موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (لوقا 17: 11-19)
11 وبَينَما هو سائِرٌ إلى أُورَشَليم، مَرَّ بِالسَّامِرَة والجَليل. 12 وعِندَ دُخولِه بَعضَ القُرى، لَقِيَه عَشَرَة مِنَ البُرْص، فوقَفوا عن بُعدٍ، 13 ورَفعوا أًصواتَهم قالوا: ((رُحْماكَ يا يسوع أَيُّها المُعَلِّم!)) 14 فلَمَّا رآهُم قالَ لَهم: ((اُمضُوا إلى الكَهَنَة فَأَرُوهُم أَنفُسَكم)). وبَيْنَما هُم ذاهِبونَ بَرِئوا. 15 فلمَّا رأَى واحِدٌ مِنهُم أَنَّه قد بَرِئَ، رجَعَ وهُو يُمَجِّدُ اللهَ بِأَعلَى صَوتِه، 16 وسَقَطَ على وَجهِه عِندَ قَدَمَي يَسوعَ يَشكُرُه، وكانَ سامِرياً. 17 فقالَ يسوع: ((أَليسَ العَشَرَة قد بَرِئوا؟ فأَينَ التِّسعَة؟ 18 أَما كانَ فيهِم مَن يَرجعُ ويُمَجِّدُ اللهَ سِوى هذا الغَريب؟)) 19 ثُمَّ قالَ له: ((قُمْ فامضِ، إِيمانُكَ خَلَّصَكَ)).
مُقَدِّمَةٌ
يَعْرِضُ إِنْجِيلُ هٰذَا الأَحَدِ (لُوقَا 17: 11–19) مُعْجِزَةَ شِفَاءِ يَسُوعَ لِعَشَرَةٍ مِنَ الْبُرْصِ، وَذٰلِكَ فِي بُرْقِين، وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ لِلْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ نَحْوَ أُورَشَلِيمَ. غَيْرَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَقَطْ، وَكَانَ سَامِرِيًّا غَرِيبًا، عَادَ سَاجِدًا وَشَاكِرًا لِيَسُوعَ جَمِيلَهُ، بَيْنَمَا تَجَاهَلَ التِّسْعَةُ الآخَرُونَ الرَّبَّ، وَلَمْ يُصْغُوا إِلَى نِدَاءِ الْمَلَكُوتِ.
وَيُقَدِّمُ لَنَا الْقِدِّيسُ أَثْنَاسِيُوسُ هٰذَا الأَبْرَصَ السَّامِرِيَّ مِثَالًا حَيًّا لِحَيَاةِ الشُّكْرِ الَّتِي تُظْهِرُ قَلْبًا مُتَعَلِّقًا بِوَاهِبِ الْعَطِيَّةِ (اللهِ) أَكْثَرَ مِنَ الْعَطِيَّةِ نَفْسِهَا (الشِّفَاءِ). فَالْمُؤْمِنُ لَا يُعْرَفُ بِعِرْقِهِ، أَوْ عَشِيرَتِهِ، أَوِ الْتِزَامِهِ الْخَارِجِيِّ بِالتَّعَالِيمِ، بَلْ بِإِيمَانِهِ الْحَيِّ، وَثِقَتِهِ بِالرَّبِّ، وَشُكْرِهِ عَلَى نِعْمَتِهِ وَافْتِقَادِهِ لَهُ.
يَدْعُونَا يَسُوعُ فِي هٰذَا النَّصِّ إِلَى أَنْ نَتَأَمَّلَ بِعُمْقٍ افْتِقَادَ اللهِ لَنَا، وَأَنْ نَغْرِسَ فِي قُلُوبِنَا رُوحَ الشُّكْرِ نَحْوَهُ تَعَالَى. فَالشُّكْرُ لِلهِ هُوَ شَكْلٌ مِنْ أَشْكَالِ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ اللهَ أَبٌ يَعْمَلُ فِي حَيَاةِ أَبْنَائِهِ. وَمِنْ هُنَا تَتَجَلَّى أَهَمِّيَّةُ التَّوَقُّفِ عِنْدَ أَحْدَاثِ هٰذَا النَّصِّ الْإِنْجِيلِيِّ، وَتَأَمُّلِ مَعَانِيهِ وَتَطْبِيقَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ فِي حَيَاتِنَا.
أولا: وقائع النص الإنجيلي وتحليله (لوقا 17: 11-19)
11 وبَينَما هو سائِرٌ إلى أُورَشَليم ، مَرَّ بِالسَّامِرَة والجَليل.
تُشيرُ عِبَارَةُ "سَائِرٌ إِلى أُورَشَلِيمَ"إلى يَسُوعَ الَّذِي يَسِيرُ بِكَامِلِ حُرِّيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ فِي رِحْلَتِهِ الأَخِيرَةِ إِلى أُورَشَلِيمَ، حَيْثُ يَنْتَظِرُهُ المَوْتُ. عَلِمًا أَنَّ أُورَشَلِيمَ كَانَتْ مَرْكَزَ عِبَادَةِ الشَّعْبِ الْيَهُودِيِّ، وَهِيَ المَكَانُ الَّذِي فِيهِ يُقْتَلُ الأَنْبِيَاءُ (لوقا 13: 33). وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، يَفْتَتِحُ يَسُوعُ مَرْحَلَةً جَدِيدَةً مِنْ مَرَاحِلِ الصُّعُودِ إِلى أُورَشَلِيمَ (لوقا 17: 11–19: 28)، حَيْثُ تُذْكَرُ أُورَشَلِيمُ لِلمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فِي صُعُودِ يَسُوعَ إِلَيْهَا (لوقا 9: 51، و13: 22). نَحنُ دائِمًا في مَسيرتِنا وَراءَ يَسوعَ الّذي نَتبَعُهُ في الطَّريقِ إلى أُورَشَليمَ الأَرضيَّة، مُتَّجهينَ نَحوَ أُورَشَليمَ السَّماويَّة، تِلكَ المَدينَةُ الّتي لا نَستَحِقُّها، ولا نَبنيها بِجُهودِنا الشَّخصيَّة، بَل هِيَ عَطيَّةٌ مَجّانيَّةٌ مَمنوحَةٌ لَنا مِنَ اللهِ بِمَحبَّتِهِ.
أَمَّا عِبَارَةُ "مَرَّ بِالسَّامِرَةِ وَالْجَلِيلِ"فَتُشِيرُ إِلى أَنَّ لُوقَا يَذْكُرُ السَّامِرَةَ قَبْلَ الجَلِيلِ، خِلَافًا لِلتَّوَقُّعِ الطَّبِيعِيِّ، إِذْ كَانَ مِنَ المُنْتَظَرِ أَنْ يَذْكُرَ الجَلِيلَ أَوَّلًا. وهذا الانعكاس ليس خطأً، بل إشارةً رمزية ذات مغزى روحي عميق . وَيَبْدُو أَنَّهُ يُرِيدُ التَّشْدِيدَ عَلَى أَنَّ يَسُوعَ قَدْ غَادَرَ مَنْطِقَةَ الجَلِيلِ وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا حَتَّى مَوْتِهِ. وَقَدْ مَرَّ بِالسَّامِرَةِ، حَيْثُ شَفَى عَشَرَةَ رِجَالٍ مُصَابِينَ بِالْبَرَصِ فِي إِحْدَى قُرَاهَا، ثُمَّ وَاصَلَ مَسِيرَتَهُ نَحْوَ أُورَشَلِيمَ. أتى يسوعُ للجميعِ وبدونِ استثناءٍ، جاءَ يحملُ رسالةَ الخلاصِ، مبتدِئًا بالشفاءِ، ليُظهِرَ رحمةَ اللهِ اللاَّمحدودةَ التي تشملُ كلَّ إنسانٍ، مهما كانَ بُعدُه أو ضعفُه. فهو الإلهُ الذي لا يُفرِّقُ بينَ أحدٍ، بل يدعو الكلَّ إلى الحياةِ الجديدةِ فيه، ويُجدِّدُ الإنسانَ جسدًا ونفسًا وروحًا.
12 وعِندَ دُخولِه بَعضَ القُرى، لَقِيَه عَشَرَة مِنَ البُرْص، فوقَفوا عن بُعدٍ،
تُشيرُ عِبَارَةُ "وَعِندَ دُخولِهِ"إلى خارجِ بابِ السُّور، حيثُ اعتادَ المتسوِّلونَ أنْ يَجتمعوا لِيَطلُبوا الصَّدقة.
أمَّا عِبَارَةُ "بَعضَ القُرى" فَتُشيرُ إلى قريةِ بُرقين في مِنطقةِ جِنين، بِحسبِ التَّقليدِ وعِلمِ الآثار.
وأمَّا عِبَارَةُ "عَشَرَة"فَتُشيرُ إلى أولئكَ الرِّجالِ العَشَرَة – تِسعةٌ مِنهُم يَهودٌ وواحِدٌ سامِريٌّ يتميَّزُ بإيمانٍ عظيمٍ – كُلُّهُم مُصابُونَ بالبُرْص. جَمَعَهُمُ المَرَضُ المُشتركُ، معَ اختلافِهم في الدِّينِ والآراء، وألَّفَتْ بَينَهُمُ البَلْوى الواحِدة، إذْ كانوا يَعيشونَ في جَماعاتٍ صَغيرةٍ تَفاديًا للوُحوشِ الكاسِرةِ الّتي كانتْ تَعيشُ في البَراري. وكثيرًا ما يُجمِعُ الألَمُ المُشتركُ بَينَ القُلوبِ المُتَنافِرة.وأمَّا الرَّقمُ (10) فَهُوَ رَقمٌ مُكَرَّسٌ (عَدَدُ أصابعِ اليدِ أو مُضاعَفُ خَمسَة)، ويَدُلُّ في الكتابِ المُقدَّسِ على كَمالِ مَسؤوليَّةِ الإنسان، كما تَبدو في الوصايا العَشر (خروج 20: 1–17)، وعَشرِ ضَرباتِ مِصر (خروج 7–12)، وعَشَرَةِ أبرارٍ طُلِبوا لِيَعفوَ اللهُ عن سَدوم (التكوين 18: 32)، وعَشرِ مَرّاتٍ تَمَرَّدَ فيها الشَّعبُ القَديمُ في البَريَّة على الله (العدد 14: 22). وقد شَبَّهَ السَّيِّدُ المسيحُ مَلكوتَ السَّماوات بِـعَشرِ عَذارى (متى 25: 1–13).
وأمَّا عِبَارَةُ "لَقِيَه"فَتُشيرُ إلى اقترابِ العَشَرَةِ مِنَ البُرْصِ بالإيمانِ إلى يسوعَ عَلَّهُم يَنالونَ الشِّفاءَ مِن مَرَضِهِم، رَغمَ أنَّهُم لم يَشهَدوا بأعيُنِهِم المعجِزاتِ الّتي صَنَعَها، وإنَّما سَمِعوا عنها.
