موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (متى 16: 13-20)
13 ولَمَّا وصَلَ يسوعُ إِلى نواحي قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس سأَلَ تَلاميذَه: ((مَنِ ابنُ الإِنسانِ في قَولِ النَّاس؟)) 14 فقالوا: ((بَعْضُهم يقول: هو يوحَنَّا المَعمَدان، وبَعضُهمُ الآخَرُ يقول: هو إِيليَّا، وغيرُهم يقول: هو إِرْمِيا أَو أَحَدُ الأَنبِياء)). 15 فقالَ لَهم: ((ومَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟)). 16 فأَجابَ سِمعانُ بُطرس: ((أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ)). 17 فأَجابَه يسوع: ((طوبى لَكَ يا سِمعانَ بْنَ يونا، فلَيسَ اللَّحمُ والدَّمُ كشَفا لكَ هذا، بل أَبي الَّذي في السَّمَوات. 18 وأَنا أَقولُ لكَ: أَنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ هذا سَأَبني كَنيسَتي، فَلَن يَقوى عليها سُلْطانُ الموت. 19 وسأُعطيكَ مَفاتيحَ مَلَكوتِ السَّمَوات. فما رَبَطتَهُ في الأَرضِ رُبِطَ في السَّمَوات. وما حَلَلتَه في الأَرضِ حُلَّ في السَّمَوات). 20ثُمَّ أَوصى تَلاميذَه بِأَلاَّ يُخبِروا أَحَداً بِأَنَّهُ المسيح.
مُقَدِّمَةٌ
يُسَلِّطُ النَّصُّ الإِنْجِيلِيُّ الضَّوْءَ عَلَى شَهَادَةِ بُطْرُسَ، بِاسْمِ الرُّسُلِ، فِي الإِيمَانِ بِلَاهُوتِ الْمَسِيحِ، كَمَا يُبْرِزُ كَيْفَ أَنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ نَصَّبَهُ رَئِيسًا لِلكَنِيسَةِ، مُفَوِّضًا إِيَّاهُ إِدَارَتَهَا الْخَارِجِيَّةَ كَنَائِبٍ لَهُ عَلَى الأَرْضِ، وَمُكَلِّفًا إِيَّاهُ بِرِعَايَتِهَا الرُّوحِيَّةِ (رَاجِعْ يُوحَنَّا 21: 15–17). وَيَهْدِفُ هٰذَا التَّكْلِيفُ الإلهي إِلَى ضَمَانِ وَحْدَةِ الْكَنِيسَةِ وَرُسُوخِهَا، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِ الرَّبِّ: "مَنْ سَمِعَ كَلَامِي وَعَمِلَ بِهِ يُشْبِهْ رَجُلًا عَاقِلًا بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ" (مَتَّى 7: 24). وَفِي هٰذَا السِّيَاقِ، يُؤَكِّدُ القِدِّيسُ أوغسطينوس دَوْرَ بُطْرُسَ قَائِلًا: "بُطْرُسُ، الَّذِي يُمَثِّلُ الْكَنِيسَةَ بِأَسْرِهَا، تَقَبَّلَ مِفْتَاحَ الْمَلَكُوتِ. فَإِذَا كَانَ بُطْرُسُ هُوَ الصَّخْرَةَ، فهذا لأَنَّهُ شَخْصُ الْوَحْدَةِ" (العِظَةُ ٢٩٥، حَوْلَ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا). وَيُرَكِّزُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ عَلَى أَنَّ بُطْرُسَ نَالَ هٰذِهِ الْكَرَامَةَ لِحِكْمَتِهِ وَحِمَايَتِهِ لِلإِيمَانِ، فَيَقُولُ: "لِمَاذَا يُذْكَرُ بُطْرُسُ أَوَّلًا؟ لِأَنَّهُ كَانَ أَكْثَرَهُمْ غَيْرَةً، وَالأَوْثَقَ فِي الإِيمَانِ، وَرَئِيسَ الْجَمَاعَةِ" (تفسير إنجيل متى، العظة 54:3). وَمِنْ هُنَا تَنْبُعُ أَهَمِّيَّةُ التَّوَقُّفِ عِنْدَ وَقَائِعِ هٰذَا النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ، وَتَأَمُّلِ أَبْعَادِهِ وَتَطْبِيقَاتِهِ فِي حَيَاةِ الْكَنِيسَةِ الْيَوْمَ.
أولا: وقائع النص الإنجيلية (متى 16: 13-20)
13 ولَمَّا وصَلَ يسوعُ إِلى نواحي قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس سأَلَ تَلاميذَه: ((مَنِ ابنُ الإِنسانِ في قَولِ النَّاس؟ ))
تَشِيرُ عِبَارَةُ "نَوَاحِي" فِي الأَصْلِ الْيُونَانِيِّ μέρη (وَمَعْنَاهَا: إِقْلِيمٌ)، إِلَى مَنْطِقَةٍ لَهَا وَحْدَةٌ سِيَاسِيَّةٌ وَإِدَارِيَّةٌ. أَمَّا عِبَارَةُ "قَيْصَرِيَّةِ فِيلِبُّسَ"، فَتَشِيرُ إِلَى مَدِينَةٍ بُنِيَتْ عِنْدَ يَنَابِيعِ الأُرْدُنِّ، عِنْدَ سَفْحِ جَبَلِ حَرْمُون (جَبَلِ الشَّيْخِ)، عَلَى بُعْدِ 32 كيلُومِتْرًا شِمَالِيَّ بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ، قُرْبَ الحُدُودِ اللُّبْنَانِيَّةِ. وَقَدْ كَانَتْ تُدْعَى قَدِيمًا "بَعْلَ جَادٍ" (أَيْ إِلٰهَ الْحَظِّ) (يَشُوعَ 11: 17). ثُمَّ أَطْلَقَ عَلَيْهَا الْيُونَانِيُّونَ اسْمَ "بَانْيُون" نِسْبَةً إِلَى إِلٰهٍ مِنْ آلِهَتِهِمْ يُدْعَى "بَانْ"، وَمِنْهُ انْبَثَقَ اسْمُهَا الْحَالِيُّ: بَانْيَاس. وَقَدْ أَعْطَى أوغسطس قَيْصَر هٰذِهِ الْمَدِينَةَ إِلَى هِيرُودُسَ سَنَةَ 20 ق.م.، فَبَنَى فِيهَا مَعْبَدًا مِنَ الرُّخَامِ الأَبْيَضِ عَلَى اسْمِ الإِمْبِرَاطُورِ قَيْصَر، وَكَانَ يُدْعَى فِي هٰذَا الْمَكَانِ: ابْنَ الإِلٰهِ. وَفِي سَنَةِ 2 أَوْ 3 ق.م.، جَدَّدَ هِيرُودُسُ فِيلِبُّسُ، رَئِيسُ الرُّبْعِ وَابْنُ هِيرُودُسَ الْكَبِيرِ، بِنَاءَ الْمَدِينَةِ، وَوَسَّعَهَا، وَزَيَّنَهَا، وَغَيَّرَ اسْمَهَا مِنْ قَيْصَرِيَّةَ إِلَى قَيْصَرِيَّةِ فِيلِبُّسَ، إِكْرَامًا لِقَيْصَر طِيبِيرِيُوس، إِمْبِرَاطُورِ رُومَا، وَأُضِيفَتْ إِلَيْهِ لِتَمْيِيزِهَا عَنْ قَيْصَرِيَّةِ الْبَحْرِيَّةِ (أَيْ: سْتْرَاتُونِيس) الْوَاقِعَةِ عَلَى السَّاحِلِ الْغَرْبِيِّ لِلْبَحْرِ الأَبْيَضِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ يَافَا وَعَكَّا، وَالَّتِي كَانَتْ آنَذَاكَ مَرْكَزَ الْحُكُومَةِ الرُّومَانِيَّةِ (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 23: 33). ثُمَّ أَطْلَقَ عَلَيْهَا هِيرُودُسُ أَغْرِيبَّا اسْمَ نِيرُونِيَاس، إِكْرَامًا لِلإِمْبِرَاطُورِ نِيرُون. وَكَانَتْ قَيْصَرِيَّةُ فِيلِبُّسَ آخِرَ الْمُدُنِ الَّتِي زَارَهَا الْمَسِيحُ فِي جِهَةِ الشِّمَالِ فِي فِلِسْطِينَ (مَرْقُس ٨: ٢٧). وَصَارَتْ فِي مَا بَعْدُ مَرْكَزًا أُسْقُفِيًّا، وَلا تَزَالُ فِيهَا آثَارٌ مُهِمَّةٌ. وَكَانَ هٰذَا الْمَكَانُ مُنَاسِبًا لِأَنْ يُوَجِّهَ يَسُوعُ سُؤَالَهُ إِلَى تَلَامِيذِهِ: "مَن أَنَا فِي قَوْلِ النَّاسِ؟"، لِيُزِيلَ مِنْ أَذْهَانِهِمْ أَنَّ الْقَيْصَرَ هُوَ ابْنُ الإِلٰهِ، وَلِيَكْشِفَ لَهُمْ حَقِيقَةَ ذَاتِهِ وَرِسَالَتِهِ: "إِنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ" (مَتَّى ١٦: ١٥). أَمَّا عِبَارَةُ "ابْنُ الإِنْسَانِ"، فَتُشِيرُ إِلَى يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي هُوَ إِنْسَانٌ مِثْلَ سَائِرِ النَّاسِ، كَمَا وَرَدَ فِي حِزْقِيَال: "يَا ابْنَ الإِنْسَانِ" (حِزْقِيَال 2: 1). وَهُوَ أَيْضًا ذَاكَ الآتِي عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ فِي الْيَوْمِ الآخِرِ، لِيَدِينَ الْخَاطِئِينَ وَيُخَلِّصَ الأَبْرَارَ (دَانِيال 7: 13). وَقَدْ وَرَدَ لَقَبُ "ابْنُ الإِنْسَانِ" لِيَسُوعَ فِي الأَنَاجِيلِ فَقَط، وَعَلَى لِسَانِهِ هُوَ، مَا عَدَا مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا فِي سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ (7: 56)، وَالأُخْرَى فِي سِفْرِ الرُّؤْيَا (1: 13 وَ14: 14). وَأَطْلَقَتِ الْجَمَاعَةُ الْمَسِيحِيَّةُ الأُولَى هٰذَا اللَّقَبَ عَلَى يَسُوعَ لِتُبَيِّنَ أَنَّهُ يَسْتَبِقُ الدَّيْنُونَةَ بِسُلْطَانِهِ، مُخَلِّصًا الْخَاطِئِينَ (مَتَّى 9: 6)، وَفَاتِحًا الزَّمَنَ الْمَسِيحَانِيَّ (مَتَّى 12: 8). وَهٰذَا اللَّقَبُ، بِارْتِبَاطِهِ بِالْوَصْفِ النَّبَوِيِّ لِعَبْدِ اللهِ الْمُتَأَلِّمِ، يُوَحِّدُ بَيْنَ الصَّلِيبِ وَالْمَجْدِ (مَرْقُس 8: 31). أَمَّا عِبَارَةُ "مَنِ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَوْلِ النَّاسِ؟"، فَتُشِيرُ إِلَى سُؤَالِ يَسُوعَ حَيْثُ يَسْتَجْوِبُ فِيهِ التَّلَامِيذَ حَوْلَ هُوِيَّتِهِ الشَّخْصِيَّةِ، مِمَّا يُلَمِّحُ إِلَى اهْتِمَامِهِ بِمَا يَقُولُهُ النَّاسُ عَنْهُ، لا شَكًّا فِي نَفْسِهِ، بَلْ اسْتِطْلَاعًا لِأَفْكَارِهِمْ وَنُضْجِ إِيمَانِهِمْ.
14 فقالوا: ((بَعْضُهم يقول: هو يوحَنَّا المَعمَدان، وبَعضُهمُ الآخَرُ يقول: هو إِيليَّا، وغيرُهم يقول: هو إِرْمِيا أَو أَحَدُ الأَنبِياء)).
تَشِيرُ عِبَارَةُ "فَقالوا" إِلَى تَعْدَادِ التَّلَامِيذِ لِلآرَاءِ الَّتِي سَبَقَ أَنْ نُقِلَتْ إِلَى هِيرُودُسَ حَوْلَ ابْنِ الإِنْسَانِ (لوقا ٩: ٧–٨). وَهٰذِهِ الآرَاءُ تَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي الْقَرِيبِ إِلَى حَدٍّ مَا: إِيلِيَّا وَإِرْمِيا وَيُوحَنَّا الْمَعْمَدَان (مَتَّى 16: 16). أَمَّا عِبَارَةُ "يُوحَنَّا الْمَعْمَدَان"، فَتُشِيرُ إِلَى ذِكْرِهِ الَّذِي ظَلَّ عَالِقًا فِي قُلُوبِ الْكَنِيسَةِ الأُولَى، لِأَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ اعْتَقَدُوا أَنَّ إِيلِيَّا قَدْ عَادَ فِي شَخْصِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَان (مَرْقُس 11: 13). وَقَدْ يَشِيرُ ذٰلِكَ أَيْضًا إِلَى رَأْيِ هِيرُودُسَ أَنْتِيبَاس، أَمِيرِ الرُّبْعِ، الَّذِي سَمِعَ بِذِكْرِ يَسُوعَ، "فَقالَ لِحَاشِيَتِهِ: هٰذَا يُوحَنَّا الْمَعْمَدَان، إِنَّهُ قامَ مِن بَيْنِ الأَمْوَات، وَلِذٰلِكَ تَعْمَلُ فِيهِ الْقُدْرَةُ عَلَى إِجْرَاءِ الْمُعْجِزَاتِ" (مَتَّى 14: 2). وَفِي إِنْجِيلِ لُوقَا: "كَانَ الشَّعْبُ يَنْتَظِر، وَكُلٌّ يَسْأَلُ نَفْسَهُ عَنْ يُوحَنَّا: هَلْ هُوَ الْمَسِيحُ؟" (لوقا 3: 15). أَمَّا عِبَارَةُ "إِيلِيَّا"، فَتُشِيرُ إِلَى ابْنِ الإِنْسَانِ كَإِيلِيَّا النَّبِيِّ الَّذِي رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ (2 ملوك 2: 11–13)، إِذْ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا يَتَوَقَّعُونَ مَجِيئَهُ قَبْلَ مَجِيءِ الْمَسِيحِ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ، اسْتِنَادًا إِلَى نُبُوءَةِ مَلاخِي: "هَاءَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمُ الرَّبِّ الْعَظِيمُ الرَّهِيبُ" (مَلاخِي 3: 23). فَالْعَالَمُ الْيَهُودِيُّ كَانَ يَنْتَظِرُ مَجِيئَهُ كَآيَةٍ نِهَائِيَّةٍ. أَمَّا عِبَارَةُ "إِرْمِيا"، فَتَدُلُّ عَلَى إِرْمِيا النَّبِيِّ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي الْيَهُودِيَّةِ مُنْذُ سِتِّ مِئَةِ سَنَةٍ قَبْلَ الْمِيلَادِ، وَقَدْ نُبِّئَ عَنْهُ فِي التَّوْرَاةِ: "يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلٰهُكَ نَبِيًّا مِثْلِي مِنْ وَسَطِكَ، مِنْ إِخْوَتِكَ، فَلَهُ تَسْمَعُونَ" (تَثْنِيَةُ الاِشْتِرَاعِ 18: 15). وَلِذٰلِكَ زَادَهُ مَتَّى الإِنْجِيلِيُّ فِي اللَّائِحَةِ، إِظْهَارًا لِعِظَمِ تَرَاثِ النُّبُوَّةِ فِي تَارِيخِ الْخَلاص. أَمَّا عِبَارَةُ "أَحَدُ الأَنْبِيَاءِ"، فَتُشِيرُ إِلَى أَحَدِ الأَنْبِيَاءِ الأَوَّلِينَ، قَامَ مِنَ الْمَوْتِ، وَذٰلِكَ لِاعْتِبَارِ يَسُوعَ نَبِيًّا، كَمَا يَشْهَدُ عَلَى ذٰلِكَ: مَتَّى (21: 11)، وَمَرْقُس (6: 15)، وَلُوقَا (7: 16). فَمُوسَى نَبَّأَ أَنَّ نَبِيًّا مِثْلَهُ سَيَأْتِي لِلشَّعْبِ (تَثْنِيَة 18: 15). وَبِكَلِمَةٍ، اعْتَبَرَ النَّاسُ يَسُوعَ أَنَّهُ مِنْ عُظَمَاءِ الرِّجَالِ. وَهٰذَا مَا يَقُولُهُ الْكَثِيرُونَ إِلَى الْيَوْمِ: أَنَّ يَسُوعَ رَجُلٌ نَادِرٌ، لا مَثِيلَ لَهُ. وَلَكِنَّ كَلِمَةَ "نَبِيٍّ" تَأْخُذُ مَعْنَاهَا الْكَامِلَ فِي الإِيمَانِ الْمَسِيحِيِّ. إِنَّ يَسُوعَ قَدْ جَاءَ فِي خَطِّ الأَنْبِيَاءِ، وَلَكِنْ مَا يَطْلُبُهُ يَسُوعُ يُفَارِقُ مَا طَلَبَهُ الأَنْبِيَاءُ؛ فَهُوَ لا يَطْلُبُ تَعَلُّقًا بِتَعْلِيمِهِ فَقَط، بَلْ بِشَخْصِهِ. فَالنَّبِيُّ يَحْمِلُ الْكَلِمَةَ، أَمَّا يَسُوعُ فَهُوَ الْكَلِمَةُ بِنَفْسِهِ (اللُّوجُوس). وَإِنْ كَانَ الأَنْبِيَاءُ يُعْتَبَرُونَ حَلَقَةَ وَصْلٍ يَسِيرُ بِهِمُ اللهُ فِي التَّارِيخِ نَحْوَ كَمَالِهِ، فَإِنَّ الْمَسِيحَ هُوَ مَنْ بِهِ نَبْلُغُ الْكَمَالَ، وَهُوَ الْكَمَالُ نَفْسُهُ، كَمَا صَرَّحَ: "أَنَا الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ" (يُوحَنَّا 14: 6). يَرَى التَّلَامِيذُ فِي يَسُوعَ شَخْصِيَّةً عَظِيمَةً وَمُتَمَيِّزَةً، وَيُسْقِطُونَ عَلَيْهِ مَلَامِحَ مَنْ سَبَقُوهُ، فَيَرَوْنَ فِيهِ ذَاتَ الأَعْمَالِ، وَذَاتَ الْمَوَاقِفِ، وَذَاتَ الْكَلِمَةِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا أَنْبِيَاءُ اللهِ عَبْرَ التَّارِيخِ. وَالسُّؤَالُ الْجَوْهَرِيُّ هُوَ: نَحْنُ، كَيْفَ نَنْظُرُ إِلَى الْمَسِيحِ؟ هَلْ نَنْظُرُ إِلَيْهِ كَنَبِيٍّ بَيْنَ أَنْبِيَاءَ آخَرِينَ؟ أَمْ نُؤْمِنُ أَنَّهُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ، وَالرَّبُّ، وَالْمُخَلِّصُ، وَكَلِمَةُ اللهِ الْمُتَجَسِّدُ، الَّذِي بِهِ وَلَهُ وَلأَجْلِهِ خُلِقَ كُلُّ شَيْءٍ؟
15فقالَ لَهم: ((ومَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟))
تَشِيرُ عِبَارَةُ "وَمَن أَنا في قَوْلِكُم أَنتُم؟" إِلَى سُؤَالِ يَسُوعَ الْمُوَجَّهِ إِلَى تَلَامِيذِهِ عَنْ رَأْيِهِمِ الْخَاصِّ، لِكَيْ يَكْشِفَ عَنِ الْمَكَانَةِ الَّتِي يَحْتَلُّهَا فِي قُلُوبِهِم. وَهِيَ المرَّةُ الأُولَى الَّتِي يَتَحَدَّى فِيهَا يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ بِصُرَاحَةٍ، وَيَطْلُبُ مِنْهُمْ أَنْ يُعَبِّرُوا بِوُضُوحٍ عَنْ إِيمَانِهِمِ الشَّخْصِيِّ بِهِ. فَبَعْدَ أَنْ طَرَحَ عَلَيْهِمِ السُّؤَالَ فِي مُسْتَوَاهُ الْعَامِّ: "مَنِ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَوْلِ النَّاسِ؟"، نَقَلَ يَسُوعُ السُّؤَالَ إِلَى مُسْتَوًى شَخْصِيٍّ وَدَاخِلِيٍّ: "وَأَنْتُم، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟" وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الْكَبِيرُ عَلَى هٰذَا الْمَوْقِفِ قَائِلًا: "إِنَّ يَسُوعَ كَانَ يُهَيِّئُ تَلَامِيذَهُ لِلآلَامِ، حَتَّى لَا يَتَشَكَّكُوا فِيهِ." فَالسَّيِّدُ الْمَسِيحُ يَهْتَمُّ جِدًّا بِكَيْفِيَّةِ مَعْرِفَتِنَا لَهُ نَحْنُ خَاصَّتَهُ. فَالإِيمَانُ لَيْسَ قَرَارًا يُبْنَى عَلَى أَكْثَرِيَّةٍ أَوْ عَلَى مَا يَقُولُهُ النَّاسُ، بَلْ عَلَى قَنَاعَةٍ شَخْصِيَّةٍ نَابِعَةٍ مِنَ الْقَلْبِ وَالْخِبْرَةِ الْحَيَّةِ مَعَ الرَّبِّ. فَمَنْ هُوَ يَسُوعُ لَنَا؟ وَمَا مَكَانَتُهُ فِي حَيَاتِنَا؟ هَلْ لَهُ مَوْضِعٌ حَقِيقِيٌّ فِي قَلْبِنَا وَقَرَارَتِنَا وَيَوْمِيَّاتِنَا؟ هٰذَا السُّؤَالُ لَا يَزَالُ يَتَرَدَّدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ: "وَأَنْتَ، مَنْ تَقُولُ إِنِّي أَنَا؟" وَهُوَ يَطْرُقُ بَابَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، يَدْعُوهُ إِلَى أَنْ يُجَدِّدَ إِيمَانَهُ، وَيُجَاوِبَ لا بِاللِّسَانِ فَقَط، بَلْ بِالْحَيَاةِ وَالْتَكْرِيسِ. هل نعرف هويّة الرّب الحقيقيّة؟
16فأَجابَ سِمعانُ بُطرس: ((أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ)).
