتداء ملابس ثمينة وجميلة. لذلك حذَّرنا القديس يوحنا الذهبي الفم "من الرياء كون الثوب المزركش الذي تلبسه النفس المريضة يلهيها عن معالجة المرض الحقيقي الداخلي. وبينما يطلب فضح الجسد المريض بشق الثياب وكشف الرأس، إذ به يطلب تغطية الشاربين، أي الفم، فالنفس المُصابة ببَرَص الخطيئة يُلزمها أن تنصت للوصية ولا تعلم الآخرين".

 

وأتَّخذ يسوع موقفا مغايرا لرؤساء اليهود، إذ تعاطف مع الأَبرَص وتضامن معه وأشفق عليه. انه اخترق القانون ولمس الأَبرَص وتحدَّى الخطر المُحدِق به. لان قيمة الشخص الحقيقية هي في داخله وليست في خارجه، فبالرغم ان جسد الشخص قد يكون مصابا بأمراض او تشوُّهات، فهو في الداخل ليس بأقل قيمة في نظر المسيح، ولذا لا يستنكف يسوع ان يلمس أي شخصٍ اشمئزازاً منه. وهنا ندرك ان يسوع يتضامن مع الجميع خاصة المرضى كما جاء في تعاليمه "لَيسَ الأصِحَّاءُ بِمُحتاجينَ إِلى طَبيب، بَلِ المَرْضى" (متى 9: 12).  إنه شفي الأَبرَص (مرقس 1: 42)، وبشفائه انتصر يسوع على البَرَص بالذات، وألغي الحد الفاصل بين الطاهر والنجس، وأعاد ضمَّ الأَبرَص إلى الجماعة، وقدم مرقس الإنجيلي مثلا نموذجيا واحداً، وهو عمل "تطهير" أشبه بالانتصارات على الارواح النجسة (مرقس 1: 23)، إذ كان البَرَص يُعد نجاسة تُقصي المريض عن المجتمع (متى 8: 2). 

 

 وإن أمر يسوع بالتقدمات الشرعيَّة، فذلك من قبيل تقديم الشهادة: فيتحقق الكهنة من احترامه للشريعة، وفي الوقت نفسه، من قدرته على صنع الأعجوبة. إن شفاء البَرَص علامة على أن يسوع "هو المسيح الآتي" (متى 11: 5). ولأجل ذلك يعطي يسوع الاثنا عشر، الذين أوفدهم يسوع للرسالة، سلطة الشفاء، حتى يظهروا بهذه العلامة أن ملكوت السماوات قد اقترب كما جاء في توصياته "أَعلِنوا في الطَّريق أَنْ قَدِ اقتَرَبَ مَلَكوتُ السَّمَوات. اِشْفوا المَرْضى، وأَقيموا المَوتى، وأَبرِئوا البُرْص، واطرُدوا الشَّياطين. أَخَذتُم مَجَّاناً فَمَجَّاناً أَعطوا"(متى 10: 8). وهكذا جعل يسوع من شفاء المرضى والبُرص علامة هامة في رسالة الكنيسة. والجدير بالذكر ان من بين كل أنواع المرض التي شفَاها المسيح، كان عدد الذين شفاهم من البَرَص أكبر من أي عدد آخر.  

 

وشكّل المسيح قدوة في أعمال التضامن والتفاني مع البُرَص. وكانت الكنيسة دائمًا وفيّة لرسالتها التي تتضمّن التبشير بكلام المسيح، ومتّحدة مع الأعمال الملموسة للرحمة المتضامنة تجاه الأشخاص الأكثر تواضعًا خاصة تجاه أولئك المُصابين بالأمراض التي كانت تعتبر الأكثر إثارة للاشمئزاز. لقد أظهر التاريخ بوضوح واقعة أنّ المسيحيّين كانوا أوّل مَن اهتمّ بمشكلة البَرَص.

 

ونستنتج مما سبق ان الله سبحانه وتعالى ليس قاسي القلب، ولا يحجب أحداً عن رحمته، وليس بعيداً عنا. إنه قمة العطف والرأفة والحنان؛ ولا يشترط علينا إلا ان نعلن له عن حاجتنا، وان نستجدي منه الرحمة والغفران، شانه شأن كل طبيب لا يقبل على معالجة المريض بغير رضاه، ولا يصف للمريض دواءً، ما لم يُعلن المريض عن شكواه.

 

ب) موقف شفاء

 

كانت حالة شفاء الأَبرَص من النوع الذي لا يمكن تفسيره على اساس الايحاء او ما يُسمى شفاء الايمان. ان الشفاء الذي يُجريه يسوع هو شفاء حقيقي يُعيد الانسان الى عالم الصحة الذي نتوق اليه كلنا. لكن خدمة الشفاء هذه تخفي عمل الانجيل الروحي الاساسي. وكان الشفاء من البَرَص يُنسب إلى الله لكونه عسر الشفاء تقصر عنه القوى البشرية (2 ملوك 5: 7) الذي يُعطي هذا السلطان أيضًا لأنبيائه (عدد 12: 9-14). إن إبرائه الأَبرَص دليل على قوة يسوع الإلهية، إذ بين كل ما ذُكر في كتب اليهود الطبِّية من أدوية ومعالجات للأمراض كافة، لا يُذكر علاجٌ لمرض البَرَص، لأنهم تأكدوا أنه عديم الشفاء إلا بمعجزة إلهية.

 

وتغلب يسوع على نجاسة البَرَص المُعدية التي كانت تُعد عقوبة إلهيَّة بكل معنى الكلمة (تثنية الاشتراع 28: 27 و35)، وعلامة للخطيئة التي تفصل عن الجماعة (احبار 13)، وحيث ان البَرَص يُعتبر رمزا الى الخطيئة كان شفاء المسيح ذلك المرض الجسدي رمزا الى عمله الأعظم أي شفاء مرض النفس الذي هو الخطيئة. وبين كل أنواع المرض التي شفَى المسيح منها، كان عدد الذين شفاهم من البَرَص أكبر من أي عدد آخر.

 

 وبهذا الشفاء ألغي يسوع الحدود بين الطاهر والنجس، فأعطى لذلك آية لرسالته (متى 11: 5، ومرقس 1: 40).  لذا يضيف كلّ من إنجيل متى (11: 5) وإنجيل لوقا (7: 22) عبارة "البُرصُ يُطهّرون"، على لائحة الأعمال التي يقوم بها المسيح في الأيّام الأخيرة، التي يوردها أشعيا النبي (أشعيا 35: 5-6). فكان الشفاء من البَرَص يدلُّ على اقتراب ملكوت الله، وهو في عداد نِعم الأزمنة المسيحانية (متى 10: 8). ويعلق الراهب الاسقف البندكتي ابان مور "يجب ألا تفقد الثقة بالله ولا تيأس من رحمته. لا أريدك أن تشكّ أو تيأس من أنّه يمكنك أن تغدو أفضل".

 

