موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٢ أغسطس / آب ٢٠٢٣

مُعْجِزة يسوع يَمْشِي على المَاء

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد التَّاسِع عشر من السنة: مُعْجِزة يسوع يَمْشِي على المَاء (متى 14: 22-33)

الأحَد التَّاسِع عشر من السنة: مُعْجِزة يسوع يَمْشِي على المَاء (متى 14: 22-33)

 

النص الإنجيلي (متى 14: 22-33)

 

22 وأَجبَرَ التَّلاميذ لِوَقتِه أَن يَركَبوا السَّفينَة وَيَتَقَدَّموهُ إلى الشَّاطِئِ المُقَابِل حتَّى يَصرِفَ الجُموع. 23-ولمَّا صرَفَهم صَعِدَ الجَبَلَ لِيُصَلِّيَ في العُزلَة. وكانَ في المساءِ وَحدَه هُناك. 24-وأَمَّا السَّفينَة فَقَدِ ابتَعَدَت عِدَّةَ غَلَواتٍ مِنَ البَرّ، وكانتِ الأَمواجُ تَلطِمُها، لأَنَّ الرِّيح كانت مُخالِفَةً لَها. 25-فعِندَ آخِرِ اللَّيل، جاءَ إِليهِم ماشِياً على البَحْر. 26-فلَمَّا رآه التَّلاميذ ماشِياً على البَحْر، اِضطَرَبوا وقالوا: ((هذا خَيَال!)) ومِن خَوفهم صَرَخوا. 27-فبادَرهم يسوعُ بِقَولِه: ((ثِقوا. أَنا هو، لا تَخافوا!))  28-فأَجابَه بُطرُس: ((يا رَبِّ، إِن كُنتَ إِيَّاه، فمُرني أَن آتِيَ إِلَيكَ على الماء)). 29-فقالَ لَه: ((تَعالَ!))فنَزَلَ بُطرُس مِنَ السَّفينَة ومَشى على الماءِ آتِياً إلى يسوع 30 ولكِنَّه خافَ عندَما رأَى شِدَّةَ الرِّيح، فَأَخَذَ يَغرَق، فصَرَخ: ((يا رَبّ، نَجِّني! ))31   فمَدَّ يسوعُ يَدَه لِوَقْتِه وأَمسكَه وهُو يقولُ له: ((يا قَليلَ الإِيمان، لِماذا شَكَكْتَ؟)) 32 ولمَّا رَكِبا السَّفينَة، سَكَنَتِ الرِّيح، 33 فسجَدَ لَه الَّذينَ في السَّفينَة وقالوا: ((أَنتَ ابنُ اللهِ حَقّاً! )).

 

 

مقدمة

 

يُسلط إنجيل الأحد الأضواء على مَشي يسوع على المَاء (متى 14: 22-33) لإنقاذ تلاميذه في وَسَط العَاصِفة مستعيذا ثقتهم به ومُشدِّدًا إيمانهم من خلال بُطرُس الذي استغاث به. فأكَّدت هذه الحادثة على حضور يسوع، ابن الله الآتي إلى العَالَم، ليُعلن مُلكْه السَّماوي وليثبِّت إيمان بُطرُس والتَّلاميذ وَسَط تجارب العَالَم في مسيرتهم نحو المَلكوت السَّماوي. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 14: 22-33)

 

22 وأَجبَرَ التَّلاميذ لِوَقتِه أَن يَركَبوا السَّفينَة وَيَتَقَدَّموهُ إلى الشَّاطِئِ المُقابِل حتَّى يَصرِفَ الجُموع.

 

تشير عبارة "أجبر التَّلاميذ" إلى إلزام يسوع تلاميذه أن يذهبوا على غير إرادتهم ليخوضوا التَّجارِب تحضيرًا لرسالتهم التَّبشيرية لاختبار إيمانهم وتعريفهم على شخصه.   وأراد يسوع أيضًا أن يحافظ على مسافةٍ بينه وبين تلاميذه، حيث يضطرّ التَّلاميذ إلى الاعتماد على أنفسهم، من ناحية، ومن ناحية أخرى، أراد يسوع أن يضع حدًا لحماس الجماهير الوارد في إنجيل يوحنا، إذ "عَلِمَ يسوعُ أَنَّهم يَهُمُّونَ بِاختِطافِه لِيُقيموهُ مَلِكاً" (يوحنا 6: 15) عندما أشبعهم من خلال الأرغفة الخمسة والسَّمكتين (يوحنا 6: 13-21)، ويسوع يعرف أن تلاميذه يؤيِّدون مثل هذا الاقتراح، لأنَّهم يفكِّرون في قيام مملكة المسيح فسيشغلون فيها المناصب الأولى؛ ولكن يسوع لا يطلب ملكه الخاص، بل ملكوتَ الله.  لذلك اضطر يسوع أن يصرفهم في الحَال، وان ينصرف هو إلى مكان منفرد للصلاة. وفي معنى آخر، وجد يسوع نفسه يواجه مشاكل عويصة كهذه بمفرده إزاء الجميع. ويُعلق القدّيس هيلاريوس أسقف بواتييه "أنّه يجبرهم أن يكونوا في الكنيسة وأن يبحروا وَسَط البَحْر، أي هذا العَالَم، لكي يُعيد الخلاص لكلّ الشعب، بقيّة إسرائيل (رومة 11: 4) عندما يعود في مجيئه بالمَجْد" (شرح لإنجيل القدّيس متّى، 14: 13-14).  أمَّا عبارة "لِوَقتِه" في الأصل اليوناني εὐθέως (معناها في الحال) فتشير على الفور أي بعد معجزة الخبز والسَّمك الأولى (متى 14: 13-21 (؛ يأمر يسوع التَّلاميذ أن يتقدّموه على الشاطئ المُقابل. أمَّا عبارة " السَّفينَة " في الأصل اليوناني πλοῖον فتشير إلى مركبة تستخدم في التنقل والصَّيد في الأنهار والبُحيرات والبِحار، وهي ترمز السفينة إلى الكنيسة بحسب إنجيل متَّى، لأنَّها تحمل جميع التَّلاميذ الاثني عشر الذين دعاهم يسوع رُسُلاً. أمَّا عبارة "الشَّاطِئِ المُقابِل " في الأصل اليوناني πέραν (معناها العبر) فتشير إلى الجهة الأخرى، أي إلى العبور إلى الأرض الوثنية كي يُطعمهم يسوع من خبز الله (15: 23-39)، كما أطعم اليهود سابقًا، وهكذا تشبع البشرية كلها.  ويُحدِّد إنجيل مرقس الشَّاطئ المُقَابِل عند شاطئ بيت صيدا، وهي مدينة تقع على الضِّفة الشِّمالية لنهر الأردن، قبل أن يصبَّ في بحيرة طبرية (مرقس 6: 45) حيث توجَّه إليها التَّلاميذ أولاً، لكنَّهم جاوزوها وبلغوا ارض كفرناحوم (يوحنا 6: 17).  ويُعلق العلامة أوريجانوس "هذا هو عمل تلاميذ يسوع، ومعنى ذلك أن يذهبوا إلى الجانب الآخر، ويعبروا وراء الأمور المنظورة والماديّة الزَّمنيّة، وينطلقوا إلى الأبديّات غير المنظورة"؛ أمَّا عبارة "يَصرِفَ الجُموع" فتشير إلى رفض يسوع أن يقرِّر الجُموع مصيره  من خلال تنصيبه ملكًا ارضيًا، لأنَّهم اقتنعوا به من خلال معجزة تكثير الخبز والسَّمك ( متى 14: 13- 21)، وهنا تمَّت المُشابهة بينه وبين موسى،  استنادًا إلى النبوءة أن الله يُقيم نبيًّا آخرًا منهم مثل موسى (تثنية الاشتراع 18: 18) ، ولذلك أرادوا "اختِطافِه لِيُقيموهُ مَلِكاً، فانصَرَفَ وعادَ وَحدَه إلى الجَبَل" (يوحنا 6: 14) رافضا الملك الدنيوي. إذ أعلن يسوع صراحة أثناء الدعوى الرومانية "لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العَالَم" (يوحنا 18: 36).  أما عبارة "الجُموع" في الأصل اليوناني "ὄχλους." فتشير إلى جماعة النَّاس. وردت هذه اللفظة أربعين مرة في إنجيل متّى. 