تَشِيرُ عِبَارَةُ "فَأَجَابَ" إِلَى جَوَابِ بُطْرُسَ الْفَوْرِيِّ بِاسْمِ التَّلَامِيذِ، وَذٰلِكَ لِطَبْعِهِ الْمُتَسَرِّعِ وَحَدَّةِ تَفْعِيلِ الإِيمَانِ فِي نَفْسِهِ، وَهِيَ سِمَةٌ تَتَكَرَّرُ فِي سِيرَتِهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "سِمْعَانُ بُطْرُسُ"، فَتُشِيرُ إِلَى اسْمٍ مُرَكَّبٍ: سِمْعَان: اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ (שִׁמְעוֹן) يَعْنِي: "مُسْتَمِعٌ". بُطْرُسُ: هُوَ الِاسْمُ الْيُونَانِيُّ(Πέτρος) لِكَلِمَةٍ آرَامِيَّةٍ: كِيفَا، وَمَعْنَاهَا: صَخْرَةٌ أَوْ حَجَرٌ (رَاجِعْ مَتَّى 16: 18). كَانَ اسْمُ أَبِيهِ: يُونَا (مَتَّى 16: 17)، وَاسْمُ أَخِيهِ: أَنْدَرَاوُسُ، وَمَدِينَتُهُمَا: بَيْتُ صَيْدَا (يُوحَنَّا 1: 42). وَكَانَتْ مِهْنَتُهُ: صَيْدُ السَّمَكِ، وَكَانَ يُعِيلُ بِهَا عَائِلَتَهُ الْمُقِيمَةَ فِي كَفْرَنَاحُومَ، كَمَا يَظْهَرُ مِنْ زِيَارَةِ يَسُوعَ لِحَمَاتِهِ وَشِفَائِهَا مِنَ الْحُمَّى (مَتَّى 8: 14–15). وَبَعْدَ قِيَامَةِ يَسُوعَ، يُخْبِرُنَا سِفْرُ أَعْمَالِ الرُّسُلِ (الْجُزْءُ الأَوَّلُ) أَنَّ بُطْرُسَ قَدْ حَقَّقَ مَا أَنْبَأَ بِهِ الْمَسِيحُ: "وَعَلَى هٰذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي" (مَتَّى 16: 18). فَقَدْ كَانَ بُطْرُسُ قَائِدًا لِكَنِيسَةِ أُورَشَلِيمَ، وَخَطَبَ بِاسْمِ الرُّسُلِ يَوْمَ الْعَنْصَرَةِ، شَارِحًا مَعْنَى حُلُولِ الرُّوحِ، وَمُعْلِنًا أَنَّ الْخَلَاصَ صَارَ بِالإِيمَانِ بِابْنِ اللهِ وَبِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ (أَعْمَال 2: 14–36). وَهُوَ أَيْضًا الَّذِي قَادَ التَّلَامِيذَ لِسَدِّ الْفَرَاغِ فِي عَدَدِ الرُّسُلِ بِانْتِخَابِ بَدِيلٍ لِيَهُوذَا (أَعْمَال 1: 15)، وَقَبِلَ الْوَثَنِيِّينَ فِي الْكَنِيسَةِ، وَتَفَقَّدَ الْكَنَائِسَ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَبَعْدَ أَنْ مَكَثَ فِي أُورَشَلِيمَ وَأَنْطَاكِيَةَ، ذَهَبَ إِلَى رُومَا، وَأَصْبَحَ أَوَّلَ أُسْقُفٍ عَلَيْهَا. أَمَّا عِبَارَةُ "أَنْتَ الْمَسِيحُ، ابْنُ اللهِ الْحَيِّ"، فَتُشِيرُ إِلَى إِعْلَانِ بُطْرُسَ الْإِيمَانِيِّ الَّذِي لَا يَسْتَمِدُّهُ مِنْ قُوَّتِهِ الذَّاتِيَّةِ، وَلَا مِنْ قَدَاسَتِهِ الشَّخْصِيَّةِ، وَلَا مِنْ حِكْمَتِهِ الإِنْسَانِيَّةِ، بَلْ هُوَ نَتِيجَةُ خُضُوعِهِ لِمَشِيئَةِ اللهِ، وَتَفْعِيلِ الرُّوحِ الْقُدُسِ فِي قَلْبِهِ ليملأه الله بحقيقية ابنه يسوع. فَقَدْ فَتَحَ بُطْرُسُ ذَاتَهُ لِمَا كَشَفَهُ الآبُ لَهُ، وَأَدْرَكَ عُمْقَ شَخْصِيَّةِ يَسُوعَ، لَيْسَ فَقَط كَإِنْسَانٍ، بَلْ كَابْنِ اللهِ الْحَيِّ، الْمَسِيحِ الْمَوْعُودِ. وَبِذٰلِكَ كَانَ بُطْرُسُ مِنْ أُولٰئِكَ الْبُسَطَاءِ الَّذِينَ كَشَفَ اللهُ لَهُم أَسْرَارَ الْمَلَكُوتِ، كَمَا جَاءَ فِي صَلَاةِ يَسُوعَ: "أَحْمَدُكَ، يَا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَلَى أَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ الأَشْيَاءَ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالأَذْكِيَاءِ، وَكَشَفْتَهَا لِلصِّغَارِ" (مَتَّى 11: 25). تَشِيرُ عِبَارَةُ "المَسِيحُ" فِي الأَصْلِ الْيُونَانِيِّ Χριστὸς، وَفِي الْعِبْرِيَّةِ הַמָּשִׁיחַ (هَـمَّاشِيَّاح)، إِلَى "الْمَسِيحِ" أَيْ: الْمُمَسُوحِ بِالْمَسْحَةِ، أَيْ ذَاكَ الَّذِي اخْتَارَهُ اللهُ، وَمَسَحَهُ، وَأَرْسَلَهُ مُخَلِّصًا. وَقَدْ تَحَدَّثَ عَنْهُ الأَنْبِيَاءُ وَمَهَّدُوا لَهُ السَّبِيلَ، وَفِي طَلِيعَتِهِم يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ. كَانَ الشَّعْبُ الْيَهُودِيُّ يَنْتَظِرُ هٰذَا المَسِيحَ مُخَلِّصًا وَمَلِكًا. وَكَلِمَةُ "المَسِيحِ" تَعْنِي: الْمَمْسُوحَ مِنَ اللهِ. فَفِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، كَانَتِ الْمَسْحَةُ تُخَصَّصُ لِلْمُلُوكِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالأَنْبِيَاءِ فَقَط (لوقا 1: 76). وَعَلَيْهِ، فَـيَسُوعُ هُوَ المَسِيحُ الْمَلِكُ، وَالْكَاهِنُ، وَالنَّبِيُّ فِي آنٍ مَعًا. وَفِي إِنْجِيلِ مَرْقُسَ، وَرَدَ ذِكْرُ هٰذَا اللَّقَبِ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى لِسَانِ إِنْسَانٍ اعْتَرَفَ بِهِ، لِأَنَّ لِهٰذَا اللَّقَبِ رُؤْيَةً دِينِيَّةً وَطَنِيَّةً وَسِيَاسِيَّةً، وَلِذٰلِكَ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ يَسُوعُ إِلَّا أَثْنَاءَ مَحَاكَمَتِهِ (مرقس 14: 61–62)، إِذْ كَانَ يَعْتَبِرُهُ خَطِرًا عَلَى فَهْمِ رِسَالَتِهِ. فَـيَسُوعُ هُوَ لَيْسَ فَقَط المَسِيحَ الْمُنْتَصِرَ، بَلْ أَيْضًا المَسِيحَ الْمُتَأَلِّمَ، الَّذِي سَفَكَ دَمَهُ لِخَلَاصِ النُّفُوسِ. وَقَدْ رَوَى لُوقَا أَنَّ يَسُوعَ أُعْلِنَ مَسِيحًا: عَلَى لِسَانِ الْمَلَائِكَةِ (لوقا 1: 32)، وَسِمْعَانَ (لوقا 2: 26)، وَحَتَّى الشَّيَاطِينِ (لوقا 4: 41)، وَلٰكِنَّ بُطْرُسَ كَانَ هُوَ أَوَّلَ تِلْمِيذٍ يُطْلِقُ هٰذَا اللَّقَبَ عَلَى يَسُوعَ. وَقَدْ كَانَ لِلْيَهُودِ مَعْنًى قَوْمِيًّا وَسِيَاسِيًّا مَحْضًا لِهٰذَا اللَّقَبِ (لوقا 22: 67)، وَلِذٰلِكَ تَرَدَّدَ تَلَامِيذُ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ طَوِيلًا، يَتَسَاءَلُونَ: "هَلْ مُعَلِّمُنَا هُوَ الْمَسِيحُ؟" (أعمال 13: 25). وَقَدْ تَحَقَّقَ بُطْرُسُ مِنْ أُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ، وَاعْتَرَفَ بِذٰلِكَ جِهَارًا، فَـكَانَ أَوَّلَ مَنْ نَطَقَ بِإِيمَانِهِ الْكَامِلِ بِأَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ. وَلٰكِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ بَعْدُ لِهٰذَا الإِعْلَانِ، بِسَبَبِ آرَائِهِمُ الْمَادِّيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ عَنِ الْمَلَكُوتِ. فَكُلُّ أَعْمَالِ يَسُوعَ، مُنْذُ شُرُوعِهِ فِي تَتْمِيمِ وَظِيفَتِهِ، تُثْبِتُ أَنَّهُ الْمَسِيحُ، أَيْ: الْمَمْسُوحُ لإِتْمَامِ الْوَظَائِفِ الْكُبْرَى لِشَعْبِهِ: كَنَبِيٍّ، وَكَاهِنٍ، وَمَلِكٍ، كَمَا أَنْبَأَ الأَنْبِيَاءُ (مزمور 2: 2). وَهُوَ يَخُصُّ الْبَشَرِيَّةَ جَمِيعًا، لَيْسَ فَئَةً دُونَ أُخْرَى. وَأَمَّا الْقِدِّيسُ مَرْقُسُ، فَقَدْ أَعْلَنَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ "المَسِيحُ" (مرقس 8: 29)، أَيْ: المَمْسُوحُ كَرَئِيسِ كَهَنَةٍ، سَيُقَدِّمُ ذَبِيحَةَ نَفْسِهِ. وَأَمَّا لُوقَا، فَقَدْ نَقَلَ عَنْ بُطْرُسَ أَنَّهُ قَالَ: "مَسِيحُ اللهِ" (لوقا 9: 20)، أَيْ: المَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. وأمَّا عبارة "ابنُ اللهِ الحَيّ" فَتُشِيرُ إِلَى عِبَارَةٍ مُتَأَصِّلَةٍ فِي العَهْدِ الْقَدِيمِ: "أَنَّا أَكُونُ لَهُ أَبًا، وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا" (2 صموئيل 7: 14؛ مزمور 2: 7؛ 89: 27). وَقَدْ قِيلَتْ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَالشَّعْبِ الْيَهُودِيِّ، وَالْمَسِيحِ. وَلَكِنَّ الْمَسِيحِيِّينَ شَدَّدُوا عَلَى مِيزَةٍ فَرِيدَةٍ فِي شَخْصِ يَسُوعَ، فَهُوَ ابْنُ اللهِ بِمَعْنًى فَرِيدٍ وَوَحِيدٍ، فِي عِلَاقَةِ بُنُوَّةٍ ذَاتِيَّةٍ، لا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَد. وَهُوَ الْمُرْسَلُ لِخَلَاصِ الْعَالَمِ، وَالَّذِي قِيلَ عَنْهُ: "فَهُوَ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ" (مَتَّى 1: 21). و"مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي" (مَتَّى 2: 15). أَمَّا عِبَارَةُ "الحَيّ" فَتُشِيرُ إِلَى اللهِ كَإِلٰهٍ حَيٍّ، كَمَا فِي النَّصِّ الْيُونَانِيِّ: ὁ υἱὸς τοῦ θεοῦ τοῦ ζῶντος، وَفِي الآرَامِيَّةِ: בֶּן־אֱלהִים חַיִּים، أَيْ: اللهُ الْمُتَجَسِّدُ فِي شَخْصِ ابْنِهِ، الْحَيِّ فِي وَسَطِنَا (يُوحَنَّا 1: 14). وَقَدْ وُصِفَ اللهُ بِـ"الحَيِّ" لِتَمْيِيزِهِ عَنْ آلِهَةِ الْوَثَنِيِّينَ (يَشُوعَ 3: 10)، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ حَاضِرٌ فِي وَسَطِ النَّاسِ، يَعْرِفُ أَحْزَانَهُمْ، وَيَعْتَنِي بِهِمْ، وَيَهَبُ لَهُمُ الْحَيَاةَ وَالْقُوَّةَ. وَلَقَدْ سَبَقَ نَتَنَائِيلُ فَقَالَ هٰذِهِ الْكَلِمَاتِ قَبْلَ بُطْرُسَ: "رَبِّي، أَنْتَ ابْنُ اللهِ، أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ" (يُوحَنَّا 1: 49)، وَلَكِنَّهُ قَالَهَا فِي سِيَاقٍ عَامٍّ، وَكَأَنَّهُ يُعِيدُ فَهْمَ إِسْرَائِيلَ كَابْنِ اللهِ، وَلِذٰلِكَ لَمْ نَسْمَعْ أَنَّ السَّيِّدَ طَوَّبَ إِيمَانَ نَتَنَائِيلَ، كَمَا فَعَلَ مَعَ بُطْرُسَ. فَـبُطْرُسُ أَعْلَنَ إِيمَانَهُ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى بِقَوْلِهِ: "أَنْتَ المَسِيحُ، ابْنُ اللهِ الحَيّ"، فَأَشَارَ إِلَى لَاهُوتِ يَسُوعَ، وَأَنَّهُ هُوَ اللهُ الْمُتَجَسِّدُ. وَالْكَنِيسَةُ، فِي كُلِّ زَمَانٍ، تُؤَسَّسُ عَلَى هٰذَا الإِيمَانِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ بُطْرُسُ: "المَسِيحُ، ابْنُ اللهِ الحَيّ." فَهَلْ نَحْنُ نَشْهَدُ مَعَ بُطْرُسَ، أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ابْنُ اللهِ الحَيّ، وَكَلِمَتُهُ الْقُدُّوسُ؟ في شخص بطرس، نجد مثالَ المؤمن الذي يُدعَى لا ليتبع صورةً متخيَّلة عن الرّبّ، بل ليكتشف حقيقته الإلهيّة كما هي.