وأمَّا عِبَارَةُ "البُرْص" فَتُشيرُ إلى مَرَضٍ مُعْدٍ مُزمِنٍ خَبيثٍ يَظهَرُ على شَكلِ بُقَعٍ بَيضاءَ في الجَسَد. ويُعدُّ البَرَصُ في الشَّريعةِ اليَهوديَّةِ نَجاسَةً، ويَجِبُ أنْ يَنعَزِلَ المُصابُ بهِ عنِ النّاس، كما وَرَدَ في كِتابِ موسى:أَيُّ إِنْسانٍ كانَ في جِلدِ بَدَنِه وَرَمٌ أَو قُوباءُ أَو لُمعةٌ تَؤولُ في جِلدِ بَدَنِه إلى إِصابَةِ بَرَصٍ، فَليُؤتَ بِهِ إلى هارونَ الكاهِنِ أَو إلى واحِدٍ مِن بَنيهِ الكَهَنَة" (الأحبار 13: 2–8).وكان البَرَصُ داءً مَكروهًا عندَ اليَهودِ باعتبارِهِ قِصاصًا منَ الله. لقد كان مِن أخطرِ وأكثرِ الأمراضِ المُتَفشِّيَةِ في ذلكَ الزمان. وقد بَقِيَ مَرضُ البَرَصِ مُنتَشِرًا حتّى مُنتَصَفِ القرنِ العِشرين، حيثُ قُضِيَ عليه نِهائيًا في بلادِنا الفِلسطينيّة. وقد لَعِبَتِ الإرساليّاتُ والجَمعيّاتُ التبشيريّةُ الدَّورَ الأكبرَ في القَضاءِ على هذا المَرض، وكان آخِرُ مَشفى للبُرْص هو "جَبَل النَّجمَة" على الطَّريقِ بَينَ رامَ الله وبيرزيت.يُعلِّقُ القدّيسُ برونو دي سيغني قائلًا:"تُرى مَن يُمثِّلُ الرِّجالَ البُرْصَ العَشَرَة غَيرَ الخُطاة؟" (شرح لإنجيل القدِّيس لوقا).
وأمَّا عِبَارَةُ "فَوَقَفوا عن بُعدٍ" فَتُشيرُ إلى البُرْصِ الّذينَ عَمِلوا بالشَّريعةِ الّتي تَطلُبُ مِنهُم أنْ يَسكُنوا بَعيدًا عنِ النّاس، كما وَرَدَ في التوراة:"الأبرَصُ الّذي بِهِ إصابَةٌ تَكونُ ثِيابُه مُمزَّقَةً وشَعرُه مَهدولًا، ويَتلَثَّمُ على شَفَتَيه ويُنادي: نَجِس، نَجِس. ما دامَت فيه الإصابَةُ، يَكونُ نَجِسًا، إِنَّه نَجِس. فَليُقِمْ مُنفَرِدًا، وفي خارِجِ المُخَيَّمِ يَكونُ مُقامُه" (الأحبار 13: 45–46).فالبُرْصُ لا يُخالِطونَ النّاسَ حَسبَ الشَّريعةِ اليَهوديّة، لأنَّ البَرَصَ نَجاسَةٌ، ومَن يَتلامَسْ مَعَهُم يَتَنَجَّس؛ فهو رَمزُ الخَطيئَةِ والشرِّ الّذي يُشوِّهُ الإنسان. كانَ أولئكَ الـمُصابونَ بالبَرَصِ كالأمواتِ الأحياء، قد غابت عنهم ملامحُ الحياةِ، وتحوّلت أيّامُهم إلى عُزلةٍ وصَمتٍ وألَم. ولكنَّ النِّعمةَ اقتادتهم إلى الطَّريق، فَساروا بقلوبٍ جَريحةٍ نحوَ يَسوع، يَحمِلون صَرخَتَهم الأخيرةَ: "يا يسوعُ، يا مُعَلِّم، ارحَمنا!" — تلك الصَّرخة الّتي اخترقَت صَمتَ موتِهم، وأعادَت إليهم نَفَسَ الحياةِ. ولا يَتمُّ الشِّفاءُ مِن بَرصِ الخَطيئَةِ إلّا بالمسيحِ والذَّهابِ إلى الكاهنِ الّذي يُعلِنُ شِفاءَهُ رَسميًا.ويُضيفُ القدّيسُ برونو دي سيغني أيضًا:"كانوا واقِفينَ عن بُعدٍ لأنَّهم لم يَجْرُؤوا على الاقتِرابِ مِنهُ بِسَببِ بَرَصِهِم. هذا الأمرُ يَنطَبِقُ علينا: طالَما نَحنُ في الخَطيئَةِ، نَقِفُ عن بُعدٍ." (شرح لإنجيل القدّيس لوقا). فهؤلاءِ الرِّجالُ العَشَرَة يُمثِّلونَ البشريَّةَ الّتي صارتْ بالخَطيئَةِ مَحرومةً مِن "الشَّرِكةِ المُقدَّسَة".
13 ورَفعوا أًصواتَهم قالوا: ((رُحْماكَ يا يسوع أَيُّها المُعَلِّم!))
تُشيرُ عِبَارَةُ "وَرَفَعوا أَصواتَهم قالوا" إلى جذبِ انتباهِ يسوعَ إليهم، لأنَّهُم لم يَجسُروا أنْ يَدنوا مِنه، بل صَرخوا كُلُّهُم بصوتٍ واحِدٍ، إذ كانتِ العِلَّةُ مُشترَكةً. فدلّوا بذلكَ على شقاءِ حالِهم، وطَلَبِهم المعونةَ والإيمانَ بِقُدرةِ المسيحِ وشَفَقَتِه.
أمَّا عِبَارَةُ "رُحماكَ "فَتُشيرُ إلى صَرخةٍ مِن أعمقِ صرخاتِ البشريَّةِ المُتألِّمة. وكثيرًا ما نُكرِّرُها في كُلِّ قُدّاسٍ قائلين:"ἐλέησονἡμᾶς"(اليسون) — أي: "ارحمنا يا رب !" يُعلِّقُ القدّيسُ برونو دي سيغني قائلًا:"هذا التوسُّلُ لا يَنبَغي أنْ يَنبُعَ مِن أفواهِنا، إنَّما مِن قلوبِنا، لأنَّ القلبَ يَتكلَّمُ بصوتٍ أقوى. صلاةُ القلبِ تَعبُرُ السَّماواتِ وتَرتفِعُ عاليًا إلى عَرشِ الله" (شرحٌ لإنجيلِ القدّيس لوقا). ويسوعُ يُسرِعُ إليهم حينَ يسمعُ صَرخاتِهم المُتَّحِدة طالِبِينَ رحمَتَه، وهوَ القائلُ:"أَفَما يُنصِفُ اللهُ مُختاريهِ الَّذينَ يُنادونَه نَهارًا وليلًا؟" (لوقا 18: 7). وبِحسبِ الظُّروفِ العاديَّة، كُنَّا نتوقَّعُ أنْ نَرى التِّسعةَ في جَانِبٍ، والعاشِرَ في جَانِبٍ آخَر،"لِأَنَّ اليَهودَ لا يُخالِطونَ السّامِريّين" (يوحنّا 4: 9)،ويَنظُرونَ إليهم نَظرةَ احتِقار. لكنْ هنا، البُرْصُ – يَهودًا وسامِريّين – كانوا يَعيشونَ معًا، إذ لم تَكُن بَينَهم عُنصُريَّة. المَرَضُ قَرَّبَ بَينَهُم، فالوَجعُ المشتركُ ألغى الحَواجِزَ المُفتَرَضة.بالإضافةِ إلى ذلك، إنَّ الشَّيءَ الّذي عِندَهُ يَتساوى جَميعُ البَشرِ هو الخَطيئَة، كما يقولُ الرَّسولُ بولس:"ذلِكَ بِأَنَّ جَميعَ النّاسِ قد خَطِئوا فَحُرِموا مَجدَ الله" (رومة 3: 23).وطالما اشتركَ العَشَرَةُ في النَّجاسَة، لَم يَبقَ أمامَهُم جميعًا إلّا شَيءٌ واحِدٌ مُشتركٌ أيضًا: رَحمَةُ الله، كما يقولُ بولس أيضًا:"فَلا فَرقَ بَينَ اليَهوديِّ واليُونانيّ، فالرَّبُّ رَبُّهم جميعًا، يَجودُ على جميعِ الّذينَ يَدعونه" (رومة 10: 12).لقد دَخَلَتْ هذِه الصَّرخَةُ إلى صَميمِ قلبِ المسيح، إذ لَم يَقُلْ لَهُم: "اتركوني، فَالرَّبُّ يُشفيكم"، كَلاّ، فَلَم تَصدُرْ مِنه أقوالٌ لا مُبالِيَة، بل وَقَفَ وامتحَنَ إيمانَهُم، قائِلًا لَهُم:"اُمضوا إلى الكَهَنَةِ فأَروهُم أَنفُسَكُم" (لوقا 17: 14).
أمَّا عِبَارَةُ "يَسوع" فَتُشيرُ إلى الصِّيغَةِ العربيَّةِ للاسْمِ العبريّ יֵשׁוּעַ (يِشوع)، ومعناه: الله مُخلِّص. وقد سُمِّيَ يسوعُ هكذا حسبَ قولِ الملاكِ ليوسف:"فَسَتَلِدُ ابنًا تُسَمِّيهِ يَسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَهُ مِن خَطاياهم" (متى 1: 21)،ولمريمَ أيضًا (لوقا 1: 31).ويَسوع هو اسمُهُ الشخصيّ، أمَّا المسيحُ فَلَقَبُهُ. وقد وَرَدَتْ عِبَارَةُ "الرَّبُّ يَسوعُ المَسيح"نحوَ خمسينَ مَرَّةً في العهدِ الجديد، و"يَسوعُ المَسيح" أو "المَسيحُ يَسوع"نحوَ مئةِ مَرَّة، بينما وردَتْ عبارةُ "المسيحُ الرَّبّ"مرّةً واحدةً فقط (لوقا 2: 11). وقد استُعمِلَ الاسْمُ "يسوع" وحدَهُ أكثرَ في الأناجيل، بينما استُخدِمَ "يسوعُ المسيح" و"الرب يَسوعُ المسيح" في سِفرِ الأعمالِ والرَّسائل.لقد عَرَفَ هؤلاءِ البُرْصُ يسوعَ والمُعْجزات الّتي صَنَعَها، رغمَ أنَّهُم مُنعزِلونَ عنِ النّاسِ لِمَرضِهم، لكنَّهُم اتَّفَقوا على مُناداةِ يسوعَ في ضيقِهم، لأنَّ الإيمانَ – وإنْ كانَ محدودًا – كافٍ لِيَجذِبَ انتباهَ الرَّبّ.كانَ العَشَرَةُ مِنَ البُرْصِ يَمتلِكونَ إيمانًا حَقيقيًّا بيسوعَ إلى الحَدِّ الّذي طَلَبوا مِنهُ الشِّفاء.
وأمَّا عِبَارَةُ "المُعَلِّم"فَفي الأصلِ اليونانيّ ἐπιστάτα، أي: مُعلِّمُ الشَّريعة (لوقا 5: 5، 8: 24)، ويُقابِلُ لَقَبَ "الكَاتِب". وعندَ المسيحيّينَ الأوائلِ، انطبَقَ هذا اللَّقبُ على مَوهبةٍ خاصَّةٍ مِن أجلِ التَّعليمِ والفِقاهة انطلاقًا مِن نصوصِ الكُتُبِ المقدَّسةِ وتأكيداتِ الإيمان. في هذا المَعنى، يَتميَّزُ المُعَلِّم عن النَّبيّ الّذي يَتكلَّمُ عفوًا بِدافعٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس (1 قورنتس 12).ويسوعُ يُسْرِعُ إلينا كَما أسرَعَ إليهم، حينَ يَسمَعُنا نَصرُخُ إليه طالِبِينَ رَحمَتَه، فَلْنَصرُخْ إليه لا في وَقتِ الحاجَةِ فقط، بل أيضًا في ساعاتِ الخيرِ والسَّلامِ والرَّاحَة؛على الأقلِّ، فَلْنَشكُرْه لأنَّنا في فِكرِه دائمًا.