 

 23ولمَّا صرَفَهم صَعِدَ الجَبَلَ لِيُصَلِّيَ في العُزلَة. وكانَ في المساءِ وَحدَه هُناك.

 

تشير عبارة "صَعِدَ الجَبَلَ لِيُصَلِّيَ في العُزلَة " إلى علامة صلته بالآب. وصلاته في العُزْلَة تسبق أو تتبع الأعمال المُهمَّة في رسالته (متى 26: 36)، ومضمون صلاته تكمن في الصَّلاة الرَّبّية أو الصَّلاة في بستان الجسمانية.  وصلاته لا تعني هروبًا من الخدمة، وإنَّما تأكيدًا للحياة التأمّليّة وخدمة الجماهير من خلال اللقاء الودِّي مع الآب السَّماوي.  ويذكر إنجيل يوحنا سببا آخر لانفراد يسوع وهو هروبه من أقامته ملكاً (يوحنا 6: 15).  يجد يسوع في جواره مع الآب السَّماوي الحقيقة الكاملة لرسالته ولحياته.  لم يذكر متى الإنجيلي صلاة يسوع في إنجيليه إلا مرَّتين: هنا وفي بستان الجِسْمانية (متى 26: 36-46). صلى يسوع في كلتا الحالتين قبل أن يجتاز صراعًا شخصيًا. أمَّا عبارة "الجَبَلَ " فتشير إلى هنا الأرض المرتفعة المجاورة للبحر. أمَّا عبارة " العُزلَة " فتشير إلى مضي يسوع إلى مكان خلاء قبل أن يمضي إلى تلاميذه الذين يواجهون الصِّعاب لتشجيعهم بحضوره وإظهار ذاته لهم.  ويُعلق القدّيس برونو، مؤسّس الرّهبنة الكرتوزيّة "أهرب يا أخي، من كلّ تلك الهُموم، واعبُر من عاصفة هذا العَالَم إلى راحة المَرفأ الهادئة والأكيدة".  الرَّبّ يسوع يمضي وقته كله مع النَّاس، يشفي، يستمع، يُكثّر الخبز، يتحدث إلى النَّاس، يجلس معهم طوال النهار؛ وعندما يكون مع التَّلاميذ يحدّثهم، لا ليرتاح… ولكنه، بين حين وآخر، "يستبعد" التَّلاميذ والنَّاس، لكي يختلي ويُصلّي. هل نشعر بحاجتنا المُلحّة إلى الصَّلاة سواء من أجلنا، أو من أجل الآخرين؟  أمَّا عبارة " وكانَ في المساءِ " فتشير إلى المساء الثاني وقد ذُكر المساء الأول سابقا (متى 14: 15). وقد اصطلح كتبة أسفار الكتاب المُقدس على استعمال المساء لوقتين: أحدهما من العصر إلى غياب الشمس، والآخر من الغياب فصاعدًا (خروج 12: 6، عدد 9: 3). ويُعلق القدّيس هيلاريوس، أسقف بواتييه "إن كان وحده في المساء، هذا يدلّ على وحدته عند ساعة الآلام، عندما شتّت الخَوف الجميع" (شرح لإنجيل القدّيس متّى، 14: 13-14).

 

24 وأَمَّا السَّفينَة فَقَدِ ابتَعَدَت عِدَّةَ غَلَواتٍ مِنَ البَرّ، وكانتِ الأَمواجُ تَلطِمُها، لأَنَّ الرِّيح كانت مُخالِفَةً لَها.

 

تشير عبارة "الغَلوة" في الأصل اليوناني σταδίους إلى وحدة قياس يونانية تساوي 185 مترًا؛ واستعملت أسفار العهد الجديد الغَلوة في تقدير القياسات في أربع مناسبات: فقد رأى التَّلاميذ يسوع في بحيرة طبرية، وهو يسير إليهم في الماء، على بعد خمس وعشرين أو ثلاثين غَلوة (يوحنا 6: 19) وكان عرض البحيرة نحو 40 إلى 45 غَلوة. وكانت عماوس تبعد عن اورشليم مسافة ستين غَلوة (لوقا 24: 13) وبيت عنيا خمس عشرة غَلوة (يوحنا 11: 19) وخرج الدم من المعصرة إلى مسافة ألف وستمئة غلوة (رؤيا 14: 20). أمَّا عبارة "ابتَعَدَت عِدَّةَ غَلَواتٍ مِنَ البَرّ" فتشير إلى "بَعدَ ما جَذَّفوا نَخوَ خَمسٍ وعِشرينَ أَو ثَلاثينَ غَلَوة، أي نحو كلم “، كما أوضح ذلك يوحنا الإنجيلي (يوحنا 6: 19)، إنَّهم في وَسَط البحيرة علمًا أنَّ عرض بحيرة طبرية نحو 12 كلم. أمَّا عبارة "وكانتِ الأَمواجُ تَلطِمُها" فتشير إلى ارتفاع الأمواج التي كانت تصل أحيانًا إلى سبعة أمتار. وتبدو الأمواج قوة مُشخّصة تُهاجم السَّفينَة. والرسل بمفردهم يجاهدون ضد تحديات الحياة وأمواجها. ويمثل اضطراب البَحْر في نظر القدماء قوة شيطانية. فالرسل هم تحت رحمة مياه البحر والرِّيح. لذا البَحر في الكتب المقدسة هو رمز للشَّر والخطر وعدم الاسْتقرار. في كثير من الأحيان؛ نأتي إلى الرَّبّ وَسَط الظروف الصَّعبة، ووَسَط الألم والضِّيق بعتاب وملامة ونسأله، أين أنت يا رب من كل هذا؟ أمَّا عبارة "تلطِمُها" في الأصل اليوناني βασανιζόμενον (معناها معذّبة) فتشير إلى شِدَّة اضطراب البَحْر كعادته عند هبوب العواصف.  أمَّا عبارة "الأَمواجُ " فتشير إلى الشُّرور التي تمثل الأمواج المُخالفة كأنَّها تريد أن تبتلع السَّفينَة. أمَّا عبارة "الرِّيح" فتشير إلى الرِّياح التي تهب من بحر الأبيض المتوَسَط من ناحية، ومن جبال جولان التي تحيط بالبُحيرة من ناحية أخرى، وهي ترمز إلى الضِّيق والاضطهاد. يسوع غائب عن جماعته اللذين هم في السَّفينَة. ولكنه يُصلي لأجلهم. فيجب ألاّ يخافوا الأمواج (الشر) والرِّياح المُخالفة (ضيق والاضطهاد) (متى 8: 23-27).  لقد ترك يسوع التَّلاميذ يختبرون أنهم بدونه عاجزون، وأنَّهم أحوج ما يكونون إليه في ساعات الظلمة والضِّيق. وسفينة بُطرُس هي رمز إلى الكنيسة السَّائرة في عرض بِحار العَالَم، والمُعرّضة لكل الأمواج والرِّياح، الدِّينية والسِّياسية والأخلاقية. أمَّا عبارة "الرِّيح كانت مُخالِفَةً لَها " فتشير إلى هبوب رياح من الغرب مُعاكسًا لسير السَّفينَة، وهذا ما يزيد من ارتفاع الأمواج، وذلك لانخفاض مستوى بحيرة طبرية عن مستوى سطح البَحْر نحو 197 م، ويصل عمقها إلى نحو 45 م، وتحوطها الجِبال من جميع الجِهات. اخذ التَّلاميذ يحذِّفون ومع ذلك لم يستطيعوا التقدّم إلاَّ قليلا (مرقس 6: 48)، إذ يصف متَّى الإنجيلي أنَّ" الرِّيح كانت مخالفة للسفينة"؛ في حين مرقس الإنجيلي يصف أنَّ "الرِّيح كانت مُخالِفةً لَهم" (مرقس 6: 48). وهذه هي الحادثة الثَّانية التي يواجه التَّلاميذ فيهما عاصفة أثناء عبورهم بحيرة طبريّة، والحادثة الأولى وردت سابقًا (متى 8: 23-27). ونحن هل نترك للمسيح مكانًا على متن سفينتنا التي تقذفها أمواج الاضطراب والصُّعوبات والشِّدة والهموم التي تهدِّد حياتنا؟

  

25 فعِندَ آخِرِ اللَّيل، جاءَ إِليهِم ماشِيًا على البَحْر.