17فأَجابَه يسوع: ((طوبى لَكَ يا سِمعانَ بْنَ يونا، فلَيسَ اللَّحمُ والدَّمُ كشَفا لكَ هذا، بل أَبي الَّذي في السَّمَوات.
تَشِيرُ عِبَارَةُ "طوبى لَكَ" إِلَى تَهْنِئَةِ يَسُوعَ لِبُطْرُسَ عَلَى اعْتِرَافِهِ الْإِيمَانِيِّ بِهِ، أَنَّهُ الْمَسِيحُ، ابْنُ اللهِ. وَهٰذَا الْإِيمَانُ لَيْسَ ثَمَرَةَ مَعْرِفَةٍ بَشَرِيَّةٍ، بَلْ نِعْمَةٌ إِلٰهِيَّةٌ مَنَحَهَا اللهُ لِبُطْرُسَ، كَمَا يُقَرِّرُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "وَلا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ»، إِلَّا بِإِلْهَامٍ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (١ قورنتس 12: 3). وَيُعَلِّقُ البَابَا لاوُن الكَبِيرُ قَائِلًا: "طُوبَى لَكَ، يَا بُطْرُس، لِأَنَّ أَبِي هُوَ الَّذِي عَلَّمَكَ؛ فَلَمْ تُضَلِّلْكَ الأَفْكَارُ الأَرْضِيَّةُ، بَلْ تَكَفَّلَ الْوَحْيُ السَّمَاوِيُّ بِتَعْلِيمِكَ" (العِظَةُ الرَّابِعَةُ فِي ذِكْرَى سِيَامَتِهِ). وَهٰذَا الإِيمَانُ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ بُطْرُسُ هُوَ أَسَاسُ مَلَكُوتِ الْمَسِيحِ. وَيُضِيفُ القِدِّيسُ هِيلَارِيُوس أُسْقُفُ بُوَاتِيَيْ: "طُوبَى لِذَاكَ الَّذِي يُمْدَحُ لإِدْرَاكِهِ وَفَهْمِهِ الَّذِي فَاقَ الرُّؤْيَا بِالْعُيُونِ الْبَشَرِيَّةِ، وَصَارَ مُسْتَحِقًّا أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ اعْتَرَفَ بِلاَهُوتِ الْمَسِيحِ." وَلَمْ يَكُنْ تَطْوِيبُ يَسُوعَ مَقْصُورًا عَلَى بُطْرُسَ وَحْدَهُ، بَلْ كَانَ لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ لِكُلِّ التَّلَامِيذِ، لِأَنَّ سُؤَالَ يَسُوعَ كَانَ مُوَجَّهًا إِلَى الاثْنَيْ عَشَرَ، وَكَانَ جَوَابُ بُطْرُسَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ سَائِرِ الرُّسُلِ. أَمَّا عِبَارَةُ "سِمْعَانَ بْنَ يُونَا"، فَتُشِيرُ إِلَى مُنَادَاةِ يَسُوعَ لِبُطْرُسَ بِاسْمِهِ الْعَائِلِيِّ، دُونَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ اسْمَهُ الرُّوحِيَّ الْجَدِيدَ: بُطْرُس. وَعِبَارَةُ "ابْنُ يُونَا"، فِي الأَصْلِ الْيُونَانِيِّ Βαριωνᾶ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعِبْرِيَّةِ בַּר־יוֹנָה، أَيْ: ابْنُ يُونَانَ. وَ"يُونَان" هِيَ الصِّيغَةُ السُّرْيَانِيَّةُ وَالْعَرَبِيَّةُ، وَمَعْنَاهَا "حَمَامَةٌ"، وَهِيَ رَمْزٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بُطْرُسَ نَالَ نِعْمَةَ الْوَحْيِ وَعَطِيَّةَ الرُّوحِ. وَيُشِيرُ إِلَى ذٰلِكَ أَيْضًا قَوْلُ يَسُوعَ لَهُ فِي آخِرِ الْإِنْجِيلِ: "الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَمَّا كُنْتَ شَابًّا، كُنْتَ تَتَزَنَّرُ بِيَدَيْكَ، وَتَسِيرُ إِلَى حَيْثُ تَشَاء؛ فَإِذَا شِخْتَ بَسَطْتَ يَدَيْكَ، وَشَدَّ غَيْرُكَ لَكَ الزُّنَّار، وَمَضَى بِكَ إِلَى حَيْثُ لَا تَشَاء" (يُوحَنَّا 21: 18). أَمَّا عِبَارَةُ "فَلَيْسَ اللَّحْمُ وَالدَّمُ"، فَتُشِيرُ إِلَى الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ الضَّعِيفَةِ، إلى فِكرِ بَشري بحت، وثَمرة تَأمل الشَخصي وتفكير البشري، كَمَا قَالَ ابْنُ سِيرَاخ: "فَكَما أَنَّ أَوْرَاقَ الشَّجَرِ كَثِيفَةٌ، تَارَةً تَسْقُطُ وَتَارَةً تَنْبُتُ، كَذٰلِكَ أَجْيَالُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ: بَعْضُهُمْ يَمُوتُ وَبَعْضُهُمْ يُولَدُ" (سيراخ 14: 18). فَلَمْ يَكُنْ إِعْلَانُ بُطْرُسَ نَاتِجًا عَنْ قُدْرَةٍ بَشَرِيَّةٍ، بَلْ عَنْ وَحْيٍ إِلٰهِيٍّ. وَعِبَارَةُ "كَشَفَ لَكَ هٰذَا" تُشِيرُ إِلَى أَنَّ كَلِمَاتَ بُطْرُسَ هِيَ مِنَ اللهِ، لَا مِنْهُ هُوَ. فَهِيَ إِعْلَانٌ وَرُؤْيَا إِيمَانِيَّةٌ، تَحْدُثُ بِنُورِ الرُّوحِ. كَذٰلِكَ، فَـمَعْرِفَةُ الرَّبِّ لَا تَأْتِي بِالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فَقَط، بَلْ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ الَّذِي يُفِيضُهُ الآبُ السَّمَاوِيُّ عَلَى الْقَلْبِ. وَهٰذَا مَا أَكَّدَهُ يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي مَتَّى 11: 25–27، وَقَدْ أَدْرَكَ بُطْرُسُ جُزْءًا مِنْ هٰذَا الْوَحْيِ، وَسَيَفْهَمُهُ أَعْمَقَ فِي نُورِ الْقِيَامَةِ (رَاجِعْ مَتَّى 16: 22–23). وَكَمَا يُعَلِّمُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "مَا أَبْعَدَ غَوْرَ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! وَمَا أَعْسَرَ إِدْرَاكَ أَحْكَامِهِ وَتَبَيُّنَ طُرُقِهِ! فَمَنْ الَّذِي عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ؟ أَوْ مَنْ كَانَ لَهُ مُشِيرًا؟" (رومة 11: 33–34). وَفِعْلُ "كَشَفَ" فِي الأَصْلِ الْيُونَانِيِّ ἀπεκάλυψεν، مَعْنَاهُ: أَظْهَرَ الْحَقِيقَةَ. وَهُوَ فِعْلُ وَحْيٍ وَصَدَاقَةٍ وَخِيَارٍ إِلٰهِيٍّ، كَمَا فِي قَوْلِ عامُوسَ: "إِنَّ السَّيِّدَ الرَّبَّ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، مَا لَمْ يَكْشِفْ سِرَّهُ لِعَبِيدِهِ الأَنْبِيَاءَ" (عاموس 3: 7). وَقَدْ أَكَّدَ يَسُوعُ هٰذِهِ الْحَقِيقَةَ فِي قَوْلِهِ لِتَلَامِيذِهِ: "لَا أَدْعُوكُمْ خَدَمًا بَعْدَ الْيَوْمِ، لِأَنَّ الْخَادِمَ لَا يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُه. فَقَدْ دَعَوْتُكُمْ أَحِبَّائِي، لِأَنِّي أَطْلَعْتُكُمْ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي" (يُوحَنَّا 15: 15). أَمَّا عِبَارَةُ "أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ"، فَتُشِيرُ إِلَى اللهِ الَّذِي سَمَحَ لِبُطْرُسَ أَنْ يَسْبُرَ غَوْرَ شَخْصِيَّةِ الْمَسِيحِ، الَّتِي تَجْمَعُ نَاسُوتَهُ وَلاهُوتَهُ. فَـيَسُوعُ، فِي هٰذَا النَّصِّ، يُؤَكِّدُ نَاسُوتَهُ، وَالْآبُ يُعْلِنُ لِبُطْرُسَ لَاهُوتَ الْمَسِيحِ. وَهٰذَا هُوَ إِيمَانُ الْكَنِيسَةِ: أَنَّ ابْنَ اللهِ قَدْ تَجَسَّدَ وَتَأَنَّسَ، كَمَا قَالَ بُولُسُ: "قَد أُظْهِرَ فِي الْجَسَدِ، وَأُعْلِنَ بَارًّا فِي الرُّوحِ، وَتَرَاءَى لِلْمَلَائِكَةِ، وَبُشِّرَ بِهِ عِندَ الْوَثَنِيِّينَ، وَأُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، وَرُفِعَ فِي الْمَجْدِ" (1 طِيمُوثَاوُس 3: 16). وَتُشِيرُ هٰذِهِ الآيَةُ أَيْضًا إِلَى أَنَّ التَّلَامِيذَ الاِثْنَيْ عَشَرَ قَدِ اشْتَرَكُوا جَمِيعًا فِي اعْتِرَافِ بُطْرُسَ بِلاَهُوتِ الْمَسِيحِ؛ وَإِنْ نَطَقَ بِهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ قَالَهُ بِاسْمِ الْجَمَاعَةِ، وَقَدْ أَيَّدَهُ السَّيِّدُ الْمَسِيحُ وَأَثْبَتَهُ وَبَارَكَهُ.
18 وأَنا أَقولُ لكَ: أَنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ هذا سَأَبني كَنيسَتي، فَلَن يَقوى عليها سُلْطانُ الموت.
تَشِيرُ عِبَارَةُ "وأَنا أَقولُ لَكَ" فِي الْيُونَانِيَّةِ: κἀγὼ δέ σοι λέγω، إِلَى تَبَادُلٍ فِي الْكَلَامِ مَعَ بُطْرُسَ: فَكَمَا أَعْلَنَ بُطْرُسُ إِيمَانَهُ بِـيَسُوعَ، كَذٰلِكَ يَرُدُّ يَسُوعُ بِإِعْلَانٍ إِلٰهِيٍّ، يُوَجِّهُهُ إِلَى بُطْرُسَ بِصِيغَةٍ شَخْصِيَّةٍ وَسُلْطَوِيَّةٍ. أَمَّا عِبَارَةُ "صَخْرٌ"، فَفِي الْيُونَانِيَّةِ: Πέτρος بطرس، وَفِي الآرَامِيَّةِ: כֵיפָא كَيْفَا، وَفِي الْعَرَبِيَّةِ: صَفَا، وَتَشِيرُ جَمِيعُهَا إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ نَفْسِهِ، حَسَبَ النَّصِّ الآرَامِيِّ الأَصْلِيِّ: "أَنْتَ هُوَ كَيْفَا، وَعَلَى هٰذَا الْكَيْفَا أَبْنِي كَنِيسَتِي." وَقَدِ اسْتَخْدَمَ يَسُوعُ فِي هٰذِهِ الْجُمْلَةِ نَفْسَ الْكَلِمَةِ "كَيْفَا" مَرَّتَيْنِ، لِيُؤَكِّدَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِـ"الصَّخْرَةِ" هُوَ بُطْرُسُ بِشَخْصِهِ. وَقَدْ أَطْلَقَ يَسُوعُ عَلَى سِمْعَانَ هٰذَا الِاسْمَ الْجَدِيدَ فِي بَدَايَةِ دَعْوَتِهِ لَهُ: "أَنْتَ تُدْعَى كَيْفَا (أَيْ صَفَا (يُوحَنَّا 1: 42). فَـتَغْيِيرُ اسْمِهِ كَانَ رَمْزًا لِمَوْتٍ وَوِلَادَةٍ جَدِيدَةٍ. فَالْوَحْيُ الَّذِي نَالَهُ بُطْرُسُ فِي إِعْلَانِ لَاهُوتِ الْمَسِيحِ، يُحَوِّلُهُ فِي جَوْهَرِهِ: "إِنْسَانٌ جَدِيدٌ، مَبْنِيٌّ عَلَى نِعْمَةِ الإِيمَانِ." وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: "لَمْ يَقُلْ لَهُ يَسُوعُ: أَنْتَ صَخْرَةٌ (Petra) بَلْ: أَنْتَ بُطْرُسُ (Petrus)، فَإِنَّ الصَّخْرَةَ كَانَتِ الْمَسِيحَ (1 قورنتس 10: 4)، الَّتِي اعْتَرَفَ بِهَا سِمْعَانُ كَمَا لَوِ اعْتَرَفَتِ الْكَنِيسَةُ كُلُّهَا، وَلِذٰلِكَ دُعِيَ "بُطْرُس." فَـالْمَسِيحُ أَقَامَ كَنِيسَتَهُ، الَّتِي هِيَ مَلَكُوتُهُ، عَلَى صَخْرَةِ الإِيمَانِ الَّذِي أَعْلَنَهُ بُطْرُسُ، وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ، عَلَى شَخْصِ بُطْرُسَ، الَّذِي نَالَ مَكَانَةَ الرِّيَادَةِ. وَيَقُولُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس أَيْضًا: "الْمَسِيحُ هُوَ صَخْرَةُ الصَّخْرَةِ، وَبُطْرُسُ هُوَ الصَّخْرُ، وَيَسُوعُ هُوَ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ." وَقَدْ أَكَّدَ بُولُسُ الرَّسُولُ أَيْضًا هٰذَا الْمَعْنَى قَائِلًا: "هٰذِهِ الصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ" (1 قورنتس 10: 4). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ إِيرُونِيمُوس: "لَقَدْ أَعْطَى لِسِمْعَانَ، الَّذِي آمَنَ بِالْمَسِيحِ الصَّخْرَةِ، أَنْ يُدْعَى بُطْرُسَ – أَيْ صَخْرًا. وَهٰذِهِ الْكَلِمَةُ لَمْ تُسْتَعْمَلْ قَطُّ كَاسْمٍ لِشَخْصٍ قَبْلَ ذٰلِكَ، لَا عِنْدَ الْيَهُودِ وَلَا عِنْدَ الْيُونَانِيِّينَ – إِنَّهَا فِكْرَةٌ ابْتَكَرَهَا يَسُوعُ." وَفِي الْهُوِيَّةِ السَّامِيَّةِ، الِاسْمُ يُحَدِّدُ الْهُوِيَّةَ وَالدَّعْوَةَ، فَـبُطْرُسُ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي عَلَيْهِ تُبْنَى الْكَنِيسَةُ. وَلِذٰلِكَ، قَالَ عَنْهُ بُولُسُ: "بَعْدَ ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ صَعِدْتُ إِلَى أُورَشَلِيمَ لِلتَّعَرُّفِ إِلَى صَخْرٍ، فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا" (غلاطية 1: 18). وَقَدْ صَرَّحَ بُطْرُسُ الرَّسُولُ نَفْسُهُ فِي رِسَالَتِهِ: "اقْتَرِبُوا مِنْهُ، فَهُوَ الْحَجَرُ الْحَيُّ، الَّذِي رَذَلَهُ النَّاسُ، وَلٰكِنْ اخْتَارَهُ اللهُ" (1 بطرس 2: 4). وَقَالَ أَيْضًا: "أَنْتُمْ أَيْضًا، مِثْلُ حِجَارَةٍ حَيَّةٍ، تُبْنَوْنَ بَيْتًا رُوحِيًّا" (1 بطرس 2: 5). وَالْمَسِيحُ هُوَ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ (1 بطرس 2: 6)، وَبُطْرُسُ يَشْتَرِكُ فِي هٰذِهِ الْوَظِيفَةِ التَّأْسِيسِيَّةِ. وَيُعَلِّقُ البَابَا القِدِّيسُ لاوُن الكَبِيرُ: "أَنْتَ صَخْرٌ، لِأَنَّكَ صُلْبٌ، وَتَسْتَمِدُّ الصَّلَابَةَ مِنْ قُوَّةِ الْمَسِيحِ، وَتَحْصُلُ عَلَى عَظَمَتِهِ بِمُجَرَّدِ أَنَّكَ تُشَارِكُهُ فِيهَا" (العِظَةُ الرَّابِعَةُ فِي ذِكْرَى سِيَامَتِهِ). وأمَّا عبارة “سَأَبْنِي كَنِيسَتِي" فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ الْـبَانِي، وَهُوَ أَسَاسُ الْكَنِيسَةِ، وَالْكَنِيسَةُ هِيَ مَشْرُوعُهُ، وَفِيهَا يُقِيمُ وَيَعْمَلُ بِرُوحِهِ. وَكَذٰلِكَ، فَـبُطْرُسُ، بِمَا أَنَّهُ أَسْقَفُ رُومَا، صَارَ رَئِيسَ الْكَنِيسَةِ الْمَرْئِيَّةِ، وَأَوْلَوِيَّتُهُ هٰذِهِ وَرِثَهَا خَلَفَاؤُهُ الْـبَابَاوَاتُ. تَشِيرُ عِبَارَةُ "كَنِيسَتِي" فِي الأَصْلِ الْيُونَانِيِّ: ἐκκλησία – إِكْلِيسِيَا، وَهِيَ تَرْجَمَةٌ لِكَلِمَةٍ عِبْرِيَّةٍ: "قَهَال" קְהִלָּתִי، كَمَا وَرَدَتْ فِي التَّرْجَمَةِ السَّبْعِينِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا: "الجَمَاعَةُ" أَو "الْمُجْتَمَعُ الْمُقَدَّسُ". وَلَمْ تَرِدْ كَلِمَةُ "كَنِيسَة" فِي إِنْجِيلِ مَتَّى إِلَّا مَرَّتَيْنِ: هٰذِهِ الْمَرَّةُ (مَتَّى 16: 18)، وَفِي مَتَّى 18: 17. وَهٰذِهِ هِيَ الْمَرَّةُ الْأُولَى الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا يَسُوعُ نَفْسُهُ عَنِ الْكَنِيسَةِ. وَيَدُلُّ هٰذَا الِّلفْظُ عَلَى "الْجَمَاعَةِ الْجَدِيدَةِ" الَّتِي أَسَّسَهَا يَسُوعُ عَلَى الرُّسُلِ، وَصَارَ بُطْرُسُ صَخْرَتَهَا وَقَاعِدَتَهَا. وَيُعَلِّقُ البَابَا بِنْدِكْتُس السَّادِسَ عَشَر قَائِلًا: "رِسَالَةُ الْكَنِيسَةِ هِيَ أَنْ تَخْلُقَ مَشْرُوعَ اللهِ الْعَظِيمَ، الرَّامِيَ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ فِي عَائِلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْمَسِيحِ." وَقَالَ يَسُوعُ "كَنِيسَتِي"، وَلَمْ يَقُلْ "كَنَائِسِي"، دَلَالَةً عَلَى أَنَّ كَنِيسَتَهُ: وَاحِدَةٌ، جَامِعَةٌ، رَسُولِيَّةٌ، مُقَدَّسَةٌ، تَسْمُو الكنيسة عَلَى الطَّائِفِيَّةِ وَالْعِرْقِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ. إِذْ إِنَّ الْكَنِيسَةَ لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي أُمَّةٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، بَلْ هِيَ جَمَاعَةُ الَّذِينَ اغْتَسَلُوا بِدَمِ الْمَسِيحِ، وَلَبِسُوا ثَوْبَ بِرِّهِ، وَتَجَدَّدُوا بِرُوحِهِ، وَاتَّحَدُوا بِهِ بِالْإِيمَانِ وَالْمَعْمُودِيَّةِ. الْكَنِيسَةُ هِيَ الاِرْتِبَاطُ الْحَيُّ بِالْمَسِيحِ، وَهُوَ رَأْسُهَا الْوَحِيدُ (قُولُسِّي 1: 18)، وَسُمِّيَتْ أَيْضًا: بَيْتُ اللهِ" (1 طِيمُوثَاوُس 3: 5)، وَ"هَيْكَلًا مُقَدَّسًا" (أَفَسُس 2: 21). وَقَدْ عَرَّفَهَا الْمَجْمَعُ الفَاتِيكَانِيُّ الثَّانِي أَنَّهَا: "شَعْبُ اللهِ." وأمَّا عبارة "فَلَنْ يَقْوَى عَلَيْهَا سُلْطَانُ الْمَوْتِ" فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ قُوَى الشَّرِّ، وَمَهْمَا تَكُنْ شِدَّتُهَا، لَنْ تَنْتَصِرَ عَلَى كَنِيسَةِ الْمَسِيحِ، وَلَنْ تَقْوَى عَلَى إِهْلَاكِهَا. ويُعلِّق القدِّيس يوحنَّا الذهبيُّ الفم قائلاً: "الأمواجُ عاليةٌ، والعاصفةُ شديدةٌ، ولكنَّنا لا نَخافُ الغَرَق، لأنَّنا مُؤسَّسونَ على الصَّخر. ليَضرِبِ البحرُ، فإنَّه لا يَقدِرُ أن يُفَتِّتَ الصَّخر؛ ولتلطِمِ الأمواجُ، فإنَّها لا تَقدِرُ أن تُغرِقَ سفينةَ المسيح". وَتُشِيرُ العبارة أَيْضًا إِلَى الْمَوْتِ، الَّذِي لَنْ يَسُودَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَجَمِيعُ أَعْضَاءِ الْجَمَاعَةِ الْمَسِيحِيَّةِ سَيَقُومُونَ مَعَ الْمَسِيحِ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. وَإِنْ مَاتُوا، فَلَنْ يُحْجَزُوا فِي الْهَاوِيَةِ، بَلْ سَيَحْيَوْنَ فِي الْمَجْدِ. وَعْدُ يَسُوعَ لِكَنِيسَتِهِ هُنَا وَعْدٌ بِالْوِقَايَةِ وَالصِّيَانَةِ، مِنْ كُلِّ مَشُورَةٍ شِرِّيرَةٍ وَمِنْ كُلِّ مُؤَامَرَةٍ عَلَى هَلاَكِهَا. وَيُعَلِّقُ البَابَا القِدِّيسُ بِيُوسُ الْعَاشِرُ: "إِنَّنَا نَشْعُرُ بِالأَمَانِ التَّامِّ ضِمْنَ حِصْنِ الْكَنِيسَةِ الْمُقَدَّسَةِ؛ فَمَوَاعِيدُ الرَّبِّ يَسُوعَ لَا تُخَيِّبُ أَبَدًا مَنْ يَنْتَظِرُهَا" (الرِّسَالَةُ العَامَّةُ: التَّذْكَارُ الفَرِحُ، 12 آذَار 1904). وأمَّا عبارة "سُلْطَانُ الْمَوْتِ" فِي الأَصْلِ الْيُونَانِيِّ: πύλαι ᾅδου –، وَتَعْنِي: أَبْوَابُ الْهَاوِيَةِ أَوْ الْقَبْرِ، وَفِي الْعِبْرِيَّةِ: שְׁאוֹל – شِئول. تُصَوَّرُ الْهَاوِيَةُ كَقَلْعَةٍ ذَاتِ أَبْوَابٍ (إِشَعْيَاء 38: 10). وَالأَبْوَابُ فِي الْمُجْتَمَعِ القَدِيمِ كَانَتْ: مَوْضِعَ الْمَشُورَةِ، وَالْحُكْمِ، وَالسُّلْطَةِ، وَالْمَجْلِسِ الشَّيْخِيِّ (رَاجِعْ 2 صَمُوئِيل 15: 2، أَمْثَال 1: 23، أَرْمِيَا 36: 10). فَمَنْ يَسْتَحْوِذُ عَلَى أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ، يُسَيْطِرُ عَلَيْهَا كُلِّيًّا. وَلكِنْ، سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ قُوَى الْهَاوِيَةِ وَالشَّرِّ، لَنْ تَقْدِرَ عَلَى حَجْزِ أَعْضَاءِ الْكَنِيسَةِ فِي الْمَوْتِ، لأَنَّهُمْ سَيَقُومُونَ فِي الْمَجْدِ مَعَ الْمَسِيحِ. فَمَهْمَا تَكَاثَرَتِ الْبِدَعُ، وَالِاضْطِهَادَاتُ، وَالْهَرَطَقَاتُ، وَآفَاتُ الْعَصْرِ، كَمَا فِي الإِجْهَاضِ، وَالزَّوَاجِ الْمِثْلِيِّ، وَالْإِرْهَابِ وَالْعُنْفِ، وَمَنْطِقِ الْمَوْتِ…فَـالْكَنِيسَةُ سَتَبْقَى حَيَّةً وَمُنْتَشِرَةً فِي أَرْجَاءِ الْمَسْكُونَةِ كُلِّهَا، لِأَنَّهَا تَحْمِلُ فِي دَاخِلِهَا حَيَاةَ اللهِ نَفْسِهِ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَمُوتَ. سُؤَالٌ خِتَامِيٌّ: هَلْ أَعْطَانَا يَسُوعُ اسْمًا خَاصًّا، نَجِدُ فِيهِ هُوِيَّتَنَا وَدَعْوَتَنَا؟ هَلْ نَشْعُرُ أَنَّ لَنَا دَوْرًا حَيًّا فِي كَنِيسَتِهِ وَفِي بِنَاءِ الْعَالَمِ الْجَدِيدِ؟
19 وسأُعطيكَ مَفاتيحَ مَلَكوتِ السَّمَوات. فما رَبَطتَهُ في الأَرضِ رُبِطَ في السَّمَوات. وما حَلَلتَه في الأَرضِ حُلَّ في السَّمَوات)).
تَشِيرُ عِبَارَةُ "وسأُعطيكَ" إِلَى وَعْدِ يَسُوعَ لِبُطْرُسَ وَلِرُفَقَائِهِ الرُّسُلِ، لأَنَّ بُطْرُسَ سَبَقَ إِلَى الإِقْرَارِ بِالإِيمَانِ، فَأَكْرَمَهُ الْمَسِيحُ بِأَنْ جَعَلَهُ أَوَّلَ مَنْ يَفْتَحُ كَنِيسَتَهُ لِلْيَهُودِ وَلِلْأُمَمِ. قَدْ أَعْطَاهُ يَسُوعُ سُلْطَةً شَرْعِيَّةً، لاَ تَنْفَصِلُ عَنْ سُلْطَةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَلَكِنَّهُ يَفُوقُهُمْ جَمِيعًا. فَقَدْ قَالَ يَسُوعُ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ: "الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء" (متى 18: 18). أَمَّا عِبَارَةُ "مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ"فَتُشِيرُ إِلَى السُّلْطَةِ الدِّينِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ الشَّرِيعَةِ، كَمَا كَانَتْ تُفْهَمُ فِي الدِّينِ الْيَهُودِيِّ. وَهُنَا تَقُومُ هٰذِهِ السُّلْطَةُ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ يَسُوعَ هُوَ ابْنُ اللهِ، وَتَظْهَرُ خُصُوصًا فِي: مَغْفِرَةِ الْخَطَايَا، وَتَمْكِينِ الدُّخُولِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ. فَهٰذَا الْمَلَكُوتُ مُرْتَبِطٌ، إِلَى حَدٍّ مَا، بِالْكَنِيسَةِ. وَفِي تَفْسِيرِ "الْمَفَاتِيحِ: يَرَى بَعْضُهُم أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى سُلْطَةِ إِعْلاَنِ مَغْفِرَةِ الْخَطَايَا (يُوحَنَّا 20: 23). وَيَرَى غَيْرُهُم أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى إِعْطَاءِ الْفُرْصَةِ لِلدُّخُولِ فِي الْخَلاَصِ (أَعْمَال الرُّسُل 15: 7-9). أَمَّا الْكَتَبَةُ وَالْفِرِّيسِيُّونَ، فَقَدْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَقْبِضُونَ عَلَى مَفَاتِيحِ الْمَلَكُوتِ، لَكِنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مَنَعُوا الآخَرِينَ مِنَ الدُّخُولِ، كَمَا قَالَ يَسُوعُ: "الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم تُقفِلونَ مَلكوتَ السَّمَواتِ في وُجوهِ النَّاس، فَلا أَنتُم تَدخُلون، ولا الَّذينَ يُريدونَ الدُّخولَ تَدَعونَهم يَدخُلون" (متى 23: 13-14). إِذًا، المَفَاتِيحُ هِيَ سُلْطَةُ فَتْحِ كَنِيسَةِ الْمَسِيحِ وَتَوْزِيعِ كُنُوزِهَا عَلَى الَّذِينَ هُمْ أَهْلٌ لَهَا (لوقا 11: 52). وَقَدْ قَلَّدَ يَسُوعُ مَفَاتِيحَ كَنِيسَتِهِ الَّتِي بَنَاهَا وَخَلَّصَهَا بِدَمِهِ، لِبُطْرُسَ وَالرُّسُلِ وَخَلَفَائِهِم. وَعِبَارَةُ "مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ" تُشِيرُ إِلَى كَنِيسَةِ الْمَسِيحِ، الَّتِي شُبِّهَتْ بِقَصْرٍ، وَشُبِّهَ حَقُّ الدُّخُولِ إِلَيْهَا أَوِ الْمَنْعِ مِنْهَا بِالْمَفَاتِيحِ. أَمَّا عِبَارَةُ "فما رَبَطتَهُ في الأَرضِ رُبِطَ في السَّمَوات. وما حَلَلتَه في الأَرضِ حُلَّ في السَّمَوات"، فَتُشِيرُ إِلَى سُلْطَانِ الرَّبْطِ وَالْحَلِّ، أَيْ: التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، الْمَنْعِ وَالسَّمَاحِ، الْفَصْلِ وَالْقَبُولِ، وَتَفْسِيرِ مَا هُوَ مَسْمُوحٌ وَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ. وَقَدْ مَارَسَ بُطْرُسُ هٰذِهِ السُّلْطَةَ فِي فَتْحِ الْكَنِيسَةِ لِلْيَهُودِ (أَعْمَال 2: 38-41)، وَلِلْأُمَمِ (أَعْمَال 10: 48)، وَفِي إِخْرَاجِ الْخَائِنِينَ كَحَنَنْيَا وَسَفِيرَةَ (أَعْمَال 5)، وَسِيمُونَ السَّاحِرِ (أَعْمَال 8: 21). وَهٰذِهِ الآيَةُ تُحَقِّقُ نُبُوءَةَ أَشْعَيَاءَ: "وأَجعَلُ مِفْتاحَ بَيتِ داوُدَ على كَتِفِه، يَفتَحُ فلا يُغلِقُ أَحَد، ويُغلِقُ فلا يَفتَحُ أَحَد" (أشعيا 22: 22)، وَهِيَ نَفْسُهَا الَّتِي تَتَكَرَّرُ فِي سِفْرِ الرُّؤْيَا: "مَن عِندَه مِفْتاحُ داوُد، مَن يَفتَحُ فلا أَحَدَ يُغلِق، ويُغلِقُ فلا أَحَدَ يَفتَح" (رؤيا 3: 7). وَلَكِنَّ الحَلَّ وَالرَّبْطَ لَمْ يُمْنَحْ لِبُطْرُسَ وَحْدَهُ، بَلْ لِسَائِرِ الرُّسُلِ أَيْضًا، كَمَا قَالَ لَهُم يَسُوعُ: "الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء" (متى 18: 18). وَقَدْ مَارَسَ الرُّسُلُ هٰذِهِ السُّلْطَةَ بِإِرْشَادِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، فِي مَجْمَعِ أُورَشَلِيمَ، حَيْثُ أَقَرُّوا جَوَازَ مُخَالَطَةِ الْيَهُودِ لِلْأُمَمِ، وَأَلْغَوْا التَّمْيِيزَ فِي الطَّعَامِ، وَأَبْطَلُوا الِاخْتِتَانَ (أَعْمَال 15: 10، 20، 28، 29). فَالْمَسِيحُ يُصَادِقُ عَلَى مَا يُعْمَلُ بِاسْمِهِ عَلَى الأَرْضِ. وَعِبَارَةُ "حُلَّ فِي السَّمَاوَاتِ" تُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَا يُقَرِّرُهُ الرُّسُلُ فِي الْكَنِيسَةِ مُوَافِقٌ عَلَيْهِ فِي السَّمَاءِ، لأَنَّهُمْ مُلْهَمُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ، كَمَا قَالَ يَسُوعُ: "فَمَتَى جَاءَ هُوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدَكُم إِلَى الحَقِّ كُلِّهِ" (يُوحَنَّا 16: 13). إِنَّ الرَّبْطَ وَالْحَلَّ يُمَارَسَانِ فِي الْكَنِيسَةِ بِرُوحِ الْمَحَبَّةِ وَالْحَقِّ وَالتَّمْيِيزِ الرُّوحِيِّ، لَا بِمَنْطِقِ السُّلْطَةِ أَوِ الْحُكْمِ الْبَشَرِيِّ. فَهَلْ نَعِيشُ نَحْنُ الْيَوْمَ هٰذَا الْإِيمَانَ الْحَيَّ بِالْمَسِيحِ، فَنَفْتَحَ لِلنَّاسِ أَبْوَابَ الْمَلَكُوتِ مِنْ خِلَالِ مَحَبَّتِنَا وَكَلِمَتِنَا وَغُفْرَانِنَا؟ هَلْ نَحْنُ مَفَاتِيحُ حَيَاةٍ لِلْآخَرِينَ، أَمْ أَبْوَابٌ مُغْلَقَةٌ فِي وُجُوهِهِم؟
20 ثُمَّ أَوصى تَلاميذَه بِأَلاَّ يُخبِروا أَحَداً بِأَنَّهُ المسيح.
تَشِيرُ عِبَارَةُ "بِأَلَّا يُخبِرُوا أَحَدًا بِأَنَّهُ الْمَسِيح" إِلَى أَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَرْفُضْ لَقَبَ "الْمَسِيح"، بَلْ أَوْصَى بِحِفْظِ السِّرِّ فِي حَوْزَةِ التَّلَامِيذِ إِلَى مَا بَعْدَ قِيَامَتِهِ. وَهُوَ تَحْذِيرٌ لَهُمْ مِنَ الإِفْشَاءِ الْمُبَكِّرِ، نَظَرًا لِلْمَلَابَسَاتِ الَّتِي كَانَتْ تُحِيطُ بِهٰذَا اللَّقَبِ فِي الأَوْسَاطِ الْيَهُودِيَّة، إِذْ كَانَ يُفْهَمُ فِي الْغَالِبِ فَهْمًا قَوْمِيًّا وَسِيَاسِيًّا، عَلَى أَنَّ "الْمَسِيحَ" هُوَ قَائِدٌ عَسْكَرِيٌّ مُحَرِّر. غَيْرَ أَنَّ يَسُوعَ، الْمَسِيحَ الْحَقَّ، لَمْ يَكُنْ كَذٰلِكَ، بَلْ هُوَ "عَبْدُ اللهِ الْمُتَأَلِّمُ". فَعِنْدَمَا اعْتَرَفَ التَّلَامِيذُ بِأَنَّهُ "الْمَسِيح"، لَمْ يَكُونُوا قَدْ أَدْرَكُوا بَعْدُ كُلَّ مَا يَتَضَمَّنُهُ هٰذَا الإِعْلَانُ مِنْ آلَامٍ وَمَوْتٍ وَقِيَامَةٍ. وَلِهٰذَا السَّبَبِ، لَمْ يَرْفُضْ يَسُوعُ اللَّقَبَ، لَكِنَّهُ نَهَاهُمْ بِشِدَّةٍ عَنْ إِعْلَانِهِ فِي تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: "فَأَوْصَاهُمْ وَنَهَاهُمْ أَلَّا يُخْبِرُوا أَحَدًا عَنْهُ" (لوقا 9: 21). إِنَّ سِرَّ الْمَسِيحِ لَا يُكْشَفُ إِلَّا فِي نُورِ الصَّلِيبِ وَالْقِيَامَةِ، كَمَا تَجَلَّى لَاحِقًا أَثْنَاءَ الْمُحَاكَمَةِ، حِينَ سَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ: "أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَك؟"، فَقَالَ لَهُ: "أَنَا هُوَ" (مرقس 14: 61–62). وَبَعْدَ الْقِيَامَةِ، اتَّضَحَ لِلتَّلَامِيذِ أَنَّ إِعْلَانَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ "الْمَسِيح" لَا يَكْمُلُ إِلَّا فِي ضَوْءِ مَوْتِهِ وَقِيَامَتِهِ. لِذٰلِكَ، فِي عِظَةِ بُطْرُسَ الأُولَى، نَقْرَأُ: "فَلْيَعْلَمْ يَقِينًا جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هٰذَا الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ، رَبًّا وَمَسِيحًا" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 2: 36). مِنْ هُنَا، نَفْهَمُ أَنَّ يَسُوعَ طَلَبَ مِنْ تَلَامِيذِهِ الصَّمْتَ الْمُؤَقَّتَ، بانتِظَارِ "سَاعَةِ الْكَشْفِ"، أَيْ سَاعَةِ الصَّلِيبِ وَالْقِيَامَةِ، لِكَيْ تُعْلَنَ هُوِيَّتُهُ الْكَامِلَةُ: الْمَسِيحُ الْمُتَأَلِّمُ، الْمَصْلُوبُ، الْقَائِمُ، وَرَبُّ الْمَجْدِ. فلنصمتْ قليلًا، كما طلب يسوع، لا صمتَ الخوف، بل صمتَ التأمُّل، وصمتَ التهيئة، لنُعلِن بجرأة القيامة أنّ المسيحَ قد تأنَّس، وتألم، وصُلِب، ومات، وقام لأجلنا، وهو اليوم حيٌّ فينا، وساكنٌ في كنيستِه. يا ربّ، علّمْنا أن نحمل سرَّك كما حمله الرسل، لا ادّعاءً، بل شهادة، ولا كبرياءً، بل حبًّا، ولا كلماتٍ، بل حياةً. آمين.
