موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الـميلاد الإلهيّ (أ)
الـمُقدّمة
نقترب في سلستنا الكتابيّة من الوصول إلى ذروة زمن الـمجئ الّذي أهلتنا به القراءات الكتابيّة فيما بين العهدّين لنستعد حاملين أربع مصابيح (التأهب، الـملكوت، الحياة، الحكمة) لنقترب من أكتشاف "سرّ الـمولود الإلهيّ. يرافقنا في أكتشاف هذا السرّ أشعيا النبي (52: 7- 10) حيث سيساعدنا في التعرف على قدميّ مُرسل من قِبل الرّبّ لنتبعه في مسيرة الفداء. وبالتوازي سنناقش في مرحلة ثانيّة مقدمة الإنجيل الرابع بحسب يوحنّا (1: 1- 18)، حيث ببراعته يشاركنا في تفسر جديد لنعيش سرّ هذا الـمولود الّذي لا يدرك سرّه الكثيرين بل هناك من يجهلونه. ولكن مفاجأة الكاتب تعلن الكثير حيث سيكشف لنا معنى الحياة والنّور بل الـمجد الّذي يُتوج به هذ الـمولود الإليه فيزيح عن سرّه كابن وأيضًا يكشف عن سرّ الآب الّذي ينعكس في كشف سرّ الـمولود الإلهي. نهدف من خلال هذا الـمقال بأنّ نقترب تدريجيًا لنحمل مصابيحنا أمام طفل الـمغارة الّذي يشع بعد قرون وألفيتين من ميلاده أنّ يكشف لنا الـمزيد من سرّه لنصير أكثر قُربًا لله الآب.
1. التنبوء بالخلاص (اش 52: 7- 10)
يختتم النبيّ أشعيا الـمقطع السابق للنص الّذي سنناقشه بقوله: «لِذلك يَعرِفُ شَعْبيَ اِسْمي في ذلك اليَّوم لِأَنِّي أَنا القائِل: "هاءَنَذا حاضِر"» (اش 52: 6). هذا الحضور الإلهيّ والسرّيّ الّذي كشفه الرّبّ والّذي يعلنه لنا النبيّ أشعيا قبل تجسد يسوع بثماني قرون تقريبًا، مما يؤهلنا لإستقبال الجديد الّذي سيعلنه في الـمقطع التالي مؤكداً على جوهريّة خلاصه للبشريّة من خلال صفات ثلاث للآتي قائلاً: «ما أَجمَلَ قَدَمَيِ الـمُبَشِّر الـمُخبِرِ بِالسَّلامِ الـمُبَشِّرِ بِالخَير الـمُخبِرِ بِالخَلاص على الجِبالِ القائِلِ لِصِهْيون: "قد مَلَكَ إِلهُكِ". أَصْواتُ رُقَبائِكِ! قد رَفَعوا أَصْواتَهم وهم يَهتِفونَ جَميعاً لِأَنَّهم يَرَونَ عِياناً الرَّبَّ راجِعاً إِلى صِهْيون. إِندَفِعي بِالهُتافِ جَميعاً يا أَخرِبَةَ أُورَشَليم فإِنَّ الرَّبَّ قد عَزَّى شَعبَه واِفتَدى أُورَشَليمَ» (اش 52: 7- 9). وأخيراً يختتم النبيّ هذا المقطع مشيراً إلى نعمة الخلاص الشموليّ أي للجميع بدون إستثناء قائلاً: «كَشَفَ الرَّبُّ عن ذراعِ قُدسِه على عُيونِ جَميعِ اَلأُمَم فتَرى كُلُّ أَطْرافِ الأَرضِ خَلاصَ إِلهِنا» (اش 52: 10). هذا هو سرّ الآتي بقدميّه لعالـمنا، آتيًا ليحمل السّلام والخير والأهم هو الخلاص الّذي يشير لفدائه الـمُستقبليّ والّذي سيتم بعد إتمام رسالته الأرضيّة بيننا ولأجلنا. من خلال تنبوء أشعيا بهذه الآيات الّتي كشف الرّبّ عن سرّ الحياة الّذي سيدفق فينا ويمنحنا الخلاص منذ ولادة هذا الابن الإلهي الّذي سيغير حياتتنا وعالـمنا منذ ولادته وحتى صعوده للآب ليحمل لنا هذا الفداء الّذي يتممّه قبلاً في جسده ثم فينا.