وقبل شفاء الأَبرَص جسديا " مَدَّ يسوع يَدَه " نحوه ولمسه كعلامة لخلاص الربّ كما يترنَّم صاحب المزامير "تمدّ يدك فتخلّصني يمينُك" (مزمور 138: 7)، وهذه الحركة تتردَّد في سفر الخروج، وبه يخلّص الله شعبه (خروج 3: 5؛ 7: 5)؛ إنّه الله الذي يتابع عمله في تاريخ الإنسان على النحو ذاته. إنّه عمل خلاصيّ يقوم به يسوع الآن تجاه الأَبرَص، إنه يلمس "النَجِس" الذي لا يجرؤ أحد على الاقتراب منهُ بسبب الخوف أو الاشمئزاز، وهذا ما فعله القديس فرنسيس الأسيزي الذي في سعيه لمقاومة شعوره بالنفور تجاه الأَبرَص الذي التقاه، عاد على أعقابهِ ليُقبّلهُ. وبهذه الطريقة شفى يسوع أولًا قلب الأَبْرَص وروحهُ إذ جعله يشعر بأنّه هو أيضًا ثمين في نظَر الله، وأنّهُ لم يعُدْ منبوذًا او غير مقبول ومُبعد. فهدم يسوع بمدِّ يديه الحواجز القائمة بين الطاهر والنجس وأعاد المُعوزين والمُبعدين الى ذويهم ومجتمعهم وجماعتهم الدينية. فكانت لمسة يسوع تشفي الجسد، ولكن كلامه يشفي الروح وتهدم الحواجز. هذه هي البشرى السارة، بشارة الانجيل، ان يسوع يخاطر بحياته لأجل كل انسان مريضٍ وضائعٍ ومبعدٍ وخاطئٍ ليُنقذه وليُعيد إليه الشفاء والحياة والرجاء.

 

يقترب الربّ يسوع من الأَبرَص، ليواسيه ويشفيه، ولكن الأَبرَص لم يطعْ يسوع بل أَخَذَ يُنادي بِأَعلى صَوتِه ويُذيعُ الخَبَر، فدفع يسوع الثمن، فوضع نفسه في مكانه، وصار كأَبرَص يُقيمُ في أَماكِنَ مُقفِرَة خارج المدينة منبوذا ومرفوضا. فحوّل المكان المُقْفِر الى مكان آهل بالناس "والنَّاسُ يَأتونَه مِن كُلِّ مَكان"، ومكان الهلاك الى مكان شفاء وخلاص.  

 

إنّ مبادرة يسوع اللطيفة لدى اقترابه من البُرص لمواساتهم وشفائهم تجد تفسيرها الكامل والغامض في آلامه. ويعلق الطوباوي يوحنّا بولس الثاني " في آلام المسيح، وسط عذاباته وتشوّه صورة وجهه بالعرق الممزوج دمًا، وفي وسط الجلد وإكليل الشوك فالصلب، وسط تخلّي الناس عنه بعدما نسوا كلّ أعماله الحسنة، يتشبّه المسيح بالأَبرَص، ويصبح صورةً عنهم ورمزًا لهم؛ لقد سبق للنبي أشعيا أن تنبّأ عن آلام الربّ من خلال تأمله بسرّ عبد الله المتألّم حين قال عنه: "لا صورَةَ لَه ولا بَهاءَ فنَنظُرَ إِلَيه ولا مَنظَرَ فنَشتَهِيَه. مُزدَرًى ومَتْروكٌ مِنَ النَّاس رَجُلُ أَوجاعٍ وعارِفٌ بِالأَلَم ومِثلُ مَن يُستَرُ الوَجهُ عنه مُزدَرًى فلَم نَعبَأْ بِه. لقَد حَمَلَ هو آلاَمَنا وآحتَمَلَ أَوجاعَنا فحَسِبْناه مُصاباً مَضْروباً مِنَ اللهِ ومُذَلَّلاً" (أشعيا53: 2–4). ولكن من جروحات جسد المسيح المعذّب بالذات ومن قوّة القيامة تفيض الحياة والأمل لكلّ الناس المُصابين بالسوء والعاهات والخطايا والامراض المُستعصية" (عظة في لقاء للشبيبة). ويدعونا الأَبرَص اليوم الى الشفاء والخلاص من خلال توسُّلنا وكشف نفوسنا وآلامنا وأمراضنا للمسيح المُخلص. لوا يزال يسوع يصنع العجائب، في كل يوم وظرف ومناسبة. فليس المرض – كورونا او غيرها -الّذي يُقرِّرُ المصير النهائي، بل يسوع برحمته الإلهية.