 

تشير عبارة "عِندَ آخِرِ اللَّيل" في الأصل اليوناني τετάρτῃ δὲ φυλακῇ (معناها في الهزيع الرابع أو في الهجعة الرابعة من الليل) إلى ما قبل الفجر بين الساعة الثالثة والساعة السَّادسة في الصَّباح قبل طلوع الشَّمس حسب التَّوقيت الرُّوماني (متى 28:1). إذ كان اليهود قديمًا يُقسِّمون الليل إلى ثلاثة هزع (قضاة 7: 19)، ولكن بعد استيلاء الرومان على فلسطين قسَّموا الليل إلى أربعة هزع: المساء ونصف الليل وصياح الديك والصباح (مرقس 13: 25)، وهذا يدلُّ أن التَّجربة استمرت فترة طويلة. ومن هذا المنطلق، عبارة "آخِرِ اللَّيل" هو رمز إلى مجيء الثاني ليسوع كما تنبأ دانيال النبي "آتٍ على غَمامِ السَّماء (دانيال 7: 13)، أي بعد مرور الكنيسة في عواصف واضطرابات. أمَّا عبارة " اللَّيل " فتشير إلى الفترة الزَّمنية بين غروب الشمس وشروقها، أي عندما تكون الشَّمس تحت خط الأفق، وهي تدل هنا على غياب يسوع (يوحنا 21: 3) كما يدل على آلامه في جبل الزَّيتون (متى 26: 36)؛ أمَّا عبارة "جاءَ إِليهِم" فتشير إلى حضور يسوع ليُسندهم بعد غيابه عن التَّلاميذ وكأنه يريد أن يختبرهم، علمًا انه هناك اعتقاد عند اليهود بان المسيح سياني من البَحْر. أمَّا عبارة "ماشِياً على البَحْر" فتشير إلى آية من آيات لاهوت المسيح لآن المشي على الماء هي احدى خصائص الله، كما جاء في سفر أيوب "السَّائِرُ على مُتونِ البَحْر" (أيوب 9: 8)، وكما يترنَّم صاحب المزامير "يَسكُنُ عَجيجَ البِحار وهَديرَ الأَمواجِ" (مزمور 65: 8)؛ التَّلاميذ يعرفون يسوع، ويعرفون هيئته ومشيته، لكن كيف يمكنه المشي على الماء؟ فظنوه خيالاً.  أذا كانت مصائبنا كأمواج البَحْر الهائج فلا تمنع المسيح من الاقتراب إلينا، إنه إله المُستحيل، وهو حاضر بيننا، وانَّه يريد رجالاً يؤمنون بالمُستحيل مُحوِّلين إياه واقعًا. ويُعلق القدّيس هيلاريوس، أسقف بواتييه "سيأتي في أوج القلق والاضطرابات... سينتاب الرّسل الخَوف الشَّديد حتّى عند مجيء الرَّبّ، وسيكونون مرعوبين من صور الحقيقة المشوّهة من قبل المسيح الدجّال والرؤى التي تتسلّل إلى البصر. لكنّ الرَّبّ الصالح سيكلّمهم في الحال، وسيطرد خَوفهم ويقول لهم: "هذا أنا"، مُبدّدًا الخَوف من الغرق المُحدق، من خلال الإيمان بمجيئه" (شرح لإنجيل القدّيس متّى، 14: 13-14). أمَّا عبارة "البَحْر" فتشير إلى بحيرة طبرية وهي تدل هنا على عالم الشر، وموطن الخطيئة، ولكن يسوع يسيطر عليه، كما جاء على لسان صاحب المزامير " البَحْر طَريقُكَ وفي المِياهِ الغَزيرةِ سُبُلُكَ ولا تُعرَفُ آثارُكَ" (مزمور 77: 20). يُشكّل البَحْر عائقًا للتَّلاميذ الذين طلب منهم يسوع أن يسبقوه إلى الشَّاطئ المُقَابِل. لان البَحْر هائج والرِّياح القوية تُرجع السَّفينَة إلى الوراء وتحول دون وصول التَّلاميذ إلى تحقيق هدفهم. هذه المعجزة تُثبت لاهوت المسيح. وتُظهر سلطانه على البَحْر والرِّيح، بل هو أيضًا درس للتلاميذ، وشفاء لإيمانهم الضَّعيف أمام تجارب العَالَم.  تبين هذه الآية الحضور الإلهي أمام مغامرة بشرية يعاني فيها رجال ونساء الله، من الشعور بالقلق الاضطراب الباطني العميق بسبب أحداث خارجيّة تسببت لهم بالشعور بالخوف والرعب. يأتي الحضور الإلهي في الوقت الغير متوقع لنا ليحمل لنا النجدة.

 

 26 فلَمَّا رآه التَّلاميذ ماشِياً على البَحْر، اِضطَرَبوا وقالوا: ((هذا خَيَال!)) ومِن خَوفهم صَرَخوا.

 

تشير عبارة "رآه التَّلاميذ" إلى جميع التَّلاميذ الذين شاهدوا يسوع دون أن يكونوا في توهم أو هلوسة من جانبهم. أمَّا إنجيل مرقس فيقول يسوع رأى التَّلاميذ " يَجهَدونَ في التَّجديف، لأَنَّ الرِّيح كانت مُخالِفةً لَهم، (مرقس 6: 48).  شاهد التَّلاميذ وحدهم، وليس الجُموع يسوع يمشي على الماء، حتى يكونوا شهود عيان، ويُعلنون اسمه في كل الأرض. أمَّا عبارة " ماشِياً على البَحْر " فتشير إلى انتصار يسوع على الشَّر والمَوت ووصوله إلى تلاميذه. فالبَحْر موجود، وبالتالي فمن الضُّروري مواجهة عنف الأمواج والرِّياح لكي يعبر يسوع إلى تلاميذه.  أمَّا عبارة "الاضطراب" فتشير إلى خَوف من مجهول لا يدركه التَّلاميذ. حدث قبلاً مثل هذا الاضطراب (متى 8: 24) فعلمهم يسوع من خلاله وجوب الاتِّكال عليه. أمَّا عبارة " هذا خَيَال!"  في الأصل اليوناني φάντασμα (معناها شبح) إلى كائن كان حياً، ولكنَّه لم يعد بعد، ويصبح حاضراً مع عالم الموتى بدلاً من الأحياء، شخص ليس لديه كلمات، تنذر بشَّرِّ، وبالتالي شعر الرسل بخوف شديد. وكان القُدماء يظنون أنَّ أرواح الموتى تظهر أحيانًا للأحياء. ظنَّ التَّلاميذ أنَّ يسوع شبحًا، كما ظنُّوه حين رأوه بعد القيامة "فأَخَذَهُمُ الفَزَعُ والخَوف وظَنُّوا أَنَّهم يَرَونَ رُوحاً" (لوقا 24: 37)، وهذا هو اعتقاد الغنُّوسيّين الذين يظنُّون أنَّ جسد يسوع هو وهْم وخيال. يبدو أنّ حضور يسوع زاد من خَوفهم، في بداية الأمر، لأنّه صعب عليهم التَّعرّف عليه. أمَّا عبارة "ومِن خَوفهم صَرَخوا " فتشير إلى التَّلاميذ الذين ما زالوا كالأطفال يخافون من الوَهم، ولم يحكموا في الأمور بمتقضي العقل السَّليم. نجد حالة التَّلاميذ بَعيدًا عن الرَّبّ، فهم في ليل وخَوف وشكّ في كلّ شيء، حتى في علامات حضوره تعالى.