14 فلَمَّا رآهُم قالَ لَهم: ((اُمضُوا إلى الكَهَنَة فَأَرُوهُم أَنفُسَكم)). وبَيْنَما هُم ذاهِبونَ بَرِئوا.
تُشيرُ عِبَارَةُ "فَلَمَّا رآهُم"إلى نَتيجةِ صُراخِهم، إذ إنَّ نَظرةَ يسوعَ إلى المَرضى كانت كافيةً لِتَسمَحَ ببدءِ الشِّفاءِ، لا مِنَ الأَمراضِ الجَسديَّةِ فَحسب، بل مِنَ الأمراضِ الرّوحيّة أيضًا. فما إنْ رآهُم يسوعُ بحالِهم، حتّى شَفِقَ عليهم، لأنَّ نَظرتَه الإلهيَّةَ تَخلُقُ الرَّحمةَ وتُحيي الرَّجاءَ في القلوبِ المُحطَّمَة. فَرَحمَةُ اللهِ تَفيضُ على الجَميع، لا تَعرِفُ حُدودًا ولا تَمييزًا، وتَبلُغُ كُلَّ قلبٍ يَصرُخُ إليهِ بإيمان. وبِكَلِمَتِهِ يَمنَحُ الشِّفاءَ منَ الأَمراضِ الجَسَديَّةِ والخَطيئةِ الرُّوحيَّةِ، فيُعيدُ للإنسانِ كَرامتَهُ، ويُقيمُهُ من مَوتِ اليأسِ إلى حَياةِ النِّعمة.
أمَّا عِبَارَةُ "اُمضوا إلى الكَهَنَةِ فأروهُم أَنفُسَكم" فَتُشيرُ إلى أنَّ السيّدَ المسيحَ لَم يَقُم بأيِّ حَركةٍ أو كَلمةٍ للشفاءِ، بل أَمرَ البُرْصَ أنْ يَذهَبوا إلى الكَهَنَةِ ليُروا أنفُسَهم لهم. أمَرَهُم يَسوعُ أن يَفعَلوا ما أوصَت بهِ الشَّريعَةُ للمُصابينَ بالبَرَصِ، أي أن يَذهَبوا إلى الكَهَنَةِ لِيَتَحقَّقوا مِن شِفائِهِم، فيكونوا شُهودًا على عَملِ اللهِ فيهم. وهكذا، لم يَكُن الطَّريقُ إلى الكاهنِ مجرَّدَ طاعةٍ لِلوَصِيَّة، بَل مَسيرةَ إيمانٍ تُعيدُ الإنسانَ إلى جَماعَةِ الحَياة، وتَدمُجُهُ مُجدَّدًا في المُجتَمَعِ الدينيِّ والاجتِماعيّ، حَيثُ تُعلَنُ النِّعمةُ أقوى منَ العَزلةِ والمَرض. وهكذا أَكَّدَ أنَّه ما جاءَ ليُبطلَ الشَّريعَةَ أو الأنبِياءَ، بل ليُكمِّل (متى 5: 17). فالشَّريعةُ كانت تُوصي الأبرصَ أنْ يَذهبَ إلى الكاهنِ قبلَ أنْ يَختلِطَ بالجَماعة، لِيُعلِنَ الكاهنُ شِفاءَه رسميًّا وإعادته إلى الحياة الاجتماعية, وليُقدِّمَ عن شِفائه الذَّبائحَ الّتي أَمَرَ بها موسى:"هذِه تَكونُ شَريعَةَ الأبرصِ في يَومِ الطَّهارة: يُؤتى بهِ إلى الكاهن(الأحبار 14: 2). والكاهنُ يُعطي شهادةً تُثبِتُ بَراءةَ الأبرصِ مِن مَرضِه، لِيَستطيعَ أنْ يَعودَ إلى مُمارسةِ حياتِه الطَّبيعيَّةِ في مُجتمعِه.وأمْرُ يسوعَ هذا يُشكِّلُ شهادةً مزدوجةً:من جهةٍ، هو دليلُ طاعتِه للشريعة؛ ومن جهةٍ أخرى، إعلانٌ عن قُدرته الإلهيّة الّتي تَتجاوَزُها. فهو يُقدِّم للكَهَنَةِ دليلًا ماديًّا على قدرته على الإبراء والتَّطهير، الأمرُ الّذي تَعجِزُ عنه الشَّريعةُ ذاتُها، لعلَّهُم يؤمنونَ به.وحيثُ إنَّ البَرَصَ – بحسبِ تعليمِ الكَهَنَة – لا يُشفى إلّا بِيدِ الله، فإنَّ شِفاءَهُم على يَدِ المسيحِ يُعتَبَرُ إعلانًا صريحًا عن لاهوتِه.لقد آمنَ هؤلاءِ البُرْصُ بكلمةِ يسوعَ دونَ اعتراضٍ، وذَهَبوا إلى الكَهَنَةِ قبلَ أنْ يَظهَرَ عليهم الشِّفاء. لم يَطلبوا عَلامةً أو دَليلًا، بل أطاعوا فورًا، مُظهِرينَ إيمانًا عاملًا بالطاعة، لأنَّ الشِّفاءَ لا يَسبِقُ الإيمانَ، بل يتبَعُه.
أمَّا عِبَارَةُ "الكَهَنَة"فَفي الأصلِ اليونانيّ ἱερεύς، أي الكاهنُ اليَهوديّ، وتشيرُ إلى الّذينَ يَختصّونَ بالأُمورِ المُقدَّسَة، ويَقِفونَ أمامَ اللهِ للخِدمةِ، ولَهُم سُلطانٌ على شَعائرِ العبادةِ ويُباركونَ الشَّعبَ في المُناسباتِ الكُبرى (2 صموئيل 6: 18) وهم الذين يؤكِّدون عملية الشفاء من البرص ل يتمكن كل من أصيب من العدوى من العودة إلى المجتمع.ولا تُشيرُ الكلمةُ هنا إلى الكاهنِ في المعنى المسيحيِّ الحَاليّ المعروف باسم πρεσβύτερος كما في (أعمال الرسل 14: 23). وقد انتقدَ يسوعُ الكَهَنَةَ واللاويّين لِجُمودِهم القَلبِيّ (لوقا 10: 29–37)، مُظهِرًا أنَّ الخدمةَ الحقيقيّةَ لا تقومُ على المَنصِب، بل على الرَّحمة.
أمَّا عِبَارَةُ "بَينَما هُم ذاهِبونَ بَرِئوا" فَتُشيرُ إلى أنَّ البُرْصَ نالوا الشِّفاءَ الكاملَ في الطَّريقِ، مَع أنَّ المسيحَ لم يَلمسْهُم. غير أنَّهم أظهروا إيمانَهُم العمليَّ بطاعتهم حينَ انطلقوا فورًا، دونَ تردُّدٍ أو انتظارٍ لِعلامةٍ حِسّيَّة.فلو ظَلّوا في مَكانِهم، لظلّوا في داءِ البَرَص، لكنَّ طاعتَهُم لكلمةِ يسوعَ خَلَّصَتهُم وأبعَدَتْ عنهم اللَّعنة. في رسالةِ يسوعَ، كان شِفاءُ المرضى على رأسِ قائمةِ أعمالِه اليوميّة، كما يَذكُرُ إنجيلُ مرقس:"حَيثُمَا كانَ يَدخُلُ، سَواءٌ القُرى أو المُدُنَ أو المَزارِع، كانوا يَضَعونَ المَرضى في السّاحات، ويَسأَلونَهُ أنْ يَدَعَهم يَلمِسونَ ولو هُدبَ رِدائِه. وكانَ جميعُ الّذينَ يَلمِسونَهُ يُشفَون" (مرقس 6: 56).وهكذا يُعلّمنا هذا الموقف أنَّ الإيمانَ الحقيقيَّ ليس في الرؤية، بل في السَّير على كلمةِ الربّ؛ فالخلاصُ يبدأ حين نُطيع، لأنَّ الطاعةَ تُفتحُ بها أبوابُ النعمة. هذا هو إلهُنا، الإلهُ القريبُ من قلوبِ المُتألّمين. حينَ نُناجيهِ بصِدقٍ ونَصرُخُ إليهِ بثِقَة، يَأتي إلينا، يَنظُرُ إلى حالِنا بعَينِ الرَّحمَة، ويَأمُرُنا أن نَسيرَ في طاعَةِ كَلِمَتِهِ. فاجِئُنا بِنِعمَةِ الشِّفاء، فيَمسَحُ جِراحَنا ونحنُ ما زِلنا نَعتَقِدُ أنَّنا مَرضى، فيُحوِّلُ مَسيرَتَنا إلى لِقاءٍ بالحَياة.
15 فلمَّا رأَى واحِدٌ مِنهُم أَنَّه قد بَرِئَ، رجَعَ وهُو يُمَجِّدُ اللهَ بِأَعلَى صَوتِه،
تُشيرُ عِبَارَةُ "فَلَمَّا رَأَى واحِدٌ مِنهُم أَنَّهُ قد بَرِئَ" إلى السّامِريّ الّذي وَحدَهُ وَثِقَ بِكلمةِ الله، كما وثِقَ نُعمانُ السُّوريّ قَديماً حينَ أطاعَ أمرَ النَّبيّ وأغتَسَلَ في الأُردنّ، فَتَطهَّرَ (2 ملوك 5: 14-17). وقد أشارَ يسوعُ نفسُه إلى هذه الحادثةِ بقوله:"كانَ في إِسرائيلَ كَثيرٌ مِنَ البُرْصِ على عَهدِ النَّبِيِّ أليشاع، فلم يَبْرَأْ واحِدٌ مِنهُم، وإنَّما بَرِئَ نُعمانُ السُّوريّ" (لوقا 4: 27).فكما آمنَ نُعمانُ الأمميّ بكلمةِ الله دونَ أنْ يَرَى آيةً، هكذا هذا السّامِريّ آمنَ بكلمةِ يسوعَ، فَنالَ الشِّفاءَ بفضلِ إيمانه.ولا بُدَّ أنَّ الجميعَ شَعَروا بشِفائِهم، غيرَ أنَّهُم استمرّوا سائرينَ إلى الكَهَنَةِ، ثمّ إلى بُيوتِهم وأعمالِهم، ما عدا هذا الواحدَ الّذي عادَ ليُمجِّدَ اللهَ ويَشكُرَه.
تُشيرُ عبارةُ "رَجَعَ" إلى تشديدِ لوقا الإنجيليِّ على فعلِ "الرُّجوع". فليس رُجوعُ الأبرصِ مجرّدَ حركةٍ جسديّة، بل هو قبلَ كلِّ شيءٍ حركةٌ داخليّة، إذْ أدركَ أنَّ المعجزةَ الحقيقيةَ ليست فقط في شفاءِ جسده، بل في العودةِ إلى اللهِ الذي يُجدِّدُ قلبَه ويُغيِّرُ حياتَه. لقد أصبحت العودةُ إلى اللهِ الأولويّةَ في حياتِه، فانفتحَ على نعمةِ الخلاصِ الحق. وهكذا عاشَ هذا ألسامري جوهرَ سرِّ المسيح: سرَّ الرُّجوعِ من بينِ الأمواتِ، حامِلًا معه إنسانيّتَنا بكلِّ بُعدِها وغُربتِها، ليُصعِدَها إلى حياةِ القيامةِ والمجد.