 

الخلاصة

 

نميِّز بين البَرَص الجسدي والروحي. فالبَرَص الجسدي هو الذي يملأ الجسد جروحا وقروحا وينخر العظام واما البَرَص الروحي فهو بَرَص الخطيئة. والخطيئة بَرَص روحي قاتل، يملأ النفس نجاسة ورجاسة وفسادا. وحين شفى يسوع الأَبرَص الذي كان نجسا ومبُعدا عن الجماعة، شفاه جسديا وحررَّه روحياً، وبذلك أعلن رفضه لاستبعاد أي إنسان وتهميشه، لان لكل انسان كرامته. إن قيمة الشخص الحقيقية هي في داخله وليست في خارجه، فرغم أن جسد الشخص قد يكون مصابا بأمراض او تشوهات، فهو من الداخل ليس أقل قيمة في نظر الله.

 

ونحن جميعنا بُرص لأننا جميعنا قد تشوهنا بقبح الخطيئة، ولكن الله أرسل ابنه فلمسنا ومنحنا الفرصة للشفاء. اليوم لنا فرصة اللقاء بالمسيح حيث إنه يدنو منا برحمته وشفقته. وليس لنا سبيل للشفاء الاَّ ان ندنو بدورنا من يسوع كما دنا منه أَبرَص الانجيل ونطلب شفاء لمن له القدرة على الشفاء، وكلنا ايمان بسلطان يسوع على بَرَص الخطيئة وشفاء الجسد والنفس والروح. ويسوع لا يشترط علينا الاَّ ان نعلن حاجتنا ونطلب الرحمة والغفران والشفاء شأن كل طبيب حكيم لا يُقبل على معالجة مرضاه بغير رضاه. فلنقل له مع الأَبرَص" أَنتَ قادِرٌ على أَن تُبرِئَني".

 

ويدعونا يسوع بشفائه الأَبرَص ان نقبل قبول جميع الذين يعانون من أي نوع من الإقصاء، ويعلق البابا فرنسيس "إن يسوع بشفائه الأَبرَص لم يتسبب في أي ضرر لمن هو سليم، بل على العكس قد حرّره من الخوف؛ لم يقدِّم له أي خطر، بل منحه أخا؛ لم يزدري بالشريعة إنما قدَّر الإنسان الذي من أجله أٌعطيت الشريعة". "مَن قالَ إِنَّه مُقيمٌ في (المسيح) وَجَبَ علَيه أَن يسِيرَ هو أَيضًا كما سارَ يَسوع" (1 يوحنا 2: 6).

 

شفاء الأَبرَص هي إشارة الى شفاء يسوع له، شفاء حقيقي يُعيد الانسان الى عالم الصحة الذي نصبو إليه كلنا. ولكن له أيضا بُعد رمز رمزي روحي: حين يشفى يسوع الأَبرَص الذي كان نجسا ومبعداً عن الجماعة دلالة على تحرير روحي حمله الى هذا المريض، كما أعلن رفضه لاستبعاد أي إنسان وتهمشيه، لان لكل إنسان كرامته.   

 

إن علامتنا الفارقة هي استعدادنا الكامل لخدمة الآخرين. وفي خدمتنا للآخرين يكمن عنوان شرفنا الأوحد! لنتساءل مَن هو الأَبرَص الذي أتجنّبهُ في حياتي، الذي لا أُخاطبهُ بكلمة، والذي قطعتُ كلّ علاقة معهُ؟ هل أنا مستعد أن ألمس أخي أو أختي المصابين بالمرض والذين لا أكترث بهم، وأن أتعاطف معهم وأرغب في مسامحتهم؟

 

دعاء

 

أيها الآب السماوي، نطلب اليك، باسم يسوع ابنك الحبيب، إيمان الأَبرَص لأنك أنت القادر على منحنا نعمة الشفاء الكاملة من كل ما نعاني منه من امراض جسدية ونفسية وروحية، لكي نقوم بدورنا بمد يد المساعدة للآخرين دون ان نستنكف اشمئزازا من اي شخص، بل ان نرى فيه خليقة الله المباركة ونساعده كأخٍ كي يتخلص من شر خطيئة والمرض، فنشعر حقا أنك، أيها الاله، تعمل معنا وفينا، لك المجد والإكرام والقدرة ابد الدهور. آمين