2. BRISHIT-في البدء (يو 1: 1 - 3)
يشير يوحنّأ الإنجيليّ من خلال كلماته الأوّلى والّتي تبثّ الحياة إذ بعد أنّ قدم لنا أزليّة مانح الحياة بقوله: «في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله. كانَ في البَدءِ لَدى الله. بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان» (يو 1: 1- 3). BRISHIT أي في البدء، الكلمة الإلهيّة هو بمثابة البدء الجديد الّذي سيفتتح به الله الآب حياة وقيمة ومعنى وصفحة جديدة لكلّ بشريّتنا في اِبنه. شدّد كاتب الإنجيل الرابع والتلميذ الّذي أحبه الرّبّ، منذ أوّل كلماته على البدء الجديد الّذي تمّ إفتتاحه في يسوع الكلمة الإلهيّ الّتي نطق بها الآب في آخر الأزمنة (راج عب 1: 1- 4). إكتفي الله الآب، في يسوع الابن، بكشف كلّ من هو جديد لأنّ في يسوع كشف ولازال يكسف ما هو جديد وإلهيّ عن الحياة الثالوثيّة الّتي تجسدت في الابن. كما أشار كاتب سفر التكوين على مُصطلح " BRISHIT-في البدء" هكذا أراد الإنجيليّ أنّ يستخدم ذات الـمُصطلح مستخطمًا لفظ "الكلمة" كفاعل ليدل على أنّ في يسوع كلّ كلمة منطوقة وموحى بها من الآب وصلت إلى ذُروتها في شخصه الـمُتجسد.
3. مانح الحياة والنّور (يو 1: 4- 13)
تتوالى إستخدامات كاتب الإنجيل الرابع بلفظين يتكرران كثيراً مُشيراً إلى الـمصدر الّذي منح الحياة والنّور معًا، ليّ ولك ولكلّ بشريّ بقوله: «فيهِ كانَتِ الحَياة والحَياةُ نورُ النَّاس والنُّورُ يَشرِقُ في الظُّلُمات ولَم تُدرِكْه الظُّلُمات» (يو 1: 4- 5). فعل الجر والـمضاف إليه الضمير "فيه" أي "في يسوع الكلمة" صار للحياة معنى بل صارت ذاتها نوراً يمحي كلّ ظلام بشريّ. ومع هذا يؤكد أنّ الظّلام البشري كان شديداً مما جعل شدّة الظّلام لم تدرك قدرة مانح الحياة والنّور معًا الّذين يختبئون في الطفل الإلهي. تحذير الإنجيلي لنا اليّوم هو أنّ نتيقظ من حالة عدم الإدراك لأنّه حينما تزداد شدة الظلام البشريّ يعوقنا من قبول الحياو والنّور الّذي يحملهم الطفل الإلهيّ لينيرنا ويمنحنا حياته.
من الألفاظ الّتي يشير بها الإنجيلي إلى رسالة يسوع منذ تجسده هي إنّه: «جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه» (يو 1: 11). كثيرون من الـمفسريّن يستبدلون لفظ "بيته" بلفظ "خاصته" أي أحبائه الّذين يجمع فيهم كلّ إنسان بشريّ. يسوع يأتي بارادته في عالـمنا البشري ولأجلنا. لكن هناك خطر أكبر، إذ حينما يأتي الابن الإلهي لعالـمنا، فنحن بجهلنا له ولنعمتي النّور والحياة، نعلن لا قبولنا له أي رفض ابن الله.
يبدي الإبن الإلهي، من خلال حضوره ككلمة حيّة بعالـمنا الّذي: «كانَ [الكلمة] في العالَم وبِه [الكلمة] كانَ العالَم والعالَمُ لَم يَعرِفْهُ.[...] أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله» (يو 1: 1- 12). يدعونا الكاتب للتوقف والبحث عن إجابة هل أنا في العالم البشريّ اليّوم أعرف أم أجهل ابن الله؟ ولنتنبه حقًا إذ مَن يقبل الكلمة ويؤمن بالابن سيبدأ مسيرة جديدة وهي مسيرة البنوة لله الآب كالابن الإلهي.