 

27 فبادَرهم يسوعُ بِقَولِه: ((ثِقوا. أَنا هو، لا تَخافوا! ))

 

تشير عبارة "بادَرهم بقوله" في الأصل اليوناني εὐθὺς δὲ ἐλάλησεν (معناها تكلم "لوقته") إلى السُّرعة في العمل. وهي تدل على أنّ الخلاص يحدث فور صراخ الإنسان إلى الرَّبّ؛ وصل يسوع إلى تلاميذه على الفور. فسمع التَّلاميذ صوت الرَّبّ المعهود فاطْمأنُّوا. أمَّا عبارة " ثِقوا" في الأصل اليوناني   Θαρσεῖτε (معناها تشجّعوا) فتشير إلى حاجة التَّلاميذ في مواجهتهم مخاطر الحياة إلى تشجيع وملاذ يحتمون فيها لكيلا يشلَّهم القلق، ولكي يثبتوا على الرَّغْمِ من التَّجارب فلا يفقدوا الأمل. أمَّا عبارة "أنا هو" فتشير إلى كشف يسوع عن ذاته في وقت الشِّدة كي يُعزّي التَّلاميذ ويُطمئنهم أنَّه موجود. يربط التَّلاميذ المَشي على الماء مع الكلمة التي يقولها يسوع "أنا هو!"، وهي تكشف عن حقيقة هذا الرجل، الذي هو حاضر مع الرسل ويقترب منهم ويخلصهم من الخوف. وتُذكِّرنا هذه الكلمة بما أوحاه الله لموسى النَّبي عند العُليقة " أَنا هو مَن هو " (خروج 3: 14).  يُعرِّف يسوع نفسه " أنا هو" وباستعمال هذا اللَّقب الإلهي الوارد في سفر الخروج يُلقي ضوءً على منزلة يسوع الإلهية، وهذا اللَّقب يدل على لاهوت المسيح (يوحنا 8: 28)، خاصة في ضوء القيامة: "أنا هو، أنا الرَّبّ"، كما ورد في إنجيل يوحنا (8: 58). أمَّا مرقس فقد رأى في هذه العبارة تَجَلِّي كيان يسوع الذي هو الله (مرقس 6: 50). أمَّا عبارة " لا تَخافوا " فتشير إلى دعوة يسوع إلى الثِّقَة بسبب حضوره في وَسَط الأخطار التي يمثلها البَحْر.

 

28 فأَجابَه بُطرُس: ((يا رَبِّ، إِن كُنتَ إِيَّاه، فمُرني أَن آتِيَ إِلَيكَ على الماء)).

 

تشير عبارة "يا رَبِّ، إِن كُنتَ إِيَّاه" إلى طلب بُطرُس بُرهانًا من يسوع كي يُؤمن أنّه هو المسيح، لكنَّ الإيمان هو مسألة ثِقة. كلّ البَراهين الموضوعيّة لا تمنح الإيمان. وحدها الثِّقَة بالله هي التي تمنحه. أمَّا عبارة "فمُرني أَن آتِيَ إِلَيكَ على الماء" فتشير إلى استعداد بُطرُس لمُخاطرة الإيمان، بان التغلب على الشّر والسَّيطرة على قوى الطبيعة يخصَّان الرَّبّ ومن يسير معه وينفرد متى الإنجيلي برواية هذا الحَدث الذي يتعلق ببُطرُس، كما ينفرد في حَدث شهادة بُطرُس في قيصرية (متى 16: 13-20)، وفي حَدث يسوع في تأدية الجِزّية إلى الهيكل (متى 17: 24-27).

 

29 فقالَ لَه: ((تَعالَ!)) فنَزَلَ بُطرُس مِنَ السَّفينَة ومَشى على الماءِ آتِياً إلى يسوع.

 

تشير عبارة "تَعالَ!" إلى دعوة الرَّبّ إلى بُطرُس. لا يجرؤ بُطرُس على النُّزول من السَّفينَة إلاّ بعد قول الرَّبّ له "تعال"، كما كان الحال في الصَّيد العجيب عندما ألقى بُطرُس الشِّباك في البَحْر وَفقا قول الرَّبّ (لوقا 5: 5). ويثق بطرس في كلمة الرب التي سمعها. لكن عندما أصبح صوت العاصفة أقوى من صوت الكلمة، غرق بطرس، ومرة أخرى يصرخ ويطلب الخلاص. عندما يدعوك الله لا بدَّ من الاستجابة. وفي هذا الصَّدد قال زولر الحاخام الأكبر في روما الذي ظهر له السَّيد المسيح "لا يختار المرء لحظة تحوّله بل يتحوّل عند تلقّيه دعوةً من الله. لذا لا يوجد أمام المرء سوى شيء واحد بإمكانه القيام به وهو: الطّاعة. لا وجود لتحضيرات أو خطط مسبقة. إنَّها هي خطوة ناجمة عن المحبّة ونابعة من مصدر الحُبّ اللامتناهي". أمَّا عبارة " فنَزَلَ بُطرُس مِنَ السَّفينَة" فتشير إلى إيمان بُطرُس بدعوة يسوع، بطبع بطرس المُندفع المُتسرِّع.   فما أن عرف بُطرُس الصَّوت، حتى جمّع كل إيمانه وثقته وقواه وقفز؛ والعَجيب أن السَّيّد لم يهدِّئ الأمواج لكي يسير بُطرُس على المياه، بل نزل بُطرُس من السَّفينَة تلبية لدعوة يسوع وبدافع من إيمانه.  أمَّا عبارة "مَشى على الماءِ آتِياً إلى يسوع" فتشير إلى بُطرُس الذي استطاع أن يمشي على الماء بفضل طاعته ليسوع الذي يدعوه لمشاركته في المشي على الماء. لم يكتفِ يسوع بالمشي على الماء، إنما جعل القديس بُطرُس الرسول يمشي أيضًا على الماء. وهذه معجزة أخرى. تكمن قدرة بُطرُس في إيمانه بيسوع وفي نظرته القادرة في يسوع الرَّبّ المنتصر على الشَّر والموت. الإيمان يجعل الإنسان يمشي على وجه المياه، بينما الشَّك تُغرق الإنسان، كما دلّ التاريخ: موسى عبر البَحْر، وأمَّا فرعون وجيشه غرقوا.  ويعلق القديس كيرلّس الأورشليمي " قال يسوع لبُطرُس تعال، آمن وسار على المياه، فكان إيمانه أقوى سند وكان جسده الثقيل يرتفع على المياه بقوة إيمانه". 