تشير عبارة "رجَعَ" إلى تشديد لوقا الإنجيلي على فعل "الرُّجوع"، إنّ رجوع الأبرص ليس مجرّد حركة جسدية، بل هو قبل كل شيء حركة داخلية: إذ أدرك أن المعجزة الحقيقية هي الرجوع إلى الله الذي يغيّر حياته. العودة إلى الله أصبحت الأولوية في حياته. وهكذا عاش هذه ألسامري جوهر سرّ المسيح: سرّ رجوعه من بين الأموات حاملاً معه كل بُعدنا وغربتنا.
أمَّا عِبَارَةُ "وَهُوَ يُمَجِّدُ اللهَ" فَتُشيرُ إلى رَدِّ فِعلِ السّامِريّ الأوّل، إذ انطَلَقَ يُسَبِّحُ اللهَ تَعبيرًا عن فَرَحِه العَميقِ أمامَ ظهورِ قُدرةِ اللهِ في يسوعَ.لقد رَأى في الشِّفاءِ يدَ اللهِ وعَمَلَهُ، كما فَعَلَ آخرونَ عندَ رؤيَةِ مَعجزاتِ يسوع: في شِفاءِ المَقعَدِ في كَفرناحوم (لوقا 5: 25–26)، وفي إحياءِ ابنِ أرمَلَةِ نايين (لوقا 7: 16)، وفي شِفاءِ المرأةِ المَحنيَّةِ الظَّهر (لوقا 13: 13)، وفي شِفاءِ أعمى أريحا (لوقا 18: 43).
كُلُّ هؤلاءِ مَجَّدوا اللهَ لأنَّهُم أدركوا أنَّ يدَ اللهِ تعملُ في شخصِ يسوع . فالسامِريّ رأى في يسوعَ مَجدَ اللهِ، فمَجَّدَ اللهَ الّذي يَعملُ فيه.يُعلِّقُ القدّيسُ برونو دي سيغني قائلًا:"في الواقع، يُمثِّلُ هذا الرَّجلُ الأبرصُ كُلَّ الّذينَ طُهِّروا بماءِ العِمادِ أو نالوا المَغفرةَ بسِرِّ التوبة؛ فصاروا يَقتادونَ بالمسيحِ ويَقتَفونَ أثرَهُ، مُوجِّهينَ لهُ التَّمجيدَ والحمدَ، ولا يَتخلَّونَ عن خدمته (تعليقٌ على إنجيلِ لوقا). لقد كان الشِّفاءُ هدفَ العَشرةِ البُرْص،أمّا بالنِّسبةِ إلى هذا السّامِريّ الّذي عادَ ليَشكُرَ الرَّبَّ،فقد صارَ الشِّفاءُ أيضًا وسيلةً لمعرفةِ المسيحِ والخلاصِ به.إنَّ الإيمانَ الّذي بدأ بالطلبِ، اكتملَ بالشُّكرِ، وتوَّجَهُ التَّمجيدُ.
أمَّا عِبَارَةُ "بِأَعلَى صَوتِه" فَتُشيرُ إلى شِدَّةِ مَحبَّتِه وفرحِه العَميق، وإلى شُعورِه بواجِبِ الشُّكرِ لمن شَفاهُ وأعادَهُ إلى الحياة.الصَّوتُ الّذي كانَ قبلَ قليلٍ صَوتَ استِغاثةٍ، صارَ الآن صَوتَ تَسبيحٍ،وهكذا يَتحوَّلُ صَراخُ الألمِ إلى نشيدِ حمدٍ وشُكرٍ عندَ اللّقاءِ بالمسيح.
16 وسَقَطَ على وَجهِه عِندَ قَدَمَي يَسوعَ يَشكُرُه، وكانَ سامِرياً.
تُشيرُ عِبَارَةُ "سَقَطَ على وَجهِه عِندَ قَدَمَي يَسوعَ" إلى ألسامري الذي لم يقم بالشكر إلى يسوع بل بالسُّجودِ له أيضا. والسجود هو سلوكٌ لا يُقدَّمُ إلّا لله وحدَه، كما جاء في الوصيَّةِ الصَّريحةِ:"لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد، وإيّاهُ وَحدَهُ تَعبُد" (متى 4: 10). ومع ذلك، فإنَّ يسوعَ لم يُوَبِّخِ السّامِريَّ على سُجودِه له، بل قبِلَه، لأنَّه هو اللهُ الظّاهرُ في الجسد، كما يقولُ يوحنّا الإنجيليّ:"والكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا، فرأَينا مَجدَه، مَجدَ ابنٍ وَحيدٍ آتٍ مِنَ الآب" (يوحنّا 1: 14). توحِي الآيتان (لوقا 17: 15–16) – من جهةٍ: "أنَّهُ رَجَعَ يُمَجِّدُ اللهَ"، ومن جهةٍ أخرى"، وسَقَطَ على وَجهِه عِندَ قَدَمَي يَسوعَ"، إلى إشارةٍ لاهوتيّةٍ عميقةٍ مفادُها أنَّ اللهَ والربَّ يسوعَ هما الشَّخصُ نَفسُه؛ إذ لا يمكنُ تمجيدُ الله وسجودُ العبادةِ إلا لمن هو الإلهُ الحقيقيّ.
أمَّا عِبَارَةُ "وسَقَطَ على وَجهِه" فتُشيرُ إلى التَّواضُعِ العَميقِ، علاوةً على الشُّكرِ والمحبَّةِ. والأرْجَحُ أنَّهُ اقتنعَ بأنَّ الّذي شَفاهُ هو المسيحُ المخلِّصُ، ولذلكَ سَجَدَ لهُ عن إيمانٍ وشكرٍ.
وأمَّا عِبَارَةُ "يَشكُرُه"، فَفي الأصلِ اليونانيّ εὐχαριστέω أفخارِستيو، ومعناها الشُّكرُ العَميقُ؛ وهي الكلمةُ عينُها الّتي تشتقُّ منها لفظةُ "الأفخارستيا" (Eucharistia)، أي قُدّاسُ الشُّكرِ الإلهيّ.فهذا الفعلُ يُشيرُ إلى رَدَّةِ فِعلِ السّامِريّ الثّانية، إذ عادَ إلى يسوعَ ليُقدِّمَ له الشُّكرَ العَلنيَّ على نِعمةِ الشِّفاء.إنَّهُ الشَّخصُ الوحيدُ في العهدِ الجديد الّذي يُقدِّمُ الشُّكرَ شخصيًّا ليسوعَ، لأنَّهُ أدركَ أنَّ المكانَ الطّاهرَ ليسَ في جبلِ جِرزيم أو هيكلِ السّامرة، بل هو المكانُ الّذي يَلتقي فيه الإنسانُ بيسوعَ.مثلُ هذا القلبِ المُتواضِعِ يستطيعُ اللهُ أنْ يتعاملَ معهُ ويَملأَهُ تعزيةً في وَسطِ الضّيقات.عادَ السّامِريُّ إلى يسوعَ ليَشكُرَه، فصارَ مثالًا لكلِّ إنسانٍ يعرفُ أنَّ النعمةَ تَستدعي الشُّكرَ.فالإنسانُ المرذولُ في أعينِ الناسِ قد يكونُ أقربَ إلى الإيمانِ الصّحيح من الّذي يَعتقِدُ نفسَهُ في الدِّينِ الصّحيح.وهكذا يُقدِّمُ يسوعُ لنا هذا السّامِريَّ الأبرصَ مِثالًا يُحتَذى به، لأنَّهُ يُعلِّمُنا أنَّه لا يوجدُ شِفاءٌ حقيقيٌّ دونَ شُكرٍ،فالشِّفاءُ لا يَكتملُ إلّا عندَ مَن يُدرِكُ فِعلَ اللهِ ويَقدِّرُ عَملَهُ في حياتِه.فلنبدأ نحن أيضًا بشُكرِ اللهِ على شِفائِنا من بَرَصِ القَلبِ والرّوحِ بالتوبةِ، لأنَّ الشُّكرَ هو ختمُ النعمةِ وثمارُ الإيمانِ الحيّ.
أمَّا عِبَارَةُ "سامِريًّا" فتُشيرُ إلى أنَّ البقيّةَ الّذينَ شُفُوا كانوا من اليَهود،بينَما هذا الوحيدُ كان سامِريًّا، أي من الشّعبِ الّذي يَحتقرُهُ اليهودُ لكونِه غريبًا دينيًّا وعرقيًّا.فقد كان بينَ الطَّرفَين عَداءٌ مُستحكِم، ولم يكنِ اليهودُ يُقيمونَ أيَّ علاقةٍ اجتماعيّةٍ أو دينيّةٍ مع السّامِريّين (يوحنّا 4: 9).ويَعودُ أصلُ السّامِريّين إلى خَليطٍ مِن الإسرائيليّينَ والأُممِ الوَثنيّين الّذينَ جاءَ بهمُ الأشوريّون بعدَ سقوطِ المملكةِ الشّماليّة (2 ملوك 17: 24). وكانوا يَسكُنونَ في إقليمِ السّامِرَة، الواقعِ في وَسطِ فلسطين (لوقا 17: 11)،وقد احتَفِظوا ببعضِ موروثاتِ الشّريعةِ الموسويّةِ، لكنَّهم نَصَبوا لأنفُسِهم هيكلًا خاصًّا على جبلِ جِرزيم، فازدادتِ الفاصلةُ بينهم وبينَ اليهودِ في العبادةِ والإيمان.ومعَ ذلك، فإنَّ يسوعَ جعلَ هذا السّامِريَّ مثالًا يُضيءُ بوجهِه على إيمانٍ حقيقيٍّ يتخطّى الحدودَ العِرقيّةَ والدينيّةَ،ليُعلِّمَ أنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلى الأصلِ أو المكانِ، بل إلى القلبِ المؤمِنِ الشّاكِر. يُذكِّرُنا هذا السّامِريُّ بِشَخصيّةِ نُعمانَ، رَئيسِ جَيشِ مَلِكِ أَرام، ذاكَ الّذي لم يَكُن من بني إِسرائيل، ولكنَّ عَجائبَ اللهِ ظَهَرَت فيهِ حينَ شُفِيَ من بَرَصِهِ بِسَببِ طاعَتِهِ لِكَلِمَةِ النَّبيِّ أليشَع، حينَ غَسَلَ نَفسَهُ في الأُردنّ كما أُمِرَ (2 الملوك 5: 14-17). هكذا يُعلِنُ لنا الرَّبُّ أنَّهُ إِلهُ الكُلِّ، لا يَعرِفُ تَمييزًا ولا يَحصُرُ نِعمَتَهُ في هُوِيّةٍ دينيّةٍ مُحدَّدة. فَفي المَرضِ، وفي الألَمِ، وفي المَوتِ، نَحنُ جَميعًا مُتَساوون أمامَه. وَاليَوم، يُنادينا الرَّبُّ لِنَخرُجَ لِلِقائِهِ، صارِخينَ ومُتَوَسِّلينَ الشِّفاء، حتّى نَعودَ نُمجِّدُهُ، فيَصيرَ إِلهُنا هوَ الكُلَّ في الكُلِّ.
17فقالَ يسوع: ((أَليسَ العَشَرَة قد بَرِئوا؟ فأَينَ التِّسعَة؟
تُشيرُ عِبَارَةُ "أَلَيْسَ العَشَرَةُ قد بَرِئوا؟" إلى أنَّ المسيحَ قد أجرى عشرَ معجزاتٍ دفعةً واحدةٍ دون أن يَلمِسَ أحدًا منهم، إذ تفيضُ منه القوّةُ الإلهيّةُ لمجرّدِ كلمتِه ونظرتِه.