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 16: 13-20)
بَعدَ دِراسةٍ مُوجَزَةٍ لِوَقائِعِ النَّصِّ الإِنجيليِّ (متى 16: 13–20)، نَستَنتِجُ أَنَّهُ يَتَمحوَرُ حَولَ هُوِيَّةِ يَسوعَ الحَقيقِيَّةِ: ٱبْنِ الإِنسَانِ وَٱبْنِ اللهِ مَعًا، وَحَوْلَ رِيَاسَةِ بُطْرُسَ عَلَى ٱلْكَنِيسَةِ.
1) هُوِيَّةُ يَسُوعَ
بَعدَ أَن حَذَّرَ السَّيِّدُ ٱلْمَسِيحُ تَلامِيذَهُ مِنْ رِياءِ تَعْلِيمِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلصَّدُوقِيِّينَ (متى 16: 5–12)، تَوَجَّهَ مَعَ تَلامِيذِهِ إِلَى قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّس (بَانْيَاس ٱلْيَوْم). وَهُنَاكَ طَرَحَ عَلَيْهِم سُؤَالَيْنِ حَوْلَ هُوِيَّتِهِ: أَحَدُهُمَا غَيْرُ مُبَاشِرٍ: "مَنِ ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ فِي قَوْلِ ٱلنَّاس؟" (متى 16: 13) وَٱلْآخَرُ مُبَاشِرٌ لَهُم: "مَن أَنَا فِي قَوْلِكُم أَنتُم؟" (متى 16: 15). فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: "أَنتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللهِ ٱلْحَيِّ" (متى 16: 16). وَبِذَلِكَ، نَعْلَمُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ، وَهُوَ أَيْضًا ٱبْنُ ٱللهِ. فَهُوَ ٱلْكَامِلُ فِي نَاسُوتِهِ، وَٱلْكَامِلُ فِي لَاهُوتِهِ، ٱلْمَسِيَّا ٱلْمُرْسَلُ، وَٱبْنُ ٱلآبِ ٱلْأَزَلِيُّ.
أ) يَسوعُ ٱبْنُ ٱلإِنسَانِ
شَرَعَ يَسوعُ فِي ذَلِكَ ٱلْوَقْتِ يُعِدُّ ٱلتَّلَامِيذَ لِقُبُولِ تَعَالِيمَ يَصْعُبُ عَلَيْهِمُ ٱلتَّسْلِيمُ بِهَا، كَيْفَ لَا، وَهِيَ مِنْ أَعْسَرِ ٱلتَّعَالِيمِ فَهْمًا وَأَبْعَدِهَا مَنَالًا. وَهُوَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ وَيَمُوتَ لِتَتِمَّمَ عَمَلِيَّةُ ٱلْفِدَاءِ. وَمِنْ هٰذَا ٱلْمُنْطَلَقِ، ٱفْتَتَحَ يَسوعُ كَلَامَهُ بِسُؤَالٍ طَرَحَهُ عَلَى تَلَامِيذِهِ: "مَنِ ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ فِي قَوْلِ ٱلنَّاس؟" (متى 16: 13). وَبِهٰذَا ٱلسُّؤَالِ، أَبْرَزَ جَانِبًا هَامًّا فِي إِيمَانِنَا بِهِ، أَلَا وَهُوَ "ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ"، تَأْكِيدًا لِتَأَنُّسِهِ.
وَيُطْلِقُ يَسوعُ عَلَى نَفْسِهِ، عَادَةً، فِي ٱلْأَنَاجِيلِ، لَقَبَ "ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ". وَمِنَ ٱلْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ قَدِ ٱخْتَارَ هٰذَا ٱللَّقَبَ بِسَبَبِ ٱلْتِبَاسِهِ. وَقَدْ وَرَدَتْ هٰذِهِ ٱلْعِبَارَةُ فِي ٱلْأَنَاجِيلِ سَبْعِينَ مَرَّةً. وَلَقَبُ "ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ" فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ:
τὸν υἱὸν τοῦ ἀνθρώπου، وَهِيَ تَرْجَمَةٌ لِلَّفْظَةِ ٱلْعِبْرِيَّةِ وَٱلْآرَامِيَّةِ: בַּר אֱנָשׁ، أَيْ "ٱبْنُ ٱلْبَشَرِ"، وَتَظْهَرُ فِي مُعْظَمِ ٱلْأَحْيَانِ كَمُرَادِفَةٍ لِلإِنسَانِ، كَمَا جَاءَ فِي ٱلْمَزَامِيرِ: "لِتَكُنْ يَدُكَ عَلَى رَجُلِ يَمِينِكَ، عَلَى ٱبْنِ ٱلْإِنسَانِ (בֶּן־אָדָם) ٱلَّذِي أَيَّدْتَهُ لَكَ" (مزمور 80: 18).
إِنَّهُ "ٱبْنُ آدَمَ"، عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ ٱلْجِنْسِ ٱلْبَشَرِيِّ. وَقَدْ لَمَّحَ دَانِيالُ ٱلنَّبِيُّ فِي لَقَبِ "ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ" إِلَى صُورَةِ ذٰلِكَ ٱلشَّخْصِ ٱلسَّمَاوِيِّ ٱلْغَامِضِ ٱلَّذِي يَتَوَلَّى سُلْطَانَ ٱلدَّيْنُونَةِ فِي آخِرِ ٱلْأَزْمِنَةِ: "فَإِذَا بِمِثْلِ ٱبْنِ إِنْسَانٍ آتٍ عَلَى غَمَامِ ٱلسَّمَاءِ، فَبَلَغَ إِلَى قَدِيمِ ٱلْأَيَّامِ، وَقُرِّبَ إِلَى أَمَامِهِ. وَأُوتِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمُلْكًا، فَجَمِيعُ ٱلشُّعُوبِ وَٱلْأُمَمِ وَٱلْأَلْسِنَةِ يَعْبُدُونَهُ، وَسُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ لَا يَزُولُ، وَمُلْكُهُ لَا يَنْقَرِضُ" (دانيال 7: 13–14).
وَعَادَ ٱلتَّقْلِيدُ ٱلرُّؤْيَوِيُّ ٱلْيَهُودِيُّ ٱللَّاحِقُ لِسِفْرِ دَانِيالَ إِلَى رَمْزِ "ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ"، حَيْثُ رَأَى فِيهِ كَائِنًا عَجِيبًا، غَامِضًا، مُقِيمًا بِجِوَارِ ٱللهِ، حَائِزًا عَلَى ٱلْبِرِّ، وَمُعْلِنًا خَيْرَاتِ ٱلْخَلَاصِ ٱلْمُدَّخَرَةِ لِنِهَايَةِ ٱلزَّمَنِ.
وَرَبَطَ يَسوعُ، مِنْ خِلَالِ لَقَبِ "ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ"، هٰذِهِ ٱلصُّورَةَ ٱلْإِسْكَاتُولُوجِيَّةَ (أي آخر الزمان)، كَقَوْلِهِ: "تَرَونَ ٱبْنَ ٱلْإِنسَانِ آتِيًا عَلَى غَمَامِ ٱلسَّمَاءِ فِي تَمَامِ ٱلْعِزَّةِ وَٱلْجَلَالِ" (متى 23: 30)، وَقَوْلِهِ أَيْضًا: "سَيَأْتِي ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ فِي مَجْدِ أَبِيهِ، وَمَعَهُ مَلَائِكُتُهُ، فَيُجَازِي كُلَّ ٱمْرِئٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ" (متى 16: 27). وَقَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ هٰذِهِ ٱلْحَالَةَ كَدَيَّانٍ، يَجِبُ أَنْ يَمُرَّ بِحَالَةِ ٱلْعَبْدِ ٱلْمُتَأَلِّمِ، فَيَمُوتُ مِنْ أَجْلِ ٱلْآخَرِينَ، حَيْثُ يَصْعُبُ عَلَى ٱلنَّاسِ أَنْ يَتَعَرَّفُوا عَلَيْهِ، حَتَّى يُؤْمِنُوا بِهِ (يوحنا 9: 35). فَلَقَبُ "ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ" هُوَ لَقَبُ ٱلتَّجَسُّدِ وَٱلْفِدَاءِ وَٱلْمَجْدِ، فِي آنٍ وَاحِدٍ.
وَقَبْلَ ٱلْبُلُوغِ إِلَى هٰذِهِ ٱلْحَالَةِ فِي مَجِيءِ يَسُوعَ دَيَّانًا، يَجِبُ أَنْ يَمُرَّ ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ بِحَالَةِ ٱلْعَبْدِ ٱلْمُتَأَلِّمِ ٱلَّذِي يَمُوتُ مِنْ أَجْلِ ٱلْآخَرِينَ، حَيْثُ يَصْعُبُ عَلَى ٱلنَّاسِ خِلَالَهَا أَنْ يَتَعَرَّفُوا عَلَيْهِ، حَتَّى يُؤْمِنُوا بِهِ (يُوحَنَّا 9: 35). وَهَكَذَا رَبَطَ يَسُوعُ أَيْضًا، مِنْ خِلَالِ لَقَبِ "ٱبْنِ ٱلْإِنسَانِ"، مَعَ دَعْوَةِ "عَبْدِ ٱلرَّبِّ ٱلْمُتَأَلِّمِ".
إِنَّ يَسُوعَ جَاءَ لِيُحَقِّقَ، خِلَالَ حَيَاتِهِ ٱلْأَرْضِيَّةِ، دَعْوَةَ "عَبْدِ ٱلرَّبِّ" ٱلَّذِي نَبَذَهُ ٱلنَّاسُ، وَقَرَّرُوا قَتْلَهُ، حَتَّى يَنَالَ ٱلْمَجْدَ مِنَ ٱللَّهِ، وَيُخَلِّصَ ٱلْجَمَاهِيرَ. وَفِي هٰذَا ٱلصَّدَدِ، صَرَّحَ يَسُوعُ أَنَّ ٱبْنَ ٱلْإِنسَانِ تَحَمَّلَ كُلَّ آثَامِنَا مِنْ أَجْلِ خَلَاصِنَا، كَمَا قَالَ:"إِنَّ ٱبْنَ ٱلْإِنسَانِ سَيُسْلَمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ، فَيَقْتُلُونَهُ" (متى 17: 22–23).
فَلَقَبُ "ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ" حَلَّ مَحَلَّ ذٰلِكَ ٱلْحِينِ لَقَبَ "ٱلْمَسِيحِ"، لِأَنَّ لَقَبَ ٱلْمَسِيحِ كَانَ سَابِقًا لِأَوَانِهِ (مرقس 8: 29–31)، وَكَانَ يُظْهِرُ تَطَلُّعَاتٍ زَمَنِيَّةً لِرَجَاءِ إِسْرَائِيلَ. وَعَلَيْهِ، يُشِيرُ لَقَبُ "ٱبْنِ ٱلْإِنسَانِ" فِي ٱلْأَنَاجِيلِ إِلَى كَلِمَاتِ يَسُوعَ بِٱلذَّاتِ.
وَلَقَبُ "ٱبْنِ ٱلْإِنسَانِ"، بِٱلْإِضَافَةِ إِلَى ذٰلِكَ، يُجَسِّدُ ٱلْأَبْرَارَ ٱلْمُضْطَهَدِينَ، حَيْثُ جَاءَتِ ٱلْقِيَامَةُ تَنْصِيبًا لِيَسُوعَ بِصِفَتِهِ ٱبْنَ ٱلْإِنسَانِ، وَمُحَقِّقَةً مَا أَنْبَأَ بِهِ يَسُوعُ مِرَارًا: "أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تَبِعُونِي، مَتَى جَلَسَ ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ عَلَى عَرْشِ مَجْدِهِ عِندَمَا يُجَدَّدُ كُلُّ شَيْءٍ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى ٱثْنَيْ عَشَرَ عَرْشًا، لِتَدِينُوا أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ ٱلِٱثْنَيْ عَشَر" (متى 19: 28). وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ: "وَتَظْهَرُ عِندَئِذٍ فِي ٱلسَّمَاءِ آيَةُ ٱبْنِ ٱلْإِنسَانِ، فَتَنْتَحِبُ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلْأَرْضِ، وَتَرَى ٱبْنَ ٱلْإِنسَانِ آتِيًا عَلَى غَمَامِ ٱلسَّمَاءِ فِي تَمَامِ ٱلْعِزَّةِ وَٱلْجَلَالِ" (متى 24: 30). وَلِذٰلِكَ، جَازَ لِيَسُوعَ أَنْ يَكُونَ تَجْسِيدًا لِجَمِيعِ ٱلْمُضْطَهَدِينَ، وَجَمِيعِ ٱلصِّغَارِ وَٱلْمَسَاكِينِ، ٱلَّذِينَ أَصْبَحَ وَاحِدًا مِنْهُمْ: "كُلَّمَا صَنَعْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذٰلِكَ لِوَاحِدٍ مِنْ إِخْوَتِي هٰؤُلَاءِ ٱلصِّغَارِ، فَلِي قَدْ صَنَعْتُمُوهُ" (متى 25: 40).
وَفِي بِدَايَةِ ٱلْمَسِيحِيَّةِ، نَظَرَتِ ٱلْجَمَاعَةُ ٱلْمَسِيحِيَّةُ ٱلْأُولَى، ٱلَّتِي هِيَ مِنْ أَصْلٍ يَهُودِيٍّ، إِلَى عَمَلِ يَسُوعَ ٱنْطِلَاقًا مِنْ لَقَبِ "ٱبْنِ ٱلْإِنسَانِ" فِي سِفْرِ دَانِيال (7: 13–14)، وَكَانُوا يَرَوْنَ فِي ٱلْمَصْلُوبِ ذَاكَ ٱلَّذِي بِهِ تَمَّتْ دَيْنُونَةُ ٱلْبَشَرِ: "فَتَأْتِيَكُم مِنْ عِندِ ٱلرَّبِّ أَيَّامُ ٱلْفَرَجِ، وَيُرْسِلَ إِلَيْكُمُ ٱلْمَسِيحَ ٱلْمُعَدَّ لَكُم مِنْ قَبْلُ، أَي يَسُوعَ، ذَاكَ ٱلَّذِي يَجِبُ أَنْ تَتَقَبَّلَهُ ٱلسَّمَاءُ إِلَى أَزْمِنَةِ تَجْدِيدِ كُلِّ مَا ذَكَرَهُ ٱللَّهُ بِلِسَانِ أَنْبِيَائِهِ ٱلْأَطْهَارِ فِي ٱلزَّمَنِ ٱلْقَدِيمِ" (أعمال الرسل 3: 20–21).
وَبَعْدَ ذٰلِكَ، خَسِرَ ٱللَّقَبُ بُعْدَهُ مَعَ ٱلْجَمَاعَاتِ ٱلْمَسِيحِيَّةِ ٱلْيُونَانِيَّةِ (ٱلْهِلِّنِيَّةِ)، وَحَلَّ مَحَلَّهُ لَقَبُ "ٱبْنُ ٱللَّهِ". وَلَقَدْ لَعِبَ بُولُسُ دَوْرًا كَبِيرًا فِي هٰذَا ٱلتَّطَوُّرِ، وَبِسَبَبِ ٱلسُّلْطَةِ ٱلْخَارِقَةِ ٱلَّتِي يُطَالِبُ بِهَا يَسُوعُ كَٱبْنِ ٱلْإِنسَانِ، ٱنْطِلَاقًا مِنْ نُصُوصِ دَانِيالَ، ٱسْتَطَاعَ ٱلْمَسِيحِيُّونَ أَنْ يُنْسِبُوا إِلَيْهِ لَقَبَ "ٱبْنُ ٱللَّهِ"، وَهٰذَا مَا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ سُلْطَانُهُ، وَيُمَكِّنُهُ مِنْ أَنْ يُرْسِلَ تَلَامِيذَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ كُلِّهِ (متى 28: 16–20).
وَلَمَّا جَاءَ آبَاءُ ٱلْكَنِيسَةِ، فَهِمُوا لَقَبَ "ٱبْنِ ٱلْإِنسَانِ" حَرْفِيًّا، فَقَالُوا: إِنَّهُ ٱلْإِنسَانُ مُمَثِّلُ ٱلْبَشَرِيَّةِ، وَلٰكِنْ، لَمْ يَكُنْ هٰذَا مَا عَنَاهُ ٱلْمَسِيحِيُّونَ ٱلْأَوَّلُونَ فِي أُورَشَلِيمَ، وَمَا كَانَ يُهِمُّهُمْ هُوَ ٱلْأَصْلُ ٱلسَّمَاوِيُّ لِٱبْنِ ٱلْإِنسَانِ، وَٱلْعَمَلُ ٱلْإِلٰهِيُّ ٱلَّذِي يُتِمُّهُ. لَقَدْ سَأَلَ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ: "مَنْ هُوَ ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ؟"، لِكَيْ يَقُودَهُمْ إِلَى ٱلْإِقْرَارِ بِمَا هُوَ أَسْمَى مِنْ ذٰلِكَ، وَهُوَ لَقَبُ "ٱبْنِ ٱللَّهِ".