 

30 ولكِنَّه خافَ عندَما رأَى شِدَّةَ الرِّيح، فَأَخَذَ يَغرَق، فصَرَخ: ((يا رَبّ، نَجِّني! ))

 

تشير عبارة "خافَ " إلى الخَوف بسبب شكّ بُطرُس في قول يسوع وقدرة إيمانه. فالخَوف هو عكس الإيمان، فالإيمان يمنع من الغَرق أمام الصُّعوبات والاضطهادات. عندما تصدَّع الإيمان وجد بُطرُس نفسه وحيدًا في مواجهة قوة الشّرّ، واضطر للاعتماد على قواه الشخصية التي كشفت عجزه. أمَّا عبارة " يَغرَق " فتشير إلى نتيجة شَكِّ بُطرُس في أمر المسيح، فأخذ يَغْرَق في الماء ولم تفِدْه مهارته بالسباحة. لقد حوَّل بُطرُس عينيه عن الرَّبّ يسوع إلى الأمواج العالية حوله، فاهتزّ إيمانه. فغلب عيانُه إيمانُه فشكَّ فغرِق. ويُعلق القديس كيرلّس الأورشليمي "الأمر الّذي يجعلنا نغرق هو قِلَّة الإيمان؛ مشى بُطرُس على المياه مُطمئَّنا، ولكن عندما شكَّ بدأ يَغْرَق، نعم، لأن إيمانه بدأ يضعف". أمَّا عبارة " فصَرَخ " فتشير إلى خَوفه من النَّجاة لشدّة اضطراب البَحْر على الرَّغْمِ من انه كان يحسن السباحة (يوحنا 21: 7)، لكنه لم يستسلم، بل استعمل آخر أنفاسه لطلب النّجدة، أمَّا عبارة "يا رَبّ، نَجِّني! " فتشير إلى صلاة بُطرُس التي تُعبِّر عن حاجته. كما يقول المثل العادي: الحاجة تُعلِّم الصَّلاة. ويعلق القديس كيرلّس الاورشليمي "إذا كنتَ تتصور أن فيك إيمان، لكنه ليس أيمانًا كاملاً، فإنه يلزَمك القول مع بولس الرَّسول: "يا سيدي، قوِّ إيماني". كان إيمان بُطرُس ضعيفا حتى انه اخذ يَغْرَق، لكنه كان يكفيه أن يصلي وبصراخ إلى المسيح كي ينجو. انه بحاجة إلى الاتِّكال على الله بصلاته من دون تحفظ؛ وهكذا أصبحت صلاته صلاة الكنيسة. وأصبح بُطرُس مثال التلميذ الذي يشكَّ في إيمانه.  والنَّجاة هي وسيلة إلى زيادة ثِقتنا بالله. لنصرخ للمسيح الذي يستجيب ولا يتأخَّر في طلب عونه، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "أَستَطيعُ كُلَّ شيَءٍ بِذاكَ الَّذي يُقوِّيني" (فيلبي 4: 13). كان بُطرُس في أول أمره ناقص الثبات والرَّزانة، ثم صار صخرًا بعد ذلك بالنعمة. هل يمكن لبُطرُس أن يكون مثلاً لنا في صلاته واستغاثته إلى الرَّبّ وقت الأزمات؟

 

31 فمَدَّ يسوعُ يَدَه لِوَقْتِه وأَمسكَه وهُو يقولُ له: ((يا قَليلَ الإِيمان، لِماذا شَكَكْتَ؟ ))

 

تشير عبارة "مَدَّ يسوعُ يَدَه لِوَقْتِه " إلى يد الله في العهد القديم التي تدل على قدرته على انتزاع مختاريه من الهاوية وإنقاذهم، كما جاء في ترنيمة صاحب المزامير " يُرسِلُ مِن عَلْيائِه فيأخُذُني ومِنَ البِحارِ يَنتَشِلُني" (مزمور 18: 17)؛ ما من أحد يطلب معونة المسيح عبثًا. فهو يواصل مدَّ يده إلينا ليُخلصنا ويُعيد إلينا فرح كوننا تلاميذه.  أمَّا عبارة "لِوَقْتِه " في الأصل اليوناني εὐθέως (معناها في الحال أو لوقته) فتشير إلى تكرارها للمرَّة الثالثة، وهي تدلُّ على أنّ الخلاص يحدث فور صراخ الإنسان إلى الرَّبّ؛ هذه الصراخ يعبِّر عن عجزه الشخصي وعن ثقته الشَّخصيّة. أمَّا عبارة " أَمسكَه " فتشير إلى قبض يسوع على يد بُطرُس الذي بالتالي حصل على النَّجاة. فأمساك يسوع ببُطرُس وليس إمساك بُطرُس بيد يسوع هو واسطة الخلاص.  أمّا عبارة " وهُو يقولُ له " فتشير إلى المسيح الذي نجَّا بُطرُس ثم وبّخه. أمَّا عبارة " يا قَليلَ الإِيمان " فتشير إلى عتاب لقِلَّة إيمان بُطرُس بان المسيح قادرٌ أن يجعله يمشي على الماء؛ الله المُحبّ لم يُعاتب وَسَط العاصفة، لكنه بعد أن هدأ ت العاصفة عاتبه. أمَّا عبارة " لِماذا شَكَكْتَ؟ " تشير إلى الارتياب على قِلَّة الإيمان بان المسيح قادر أن يجعل بُطرُس أن يمشي على الماء. هذا ما حدث لتوما الرسول، ولكن الرَّبّ جاء فبدّد شكَّه (يوحنا 2: 24-25). لا شيء يُضعف الحياة ويُبدِّد جهودها مثل الشَّك. فهل مددنا يدنا إلى يسوع في صعوباتنا، وهل صرخنا إليه تعالى أغثنا يا ربّ؟

 

32 ولمَّا رَكِبا السَّفينَة، سَكَنَتِ الرِّيح،

 

تشير عبارة " رَكِبا السَّفينَة " إلى ركوب يسوع وبُطرُس السَّفينَة حيث الجماعة الصغيرة التي تمثل الكنيسة، التي عاد إليها السلام بعد الاضطراب والخَوف؛ فحضور يسوع يوصلنا إلى شاطئ الأمان، ويحمينا من هجمة الشر والبَحْر؛ أمَّا عبارة " سَكَنَتِ الرِّيح " فتشير إلى سلطان يسوع على البَحْر والرِّياح والأمواج مما يذكِّرنا بقول المزمور "مَن مِثلك أيها الرَّبّ إِله القوات؟ أَنت قوِي يا ربُّ وأَمانتُك مِن حَولك. مُتَسَلِّطٌ أَنتَ على طُغْيانِ البِحار وأَنتَ تُسَكِّنُ أَمْواجَها عِندَ اْرتفاعِها" (مزمور89: 9-10). لم يذكر متى الإنجيلي أن يسوع أمر الرِّياح بالسكون، إنَّما سياق النص في الآية القادمة تدل على ذلك. المسيح هو سيد الرِّياح.

 

33 فسجَدَ لَه الَّذينَ في السَّفينَة وقالوا: ((أَنتَ ابنُ اللهِ حَقّاً! )).

 

تشير عبارة " الَّذينَ في السَّفينَة "إلى التَّلاميذ والمَلاحين الذين تعجَّبوا من سلطان يسوع وقدرته على السيطرة على الرِّيح والبَحْر، وهي قدرة خاصة بالله وحده، كما يقول صاحب المزامير "البَحْر طَريقُكَ وفي المِياهِ الغَزيرةِ سُبُلُكَ ولا تُعرَفُ آثارُكَ" (مزمور 77: 20)؛ أمَّا عبارة " فسجَدَ لَه " فتشير إلى خضوع التَّلاميذ إلى يسوع كإله وربٍ، صاحب القدرة والسُّلطة وملء العظمة على البَحْر والمياه والرِّياح.  أمَّا عبارة "أَنتَ ابنُ اللهِ حَقّاً! " في الأصل الآرامي בֶּן־אֱלהִים אָתָּה فتشير إلى الاعتراف بألوهية يسوع. انَّه هتاف ذو طابع طقسي، فيسوع هو ابن الله، بكونه ينتزع من الهاوية (مزمور 18: 17) أولئك الذين في السَّفينَة التي تُمثل الكنيسة في نظر متى الإنجيلي (متى 8: 23-27).  وهذا الاعتراف بيسوع ابن الله تَردَّد على لسان بُطرُس (متى16: 16) ورئيس الكهنة (متى 26: 73)، وقائد المئة ورجاله، وهذا الاعتراف يعني في المفهوم اليهودي: الملك الذي اختاره الله وتبنّاه، كما جاء في سفر المزامير " الآن عَلِمتُ أَنَّ الرَّبّ يُخَلِّصُ مَسيحَه مِن سَماءِ قُدْسِه يَستَجِيبُ لَه بِمَآثِرِ يَمينه الخَلاصِيَّة "(مزمور20: 7). أمَّا في المسيحية فتعني في ضوء القيامة أن يسوع هو ابن الله الذي يسجد له الرّسل. ومن هذا المنطلق نستنتج أنَّ يسوع ليس خيالاً، بل هو الحقيقةُ عينُها، وهو ليس حقيقةً إنسانيّةً فحسبُ، بل حقيقة إلهيّة أيضًا، وهذا ما عبّر عنه التَّلاميذ عندما قالوا له: " حقّاً أنت ابنُ الله ". يسوع هو إلهٌ وإنسانٌ معاً يعيش اليومَ بينَنا، ويُرافقنا. كما وعدنا " هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إلى نِهايةِ العَالَم "(متى 28: 20). هذا هو إيمان الكنيسة، وإيمان كلِّ مسيحيٍّ.