 

قصة: أَبرَص مازال على قيد الحياة

 

في مستشفى خاص بمرضى البَرَص، أثار فضول إحدى الراهبات الممرضات رجل كان قد تآكل وجهه تقريبًا بهذا المرض، وبقيَ بالرغم من ذلك يحتفظ بابتسامة مُشرقة. وفي سعيها لمعرفة سرّهِ، اكتشفت الراهبة أنّ هذا الأَبرَص يذهب كلّ يوم، بعد الغذاء إلى موضع حيث يصعد على بعض الحجارة لينظر من فوق السور. وكان يبقى في هذه الوضعية لمدّة عشر دقائق ثم ينزل وقد أضاءت وجهه ابتسامة مُشرقة. وعندما سألته الراهبة عن ذلك، أجابها بأنّ زوجته – التي اعتنت به حتى لم يعُد ذلك ممكنًا – تأتي لتراه كلّ يوم. وأضاف "إنّ حبُّها الذي يجعلني أعلم بأنّني ما زلتُ على قيد الحياة". ويحثُنا بولس الرسول " لِيَحمِلْ بَعضُكم أَثْقالَ بَعض وأَتِمُّوا هكذا العَمَلَ بِشَريعةِ المسيح " (غلاطية 6: 2) وفي مكان آخر يقول " أُناشِدُكم، أَنا السَّجينَ في الرَّبّ، أَن تَسيروا سيرةً تَليقُ بِالدَّعوَةِ الَّتي دُعيتُم إِلَيها، سيرةً مِلؤُها التَّواضُعُ والوَداعَةُ والصَّبْر، مُحتَمِلينَ بَعضُكُم بَعضًا في المَحبَّة " (أفسس 4: 2).

 

قصة: أَبرَص يَشفي القدّيس فرنسيس  

 

في يوم من الأيّام، بينما كان فرنسيس الشاب يمتطي حصانه قُرب مدينة أسيزي، أقبل إليه أَبرَص. وكان فرنسيس على عادته يرتعب من مرضى البَرَص. لهذا، غالب نفسه وترجّل عن مطيته وأعطى الأَبرَص قطعة من الفضة مقبّلاً يده في آنٍ معًا. وبعد أن تلقّى من الأَبرَص قبلة السلام، عاد وامتطى حصانه ومضى متابعًا سيره. من تلك اللحظة، بدأ فرنسيس يتغلّب على نفسه حتّى حقّق انتصارًا كاملاً على نفسه بفضل الله.

 

وبعد بضعة أيّام، توجّه القدّيس فرنسيس إلى مأوى مرضى البَرَص متزوّدًا بكميّة كبيرة من المال، وبعد أن جمعهم حوله، تصدّق على كلٍّ منهم بقطعة نقديّة مقبّلاً أيديهم. وبعد عودته، شُفي مِمّا كان يبدو له مريرًا – أي خوفه من رؤية أو لمس أيّ أَبرَص– وتحوّل إلى عذوبة وحلاوة. فقد كانت رؤيته البَرَص، كما كان يحدث له أن يقول، مؤلمة لدرجة أنّه كان يرفض أن يراهم، لا بل كان أيضًا يرفض حتّى الاقتراب من مقرّهم. وإن كان يصدف له أن يراهم أحيانًا أو أن يمرّ من أمام بيت البَرَص، كان يشيح بوجهه بعيدًا عنه سادًّا أنفه. لكن نعمة الله جعلته ملازمًا لمرضى البَرَص إلى درجة أنّه، كما شهد في وصيّته، كان ينزل بينهم ويخدمهم بكلّ تواضع. فكان لزيارته إلى مرضى البَرَص الأثر الكبير في تحوّله. (سيرة حياة القدّيس فرنسيس الأسيزي كما رواها ثلاثة من رفاقه، 11).