ب) يَسُوعُ ٱبْنُ ٱللَّهِ
كَيْ نَفْهَمَ لَقَبَ يَسُوعَ "ٱبْنَ ٱللَّهِ"، لا بُدَّ مِنَ ٱلْبَحْثِ فِي مَفْهُومِ "ٱبْنِ ٱللَّهِ" بِحَسَبِ شَهَادَةِ بُطْرُسَ ٱلصَّادِرَةِ عَنِ ٱلْوَحْيِ ٱلْإِلٰهِيِّ، وَعَلَاقَةِ هٰذَا ٱللَّقَبِ بِمَوْتِ ٱلْمَسِيحِ وَقِيَامَتِهِ وَتَجَسُّدِهِ، وَكَيْفَ فَهِمَ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ هٰذَا ٱللَّقَبَ. مَفْهُومُ ٱبْنِ ٱللَّهِ فِي ٱلْعَهْدِ ٱلْقَدِيمِ، قِيلَتْ عِبَارَةُ "ٱبْنِ ٱللَّهِ" فِي ٱلْمَلَائِكَةِ، وَفِي ٱلشَّعْبِ ٱلْيَهُودِيِّ، وَفِي ٱلْمَسِيحِ ٱلْمُنْتَظَرِ (2 صَمُوئِيل 7: 14، مَزْمُور 2: 7). وَتُشِيرُ هٰذِهِ ٱلْعِبَارَةُ إِلَى عَلَاقَةٍ خَاصَّةٍ مَعَ ٱللَّهِ، وَٱخْتِيَارِهِ لِأَجْلِ ٱلرِّسَالَةِ ٱلَّتِي يَعْهَدُ بِهَا ٱللَّهُ لِـ"أَبْنَائِهِ".
وَٱنْطَلَقَتِ ٱلْمَسِيحِيَّةُ مِنْ هٰذِهِ ٱلْمُعْطَيَاتِ، فَشَدَّدَتْ عَلَى ٱلْمُمَيَّزَةِ ٱلْفَرِيدَةِ ٱلْخَاصَّةِ بِشَخْصِ يَسُوعَ. فَهُوَ ٱلَّذِي يُقِيمُ مَعَ ٱللَّهِ عَلَاقَةً بُنُوِيَّةً لَا مَثِيلَ لَهَا، وَٱلَّذِي عُهِدَ إِلَيْهِ بِرِسَالَةٍ لَا نَظِيرَ لَهَا، وَهِيَ خَلَاصُ ٱلنَّاسِ: "فَإِنَّهُ هُوَ ٱلَّذِي يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ" (مَتَّى 1: 21). وَتَحَدَّثَ يَسُوعُ، بِٱلْإِضَافَةِ إِلَى ذٰلِكَ، بِعِبَارَاتٍ وَاضِحَةٍ عَنِ ٱلْعَلَاقَاتِ بَيْنَ ٱلِٱبْنِ وَٱلْآبِ: فَتَقُومُ بَيْنَهُمَا وَحْدَةٌ فِي ٱلْعَمَلِ وَٱلْمَجْدِ: "ٱلِٱبْنُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، بَلْ يَعْمَلُ مَا يَرَاهُ ٱلْآبُ يَعْمَلُهُ... كَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلِٱبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلْآبَ" (يُوحَنَّا 5: 19، 23).
وَيُبَيِّنُ يُوحَنَّا ٱلْمُبَشِّرُ أَنَّ ٱلْآبَ قَدْ مَنَحَ كُلَّ شَيْءٍ لِٱبْنِهِ، لِأَنَّهُ يُحِبُّهُ: "إِنَّ ٱلْآبَ يُحِبُّ ٱلِٱبْنَ، فَجَعَلَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ" (يُوحَنَّا 3: 35). وَقَدْ أَعْطَاهُ سُلْطَةَ إِحْيَاءِ ٱلْمَوْتَى: "فَكَمَا أَنَّ ٱلْآبَ يُقِيمُ ٱلْمَوْتَى وَيُحْيِيهِم، فَكَذٰلِكَ ٱلِٱبْنُ يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ" (يُوحَنَّا 5: 21)، وَسُلْطَةَ ٱلْقَضَاءِ: "لِأَنَّ ٱلْآبَ لَا يَدِينُ أَحَدًا، بَلْ أَوْلَى ٱلْقَضَاءَ كُلَّهُ لِلِٱبْنِ" (يُوحَنَّا 5: 22). وَعِنْدَمَا يَرْجِعُ يَسُوعُ إِلَى ٱللَّهِ، يُمَجِّدُ ٱلْآبُ ٱلِٱبْنَ، لِكَيْ يُمَجِّدَ ٱلِٱبْنُ ٱلْآبَ، كَمَا جَاءَ فِي صَلَاةِ يَسُوعَ ٱلْكَهَنُوتِيَّةِ: "يَا أَبَتِ، قَدْ أَتَتِ ٱلسَّاعَةُ: مَجِّدِ ٱبْنَكَ، لِيُمَجِّدَكَ ٱبْنُكَ" (يُوحَنَّا 17: 1).
ٱبْنُ ٱللَّهِ في شَهَادَةُ بُطْرُسَ
لَمْ يَكْتَفِ بُطْرُسُ أَنْ يُعْلِنَ أَنَّ يَسُوعَ نَبِيٌّ؛ أَيْ ذَاكَ ٱلَّذِي يَحْمِلُ ٱلْكَلِمَةَ، بَلْ هُوَ ٱلْكَلِمَةُ. وَلَمْ يَكْتَفِ أَنْ يُعْلِنَهُ "ٱبْنَ ٱلْإِنْسَانِ"؛ أَيْ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيَّ ٱلْإِنْسَانِيَّ ٱلَّذِي يُخَلِّصُ ٱلْبَشَرَ، بَلْ هُوَ "ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ٱلْحَيِّ" (مَتَّى 16: 16).
شَهِدَ بُطْرُسُ بِٱسْمِ ٱلتَّلَامِيذِ جَمِيعًا، ٱنْطِلَاقًا مِنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِ، وَبِنِعْمَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، أَنَّ يَسُوعَ هُوَ "ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ٱلْحَيِّ" (مَتَّى 16: 16).
وَلَقَدْ صَدَرَ هٰذَا ٱلِٱعْتِرَافُ عَنْ إِيمَانٍ حَقٍ. فَٱلْإِيمَانُ، مِثْلُ إِيمَانِ بُطْرُسَ، هُوَ أَسَاسُ مَلَكُوتِ ٱلْمَسِيحِ. بُطْرُسُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِتَعَالِيمِ ٱلسَّيِّدِ ٱلْمَسِيحِ فَحَسْب، بَلْ تَعَلَّقَ بِشَخْصِهِ. وَفِي شَهَادَةِ بُطْرُسَ: "ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ٱلْحَيِّ" (مَتَّى 16: 16)، تَفْخِيمٌ، وَٱسْتِعْمَالُ أَلِ التَّعْرِيفِ، وَتَطْوِيبُ يَسُوعَ لِبُطْرُسَ، يَحْمِلُنَا عَلَى أَنْ نَرَى فِي هٰذِهِ ٱلشَّهَادَةِ كَمَالَ ٱلْإِيمَانِ ٱلْمَسِيحِيِّ، كَمَا ٱكْتَشَفَهُ ٱلرُّسُلُ شَيْئًا فَشَيْئًا بَعْدَ ٱلْقِيَامَةِ. وَقَدْ أَعْلَنَ ٱلْآبُ نَفْسُهُ هُوِيَّةَ ٱبْنِهِ، قَائِلًا: "هٰذَا هُوَ ٱبْنِيَ ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي عَنْهُ رَضِيتُ" (مَتَّى 3: 17).
تُؤَكِّدُ تَطْوِيبَةُ يَسُوعَ لِبُطْرُسَ: "طُوبى لَكَ يا سِمعانَ بْنَ يونا، فَلَيْسَ اللَّحمُ والدَّمُ كَشَفَا لَكَ هٰذا، بَل أَبي الَّذي في السَّمَاوَاتِ" (متى ١٦: ١٧)، أَنَّنَا أَمَامَ وَحْيٍ إِلَهِيٍّ مُنْسَكِبٍ مِنَ ٱلْآبِ. فَٱعْتِرَافُ بُطْرُسَ: "ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللهِ ٱلْحَيِّ" (متى 16: 16)، لَيْسَ نَاتِجًا عَنْ تَفْكِيرٍ بَشَرِيٍّ أَوْ فَهْمٍ عَقْلِيٍّ فَقَط، بَلْ هُوَ ثَمَرَةُ ٱلرُّوحِ وَتَجَلِّي ٱلْوَحْيِ. فَتَفْخِيمُ ٱلْعِبَارَةِ، وَٱسْتِعْمَالُ ٱلتَّعْرِيفِ، وَتَطْوِيبُ ٱلرَّبِّ، كُلُّهَا تُؤَكِّدُ أَنَّنَا أَمَامَ لَحْظَةٍ حَاسِمَةٍ فِي مَسِيرَةِ ٱلْإِيمَانِ ٱلْمَسِيحِيِّ. فِي هٰذِهِ ٱلشَّهَادَةِ نَرَى مِلْءَ ٱلْإِيمَانِ، كَمَا ٱكْتَشَفَهُ ٱلرُّسُلُ شَيْئًا فَشَيْئًا بَعْدَ ٱلْقِيَامَةِ. فَهِيَ شَهَادَةٌ تَتَجَاوَزُ ٱلْمَظَاهِرَ، لِتَغُوصَ فِي سِرِّ شَخْصِ ٱلْمَسِيحِ، وَتُعْلِنَ هُوِيَّتَهُ ٱلْأَزَلِيَّةَ كَٱبْنِ ٱللهِ ٱلْحَيِّ.
ٱبْنُ ٱللَّهِ فِي رَسَائِلِ بُولُسَ
يُصْبِحُ مَوْضُوعُ ٱبْنِ ٱللَّهِ فِي رَسَائِلِ بُولُسَ ٱلرَّسُولِ نُقْطَةَ ٱنْطِلَاقٍ لَاهُوتِيَّةً أَكْثَرَ عُمْقًا، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِهِ: "لَمَّا تَمَّ ٱلزَّمَانُ، أَرْسَلَ ٱللَّهُ ٱبْنَهُ، مَوْلُودًا لاِمْرَأَةٍ، مَوْلُودًا فِي حُكْمِ ٱلشَّرِيعَةِ" (غَلاطِيَّة 4: 4)، لِكَيْ يُتِمَّ بِمَوْتِهِ ٱلصُّلْحَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱللَّهِ: "فَإِنْ صَالَحَنَا ٱللَّهُ بِمَوْتِ ٱبْنِهِ وَنَحْنُ أَعْدَاؤُهُ، فَمَا أَحْرَانَا أَنْ نَنْجُوَ بِحَيَاتِهِ وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ!" (رُومَة 5: 10).
إِنَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلْمَسِيحِيَّةَ هِيَ حَيَاةٌ فِي ٱلْإِيمَانِ بِٱبْنِ ٱللَّهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنَا وَضَحَّى بِنَفْسِهِ مِنْ أَجْلِنَا، كَمَا ٱخْتَبَرَهَا بُولُسُ ٱلرَّسُولُ: "فَإِنِّي أَحْيَاهَا فِي ٱلْإِيمَانِ بِٱبْنِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَجَادَ بِنَفْسِهِ مِنْ أَجْلِي" (غَلاطِيَّة 2: 20).
نَسْتَنْتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ لَقَبَ "ٱبْنُ ٱللَّهِ" يَكْتَسِبُ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى مَعْنًى قَوِيًّا، لَا يُرَادِفُ فَقَط "ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ دَاوُد"، بَلْ يُضْفِي عَلَى سَائِرِ أَلْقَابِ يَسُوعَ كُلَّ مَعَانِيهَا ٱلْحَقِيقِيَّةِ. فَإِذَا كُنَّا فِي حَيْرَةٍ، فَلْنُعْلِنْهُ عَلَى مِثَالِ بُطْرُسَ: "أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ٱلْحَيِّ" (مَتَّى ١٦: ١٦)، وَلْنَرَهُ بِإِيمَانِ قَائِدِ ٱلْمِئَةِ: "فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا ٱلزَّلْزَالَ وَمَا حَدَثَ، خَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا وَقَالُوا: كَانَ هٰذَا ٱبْنَ ٱللَّهِ حَقًّا!" (مَتَّى 27: 54).
عقيدة ٱلتَّجَسُّدُ وَٱبْنُ ٱللَّهِ
تَتَجَلَّى عَقِيدَةُ ٱلتَّجَسُّدِ بِكُلِّ أَبْعَادِهَا فِي وَاضِحِ ٱلْكَلاِمِ: "ما ظَهَرَتْ بِهِ مَحَبَّةُ ٱللهِ بَيْنَنَا هو أَنَّ ٱللهَ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِنَحْيَا بِهِ" (1 يُوحَنَّا 4: 9). وَهٰذَا ٱلْإِبْنُ ٱلْوَحِيدُ هُوَ ٱلَّذِي يُخْبِرُنَا عَنِ ٱللَّهِ: "إِنَّ ٱللَّهَ ما رَآهُ أَحَدٌ قَطُّ، ٱلْإِبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي فِي حِضْنِ ٱلْآبِ، هُوَ ٱلَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ" (يوحنا 1: 18). وَيَمْنَحُ ٱلْإِبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلْأَبَدِيَّةَ، ٱلَّتِي تَأْتِي مِنَ ٱللَّهِ: "إِنَّ ٱللَّهَ وَهَبَ لَنَا ٱلْحَيَاةَ ٱلْأَبَدِيَّةَ، وَأَنَّ هٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ هِيَ فِي ٱبْنِهِ. مَنْ كَانَ لَهُ ٱلْإِبْنُ فَكَانَت لَهُ ٱلْحَيَاةُ، وَمَنْ لَمْ يَكُن لَهُ ٱبْنُ ٱللَّهِ فَلَمْ تَكُن لَهُ ٱلْحَيَاةُ" (1 يُوحَنَّا 5: 11–12).
وَٱلْعَمَلُ ٱلْمَطْلُوبُ مِنَّا هُوَ ٱلْإِيمَانُ بِٱلإِبْنِ: "عَمَلُ ٱللَّهِ أَنْ تُؤْمِنُوا بِمَن أَرْسَلَ" (يوحنا 6: 29). وَمَنْ يُؤْمِنِ ٱلإِبْنَ ينال ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةَ: "أَنَّ كُلَّ مَنْ رَأَى ٱلإِبْنَ وَآمَنَ بِهِ فَكَانَتْ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلْأَبَدِيَّةُ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ" (يوحنا 6: 40). وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱلْإِبْنِ يَحْكُمُ عَلَى نَفْسِهِ بِٱلدَّيْنُونَةِ: "مَنْ آمَنَ بِهِ لَا يُدَانُ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَقَدْ دِينَ مُنْذُ ٱلْآنِ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللَّهِ ٱلْوَحِيدِ" (يوحنا 3: 18).
ألْآلَامُ وَٱلْقِيَامَةُ وَٱبْنُ ٱللَّهِ
أعْلِنُ ٱلْإِنْجِيلُ بِوُضُوحٍ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱبْنُ ٱللهِ ٱلْوَحِيدُ فِي مَعْنًى فَرِيدٍ، وَقَدْ تَجَسَّدَ فِي ٱلزَّمَانِ لِيُخَلِّصَ ٱلْبَشَرَ. فَٱلشَّهَادَةُ الْبِشَارِيَّةُ تَقُولُ: "وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ بَشَرًا، فَسَكَنَ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدَ ٱبْنٍ وَحِيدٍ لِلآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا" (يوحنا 1: 14). فَهٰذَا ٱلِابْنُ ٱلأَزَلِيُّ ٱلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلآبِ قَبْلَ كُلِّ ٱلدُّهُورِ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ، بَلْ "إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ"، قَدِ ٱتَّخَذَ جَسَدًا وَحَلَّ فِي وَسَطِنَا. وَبِهٰذِهِ ٱلْخُطُوَةِ ٱلْعَجِيبَةِ، صَارَ ٱللهُ قَرِيبًا مِنَ ٱلإِنْسَانِ، وَاتَّحَدَ بِهِ، لِيَرْفَعَهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَكَّدَ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ هٰذِهِ ٱلْحَقِيقَةَ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ غَلَاطِيَّةَ قَائِلًا: "وَلَمَّا تَمَّ ٱلزَّمَانُ أَرْسَلَ ٱللهُ ٱبْنَهُ، مَوْلُودًا مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، وَيَجْعَلَنَا نَنَالُ ٱلتَّبَنِّيَ" (غلاطية 4: 4-5).
إِذًا، لَقَبُ "ٱبْنُ ٱللهِ" فِي حَالَةِ يَسُوعَ لَيْسَ تَعْبِيرًا مَجَازِيًّا عَنْ ٱلْقُرْبِ مِنَ ٱللهِ، بَلْ هُوَ تَعْبِيرٌ حَرْفِيٌّ وَلَاهُوتِيٌّ يَدُلُّ عَلَى هُوِيَّةِ ٱلْمَسِيحِ ٱلْإِلَهِيَّةِ، وَعَلَى وَحْدَتِهِ ٱلْأَزَلِيَّةِ مَعَ ٱلآبِ، وَمَحَبَّتِهِ ٱلْفَادِيَةِ لِلْبَشَرِ. لَا يَكْفُلُ لِلْمَسِيحِ لَقَبُ "ٱبْنُ ٱللَّهِ" مَصِيرًا مَجِيدًا أَرْضِيًّا، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ كَـ"ٱبْنِ ٱلْإِنْسَانِ" أَنْ يَمُوتَ كَيْ يَبْلُغَ مَجْدَهُ، كَمَا جَاءَ فِي ٱلْإِنْجِيلِ: "وبَدأَ يَسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إِلى أُورَشَليم، ويُعانِيَ آلامًا شَديدةً مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَةِ، ويُقتَلَ، ويَقومَ في اليَومِ الثَّالث" (متى 16: 21).