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 14: 22-33) 

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 14: 22-33)، نستنتج انه يتمحور حول دعوة إلى الإيمان ودعوة إلى الثِّقَة وعدم الخَوف.

 

1) دعوة إلى الإيمان

 

يهدف متى الإنجيلي في روايته عن يسوع الذي يمشي على الماء إلى دعوة التَّلاميذ إلى الإيمان. ولبلوغ الإيمان لا بُدَّ من التَّغلب على قِلَّة الإيمان والشَّك

 

أ) الإيمان

 

الإيمان بالرَّبّ ليس مجرد إيمان بقانون الإيمان الذي يشتمل على 12 عقيدة إيمانية مثل الثَّالوث الأقدس والتَّجسد، ولاهوت المسيح ...، إنَّما ينبغي أن يكون للمؤمن حياة إيمان يعيشها، ويثمر ثمر الرُّوح التي يتكلم عنها بولس الرَّسول:" أَمَّا ثَمَرُ الرُّوح فهو المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ والوَداعةُ والعَفاف" (غلاطية 5: 22-23).  وأكد صاحب الرسالة إلى العبرانيين أنَّه "بِغَيرِ الإِيمانِ يَستَحيلُ نَيلُ رضا الله، لأَنَّه يَجِبُ على الَّذي يَتَقَرَّبُ إلى اللهِ أَن يُؤمِنَ بِأَنَّه مَوجود وأَنَّه يُجازي الَّذينَ يَبتَغونَه" (العبرانيين 11: 6). ولذلك الإيمان هو حالة من الاستعداد العقلي لتوقّع ما يعمله الله، وعندما نحيا بهذا التوقع يُمكننا أن نتغلب على مخاوفنا.

 

بيّن متى الإنجيلي علاقة الإيمان بالمعجزة، فالإيمان لا يأتي بعد المعجزة، بل يسبقها، كما رأينا مع مشي بُطرُس على الماء، وهذا الإيمان يدفع الإنسان إلى التقرب من يسوع على الرَّغْمِ من العقبات التي تعترضه. وجسِّد بُطرُس سير الإيمان في قلب الإنسان، إنه يؤمن، لكن إيمانه لا يزال ضعيفًا، كما عبَّر عنه بشكل صلاة: "يا رَبّ، نَجِّني!" (متى 17: 30)، وهي صلاة يليها يسوع بصنع المعجزة، لتثبت الإيمان الذي يُخلِّص "فمَدَّ يسوعُ يَدَه لِوَقْتِه وأَمسكَه وهُو يقولُ له: ((يا قَليلَ الإِيمان، لِماذا شَكَكْتَ؟)) (متى 17: 31).  إن يسوع لا يزال يستجيب اليوم إلى من يدعوه بإيمان: هذه هي الرِّسالة التي يوجّهها متى الإنجيلي اليوم إلينا. المعجزة تغذِّي إيماننا، وهي سبب إيماننا. 

 

كان من شان المعجزة طرح هذا السؤال: " من هذا؟  "مَن تُرى هذا حتَّى تُطيعَه الرِّيح والبَحْر؟" (مرقس 4: 41). لقد كان هذا السؤال امتحان إلى يوحنا المعمدان (متى 11: 2-3) وعثرة للفِّريسيِّين (متى 12: 22-28) فالإيمان لم يعطِ إلاَّ إجابة جزئية، وهي الاعتراف بقدرة يسوع وسلطانه على البَحْر والرِّياح (متى 8: 27). على أن الإجابة الصحيحة هي التي يقدِّمها بُطرُس: أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ " (متى 16: 16).  تنتهي رواية مشي يسوع على الماء بشهادة إيمان "سجَدَ لَه الَّذينَ في السَّفينَة وقالوا: ((أَنتَ ابنُ اللهِ حَقّاً! " (متى 14: 33).  وهذا الإيمان بيسوع يوحّد من ساعته بينه وبين التَّلاميذ، وفيما بينهم، ويجعلهم يشتركون في سر شخصه ويمنحه سلطانًا خاصًا، كما حدث مع بُطرُس " فما رَبَطتَهُ في الأَرضِ رُبِطَ في السَّمَوات. وما حَلَلتَه في الأَرضِ حُلَّ في السَّمَوات " (متى 16: 18-20).

 

يُعرض إنجيل متى لنا نموذجًا عمّا يجب اليوم أن نعلمه في تلك السَّفينَة (الكنيسة)، أي علينا أن نرى في شخص يسوع ابن الله الحي. وان نشعر بالإيمان أنَّنا مرتبطون بالمسيح. نحن نؤمن بيسوع، لأنَّه يُبدِّل حياتنا، ولانَّ إعلان المسيح القائم من الموت يُضفي معنى جديدًا على كل ما نعيشه.

 

ب) قِلَّة الإيمان  

 

يتبين لنا أنَّ الإيمان الذي يُضرب به المثل ليس إيمان التَّلاميذ بل هو إيمان الآخرين: المرأة المنزوفة (متى 9: 20-22)، وموظف الملك في كفرناحوم (متى 8: 5-13) والنَّجس الممسوس في ناحية الجراسيين (متى 8: 28-34)، في حين أن التَّلاميذ يتصفون غالبا بقِلَّة الإيمان " كما أوضح يسوع في حواره مع بُطرُس بقوله له "يا قَليلَ الإِيمان، لِماذا شَكَكْتَ؟ (متى 17: 31).

 

عدم الإيمان له درجات مختلفة في صفوف المؤمنين، فالبعض يُظهرون " قِلَّة إيمانهم "، مثل التَّلاميذ عندما اعتراهم الخَوف من الأَمواجُ التي تَلطِمُ سفينتهم والرِّيح المُخالِفَةً " (متى 14: 24) والأمواج المتحركة (متى 14: 31) وأثناء العاصفة (متى 8: 26)، إلاَّ أنَّ الصَّلاة تستطيع أن تعالج قِلَّة الإيمان.

 

بُطرُس هو أول من آمن، وكان إيمانه عظيمًا، إذ ألقى بنفسه في البَحْر، لكنه عاد للسلوك بالعيان لا بالإيمان، فضعف إيمانه.  ونحن يجب أن نسلك بالإيمان لا بالعيان. ويكمن علاج ضعف الإيمان في وضع نًصب أعيننا يسوع المسيح دائمًا دون النظر لكثرة المخاطر التي نتعرض لها. فلو ركزنا أنظارنا على حجم المشكلة يمكن يتزعزع إيماننا، كما حصل مع بُطرُس، أمَّا لو ركزنا أنظارنا على المسيح يثبت إيماننا. عندما فكر بُطرُس في يسوع وحده، كان قويًا، ولما عاد وأدرك وضعه البشري، غرق. وهكذا ما يجعلنا نغرق هو قِلَّة الإيمان. فقِلَّة إيمانه ليست رفضًا للإيمان، بل توقفًا وتقصيرًا في السَّير وراء يسوع.