4. سرُّ الـمولود الإلهيّ (اش 52: 7- 10؛ يو 1: 14- 18)
كما أشار أشعيا في نبؤته بالقرن الثامن قبل الـميلاد، كما نوهنا، عن جوهر رسالة حامل الحياة والخلاص للجميع وبدون إستثناء، هكذا تأتينا كلمات الإنجيليّ حيث يُفجر مفاجأة في نهاية القرن الأوّل الـميلادي، وقت تدوينه هذا العمل، حيث يقول صراحة: «الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ. [...] فمِن مِلْئِه نِلْنا بِأَجمَعِنا وقَد نِلْنا نِعمَةً على نِعمَة. [...] أَمَّا النِّعمَةُ والحَقّ فقَد أَتَيا عن يَدِ يسوعَ الـمسيح. إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو [يسوع] الَّذي أَخبَرَ عَنه» (يو 1: 14- 18). في هذه الكلمات الّتي يختتم بها كاتب الإنجيل الرابع مقدمة بشارته، تأتينا الكثير من النقاظ اللّاهوتيّة الّتي يؤكد عليها ويبنيها على سرّ الـمولود الإلهي الّذي كُشف للعالم. حيث يشير بأنّ يسوع إختار هذا الظلام البشري ليس فقط لينيره بل ليسكن ويحل بنوره وبمجده فيه فيزيل كلّ ظلام مانحًا حياته ونوره، نعمته وحقه، مجده والإعظم هو الكشف عن حقيقة الله وهي أبوّته ووجهه الأبويّ الـمُنعكس في الابن.
هذا هو السرّ الإلهي الّذي يحمله لنا من جديد الابن الإلهي وهو أبوّة إلهيّة لا مثيل لها ولا تُقارن بأي أبوّة بشريّة. إذن الله الآب الّذي أرسل إبنه ليجدد عالـمنا ويعطينا خلاصًا ومجداً يأتينا اليّوم ليكشف عن هويّة وجوهر حبّ الله الآب لي ولك ولكلّ مَن يقبله فيصير سرّ إبنه هو سرّنا نحن أبنائه اليّوم في عالم تحرر من ظلامه وقبل يسوع الابن الّذي ينيرنا.
الـخلّاصة
بناء على ما نقشناه في النص الإشعيائي (52: 7-10) بقوله: «ما أَجمَلَ قَدَمَيِ الـمُبَشِّر الـمُخبِرِ بِالسَّلامِ الـمُبَشِّرِ بِالخَير الـمُخبِرِ بِالخَلاص [...] فإِنَّ الرَّبَّ قد عَزَّى شَعبَه واِفتَدى أُورَشَليمَ» (اش 52: 7- 9). حيث كشف لنا النبيّ عن أقدام تحمل الخير والسّلام والخلاص والفداء الشامل للكلّ من خلال الـمُرسل الإلهيّ. وعلى هذا الـمنوال أكد الإنجيلي الرابع في مقدمة بشارته بأنّ ليس فقط قدمي الآتي إلى العالم تحمل الخلاص بل أيضًا يديه «النِّعمَةُ والحَقّ فقَد أَتَيا عن يَدِ يسوعَ الـمسيح» (يو 1: 17). هذا الـميلاد الإلهيّ الّذي نحتفل به بكشف لسرّ الله الآب في ابنه لكلّ البشر جعل قدمي ويدي الابن يعملان في حياتنا ليفدينا وليُجملنا بخلاصه بل يجعلنا في مرتبته وهي البنوة بالرغم من هشاشتنا وضعفنا إلّا أنّ بتجسد الابن نتصالح بالآب ونصير أبناء على مثال إبنه الّذي سكن ويرغب في أنّ يسكن عالـمنا وهو بحريته وبأرادته سيسكن من الآن وإلى الأبد فهو العمانوئيل الّذي يعكس وجه الله الآب في وجهه ويمنحنا نوره وحياته لينيرنا بخلاصه. ميلاد مبارك، دُمتم في مسيرة على خُطى الابن لإكتشاف حب الآب والرّوح القدس في سرّ الـمولود الإلهيّ.