فَلَا يُكْشَفُ لَقَبُ "ٱبْنُ ٱللَّهِ" فِي كُلِّ عِظَمِهِ إِلَّا مِنْ خِلَالِ ٱلْآلَامِ وَٱلْقِيَامَةِ. وَفِي سَاعَةِ ٱلصَّلِيبِ، تَبَدَّدَ كُلُّ ٱلِالْتِبَاسِ، وَٱعْتَرَفَ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ ٱلْوَثَنِيُّ قَائِلًا: "كانَ هٰذا ٱلرَّجُلُ ٱبْنَ ٱللَّهِ حَقًّا!" (مرقس 15: 39).
وَفِي صَلَاتِهِ فِي جَثْسَيْمَانِي، حَيْثُ خَاطَبَ ٱللهَ بِقَوْلِهِ: "أَبَّا، يَا أَبَتِ" (مرقس 14: 36)، ظَهَرَتْ أَلْفَةٌ بَنَوِيَّةٌ عَمِيقَةٌ، تَقُومُ عَلَى مَعْرِفَةٍ مُتَبَادَلَةٍ وَمُشَارَكَةٍ كَامِلَةٍ، كَمَا قَالَ: "قد سَلَّمَني أَبي كُلَّ شَيء، فما مِن أَحَدٍ يَعرِفُ ٱلابْنَ إِلَّا ٱلآب، ولا مِن أَحَدٍ يَعرِفُ ٱلآبَ إِلَّا ٱلابْن، ومَن شاءَ ٱلابْنُ أَنْ يَكشِفَهُ لَه" (متى 11: 27). بِهٰذَا، يُعْطِي يَسُوعُ مَعْنًى عَمِيقًا وَكَمَالًا لِلتَّصْرِيحَاتِ ٱلْإِلٰهِيَّةِ الَّتِي أُعْلِنَتْ فِي مَعْمُودِيَّتِهِ: "أَنتَ ٱبْنِيَ ٱلْحَبِيبُ، عَنكَ رَضِيتُ" (مرقس 1: 11).
عَلَى أَثَرِ شَهَادَةِ بُطْرُسَ بِإِيمَانِهِ أَنَّ يَسُوعَ "هُوَ ٱبْنُ ٱللَّهِ ٱلْحَيِّ"، أَقَامَهُ يَسُوعُ رَئِيسًا لِلكَنِيسَةِ، كَمَا تُبَيِّنُ ٱلنِّقَاطُ ٱلتَّالِيَةُ:
أ* أطْلَقَ يَسُوعُ عَلَى "سِمْعَانَ" ٱسْمَ "صَخْرٍ": "أَنا أَقولُ لَكَ: أَنتَ صَخْرٌ" (متى 16: 18). فَإِعْلَانُ ٱلْإِيمَانِ مِنْ قِبَلِ بُطْرُسَ بِٱلْمَسِيحِ ٱلْإِلٰه، يُقَابِلُهُ إِعْلَانُ ٱلْمَسِيحِ بِإِيمَانِهِ بِقُدْرَةِ بُطْرُسَ عَلَى ٱلثَّبَاتِ رُغْمَ ضُعْفِ ٱلطَّبِيعَةِ. فَٱلْمَسِيحُ يُقَوِّي بُطْرُسَ وَيُثَبِّتُهُ، وَيَجْعَلُ مِنْهُ ٱلصَّخْرَةَ ٱلَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا كِيَانُ ٱلْكَنِيسَةِ، وَيَبْقَى هُوَ ٱلْقُوَّةَ ٱلْخَفِيَّةَ ٱلَّتِي تَمْنَحُهُ ٱلثَّبَاتَ.
* رِئَاسَةُ ٱلْكَنِيسَةِ مُوَجَّهَةٌ إِلَى بُطْرُسَ وَحْدَهُ، لِأَنَّ إِيمَانَهُ بِٱلْمَسِيحِ كَانَ كَٱلصَّخْرَةِ ٱلَّتِي لَا تَتَزَعْزَعُ. فَٱلتَّسْمِيَةُ تَدُلُّ عَلَى مِهْمَةٍ جَدِيدَةٍ، كَمَا هُوَ شَائِعٌ عِنْدَ تَغْيِيرِ ٱلِٱسْمِ فِي ٱلْعَهْدِ ٱلْقَدِيمِ. وَٱسْمُ "صَخْرٍ" يُذَكِّرُ بِـ "حَجَرِ ٱلْأَسَاسِ" ٱلَّذِي يَدُلُّ عَلَى ٱلْمَسِيحِ، كَمَا تَنَبَّأَ عَنْهُ ٱلنَّبِيُّ أَشَعْيَاء: "فَيَكُونُ لِكِلَا ٱلْبَيْتَيْنِ حَجَرَ عَثْرَةٍ وَصَخْرَةَ صَدْمَةٍ" (أشعيا 8: 14).
نَالَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ مَهَمَّةً تَجْعَلُهُ أَسَاسَ ٱلْجَمَاعَةِ، فَعَلَى هٰذِهِ ٱلصَّخْرَةِ، يَبْنِي يَسُوعُ "كَنِيسَتَهُ: "وَعَلَى هٰذَا ٱلصَّخْرِ سَأَبْنِي كَنِيسَتِي" (متى 16: 18). فَأَعْلَنَ ٱلْمَسِيحُ لِبُطْرُسَ أَنَّهُ هُوَ ٱلْمُكَلَّفُ بِحِمَايَةِ ٱلْإِيمَانِ، وَمُمَارَسَةِ ٱلْعَدَالَةِ، وَإِدَارَةِ ٱلْكَنِيسَةِ عَلَى ضَوْءِ هٰذَا ٱلْإِيمَانِ.
* لَفْظَةُ "كَنِيسَة" تُذَكِّرُ بِٱلْكَلِمَةِ ٱلْعِبْرِيَّةِ "قَهَال" (קְהִלָּתִי) ٱلَّتِي تَعْنِي "جَمَاعَةَ ٱللَّهِ"، كَمَا فِي ٱلتَّرْجَمَةِ ٱلسَّبْعِينِيَّةِ. لَكِنَّ ٱلْجَدِيدَ فِي كَلَامِ يَسُوعَ هُوَ إِضَافَةُ ضَمِيرِ ٱلْمُتَكَلِّمِ "يَاء ٱلنِّسْبَةِ": "كَنِيسَتِي"، فَأَضْفَى عَلَى ٱلْمَعْنَى عُمْقًا جَدِيدًا. فَٱلْكَنِيسَةُ هِيَ عَمَلُ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِ ٱللَّهِ، فِيهَا يُقِيمُ، وَفِيهَا يَعْمَلُ بِرُوحِهِ.
* بِفَضْلِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلْمُرْتَبِطَةِ بِٱسْمِهِ ٱلْجَدِيدِ "صَخْرٌ"، يُشَارِكُ بُطْرُسُ فِي ٱلصِّفَاتِ ٱلَّتِي يُنْسِبُهَا ٱلْكِتَابُ ٱلْمُقَدَّسُ لِلَّهِ وَمَسِيحِهِ، وَهِيَ: ٱلصَّلَابَةُ وَٱلْأَمَانَةُ ٱلَّتَانِ لَا تَتَزَعْزَعَانِ. وَهٰذَا مَا يُظْهِرُ مَرْكَزَهُ ٱلْفَرِيدَ فِي ٱلْخِدْمَةِ.
* ٱخْتِيَارُ بُطْرُسَ لَا يَرْجِعُ إِلَى شَخْصِيَّتِهِ فَقَطْ، بَلْ إِلَى ٱلرِّسَالَةِ ٱلَّتِي عَهِدَ ٱلْمَسِيحُ بِهَا إِلَيْهِ، وَٱلَّتِي تَمَّمَهَا فِي ٱلْأَمَانَةِ وَٱلْمَحَبَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِ يَسُوعَ لَهُ: "أَتُحِبُّنِي؟... إِرْعَ خِرَافِي!" (يوحنا 21: 15–17). وَيُعَلِّقُ ٱلْبَابَا ٱلْقِدِّيسُ لاَوُن ٱلْكَبِيرُ قَائِلًا: "ٱخْتَارَ ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ بُطْرُسَ لِيَسْهَرَ عَلَى نِدَاءَاتِ ٱلشُّعُوبِ كُلِّهَا، وَعَلَى قِيَادَةِ ٱلرُّسُلِ وَآبَاءِ ٱلْكَنِيسَةِ أَجْمَعِينَ. إِنَّهُ قَائِدٌ بِشَخْصِهِ، فِي حِينِ أَنَّ ٱلرَّبَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ يَقُودُهُمْ أَيْضًا بِصِفَتِهِ ٱلرَّأْسَ" (ٱلْعِظَةُ ٱلرَّابِعَةُ فِي ذِكْرَى سِيَامَتِهِ). فَٱلْكَنِيسَةُ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعْتَمِدَ عَلَى صَلَابَةِ إِيمَانِ بُطْرُسَ، ٱلَّذِي يَقُومُ بِمُهِمَّةٍ رَئِيسِيَّةٍ فِيهَ.
وَبِٱلْإِضَافَةِ إِلَى ذٰلِكَ، قَدْ سَلَّمَ يَسُوعُ إِلَى بُطْرُسَ ٱلْمَفَاتِيحَ، فَقَالَ لَهُ: "سَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ. فَمَا رَبَطْتَهُ فِي ٱلْأَرْضِ رُبِطَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، وَمَا حَلَلْتَهُ فِي ٱلْأَرْضِ حُلَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ" (متى 16: 19). فَقَدْ جَعَلَ يَسُوعُ مِنْ بُطْرُسَ رَئِيسًا عَلَى ٱلْكَنِيسَةِ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي نُبُوءَةِ أَشَعْيَاء: "وَأَجْعَلُ مِفْتَاحَ بَيْتِ دَاوُدَ عَلَى كَتِفِهِ، يَفْتَحُ فَلَا يُغْلِقُ أَحَدٌ، وَيُغْلِقُ فَلَا يَفْتَحُ أَحَدٌ" (أشعيا 22: 22)، وَسَلَّمَهُ ذٰلِكَ ٱلسُّلْطَانَ ٱلَّذِي تَوَلَّاهُ، كَمَا وَرَدَ فِي رُؤْيَا يُوحَنَّا: "مَا يَقُولُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلْحَقُّ، مَنْ عِنْدَهُ مِفْتَاحُ دَاوُدَ، مَنْ يَفْتَحُ فَلَا أَحَدَ يُغْلِقُ، وَيُغْلِقُ فَلَا أَحَدَ يَفْتَحُ" (رؤيا 3: 7).
وَٱلْوَاقِعُ أَنَّ عِبَارَةَ "ٱلرَّبْطِ وَٱلْحَلِّ" تُعَبِّرُ فِي مَفْهُومِ ٱلرَّبَّانِيِّينَ عَنِ ٱلسُّلْطَةِ: إِمَّا لِوَضْعِ ٱلْقَوَانِينِ، وَإِمَّا لِلْفَصْلِ عَنِ ٱلْجَمَاعَةِ وَٱلضَّمِّ إِلَيْهَا عَنْ طَرِيقِ ٱلْإِدَانَةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ. وَمِنْ هٰذَا ٱلْمُنْطَلَقِ، فَإِنَّ سُلْطَانَ ٱلْمَفَاتِيحِ ٱلَّذِي سُلِّمَ إِلَى بُطْرُسَ، وَلَا بَلْ إِلَى مُجْمَلِ ٱلْجَمَاعَةِ أَيْضًا (متى 18: 18)، هُوَ سُلْطَانٌ رُوحِيٌّ يَسْتَمِدُّ أَهَمِّيَّتَهُ مِنَ ٱللَّهِ ٱلَّذِي يُصَادِقُ عَلَيْهِ.
وَأَخِيرًا، يُؤَكِّدُ إِعْلَانُ يَسُوعَ: "أَنا أَقولُ لَكَ: أَنتَ صَخْرٌ، وَعَلَى هٰذَا ٱلصَّخْرِ سَأَبْنِي كَنِيسَتِي" عَلَى دَوْرِ بُطْرُسَ ٱلَّذِي لَعِبَهُ فِي ٱلْأَيَّامِ ٱلْأُولَى لِلْكَنِيسَةِ (متى 4: 18؛ 17: 1). وَتَسْتَنِدُ ٱلْكَنِيسَةُ ٱلْكَاثُولِيكِيَّةُ إِلَى هٰذَا ٱلنَّصِّ، وَتَبْنِي عَلَيْهِ تَعْلِيمَهَا ٱلْقَائِلَ بِأَنَّ بُطْرُسَ هُوَ رَئِيسُ ٱلْكَنِيسَةِ، وَأَنَّ خُلَفَاءَهُ ٱلْبَابَوَاتِ يَرِثُونَ رِئَاسَتَهُ.
آبَاءُ ٱلْكَنِيسَةِ رِئَاسَةُ بُطْرُسَ
يَشْهَدُ آبَاءُ ٱلْكَنِيسَةِ أَنَّ ٱلْمَسِيحَ أَقَامَ ٱلْكَنِيسَةَ عَلَى بُطْرُسَ، وَيَعْتَرِفُونَ لَهُ عَلَى ٱلرُّسُلِ جَمِيعِهِمْ بِٱلرِّئَاسَةِ ٱلْأُولَى، وَهُمْ فِي ذٰلِكَ عَلَى ٱتِّفَاقٍ مَعَ ٱلْوَعْدِ ٱلَّذِي قَطَعَهُ لَهُ ٱلْمَسِيحُ.
فَقَدْ وَصَفَ ٱلْقِدِّيسُ إِغْنَاطِيُوسُ ٱلْأَنْطَاكِيُّ، تِلْمِيذُ ٱلرُّسُلِ، كَنِيسَةَ رُومَا: "ٱلْكَنِيسَةَ ٱلَّتِي تَرْأَسُ جَمَاعَةَ ٱلْمَسِيحِيَّةِ كُلِّهَا."
وَشَهِدَ ٱلْقِدِّيسُ إِيرِينِيُوسُ، أُسْقُفُ لِيُون فِي فَرَنْسَا: "إِلَى هٰذِهِ ٱلْكَنِيسَةِ يَجِبُ أَنْ تَرْجِعَ كُلُّ ٱلْكَنَائِسِ، بِسَبَبِ سِيَادَتِهَا ٱلْعُلْيَا، وَلِأَنَّ تَقْلِيدَ ٱلرُّسُلِ حُفِظَ فِيهَا."
وَسَمَّى ٱلْعَلَّامَةُ تَرْتُلْيَانُ الأَفْرِيقِيُّ أُسْقُفَ رُومَا: "ٱلْحَبْرَ ٱلْأَعْظَمَ"، وَ"أُسْقُفَ ٱلْأُسَاقِفَةِ." وَقَالَ:"ٱلْكَنِيسَةُ بُنِيَتْ عَلَى بُطْرُسَ، وَكَنِيسَةُ رُومَا تَرَأَّسُ أُمَّةَ ٱلْمَحَبَّةِ."
وَقَالَ إِقْلِيمَنْدُسُ ٱلْإِسْكَنْدَرِيُّ عَنِ ٱلْقِدِّيسِ بُطْرُسَ: “ٱلْمُخْتَارُ، ٱلْمُصْطَفَى، ٱلْأَوَّلُ فِي ٱلتَّلَامِيذِ، ٱلَّذِي دَفَعَ ٱلْمَسِيحُ لِنَفْسِهِ وَلَهُ ٱلْجِزْيَةُ" (متى 17: 25).
وَدَعَاهُ ٱلْقِدِّيسُ كِيرِلُّسُ ٱلْأُورُشَلِيمِيُّ: "رَأْسُ ٱلرُّسُلِ وَإِمَامُهُمْ" (ٱلتَّعْلِيمُ ٱلْمَسِيحِيُّ 19: 2).
وَقَالَ ٱلْقِدِّيسُ لاَوُن ٱلْكَبِيرُ: "إِنَّ بُطْرُسَ قَدِ ٱخْتِيرَ لِيَكُونَ وَحْدَهُ فِي ٱلْعَالَمِ كُلِّهِ، رَئِيسًا لِكُلِّ ٱلشُّعُوبِ ٱلْمَدْعُوَّةِ، وَلِكُلِّ ٱلرُّسُلِ، وَلِكُلِّ آبَاءِ ٱلْكَنِيسَةِ" (ٱلْعِظَةُ 2: 4).
وَقَالَ ٱلْقِدِّيسُ كِبْرِيَانُسُ ٱلْقُرْطَاجِيُّ: "لَقَدْ بَنَى ٱلْمَسِيحُ ٱلْكَنِيسَةَ عَلَى وَاحِدٍ."(فِي وَحْدَةِ ٱلْكَنِيسَةِ 6). وَوَصَفَ كَنِيسَةَ رُومَا بِأَنَّهَا:"ٱلْكَنِيسَةُ ٱلرَّئِيسِيَّةُ ٱلَّتِي هِيَ مَصْدَرُ ٱلِٱتِّحَادِ ٱلْكَهَنُوتِيِّ".
وَقَالَ ٱلْقِدِّيسُ أوغسطينوس: "رُومَا تَكَلَّمَت، فَقُضِيَ ٱلْأَمْر."
وأَضَافَ ٱلْقِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوسُ: "حَيْثُ بُطْرُسُ، هُنَاكَ ٱلْكَنِيسَةُ."
وَهٰكَذَا، يُعْتَبَرُ أَسَاقِفَةُ رُومَا خُلَفَاءَ لِلْقِدِّيسِ بُطْرُسَ، وَخُدَّامًا لِوَحْدَةِ ٱلْكَنِيسَةِ ٱلْجَامِعَةِ.
وَيَقُولُ ٱلْبَابَا ٱلْقِدِّيسُ يُوحَنَّا بُولُسُ ٱلثَّانِي: "إِنَّ أَسْقَفَ رُومَا هُوَ أُسْقُفُ ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي لَا تَزَالُ مَوْسُومَةً بِشَهَادَتَي بُطْرُسَ وَبُولُسَ."