وأمَّا عِبَارَةُ "العَشَرَة "فتُشيرُ إلى هؤلاءِ المرضى العَشَرَة الّذين شُفُوا جميعًا بكلمةِ يسوع، وكانَ تِسعةٌ منهم من بني إسرائيل وواحدٌ فقط سامِريًّا.ويَرمزُ هذا الحدَثُ إلى أنَّ طريقَ الخلاصِ مفتوحٌ أمامَ جميعِ الأمم، كما جاء في المزامير:"رَأَتْ جَميعُ الشُّعوبِ مَجدَه(المزمور 97: 6). فالعَدَدُ عَشَرَة في الكتابِ المقدّسِ يرمزُ إلى كمالِ مَسؤوليّةِ الإنسان أمامَ الله (إذ هو عددُ الوصايا العَشر)، بينما يُشيرُ العَدَدُ تِسعَة إلى العَجزِ والنَّقصِ، لأنَّه أقلُّ من الكمال.
وأمَّا عِبَارَةُ "فَأينَ التِّسعَة؟"فهي سُؤالُ عَتبٍ وتعجُّبٍ، يَحمِلُ في طيّاتِه شَوقَ يسوعَ لأنْ يَراهم راجِعينَ إليه، لا لِيَنالوا شِفاءَ أجسادِهم فحسب، بل ليَنالوا البركةَ الأعظم: شفاءَ نُفوسِهم من بَرصِ الخطيئة.هنا نلمسُ التَّناقضَ بين موقِفِ السّامِريّ وموقِفِ التِّسعَةِ اليهود.فالسامِريُّ آمنَ وشَكَرَ، بينما لم يُبدِ اليهودُ أيَّ عِرفانِ جميلٍ، ولم يعودوا إلى المخلِّصِ ليُقدِّموا له الشُّكر.لقد نالوا النِّعمة، لكنّهم لم يتعرّفوا إلى واهبِها،تلقّوا العطيّة، لكنّهم نسُوا المُعطي.إنَّ المعجزةَ عملٌ إلهيٌّ يَدعو الإنسانَ إلى الإيمان،لكنَّ الإنسانَ حُرٌّ في قَبولِها أو رفضِها،ولذلك يُبدي يسوعُ هنا أسفًا عميقًا على هؤلاءِ التِّسعَةِ الّذين نالوا الشِّفاءَ دونَ أنْ يعودوا إليه شاكرين.
لقد كان يُريدُ أن يُعطيَهم جميعًا أكثر من شفاءِ الجسد، أن يُفيضَ عليهم نِعمةَ الخلاصِ الكامل، لكنَّهم حَرَموا أنفسَهم منها ببرودِ قلبِهم.ويُعلِّقُ مار إسحاق السُّريانيّ قائلًا:"كُلُّ عطيّةٍ بلا شُكرٍ هي بلا زيادة."فالشُّكرُ هو الّذي يفتحُ أبوابَ النِّعم الجديدة، أمّا الجحودُ فيُغلِقُها.كم مِن مرَّةٍ ننشغلُ نحنُ أيضًا بالعطيّةِ ونَنسى الواهِب! نهتمُّ بالبركةِ ولا نلتفِتُ إلى صاحبِها، فنُحرَمُ مِنَ النِّعمِ الرّوحيّةِ الأعمق.وهكذا يُصبِحُ سؤالُ يسوعَ:"فَأينَ التِّسعَة؟"سؤالًا يُوجَّهُ إلينا نحنُ اليوم، لنُراجِعَ ذواتِنا:هل نحنُ مِن ذاكَ السّامِريّ الّذي عادَ شاكرًا؟أم مِن أولئكَ التِّسعَةِ الّذينَ نالوا النِّعمةَ ولم يعودوا إلى مُعطيها؟فلنَتعلَّم أنَّ الشُّكرَ هو ختمُ المعجزة،وأنَّ الشِّفاءَ لا يَكتملُ إلّا حينَ يتحوَّلُ إلى حمدٍ وتسبيحٍ وتمجيدٍ لله. تبرز هذه الآية المفارقة بين العَطاء الإلهيّ وشكرِ الإنسان.
18 أَما كانَ فيهِم مَن يَرجعُ ويُمَجِّدُ اللهَ سِوى هذا الغَريب؟
تُشيرُ عِبَارَةُ "ما كانَ فيهِم مَن يَرجِعُ ويُمَجِّدُ اللهَ" إلى سُؤالِ يسوعَ الّذي يُذكِّرُنا بكلامِ صاحبِ المزمورِ القائل:"يَومَ الضِّيقِ اْدعُني فأُنجِّيكَ وتُمَجِّدَني" (مزمور 50: 15). إنَّهُ سؤالٌ إلهيٌّ يَكشِفُ عَتبًا إلهيًّا لطيفًا على غيابِ الشُّكرِ مِن قلوبِ التِّسعةِ الّذين نالوا الشِّفاءَ الجسديَّ دونَ أنْ يعودوا لِيُمجِّدوا اللهَ.
أمَّا عِبَارَةُ "يَرجِعُ" فَتُشيرُ إلى العودةِ الحقيقيّة،وليسَ المقصودُ مجرّدَ انتقالٍ في المكان، بل الرجوعُ إلى اللهِ في المعنى الكتابيّ العميقِ للكلمةِ العِبريّة שׁוּב (شوب)، أي التَّوبة.فالعودةُ هنا هي عودةُ القلبِ إلى الله، تمامًا كما في نداءاتِ الأنبياءِ:"اُرجِعوا إليَّ أَرجِعْ إليكُم" (ملاخي 3: 7). إذًا، السامِريّ الّذي كان يُعتَبَرُ خاطئًا بحسبِ المفهومِ اليهوديّ – لأنَّ الخطيئةَ، في نظرِهم، كانت سببَ بَرَصِه –ها هو الآن يَتوبُ إلى الله، وتوبتُهُ هي ذاتُها الّتي جَلَبَت لهُ الشِّفاءَ الحقيقيَّ.وبالتَّركيزِ على توبةِ السامِريّ وعودتِه، يُريدُ النصُّ أن يُشيرَ إلى اليَهودِ الّذين لم يَتوبوا،وظلّوا في خَطيئتِهم الكبرى، ألا وهي رفضُهم للمسيحِ المخلِّص.فالمعجزةُ شَفَتْ أجسادَهم، لكنَّهم لم يسمحوا للمسيحِ أنْ يشفيَ قلوبَهم.
أمَّا عِبَارَةُ "ويُمَجِّدُ اللهَ" فَتُشيرُ إلى ما يُقدِّمُه الإنسانُ للهِ من حمدٍ وتسبيحٍ اعترافًا بعظمتِه الإلهيّة، كما جاء في سفرِ دانيال:"ولم تُسَبِّحْ إِلهَكَ الّذي بِيَدِه نَسَمتُك" (دانيال 5: 23). غيرَ أنَّ الإنجيليَّ لوقا يُظهِرُ لنا أنَّ المكانَ الحقيقيَّ لتقديمِ المجدِ للهِ هو شخصُ يسوعَ نفسُه؛فهو الهيكلُ الحيُّ الّذي يلتقي فيه الإنسانُ بالله،وهو الحضورُ الإلهيّ المتجسِّد الّذي لا يُقدَّمُ المجدُ للهِ إلاّ من خلالِه، لأنَّه هو صورةُ اللهِ غيرِ المنظور (قولسي 1: 15).
أمَّا عِبَارَةُ "الغَريب" فتُشيرُ إلى شخصٍ غيرِ يَهوديّ، أي إلى وثنيٍّ لا علاقةَ لهُ بشريعةِ إسرائيل،ولا يلقى مِنَ الشَّعبِ اليهوديّ إلّا الرَّفضَ والاحتِقار، لأنَّه لا يَنتمي إلى الجنسِ المُختار.لقد كانَ اليهودُ ينظُرونَ إلى أنفسِهم كـ"شعبٍ مُصطفى" و"بيتٍ خاصٍّ لله"،وبناءً على ذلك، كان الغريبُ محرومًا من المشاركةِ في شعائرِ العبادةِ بحسبِ الشريعةِ الموسويّة:"هذِه فَريضَةُ الفِصح: كُلُّ أجنبيٍّ لا يأكُلُ منه" (خروج 12: 43). غيرَ أنَّ الإنجيليَّ لوقا يُشدِّدُ على عودةِ السّامِريِّ ليُلقي الضّوءَ مسبقًا على رفضِ اليهودِ للرّبِّ يسوعَ من جهة،وعلى قَبولِ الوثنيّينَ والأُممِ لهُ بالإيمان من جهةٍ أُخرى.فالإنسانُ الغَريبُ، المَرفوضُ في أعينِ النّاس،قد يكونُ أقربَ إلى الإيمانِ الصّحيح مِن ذاكَ الّذي يَعتقِدُ أنَّهُ يمتلكُ الحقيقةَ كلَّها.وهكذا يُظهِرُ لنا يسوعُ أنَّ الطُّهارةَ الحقيقيّةَ ليست في النَّسبِ ولا في الشَّريعة، بل في القلبِ التّائبِ والمؤمن،وأنَّ الخلاصَ لا يُقصي أحدًا، بل يفتحُ ذِراعَيْه لكلِّ مَن يعودُ إلى اللهِ شاكِرًا ومُمجِّدًا.
19 ثُمَّ قالَ له: ((قُمْ فامضِ، إِيمانُكَ خَلَّصَكَ)).
تُشيرُ عِبَارَةُ "قُمْ فَامضِ، إِيمانُكَ خَلَّصَكَ" إلى أنَّ السّامِريَّ الأبرصَ وحدَهُ نالَ خلاصَ النَّفسِ، لا شفاءَ الجسدِ فقط.فالعَشَرَةُ جميعًا طَلَبوا الشِّفاءَ منَ المَرَضِ، لكنَّ السّامِريَّ وحدَهُ عادَ ليَشكُرَ يسوع، فصارَ شِفاؤهُ وسيلةً لمَعرِفةِ المسيحِ، والمعرفةُ الحقيقيّةُ قادتْهُ إلى الخلاصِ.إنَّ يسوعَ لا يُخلِّصُ مَن يَنالُ العطيّةَ فقط، بل مَن يعودُ إليه شاكرًا ومُمجِّدًا، لأنَّ الشُّكرَ هو اعترافٌ بالإيمان، والإيمانُ هو طريقُ الخلاص.
وأمَّا عِبَارَةُ "إِيمانُكَ" فتُشيرُ إلى إيمانٍ وُلِدَ أوّلًا من صَلاةِ التَّضرُّعِ عندما صَرخوا: "يا يسوعُ المعلِّمُ ارحمنا"(لوقا 17: 13)، ثمَّ اكتملَ هذا الإيمانُ في صَلاةِ التَّمجيدِ والشُّكر عندما عادَ السّامِريُّ ليُمجِّدَ اللهَ عندَ قدمي يسوع.فالإيمانُ يبدأُ بالرَّجاء، وينضُجُ في الاعترافِ والشُّكر.يُعلِّقُ القدّيسُ برونو دي سيغني قائلًا:"كبيرةٌ هي قوّةُ الإيمان، لأنَّهُ بغيرِ الإيمانِ يَستحيلُ نَيلُ رِضا الله(العبرانيّين 11: 6). إنَّ إبراهيمَ آمَنَ باللهِ فَحُسِبَ له ذلكَ بِرًّا (رومة 4: 3).إذًا، فالإيمانُ هو الّذي يُخلِّص، والإيمانُ هو الّذي يُبرِّر، والإيمانُ هو الّذي يَشفي الإنسانَ في نَفسِه وفي جَسدِه (تعليقٌ على إنجيلِ لوقا).