 

وتقوّى قِلَّة إيمان بُطرُس بالنَّظر إلى الرَّبّ حيث أنَّ الإيمان يفترض القفز في المجهول والمخاطرة على غرار بُطرُس والثِّقَة العمياء بالله وحده. يسوع الذي عاتب بُطرُس على قِلَّة إيمانه كان قد صلى في موضع آخر من أجل أن يثبتّ إيمان بُطرُس كما قال له: "لكِنَّي دَعَوتُ لَكَ أَلاَّ تَفقِدَ إِيمانَكَ. وأَنتَ ثَبَّتْ إِخوانَكَ متى رَجَعْتَ (لوقا 22: 32) وما عمله يسوع في الماضي على الأرض، لا يزال يعمله اليوم.

 

ج) الشَّك

 

يعتبر الشَّك امرأ صحِّياً. إنّ الإيمان دون شكّ لا طائل منه، وهو لا يُغيّر قلوبنا. لأنّ الشَّك يؤدّي إلى الفَهم والمُواجهة وأخيرًا إلى الإيمان. وهذا ما حدث مع بُطرُس. بُطرُس هو أول من شكَّ، وهو أول من تغلّب على الشَّك والخَوف؛ في الحقيقة، نال بُطرُس البرهان، ومشى على الماء، ولكنّه قبل ذلك شكّ.

 

الشَّك يفقدنا كلّ قوانا، لأنَّه بواسطته نفسّر الخير شرًّا، والأمانة احتيالاً، والوفاء مواربةً وتمثيلاً. بالشَّك فقد بُطرُس أبسط إمكانيّاته، وهي السِّباحة. ولم يعد يثق حتّى بنفسه وبقدرته على السِّباحة؛ فغرق. لقد بدا بُطرُس يَغْرَق عندما حوّل عينيه عن يسوع إلى الأمواج العالية حوله، فشكَّ، فاهتز إيمانه. لقد خاف وشك َّ، ولكنه مع ذلك أعاد نظره لا على ضعفه وشَكِّه بل على المسيح، وثبت نظره عليه؛ المسيح الوحيد قادرٌ أن يُعينه، وهكذا كل تلميذ مدعوّ إلى النظر إلى يسوع. أمام عواصف الحياة. 

 

نتغلب على الشَّك بالإيمان.  قد لا نمشي على الماء، ولكننا نواجه مواقف عسيرة، فإذا ركزنا أبصارنا على أمواج الظروف الصَّعبة حولنا، يمكن أن يهتز إيماننا ونتعرض للشَّك واليأس والغرق. وليس معنى هذا بالضرورة أننا قد فشلنا. وفي الواقع، عندما اهتز إيمان بُطرُس، لجأ إلى المسيح، الوحيد الذي يقدر أن يعين. حيث انه خاف ولكنه مع ذلك نظر إلى المسيح. وهكذا عندما ندرك المتاعب التي تحيط بنا، ونشك في حضور المسيح معنا، أو في قدرته على معونتنا، علينا أن نتذكَّر أنَّه هو الوحيد الذي يستطيع أن يُعين.  لذلك يتوجب علينا أن نحتفظ بإيماننا في وَسَط المواقف الصعبة، ونثبِّت نظرنا على المسيح وقوته، لا على ضعفنا، كما فعل بُطرُس الرسول. فظهور السيد المسيح ماشيًا على الماء وحثه لبُطرُس، يدفعنا إلى الثِّقَة بقوة الله وَسَط أمواج الحياة التي تُهدِّد إيماننا وحياتنا المسيحية. ومتى نجد نفوسنا في "المياه العميقة" لنتذكر أنَّ الرَّبّ يسوع يعرف ما نحن فيه من صراع فيهتم بنا. 

 

 

2) دعوة إلى الثِّقَة وعدم الخَوف

 

يهدف متى الإنجيلي في روايته عن يسوع الذي يمشي على الماء لا إلى دعوة التَّلاميذ إلى الإيمان فحسب، إنَّما أيضا دعوتهم إلى عدم الخَوف.  "لَمَّا رأى التَّلاميذ يسوع ماشِياً على البَحْر، اِضطَرَبوا وقالوا: ((هذا خَيَال!)) ومِن خَوفهم صَرَخوا. فبادَرهم يسوعُ بِقَولِه: ثِقوا. أَنا هو، لا تَخافوا!"(متى 14: 26-27)، فالشعور المُضاد للخَوف هو الثِّقَة بالله. والثِّقَة هي توجيه سير الإنسان نحو إيمان أعمق.  فالخَوف هو عكس الإيمان، والإيمان يمنع من الغرق أمام الصعوبات والاضطهادات.  فالمسيح لا يريد إرهاب التَّلاميذ حتى عندما يظهر لهم، بل بالعكس، يُطمئنهم "ثِقوا. أَنا هو، لا تَخافوا!"(متى 14 24).  وهكذا يكون الإيمان بالمسيح مصدر طمأنينة، ويُزيل حتى مجرد الخَوف البشري من قلوبهم.  ويُردِّد يسوع على مسامع الرسل، الذين ينتظرهم الاضطهاد، ألاّ يخافوا أولئك الذين يقتلون الجسد (متى 10: 26-31). 

 

يدعونا ظهور السيد المسيح ماشيًا على الماء ونجاته لبُطرُس إلى الثِّقَة بقوة الله وَسَط أمواج الحياة العاتية التي تهدِّد إيماننا وحياتنا المسيحية. وهكذا الإنسان المؤمن الواثق في عناية الرَّبّ وفي حفظه وقدرته غير المحدودة، هو واثق في مواعيد الرَّبّ؛ لأنَّ من يتعلق به يُنجيه الرَّبّ، كما أعلن صاحب المزامير " أُنجيه لأَنَّه تعَلق بي أَحْميه لأَنَّه عَرَفَ اسْمي. يَدعوني فأُجيبُه أَنَّا معه في الضِّيقِ فأُنقِذُه وأُمَجِّدُه" (مزمور 90: 14-15).

 

الإنسان المؤمن لا يخاف، لان الإيمان يُحرِّر الإنسان من الخَوف، الخَوف من العَالَم، والخَوف من المَرض، والخَوف من المَوت، والخَوف من الآلام والضِيقات، والخَوف من البَشر وما يفعلون، إنَّه يترنَّم مع صاحب المزامير " الرَّبّ نوري وخَلاصي فمِمَّن أَخاف؟ " (مزمور 27: 1)، لذلك علينا أن ندرب نفوسنا على الثِّقَة وعدم الخَوف من العَالَم، كما أوصانا الرَّبّ " تعانونَ الشِدَّةَ في العَالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العَالَم "(يوحنا 16: 33).

 

يدعونا يسوع إلى التَّغلب على الخَوف بالثِّقَة: علمنا يسوع الثِّقَة وعدم الخَوف: "ثقوا. أنا هو، لا تخافوا (متى 14: 27) "تُعانون الشدّة في العَالَم ولكن ثقوا إنّي قد غلبت العَالَم" (يوحنا 16: 33). وهذا ما يؤكده صاحب المزامير "جعَلتُ الرَّبّ كُلَّ حين أَمامي إِنَّه عن يميني فلَن أَتَزَعزَع" (مزمور 16: 8) ويضيف "الرَّبّ نوري وخَلاصي فمِمَّن أَخاف؟ الرَّبّ حِصْنُ حَياتي فمِمَّن أَفزَع؟ " (مزمور 27: 1) " إِنِّي ولَو سِرتُ في وادي الظّلمات لا أَخافُ سُوءًا لأَنَّكَ مَعي " (مزمور 23: 4)، لأن الرَّبّ يقول "أُنجيه لأنّه تعَلق بي أحْميه لأنه عَرَفَ اسْمي. يَدعوني فأُجيبُه أَنَّا معه في الضِّيقِ فأُنقِذُه وأُمَجِّدُه. بِطولِ الأيامِ أُشبِعُه وأُريه خلاصي" (مزمور 91: 14-16). 