ٱلرُّؤْيَةُ الكاثوليكية
قَابَلَ كَثِيرٌ مِنْ آبَاءِ ٱلْكَنِيسَةِ فِي جِهَادِهِمْ ضِدَّ ٱلْآرِيُوسِيَّةِ، بَيْنَ ٱلصَّخْرَةِ ٱلَّتِي عَلَيْهَا بَنَى ٱلْمَسِيحُ كَنِيسَتَهُ، وَبَيْنَ ٱلْإِيمَانِ بِأُلُوهَةِ ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي ٱعْتَرَفَ بِهِ بُطْرُسُ، دُونَ أَنْ يَفْصِلُوا بَيْنَ ٱلِاثْنَيْنِ فِي صِلَتِهِمَا بِشَخْصِ بُطْرُسَ. فَٱلْإِيمَانُ ٱلَّذِي ٱعْتَرَفَ بِهِ بُطْرُسُ كَانَ ٱلدَّاعِيَ لِٱخْتِيَارِ ٱلْمَسِيحِ لَهُ أَسَاسًا تُقَامُ عَلَيْهِ ٱلْكَنِيسَةُ. وَنَسْتَنْتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ ٱلْأَوْلَوِيَّةَ وَٱلسُّلْطَانَ ٱلْأَعْظَمَ هُمَا لِلْـحَبْرِ ٱلرُّومَانِيِّ. فَقَدْ بَنَى ٱلسَّيِّدُ ٱلْمَسِيحُ كَنِيسَتَهُ عَلَى بُطْرُسَ وَحْدَهُ، وَإِلَيْهِ عَهِدَ بِرِعَايَةِ خِرَافِهِ، وَإِنْ كَانَ فَوَّضَ بَعْدَ قِيَامَتِهِ لِلرُّسُلِ سُلْطَانًا مِثْلَ ٱلَّذِي أَعْطَاهُ لِبُطْرُسَ.
وَٱلْكَنِيسَةُ ٱلْكَاثُولِيكِيَّةُ ٱسْتَنَدَتْ إِلَى قَوْلِ ٱلْمَسِيحِ لِبُطْرُسَ: "أَنتَ صَخْرٌ، وَعَلَى ٱلصَّخْرِ هٰذَا سَأَبْنِي كَنِيسَتِي" وَبَنَتْ عَلَيْهِ تَعَالِيمَهَا ٱلْقَائِلَةَ بِأَنَّ خُلَفَاءَ بُطْرُسَ هُمْ مَنْ يَرِثُونَ ٱلرِّئَاسَةَ. وَيُعَلِّقُ ٱلْبَابَا إِنُّوقِنْطِيُوسُ ٱلثَّالِثُ (بَابَا رُومَا مِنْ 1198 إِلَى 1216): "لَقَدْ طَلَبَ ٱلرَّبُّ مِنْ بُطْرُسَ ٱلْإِيمَانَ عِنْدَمَا أَوْدَعَهُ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ، وَٱلْمَحَبَّةَ عِنْدَمَا أَوْدَعَهُ خِرَافَهُ. وَعَلَى صَخْرَةِ ٱلْإِيمَانِ هٰذِهِ بُنِيَتِ ٱلْكَنِيسَةُ. لَقَدْ نَالَ بُطْرُسُ بِهٰذَا شَرَفَيْنِ: لَقَدْ أَصْبَحَ أَسَاسَ ٱلْكَنِيسَةِ وَرَئِيسَهَا" (ٱلْعِظَةُ رَقْم 21). وَيَكْفُلُ بُطْرُسُ ٱسْتِمْرَارِيَّةَ ٱلتَّوَاصُلِ بَيْنَ يَسُوعَ كَمَا عَاشَ عَلَى ٱلْأَرْضِ، وَبَيْنَ ٱلْجَمَاعَةِ ٱلْكَنَسِيَّةِ، إِذْ صَارَ بُطْرُسُ وَكِيلًا وَنَائِبًا عَنِ ٱلْمَسِيحِ عَلَى ٱلْكَنِيسَةِ، فَكَانَ لَهُ سُلْطَانٌ شَرْعِيٌّ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ سُلْطَانِ ٱلِاثْنَيْ عَشَرَ (متى ١٨: ١٨)، وَلٰكِنَّهُ يَفُوقُهُمْ جَمِيعًا.
ٱلرُّؤْيَةُ ٱلْأُرْثُوذُكْسِيَّةُ وَٱلْإِصْلَاحُ ٱلْإِنْجِيلِيُّ
يَعْتَقِدُ ٱلتَّقْلِيدُ ٱلْأُرْثُوذُكْسِيُّ بِأَنَّ جَمِيعَ ٱلْأُسَاقِفَةِ ٱلْمُعْتَرِفِينَ بِٱلْإِيمَانِ ٱلْقَوِيمِ هُمْ خُلَفَاءُ بُطْرُسَ وَخُلَفَاءُ ٱلرُّسُلِ، نَظَرًا لِمَا قَالَهُ يَسُوعُ لِبُطْرُسَ:"أَنتَ صَخْرٌ، وَعَلَى ٱلصَّخْرِ هٰذَا سَأَبْنِي كَنِيسَتِي، فَلَنْ يَقْوَى عَلَيْهَا سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ" (متى 16: 16)، حَيْثُ إِنَّ كَلَامَهُ مُوَجَّهٌ إِلَى بُطْرُسَ كَنَائِبٍ عَنْ سَائِرِ ٱلرُّسُلِ، وَٱلرِّئَاسَةُ هِيَ أَيْضًا لِجَمِيعِ ٱلرُّسُلِ مَعًا.
وَجَاءَ أَيْضًا فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ ٱلرَّسُولِ: "بُنِيتُمْ عَلَى أَسَاسِ ٱلرُّسُلِ وَٱلْأَنْبِيَاءِ، وَحَجَرُ ٱلزَّاوِيَةِ هُوَ ٱلْمَسِيحُ يَسُوعُ نَفْسُهُ" (أفسس 2: 20). وَقَدْ صَرَّحَ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَشَرِيكُ ٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي سَيُعْلَنُ: "فَٱلشُّيُوخُ ٱلَّذِينَ بَيْنَكُمْ، أَعِظُهُمْ أَنَا ٱلشَّيْخُ مِثْلَهُمْ، وَٱلشَّاهِدُ لِآلَامِ ٱلْمَسِيحِ، وَمَنْ لَهُ نَصِيبٌ فِي ٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي يُوشِكُ أَنْ يَتَجَلَّى" (1 بطرس 5: 1). وَكَانَ بُطْرُسُ فِي مَجْمَعِ ٱلْكَنِيسَةِ ٱلْأَوَّلِ فِي أُورُشَلِيمَ كَسَائِرِ ٱلْأَعْضَاءِ، وَكَانَ ٱلرَّئِيسُ هُوَ يَعْقُوبُ (أعمال الرسل 15: 13).
وَأَمَّا مُفَسِّرُو ٱلْإِصْلَاحِ، فَلَا يُنْكِرُونَ مَا كَانَ لِبُطْرُسَ مِنْ مَكَانَةٍ وَدَوْرٍ مُمَيَّزٍ فِي نَشْأَةِ ٱلْكَنِيسَةِ، لَكِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ أَنَّ ٱلْمَسِيحَ أَقَامَهُ رَئِيسًا عَلَى جَمِيعِ ٱلرُّسُلِ وَرَأْسًا مَنْظُورًا لِلْكَنِيسَةِ كُلِّهَا. فَهُمْ لَا يَعْتَرِفُونَ بِمَنْصِبِ ٱلْبَابَا، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ إِنَّ ٱلْمَسِيحَ فَوَّضَ كُلَّ ٱلسُّلْطَةِ ٱلرُّوحِيَّةِ مُبَاشَرَةً إِلَى ٱلْكَنِيسَةِ، وَبِوَاسِطَةِ ٱلْكَنِيسَةِ إِلَى ٱلْقِدِّيسِ بُطْرُسَ، بِحَيْثُ إِنَّ بُطْرُسَ كَانَ ٱلْخَادِمَ ٱلْأَوَّلَ لِلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي ٱخْتَارَهَا لَهَا. وَيُبَرِّرُونَ ذٰلِكَ بِأَنَّ سُلْطَةَ ٱلْبَابَا تَتَعَارَضُ مَعَ تَعَالِيمِ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ، وَمِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ لَا يُوجَدُ كُرْسِيٌّ بَابَوِيٌّ فِي ٱلْكَنَائِسِ ٱلْبْرُوتِسْتَانْتِيَّةِ.
وَمَاذَا يَنْتَظِرُ مِنَّا يَسُوعُ ٱلْيَوْمَ؟ إِنَّهُ لَا يَزَالُ يَطْرَحُ ٱلسُّؤَالَ: "مَنْ أَنَا فِي قَوْلِكُمْ أَنْتُمْ؟" يُرِيدُ يَسُوعُ ٱلْإِيمَانَ بِهِ، وَٱلْوَحْدَةَ بَيْنَنَا. فَلْنَقْتَفِ خُطَى بُطْرُسَ، وَنَعْتَرِفْ بِإِيمَانٍ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ رَبُّنَا وَمَسِيحُنَا، ٱلَّذِي مَاتَ وَقَامَ مِنْ أَجْلِنَا لِيُدْخِلَنَا فِي مَلَكُوتِهِ ٱلسَّمَاوِيِّ.
ٱلْخُلاَصَةُ
عِنْدَمَا سَأَلَ ٱلسَّيِّدُ ٱلْمَسِيحُ سُؤَالَهُ: "مَنْ ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ فِي قَوْلِ ٱلنَّاسِ؟"، رَدَّدَ ٱلتَّلَامِيذُ مَا يَقُولُهُ ٱلنَّاسُ. فَمَثَلًا، قَالَ هِيرُودُسُ إِنَّهُ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ (متّى 14: 2)، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ إِيلِيَّا، أَيْ سَابِقُ ٱلْمَسِيحِ ٱلْمُرْتَقَبُ (ملاخي 4: 5)، وَتَصَوَّرَ غَيْرُهُمْ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّ مُوسَى تَنَبَّأَ بِقَوْلِهِ: "نَبِيًّا مِثْلِي يُقِيمُ لَكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ، إِلَيْهِ تَسْمَعُونَ" (تثنية ٱلِاشْتِرَاع 18: 15).
لٰكِنَّ بُطْرُسَ لَمْ يُكَوِّنْ رَأْيَهُ فِي ٱلسَّيِّدِ ٱلْمَسِيحِ مِنْ كَلَامِ ٱلنَّاسِ، بَلْ ٱلرَّبُّ نَفْسُهُ كَشَفَ لَهُ هٰذِهِ ٱلْحَقِيقَةَ. وَبِنَاءً عَلَى هٰذَا ٱلْوَحْيِ، شَهِدَ بُطْرُسُ بِأُلُوهَةِ ٱلْمَسِيحِ، فَمَنَحَهُ يَسُوعُ مُهِمَّةَ رِئَاسَةِ ٱلْكَنِيسَةِ. فَقَدْ أَقَامَ ٱلْمَسِيحُ بُطْرُسَ صَخْرًا لِجَمَاعَتِهِ، كَمَا فِي نُبُوءَةِ أَشْعِيَاء: "ٱسْمَعُوا لِي أَيُّهَا ٱلْمُتَّبِعُونَ لِلْبِرِّ، ٱلْمُلْتَمِسُونَ لِلرَّبِّ، ٱنْظُرُوا إِلَى ٱلصَّخْرِ ٱلَّذِي نُحِتُّمْ مِنْهُ، وَإِلَى ٱلْمَقْلَعِ ٱلَّذِي ٱقْتُلِعْتُمْ مِنْهُ" (أشعيا 51: 1)، وَكَلَّفَهُ بِرِسَالَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْهَا جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ.
إِنَّ شَهَادَةَ بُطْرُسَ، ٱلْمُوَحى بِهَا مِنَ ٱلْآبِ، تَجْعَلُ مِنْهُ ٱلصَّخْرَةَ ٱلَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا كَنِيسَةُ ٱلْمَسِيحِ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "أَنْتَ صَخْرَةٌ، وَعَلَى هٰذِهِ ٱلصَّخْرَةِ سَأَبْنِي كَنِيسَتِي، وَلَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا أَبْوَابُ ٱلْجَحِيمِ" (مَتَّى 16: 18). ٱسْتَعْمَلَ يَسُوعُ لَفْظَ "صَخْرَةٌ" (بِٱلْيُونَانِيَّةِ: Πέτρος) ٱلْمُشْتَقَّ مِنِ ٱسْمِ بُطْرُسَ، لِيُعَبِّرَ عَنْ ٱلثَّبَاتِ وَٱلثِّقَةِ. فَكَمَا أَنَّ ٱلْبُنْيَانَ يَحْتَاجُ إِلَى أَسَاسٍ صَلْبٍ، كَذٰلِكَ ٱلْكَنِيسَةُ تَحْتَاجُ إِلَى رِئَاسَةٍ وَحِفَاظٍ عَلَى ٱلْوَحْيِ وَٱلْإِيمَانِ.
وَبِإِعْطَائِهِ "مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ"، أَسَّسَ ٱلرَّبُّ يَسُوعُ سُلْطَةَ بُطْرُسَ وَخَلَفَائِهِ، وَمَنَحَهُ سُلْطَةَ ٱلْحَلِّ وَٱلرَّبْطِ، أَيْ ٱلسُّلْطَةَ ٱلتَّعْلِيمِيَّةَ وَٱلتَّشْرِيعِيَّةَ وَٱلرِّعَائِيَّةَ فِي ٱلْكَنِيسَةِ. وَقَدْ تَأَكَّدَ هٰذَا ٱلتَّفْوِيضُ فِي بَعْدِ ٱلْقِيَامَةِ، عِنْدَمَا سَأَلَ يَسُوعُ بُطْرُسَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: "أَتُحِبُّنِي؟"، ثُمَّ قَالَ لَهُ: "ٱرْعَ خِرَافِي" (يُوحَنَّا 21: 15-17)، فَجَعَلَهُ رَاعِيًا لِكُلِّ ٱلْقَطِيعِ، أَيْ لِكُلِّ ٱلْكَنِيسَةِ. وَبِهٰذَا تَتَأَسَّسُ ٱلْكَنِيسَةُ عَلَى إِيمَانِ بُطْرُسَ وَشَخْصِهِ، لِتَكُونَ وَاحِدَةً، مُقَدَّسَةً، جَامِعَةً، وَرَسُولِيَّةً.
وَقَدْ عَهِدَ يَسُوعُ إِلَى بُطْرُسَ، ٱلَّذِي ٱعْتَرَفَ بِأَنَّهُ ٱبْنُ ٱللهِ ٱلْحَيِّ، رِسَالَةَ جَمْعِ بَنِي ٱلْبَشَرِ فِي جَمَاعَةٍ تُوهَبُ لَهَا ٱلْمُسَاعَدَةُ وَٱلْحَيَاةُ ٱلْأَبَدِيَّةُ. وَٱلْكَنِيسَةُ ٱلْمُقَامَةُ عَلَى بُطْرُسَ تَضْمَنُ ٱلِٱنْتِصَارَ عَلَى قُوَى ٱلشَّرِّ، ٱلَّتِي هِيَ سُلْطَاتُ ٱلْمَوْتِ. وَهِيَ تَعْتَمِدُ عَلَى إِيمَانِ بُطْرُسَ، ٱلَّذِي يَقُومُ بِمُهِمَّةٍ رَئِيسِيَّةٍ فِي ٱلْكَنِيسَةِ. فَلَا بُدَّ لِبُطْرُسَ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا عَلَى ٱلدَّوَامِ، مِنْ خِلَالِ خَلِيفَتِهِ، مِنْ أَجْلِ تَوْصِيلِ حَيَاةِ ٱلْمَسِيحِ إِلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ دُونَ تَوَقُّفٍ. وَيُعَلِّقُ ٱلْبَابَا ٱلْقِدِّيسُ بِيُّوسُ ٱلْعَاشِرُ فِي وَصِيَّتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ: "وَجِّهُوا خُطُوَاتِ نُفُوسِكُمْ نَحْوَ صَلَابَةِ هٰذِهِ ٱلصَّخْرَةِ، كَمَا فِي ٱلْبِدَايَةِ: فَعَلَى هٰذِهِ ٱلصَّخْرَةِ بَنَى مُخَلِّصُنَا ٱلْكَنِيسَةَ فِي ٱلْعَالَمِ أَجْمَعَ، كَمَا تَعْلَمُونَ، بِحَيْثُ لَا تَتَعَثَّرَ ٱلْقُلُوبُ ٱلطَّيِّبَةُ ٱلَّتِي تَتْبَعُ خُطَاهَا" (ٱلرِّسَالَةُ ٱلْعَامَّة: ٱلتَّذْكَارُ ٱلْفَرِحُ، Iucunda Sane، 12 آذار 1904).
أَمَّا بُولُسُ، رَسُولُ الْأُمَمِ، فَلِقَاؤُهُ مَعَ الْمَسِيحِ عَلَى طَرِيقِ دِمَشْقَ قَلَبَ الِاضْطِهَادَ إِلَى رِسَالَةٍ، وَالْغَيْرَةَ الْعَمْيَاءَ إِلَى نَارِ حُبٍّ. مِنْ مُطَارِدٍ لِلْمَسِيحِيِّينَ إِلَى كَارِزٍ لَا يَعْرِفُ الْكَلَلَ، حَمَلَ بُولُسُ الْإِنْجِيلَ مِنْ أُورَشَلِيمَ إِلَى رُومَا، وَمِنَ الصَّمْتِ إِلَى الشَّهَادَةِ. كِلَاهُمَا، بُطْرُسُ وَبُولُسُ، حَمَلَا وَدِيعَةَ الْإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لَا كَنَظَرِيَّةٍ، بَلْ كَحَيَاةٍ؛ لَا كَاسْمٍ، بَلْ كَوَجْهٍ حَيٍّ، وَكَكَلِمَةٍ تُغَيِّرُ الْوُجُودَ.
دُعَاء
أَيُّهَا ٱلْآبُ ٱلْقُدُّوسُ، يَا مَنْ أَوْحَيْتَ إِلَى بُطْرُسَ أَنْ يَعْتَرِفَ أَنَّ ٱبْنَكَ يَسُوعَ هُوَ "ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللهِ ٱلْحَيِّ"، فَنَالَ سُلْطَةَ ٱلرِّئَاسَةِ فِي ٱلْكَنِيسَةِ؛ هَبْ لَنَا نِعْمَةَ ٱلْإِيمَانِ لِنَحْيَا فِي حِضْنِ ٱلْكَنِيسَةِ، فِي وَحْدَةٍ مَعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلرَّبِّ، مِنْ خِلَالِ ٱلْبَابَا، خَلِيفَةِ ٱلْقِدِّيسِ بُطْرُسَ؛ فَلَا تَقْوَى عَلَيْنَا قُوَى ٱلشَّرِّ، بَلْ نَبْقَى فِي ٱلْأَمَانِ وَٱلسَّلَامِ، بِفَضْلِ ٱبْنِكَ ٱلْحَبِيبِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، رَبِّنَا. آمِينَ.