لا يُميَّز من خلال عرقه أو عشيرته أو التزامه بالتعاليم أو مكانته بل من خلال ثقته الشخصية بالرَّب وشكره وتمجيده له تعالى.
ثانِيًا: تَطبيـقُ النَّصِّ الإِنجِيلِيّ (لوقا 17: 11–19)
انطِلاقًا مِنَ الملاحظاتِ الوجيزةِ حولَ وَقائعِ هذا النَّصِّ الإِنجِيلِيّ، نَستنتِجُ أنَّ النَّصَّ يَتمحورُ حَولَ الإيمانِ والشُّكرِ في شِفاءِ العَشَرَةِ البُرْص.فـالإيمانُ أدَّى إلى الشِّفاءِ الجسديِّ لجميعِ البُرْصِ العَشَرَة، لأنَّهُم آمنوا بكلمةِ يسوعَ ومَضَوا إلى الكَهَنَةِ كما أمرَهُم،لكنَّ الشُّكرَ الّذي قدَّمَه السّامِريُّ وحدَهُ زادَ على الشِّفاءِ الجسديِّ شِفاءَ الرّوحِ، أي الخلاصَ الحقيقيَّ.لقد نالَ التِّسعةُ العَطيّةَ، أمّا السّامِريُّ فقد نالَ المُعطي نفسه.نالَ الآخرونَ نعمةَ الجسد، وأمّا هو فنالَ نعمةَ القلب.فالفرقُ بينَ الشِّفاءِ والخلاصِ هو الشُّكرُ؛ إذ يَتحوَّلُ الشِّفاءُ إلى خَلاصٍ فقط عندما يَتَّحِدُ الإيمانُ بالشُّكرِ،ويَلتقي الإنسانُ بيسوعَ، لا كصانِعِ معجزةٍ، بل كإلهٍ مُخلِّصٍ.
1) التَّمجيد (لوقا 17: 15)
يَربِطُ يسوعُ معجزةَ الشِّفاءِ بعُنصرَينِ أساسيَّين: الأوَّل هو الإيمان، والثّاني هو التَّمجيدُ والشُّكر. وقد أدركَ السّامِريُّ هذا البُعدَ الثُّنائيَّ في خبرتِه، لذلك عادَ مُمجِّدًا وشاكرًا.فالإنجيلُ يقول:"رَجَعَ السّامِريُّ وهُو يُمَجِّدُ اللهَ بِأَعلَى صَوتِه" (لوقا 17: 15).
إنَّ قُدرةَ الرَّبِّ يسوعَ الشّافيةَ هي الّتي جعلَت الشِّفاءَ مُمكنًا،لكنَّ المعجزةَ تَفترِضُ وجودَ الإيمان،بينَما التمجيدُ يأتي تِلقائيًّا بعدَ المعجزة كنتيجةٍ طبيعيّةٍ لِمَن يُدرِك أنَّ ما حَدث هو تدخُّلٌ إلهيٌّ مباشرٌ وحُضورٌ كاملٌ للهِ في حياتِه.فالتمجيدُ ليسَ مُجرَّدَ انبهارٍ بالعَجيبة، بل هو انكشافُ مجدِ اللهِ في القلب،واعترافٌ حيٌّ بحضورِه المُخلِّص.ولذلك قالَ يسوعُ مُتعجِّبًا:"أَمَا كانَ فيهِم مَن يَرجِعُ ويُمَجِّدُ (δοῦναι δόξαν) اللهَ سِوى هذا الغَريب؟(لوقا 17: 18)
لقد قامَ السّامِريُّ بتمجيدِ اللهِ بأعلى صوتِه، ليُعبِّرَ عن فرحِه العَظيمِ وشُكرِه الصّادق (لوقا 17: 15). ويُعلِّقُ القدّيسُ بِرنَردُس قائلًا:"إنَّ هذا السّامِريَّ الأبرصَ اعترَفَ أنَّهُ ليسَ هناكَ شَيءٌ لَهُ لَمْ يَنَلْهُ(1 قورنتس 4: 7)، وأنَّهُ حفِظَ وديعتَهُ إلى ذلك اليوم(2 طيموتاوس 1: 12)، ورَجِعَ إلى الرَّبِّ ليُعطيَ مَجدًا للهِ.طوبى لِمَن يَرجِعُ إلى الّذي مِلؤُه النِّعمُ كُلَّما نالَ نِعمةً،لأنَّنا إذا أظهَرْنا امتِنانَنا تجاهَ الرَّبِّ على ما حَصَلْنا عليه،نُهَيِّئُ في أنفُسِنا أماكنَ لاستِقبالِ نِعَمٍ أَوفَر."لقد نادى السّامِريُّ يسوعَ قبلَ نَيلِ الشِّفاءِ بلَقبِ "أَيُّها المُعَلِّم" (ἐπιστάτα)،أمّا بعدَ نَوالِه العَجيبةَ، فقد عادَ إليه ليَعبُدَه ويُمجِّدَه ويَشكُرَه كـرَبٍّ وإلهٍ.إنَّ خبرتَه تُذكِّرُنا بـــ نُعمانَ السّوريّ الغَريب الّذي، بعدَ شِفائِه، أعلنَ إيمانَهُ بالإلهِ الحيّ قائلاً:"هُوَذا قَد عَرَفتُ أنَّهُ ليسَ إلهٌ في كُلِّ الأرضِ إلاّ في إسرائيل" (2 ملوك 5: 15).
كما أعلَنَ نُعمانُ الغَريبُ إيمانهُ بالإلهِ الواحدِ،هكذا شعَرَ السّامِريُّ أنَّ يسوعَ ليسَ صانعَ عَجائبٍ فحسب،بل هو مَحبَّةُ اللهِ المُتجسِّدة، فاختَبَرَ حَياتَهُ كتَسليمٍ وتمجيدٍ وسُجود.فـسجَدَ لهُ بتواضعٍ، وشكَرَهُ على فيضِ مَحبَّتِه ونِعَمِه.ويقولُ القدّيسُ أثناسيوس الكبير:"هذا الأبرصُ السّامِريُّ مثلٌ حيٌّ لِحياةِ الشُّكر، الّتي تَكشِفُ عن قَلبٍ يَتعلَّقُ بواهبِ العَطيّةِ (الله)،أكثرَ مِن العَطيّةِ نَفسِها."
لقد أحسَّ العَشَرَةُ جميعًا بالمعجزة، واختَبَروا الأعجوبةَ، ونالوا الشِّفاءَ،لكنَّ واحِدًا فقط عادَ ليُمجِّدَ الرَّبَّ ويشكُرَه.وهنا يَصدُقُ عليهم المثلُ الشعبيّ:"صَلَّيتُ حتّى حَصَلي، لَمّا حَصَلي، بَطَّلت أُصَلِّي."فجاءَ سُؤالُ يسوعَ المَليءُ بالأسفِ والحنان:"أَلَيسَ العَشَرَةُ قد بَرِئوا؟ فأينَ التِّسعَة؟(لوقا 17: 17). إنَّهُ سؤالٌ يُعبِّرُ عن حُزنِ المخلِّصِ على جُحودِ مَن نالوا النِّعمةَ دونَ أن يَشكُروا،فهو كان يُريدُ أن يُعطيَهم جميعًا المزيدَ من النِّعمِ الرّوحيّة،لكنَّهم حرَموا أنفسَهم ببرودِ قلوبِهم.ويقولُ مار إسحاق السّريانيّ:"كُلُّ عطيّةٍ بلا شُكرٍ هي بلا زيادة."ويُؤكِّدُ القرآن هذا المبدأَ أيضًا:"لَئِنْ شَكَرْتُم لَأَزِيدَنَّكُم" (سورة إبراهيم 7). إنَّ شُكرَنا للربِّ يَفتَحُ البابَ أمامَ معجزاتٍ وبَركاتٍ أعظمَ في حياتِنا.ويُضيفُ القدّيسُ بِرنَردُس في عظاتٍ أُخرى:"يا لِبُؤسِنا وشَقائِنا عندما نَنسى مَجّانيَّةَ العَطيّةِ الّتي نِلناها،بعدَ أن كنّا أوَّلاً وديعينَ ومُتواضعينَ ومُتديّنين."
2) الشُّكر (لوقا 17: 16)
لم يَنـفصِل فعلُ التَّمجيد (εὐλογέω)الذي قدَّمه السّامِريُّ الأبرصُ ليسوعَ عن فعلِ الشُّكر εὐχαριστέω)،فقد جاء في النصّ:"سَقَطَ الأبرصُ على وَجهِه عِندَ قَدَمَي يسوعَ، وأخذَ يَشكُرُهُεὐχαριστῶν (لوقا 17: 16). فالأبرصُ الوحيدُ الّذي عادَ يَشكُرُ ويُمجِّدُ كان سَامِريًّا، أي غريبًا ونَجِسًا بحسب الشَّريعة،لكنَّهُ أحسَّ بعِظَمِ النِّعمةِ الّتي نالَها، فعجَزَ لسانُه عن شُكرِ الرَّبّ، فـسَجَدَ على قَدَمي يسوعَ،عارِفًا الجميلَ، مُعترِفًا بفضلِه، شاكِرًا له على نِعمةِ الشِّفاءِ المجّانيّة،لأنَّ الشِّفاءَ عطيةٌ من الله لا تُشترى، بل تُقبَل بإيمانٍ وشُكرٍ.
معنى الشكر الكتابيّ: يقومُ فعلُ الشُّكر على الاعترافِ بعطايا الله والامتنانِ له،ويُعبَّرُ عنهُ في الكتابِ المقدّسِ بالعِبريّةِ תּוֹדָה (توداه)، أي الاعتراف والشكر.وفي العهدِ القديمِ يُترجَمُ أيضًا بلفظة בָּרַךְ (بارَخ)، أي باركَ،الّتي تُفصِحُ عن تبادُلٍ جوهريٍّ بينَ اللهِ والإنسان:فبركةُ اللهِ (הַבְּרָכָה) تمنَحُ الحياةَ والخلاصَ (تثنية 30: 19)،وأمّا الإنسانُ، فيَرُدُّ البركةَ إلى اللهِ بالشكرِ والتَّسبيح.كما نقرأُ في صلاةِ دانيال النّبي:"مُبارَكٌ أَنتَ، أَيُّها الرَّبُّ إِلهُ آبائِنا، وحَميدٌ اسمُكَ، ومُمَجَّدٌ إلى أبدِ الدُّهور" (دانيال 3: 26).
ويأتي فعلُ الشكرِ أيضًا كتعبيرٍ إيمانيٍّ طقسيٍّ في عبادةِ الجماعة،كما في قولِ إرميا النّبي:"أَنشِدوا لِلرَّبِّ، سَبِّحوا الرَّبَّ، لأَنَّه أَنقَذَ نَفسَ المِسكينِ مِن أَيدي فاعِلي الشَّرّ" (إرميا 20: 13).