 

يُزيل اعتمادنا على ثقتنا بالله كل خَوف من قلوبنا " إِنِّي ولَو سِرتُ في وادي الظّلمات لا أَخافُ سُوءًا لأَنَّكَ مَعي. عَصاكَ وعُكَّازُكَ يُسَكِّنانِ رَوعي" (مزمور 23: 4).  يتدخل الله في زمن العواصف، عندها يدرك الإنسان أنّه لا يستطيع الاعتماد على قواه الذاتيّة، ولا يملك، في نهاية المطاف، سوى الثِّقَة بالله.  ويوجّهنا القدّيس فرنسيس دي سال" فإذا أردتم أن تركبوا بحر هذا العَالَم الهائج فلا تغيّروا من أجل ذلك لا شراعاً ولا سارية ولا مرساة ولا ريحًا. اتَّخذوا الرَّبّ يسوع المسيح لكم كهدف، وليكن صليبه سارية سفينتكم وعلى هذا الصّليب تنشرون قراراتكم كما لو كانت هي الشّراع؛ ولتكن مرساتكم الثِّقَة العميقة به وانطلقوا في السّاعة المناسبة. ولتنفخ ريح الإلهام السّماوية على الدّوام في شراع مركبكم حتى يصل بكم بسعادة إلى مرفأ الحياة الأبديّة... "

 

أخير يدعونا يسوع إلى الصَّلاة في العُزْلَة، فقد جعل الرَّبّ وقتًا في برنامجه للانفراد مع الآب.  صلاة يسوع علامة صلته بالآب. ونحن نصلي لتكون على صلة بالله، الصَّلاة تحفظنا في سلام وَسَط العَالَم المُضَّطرب. وبفضل الصَّلاة التي رفعها الرَّبّ يسوع إلى أبيه، لم يلحق التَّلاميذ أيّ أذى في البَحْر. ينشئ قضاء وقت مع الله في الصَّلاة علاقة حيوية، ويؤهلنا لمواجهة تحديات الحياة وصراعاتها

 

ونستنتج مما سبق أنَّ الواقع الذي نعيشه يشبه تعرّض السَّفينَة للواقع. نحن نعيش حاليا في تحديات وصعوبات وأوبئة وفي عالم فيه خَوف واضطراب.  قد يبدو لنا أحيانا أنَّ الله قد يتركنا أو قد يتغيب عنا، وأن الأمر لا يعنيه. لكن الرَّبّ حاضر فينا، ويصلي من أجلنا. فقد اختبر التَّلاميذ انهم بدون يسوع عاجزون، وانهم أحوج ما يكونون إليه في ساعات الظلمة والضيق. فلنخصص وقتا منفردا مع الله، فيساعدنا على أن ننمو روحيا، ونزداد تشبها بالمسيح.

 

 

الخلاصة

 

تكتشف رواية مشي يسوع إلى الماء سلطته على قوى الشر. وجسّد بُطرُس الجماعة التي تشك وتخاف وتظن أنَّ المسيح أصبح بعيدًا، وبالتالي تطلب معجزات لكي تستعيد ثقتها بربّها. ولهذا احتاجت إلى دفع جديد لتجد قوة بها تجابه الرِّياح المُضادة. فسمح الرَّبّ بالعاصفة كي يطلبه التَّلاميذ ويستغيثوا به، ومشى يسوع على الماء لكي يعرفوه إلهًا، وصعد السَّفينَة لكي يطمانهم أنَّه هو معهم وبجانبهم.

 

اختبر التَّلاميذ قدرة يسوع الإلهية قبل الوصول إلى شاطئ الحياة الأبدية. وانتهت مسيرة يسوع في القيامة وظهوره لتلاميذه، وابتدأت مسيرة الكنيسة التي يمثلها بُطرُس. فيتوجب على المؤمنين أن يمشوا على الماء، ويتغلبوا على الشَّر، على مثال معلمهم، ولكنهم لا يستطيعون أن ينطلقوا في مسيرتهم إلاَّ إذا ناداهم الرَّبّ، على مثال بُطرُس الذي مشى على الماء. ويعلق القدّيس كولومبانُس "إنّ الله عظيم في وجوده وهو كامل في أيّ مكان. كما أنّه قريب أينما كان، وفقًا للشِّهادة التي أعطاها عن ذاته: "أنا إلهٌ عن قرب ولستُ إلهًا عن بعد". الله الذي نبحث عنه ليس بعيدًا عنّا، وهو موجود بيننا إذا ما كنّا جديرين به". (تعليمات روحيّة، الجزء الأوّل، الإيمان)

 

تُشبه الكنيسة، وهي مضطربة من تجارب هذا العَالَم، تلك السَّفينَة وهي مضطربة في بحيرة طبرية، وكثيرًا ما تشعر الكنيسة بأنها متروكة، كما ظن التَّلاميذ أنَّ المسيح قد تركهم تلك الليلة. لكم المسيح صعد إلى الجَبَل يصلي من اجل الذين في السَّفينَة ثم أتى إليهم حين بلغت الشِّدة أوجها.  وهكذا يفعل المسيح الآن فانه يشفع في كنيسته في السَّماء ويأتي إلى معونتها على الأرض في وقت الشِّدة لكي يحوّل كل خَوف وخط وضيق إلى أمن وسلام واطمئنان. فلنتمسك بوعد الله وبكلمته ولنقل معًا: "للهُ في وَسَطها فلَن تَتزعزَع أَللهُ عِندَ اْنبِثاقِ الصُّبحِ يَنصُرُها"(مزمور 5: 46).

 

 

دعاء

 

أيها المسيح الهنا، يا من تُسيطر على الأحداث، ندعوك أن تقوّي إيماننا خاصة عندما يهتز في الظروف الصعبة التي نعيشها، والضيقات التي نعانيها. فلا تجعلنا نشُّكُّ في حضورك وقدرتك على معونتنا، خفِّف علينا همومنا، كلما ثقلت، وأخمد فينا أهوائنا، كلما عصفت، وثبّت على بحر الحياة سفينتنا، كلما جنحت، وهبنا القوة والسَّكينة، فلا نخشى معك غرقًا، فنحفظ ثقتنا فيك، ونسبّح اسمك على الدوام ونحمدك على كلّ حال وفي كلّ حال ومن أجل كلّ حال. وإننا نصرخ إليك "يا رب نجنا إننا نهلك" فيا رب أمدد يدك ويمنك وانتشلنا فلا نغرق. آمين. 

 

 

قصة البارون مونشهاوزن Baron Munchausen

 

كان البارون مونشهاوزن أحد النبلاء الألمان، تنسب إليه القصة الشهيرة باسم مغامرات البارون مونشهاوزن التي تحوَّلت فيما بعد إلى أفلام ومسلسلات إذاعية. كان البارون في مشوار بين الغابات وقع مرّة في مستنقع، فأصابه الهلع، لأنَّه ما كان أحد بقربه لينشله من الغرق المُحتّم، لذا على الرَّغْمِ من فزعه راح هو نفسه، كلّما جرّته المياه إلى العُمق، يشدُّ بشعر رأسه إلى فوق، وفعلا نجا من الغرق. خرافة، قالوا عنها، ولو لم تكن صحيحة فهي جميلة.

 

لكننا نعرف من الخبرة، أنّ من يقع في مأزق مثلِ هذا، يحتاج حتمًا إلى منقذ. وهنا تظهر لنا قصة بُطرُس على أصلها، فهو الخبير في السِّباحة وركوب القوارب، احتاج بالتالي إلى منقذ. ففي القصتين نجد شيئا مُشتركاً، ألا وهو الخَوف والفزع. فالخَوف إما أن يعطيك قُوّةً فوق طاقتك، أو تُشِلُّ قواك وتستسلم للقدر. إن بُطرُس ما استسلم بل استعمل آخر أنفاسه لطلب النّجدة، التي ما توانى سيّده ومُخلّصه أن يُسنده بها. نحن أيضا، لماذا نخجل ولا نعلن علنا إننا بالتّالي لا نعتمد إلا على الله؟ أو أننا واضعون كلَّ ثقتِنا بالله، وإلا نحن أنّنا نتهاون في مواقف ضرورية بالاعتراف أنّنا مؤمنون؟