البُعد اللاهوتيّ والروحيّ للشكر يقوم على أنَّ اللِّقاءَ مع الله لا يضعُ الإنسانَ في حضرتهِ فحسب، بل يُغمرُهُ بالحياة ويُحوِّلُ كيانه.وفعلُ الشكرِ هو جوابُ الإنسانِ على النِّعمة،هو اعترافٌ بالعظمةِ الإلهيّة وردُّ فعلٍ تعبُّديٌّ يكشفُ في قلبِ الإنسانِ أثرَ حضورِ الله ومجدِه.لقد أدركَ السّامِريُّ الأبرصُ أنَّ ما نالهُ هو نعمةٌ من محبَّةِ الله،فقابَلَ العطيّةَ بالشكرِ والسجود، واعترفَ بأنَّ اللهَ هو مصدرُ كلِّ إحسانٍ.وبما أنّهُ لا يُمكنُنا أن نُوفِّي اللهَ حقَّه،فعلينا أن نشكرَهُ دائمًا كما صلّى داود:"بارِكي الرَّبَّ يا نَفسي، ويا جميعَ ما في داخليَ اسمَهُ القُدّوس" (مزمور 103: 1). وكما أوصى بولسُ الرّسول:"واشكُروا اللهَ الآبَ كُلَّ حينٍ على كُلِّ شيءٍ، باسمِ رَبِّنا يسوعَ المسيح" (أفسس 5: 20). فالشكرُ هو علامةُ الإيمانِ الحقّ وعَرفانُ الجَميل لِما يَصنَعُهُ اللهُ في حياتِنا. إنه أنقى شعور تجاه هبة الله.
هناك علاقة بين الشكر والتواضع. الشكرُ أيضًا علامةُ التواضع؛فالمتواضعُ يَشعُرُ أنَّه غيرُ مُستحقٍّ لأيِّ نعمة،ولذلك يشكرُ على كلِّ قليلٍ يناله،بينما المتذمِّر لا يرى إلاّ ما يَنقُصُه، فيَفقِدُ الفرحَ ويُغلِقُ قلبَه أمامَ الله.
إنَّ القلبَ الشّاكرَ يرى محبَّةَ اللهِ في كلِّ شيء،فتَنفتحُ عَينا الإيمانِ فيه لِتُدرِكا نِقاءَ اللهِ ومَجدَه في مقابلِ ضعفِ الإنسانِ ونجاستِه.
فعلُ الشكرِ في العهدِ الجديدِ يرتبط بالعبادة، أي بالحمدِ والتسبيحِ والتمجيد.ونجدُ لهُ خمسةَ أبعادٍ متكاملةٍ:
1. الحمد لله (Ἐξομολογοῦμαι):هو الاعترافُ بعطايا الله كما صلّى يسوعُ:"أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَواتِ والأرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هذه الأَشياءَ عن الحُكماءِ والأذكِياءِ، وكَشَفتَها للصِّغار" (متى 11: 25).
2. الشكر والتسبيح (αἰνέω):لا ينفصلُ الشكرُ عن التسبيح، كما جاء عن الرّعاةِ لدى ميلادِ المسيح:"ورَجَعَ الرُّعاةُ وهم يُمَجِّدونَ اللهَ ويُسَبِّحونَهُ على كُلِّ ما سَمِعوا ورَأَوا" (لوقا 2: 20). فالتسبيحُ يُركِّزُ على شخصِ اللهِ أكثرَ مِن عطاياه، وهو الأقربُ إلى السجودِ والعبادة.
3. التمجيد(δοξάζω / εὐλογέω):كما قالَ يسوعُ:"هكذا فَلْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاسِ، لِيَرَوا أَعمالَكُم الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُم الّذي في السَّمَوات" (متى 5: 16).
4. البركة (εὐλογῶν):ترتبطُ بالشكرِ في التّقليدِ اللوقاويّ، كما نقرأ عن زكريّا:"فانفَتَحَ فمُهُ في الحال، وانطلقَ لسانُه، فتكلَّمَ وباركَ الله" (لوقا 1: 64).
5. الشكر المسيحي (εὐχαριστέω): وهي العبارةُ الجديدةُ التي تتكرّرُ نحو ستّينَ مرّةً في العهدِ الجديد،وتعبِّرُ عن أصالةِ الشكرِ المسيحيّ كما في صلاةِ يسوعَ عند إقامةِ لعازر:"شُكرًا لَكَ، يا أَبَتِ، لأنَّكَ استَجَبتَ لي" (يوحنّا 11: 41). هذا الفعلُ يبلُغُ كمالَهُ في الأفخارستيا، أي القُربانِ المقدّس،وهو التعبيرُ النهائيّ عن شكرِ يسوعَ للآبِ باسمِ البشريّة.فالمسيحُ هو شكرُنا الكامل، الّذي يرفعُ الشكرَ إلى الآب،ونحنُ نرفعهُ معهُ قائلين:"بهِ ومعهُ وفيه" كما نصلّي في القُدّاس الإلهيّ.ولذلك، يُعلّمنا بولسُ الرّسولُ أن نكونَ في توسّلٍ وشكرٍ متواصلٍ:"فأيُّ شكرٍ بوسْعِنا أن نُؤدِّيه إلى اللهِ فيكم، على كُلِّ الفَرَحِ الّذي فرِحْناهُ بسببِكم في حضرةِ إلهِنا" (1 تسالونيقي 3: 9). فالعبادةُ الحقّةُ هي أن نشكرَ اللهَ دائمًا، لأنَّ الشكرَ هو قلبُ العبادةِ المسيحيّة.
باختصار، الشكرُ في الإيمانِ المسيحيّ لا يقتصرُ على اللسان، بل يَنطلِقُ من القلبِ والجَوارحِ معًا.ـ"الإسرائيليُّ في العهدِ القديمِ كانَ يُسبِّحُ دونَ أن يشكرَ تمامًا"، لأنَّهُ لم يَتذوَّقْ بعد ملءَ النِّعمةِ في يسوعَ المسيح، أمّا المسيحيُّ، فقد عرفَ وجهَ اللهِ في المسيح، فصارَ الشكرُ أسلوبَ حياتِه، واعترافًا دائمًا بالنعمة.ولهذا قالَ بولسُ الرّسولُ عن الوثنيّين:"عَرَفوا اللهَ، ولَم يُمجِّدوهُ ولا شَكروهُ كما يَنبغي لله" (رومة 1: 21).
وتُعلّمنا الكنيسةُ المقدَّسةُ أن نبدأ كلَّ صلواتِنا بالشكر،حتّى في الأحزانِ والضيقاتِ، لأنَّ اللهَ صانعُ خيراتٍ،وما نعتبرُه شِدّةً أو تجربةً إنّما هو طريقٌ للخير، كما يقول بولس:"إنَّنا نَعلَمُ أنَّ جميعَ الأشياءِ تَعمَلُ لخيرِ الّذينَ يُحبّونَ الله" (رومة 8: 28). ولذلك فوصيّةُ الرَّبِّ لنا اليوم هي:"اُشكُروا على كُلِّ حال، فذلكَ مَشيئةُ اللهِ لكم في المسيحِ يسوع" (1 تسالونيقي 5: 18).
نحنُ بأمسِّ الحاجةِ اليوم إلى نظرةِ الشكرِ وعرفانِ الجميل،نظرةٍ تُعيدُنا إلى رؤيةِ الحياةِ بعيونِ الإيمان،فتَكتشِفُ الأعجوبةَ اليوميّةَ في أبسطِ الأشياء،صغيرةً كانت أو كبيرة، كما اكتشفها السّامِريُّ الأبرصُ عندما عادَ ليَشكُرَ ويُمجِّد.فلنَتَواضَعْ تحتَ يدِ اللهِ القويّةِ (1 بطرس 5: 6)،ولنقِفْ أمامَهُ بشكرٍ صادقٍ وأمانةٍ عميقةٍ،فنَنالَ النِّعمةَ الّتي تُخلِّصُ أرواحَنا،ولنُظهِرْ لهُ امتِنانَنا لا بالكلمةِ فقط، بل بالأعمالِ وبالحقّ.
2) الإِيمَان: "إِيمَانُكَ خَلَّصَكَ" (لوقا 17: 19)
إنَّ إيمانَ السّامِريِّ في اللقاءِ الأوَّل مع يسوعَ شَفاهُ جسديًّا كما شفى زملاءَهُ التِّسعة،لكنَّهُ في اللقاءِ الثّاني، حينَ عادَ شاكِرًا، نالَ الخلاصَ الرّوحيَّ الكاملَ.فقد اغتنمَ يسوعُ هذه المناسبةَ ليُظهِرَ أهمِّيَّةَ الإيمانِ في عملِ الخلاص، فقالَ لهُ: "إِيمانُكَ خَلَّصَكَ"(لوقا 17: 19).
إنَّ استعمالَ يسوعَ لكلمةِ "إِيمانُكَ" (πίστις) يُوحِي إلى ثقةِ السّامِريِّ الأبرصِ بشخصِ يسوعَ، والتزامِهِ الكامِلِ به.فالإيمانُ المطلوبُ من أجلِ المعجزةِ هو الاعترافُ بقدرةِ يسوعَ الكُلِّيَّة، كما قالَ للرَّجلِ الذي كانَ ابنُه مَصروعًا: "إِذا كُنتَ تَستَطيعُ؟ كُلُّ شَيءٍ مُمكِنٌ لِلَّذي يُؤمِن"(مرقس 9: 23).
الإيمانُ إذًا هو العُنصرُ الأساسيُّ لصنعِ المعجزاتِ ولتقبُّلها،ولهذا قالَ يسوعُ للأعمى بَرطِيمَاوُس: "أَبصِرْ، إِيمانُكَ خَلَّصَكَ!"(لوقا 18: 42)، وكذلك للمرأةِ نازِفَةِ الدَّم: "ثِقي يا ابنتي، إِيمانُكِ أَبرَأَكِ" (متى 9: 22). فالإيمانُ هو بدايةُ الطَّريقِ إلى اللهِ،وهو أوَّلُ الشُّروطِ اللازمةِ للخلاص.ومن الجهةِ الأخرى، عندما جاءَ يسوعُ إلى وطنِه،" لم يُكثِرْ مِنَ المعجزاتِ هناكَ لِعَدَمِ إِيمانِهم" (متى 13: 58). فالإيمانُ شرطُ الحضورِ الإلهيّ،ومتى غابَ، تتوقَّفُ قوَّةُ المعجزةِ عن العملِ في قلبِ الإنسان.
أمامَ هذا العددِ الهائلِ من الآياتِ والعجائبِ،لم يكن من سببٍ للشكّ، بل كان ينبغي أن يَزدادَ الإعجابُ بالمسيحِ والإيمانُ به.لقد امتلكَ البُرصُ العَشَرَةُ إيمانًا بيسوعَ إلى حدِّ أنْ طلبوا منهُ الشِّفاءَ،بل وامتلكوا إيمانًا عمليًّا لأنّهم أطاعوهُ قبلَ أن يَرَوا نتيجةَ أمرِه،لكنَّ واحدًا فقط كانَ لديه إيمانٌ عميقٌ قادرٌ على أن يُخلِّصَهُ رُوحيًّا لا جسديًّا فقط.
تبدو معجزةُ شفاءِ البُرصِ العَشَرَةِ عملًا خلاصيًّا بامتياز،فقد ربطَ يسوعُ الشِّفاءَ بالفعلِ "خَلَّصَ"قائلًا: "إِيمانُكَ خَلَّصَكَ"(لوقا 17: 19). فالشفاءُ الجسديّ ليس سوى عَلامةٍ ووعدٍ بالخلاصِ الحقيقيّ والنّهائيّ،الّذي هو الانتصارُ على الشّرّ والخطيئة.لقد نالَ الجميعُ الشِّفاء، ولكن السّامِريَّ وحدَهُ نالَ الخلاص،لأنَّ إيمانهُ مكَّنهُ من الاعترافِ بعطيّةِ الله الّتي نالَها من خلالِ يسوعَ المسيح.
فالإيمانُ هو الطَّريقُ الّذي أعادَ السّامِريَّ إلى المسيحِ،حيثُ وجَدَ فيه الخلاصَ، واشتركَ في مجدِه ومحبّتِه. فالإيمانُ هو لقاءٌ شخصيٌّ بيسوعَ المُخلِّص،يُحوِّلُ الإنسانَ من مجرَّدِ طالبِ نِعمةٍ إلى شاهدٍ وشاكرٍ لله.أرادَ يسوعُ بقوله: "إِيمانُكَ خَلَّصَكَ"،أن يُعلِّمَنا نحنُ أيضًا أن نُؤمِنَ بشخصِه الإلهيّ وبـ قُدرتهِ اللامحدودة،وأن نحيا حياةً روحيّةً سليمةً لا يُشوِّهُها بَرَصُ الخطيئة،وأن نُعبِّرَ عن إيمانِنا بنفسِ صرخةِ البُرصِ العَشَرَةِ: "رُحماكَ يا يسوعُ المعلِّم!" إنّها صرخةُ الإيمان التي تَخرجُ من قلبٍ مُمزَّقٍ بالضّعف،لكنّها تَصعَدُ إلى السّماء فَتَنالُ الرَّحمةَ والشِّفاءَ.
إنَّ اللهَ قادرٌ أن يصنعَ المعجزات،لكنَّه ينتظرُ إيمانَنا، لأنَّهُ يريدُ أن يُشركَنا في عملِ نِعمتِه.فأحيانًا يصنعُ اللهُ المعجزةَ بسببِ الإيمان،وأحيانًا يصنعُها لكي يوقظَ الإيمان.وفي الحالتَين، يبقى الإيمانُ القوَّةَ الدّافعةَ التي تفتحُ بابَ النِّعمة.الإيمانُ ليسَ مجرَّدَ فكرةٍ أو اعتقادٍ،بل قوَّةٌ روحيّةٌ تُولِّدُ العزيمةَ والشّجاعةَ والرّجاء.فحيثما يوجدُ الإيمانُ، توجدُ القوَّةُ الإلهيّةُ العاملةُ في الإنسان.لذلك يقولُ بولسُ الرَّسولُ: "حاسِبوا أَنفُسَكُم، وانظُروا هل أَنتُم على الإيمان، اختبروا أَنفُسَكم"(2 قورنتس 13: 5). لكنَّ هذا الإيمانَ لا يكونُ فعّالًا وقادرًا على التأثيرِ في قلبِ يسوعَ إلاّ إذا كانَ مقرونًا بالمحبّة،كما يقولُ بولسُ أيضًا: "فَفي المسيحِ يسوعَ لا قِيمةَ لِلخِتانِ ولا لِلقَلَف،وإِنَّما القِيمةُ لِلإِيمانِ العامِلِ بالمحبّة"(غلاطية 5: 6). فالمحبّةُ لله لا تُقاسُ بالكلامِ والعاطفةِ،بل بِحِفظِ الوصايا وبِخدمةِ الإخوةِ المتألِّمين.
نستنتجُ ممّا سبقَ أنَّ الخلاصَ هو بالإيمانِ الّذي يعملُ بالمحبّة، كما يعلّمُ بولسُ الرّسول: "بِالنِّعمةِ نِلتُمُ الخَلاصَ بالإيمان" (أفسس 2: 8)، "لكِنَّهُم بُرِّروا مَجَّانًا بِنِعمَتِه، بِالفداءِ الّذي تمَّ في المسيحِ يسوعَ" (رومة 3: 24). ونحنُ أيضًا نلنا الشِّفاءَ من خلالِ إيمانِنا بالمسيح، فقد طهَّرَ أرواحَنا من الخطيئةِ في مياهِ المعموديّة، ونَنالُ هذا التَّطهيرَ مرارًا في سرِّ الاعتراف، حينَ نندمُ ونتوسَّلُ ونقبَلُ رحمةَ يسوعَ.
فلنَعُدْ إذًا دائمًا إلى تمجيدِ اللهِ وشُكرِه في كلِّ قدّاسٍ إلهيٍّ،مُقدِّمينَ نفوسَنا ذبيحةَ شكرٍ واتّحادٍ مع ذبيحةِ المسيح.
وفي الإفخارستيا نُعيدُ اكتشافَ الخلاصِ الّذي نِلناه، ونُجدِّدُ إيمانَنا بيسوعَ القائمِ من بينِ الأموات،فنُصلّي مع بولسَ الرّسول: "إِذا مُتْنا مَعَهُ حَيِينا مَعَه، وإِذا صَبَرنا مَلَكنا مَعَه"(2طيموتاوس 2: 11–12).
الخِلاصَة
يَدُلُّ صُراخُ العَشَرَةِ البُرْصِ إلى المسيحِ قائلينَ:"رُحْماكَ يا يسوعُ أَيُّها المُعَلِّم!" على إيمانِهم الحقيقيّ بالمسيحِ المُخلِّص.فقد كانت صرختُهم صادقةً وصادرةً من القلب،لا صرخةَ تحذيرٍ لئلّا يَتَنَجَّسَ بهم أحدٌ،بل صرخةَ استرحامٍ أمامَ وجهِ الرَّبّ يسوع.
استجابَ يسوعُ لندائِهم بنظرةٍ وكلمةٍ: "رآهم"، وقالَ لهم: " اُمضُوا إلى الكَهَنَةِ فأَرُوهُم أَنفُسَكُم"، فكانَ بنظرتِه راحِمًا، وبكلمتِه شافِيًا.كما جاءَ في الكتابِ: "مَن آمَنَ بِهِ لا يُخْزى"(رومة 10: 11). لقد أظهروا إيمانَهم حين أطاعوا يسوعَ قبل أن يُشفَوا،فانطلقوا إلى الكهنةِ وهم ما زالوا بُرصًا،مُوقنينَ أنَّ كلمتَهُ قادرةٌ أن تصنَعَ العَجَب.
إنَّ هذا الإيمانَ العمليّ كان دليلَ ثقتِهم العميقةِ بيسوعَ المُعلِّم.لكنَّ يسوعَ عابَ التِّسعةَ الذين لم يَعودوا ليُشكروه،فـحَرَموا أنفسَهم من البركةِ الأكبر — أي الخلاص.لقد انشغلوا بالشفاءِ الجسديّ،ولم يَتَمَتَّعوا بالشِّفاءِ الرّوحيّ الّذي هو نعمةُ الخلاص.ومن هنا نفهمُ أنَّ الإيمانَ ليس حِكرًا على أُمّةٍ أو شَعبٍ،بل هو عَطيةٌ مفتوحةٌ لكلِّ البشريّة.فقد أرادَ القدّيسُ لوقا الإنجيليّ أن يُظهِرَ هذا البُعدَ الشاملَ للخلاص،من خلالِ لقاءِ يسوعَ معَ العَشَرَةِ البُرْصِ، الذين كانَ أحدُهم سامِريًّا غريبًا،لكنَّهُ عادَ شاكِرًا ومُمجِّدًا ليسوع،فاستحقَّ وحدَهُ أن يسمعَ كلمةَ الرَّبِّ: "قُمْ، فامضِ، إِيمانُكَ خَلَّصَكَ"(لوقا 17: 19).
إنَّنا كثيرًا ما نَفرحُ بنِعَمٍ كثيرةٍ في حياتِنا،لكنَّنا ننسى المُنْعِمَ بها علينا.نطلُبُ بلجاجةٍ ودموعٍ حينَ نَحتاج،وحينَ يُستَجابُ لنا نغفُلُ عن أن نرفعَ الحمدَ والشكرَ.إنَّ البُرْصَ العَشَرَةَ فرِحوا بالعطيّةِ ونَسوا الواهِبَ، فَلنَتَعَلَّمْ نحنُ من السّامِريِّ الغريبِأن نُظهِرَ امتِنانَنا لعطيّةِ الإيمانِ، وأن نَشكُرَ الرَّبَّ على مَحبَّتِه المجّانيّة الّتي لا نستحقُّها.
إنَّ اللهَ يهتمُّ بالإنسان ويُقدِّمُ له المساعدةَ ليُحقِّقَ خلاصَه،وأمامَ هذهِ الرّحمةِ الإلهيّةِ والرّأفةِ العظيمة،لا يسَعُ الإنسانَ إلاّ أن يُردِّدَ مع صاحبِ المزمور: "الخَيرُ والرَّحمَةُ يَلازِماني جَميعَ أَيّامِ حياتي"(مزمور 23: 6). لنَسجُدْ إذًا عندَ قَدَمَي يسوعَ مثلَ الأبرصِ السّامِريّ،مُقدِّمينَ له التَّمجيدَ والشُّكرَ على كلِّ شيءٍ،لكي نَنالَ نحنُ أيضًا خلاصَ النَّفسِ وشفاءَ القلب،ولنُصبِحَ شهودًا لحبِّ اللهِ في هذا العالَم.
الدُّعَاء
أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلَه، يَا يَنْبُوعَ الحَيَاةِ الزَّمَنِيَّةِ وَالأَبَدِيَّة،
أَعْطِنَا قَلْبًا يَبْحَثُ عَنْكَ،لَيْسَ لِشِفَاءِ الجَسَدِ فَقَط،بَلْ لِشِفَاءِ النَّفْسِ أَيْضًا.
فَأَعِدْنَا إِلَيْكَ دَائِمًا،لِنَرْفَعَ لَكَ الشُّكْرَ وَالتَّسْبِيحَعَلَى هِبَةِ الإِيمَانِ وَنِعْمَةِ الخَلاص.
اجْعَلْ كَنِيسَتَكَ المُقَدَّسَةَ،بِرُوحِكَ القُدُّوس،شَاهِدَةً دَائِمَةً لِخَلاصِكَالَّذِي تُجْرِيهِ فِينَا عَلَى الدَّوَامِ
فِي يَسُوعَ المَسِيحِ رَبِّنَا،فَنُقَدِّمَ لَكَ المَجْدَ وَالشُّكْرَ وَالتَّسْبِيحَعَلَى جَمِيعِ نِعَمِكَ وَعَطَايَاكَ وَخَلاصِكَ.آمــــين.
قصة: أبرصٌ يَشفي القدّيسَ فرنسيسَ مِن مَخاوِفِه
في يومٍ من الأيّام، وبينما كان فرنسيسُ الشابّ يمتطي حصانَهُ قُربَ مدينةِ أسيزي، أقبلَ إليه أبرصٌ، فارتعب كما اعتاد أن يفعل كلّ مرّة يرى فيها أحد المصابين بالبرص. ولكن في تلك اللحظة، تغلّب على نفسه بقوّة الله، فترجّلَ عن مطيّته، وأعطى الأبرصَ قطعةً من الفضّة، ثمّ قبّلَ يدَهُ بسلامٍ وتواضعٍ.
تلقّى الأبرصُ منه قبلةَ السّلام، وعندها شعرَ فرنسيسُ أنّ شيئًا عظيمًا تبدّلَ في داخله. لقد لمسَ اللهُ قلبَه من خلالِ هذا اللّقاء، ومن تلك اللحظة بدأ ينتصر على خوفه، ويختبرُ شفاءً روحيًّا عميقًا.
بعد أيّامٍ، توجّه فرنسيسُ إلى مأوى مرضى البرص، متزوّدًا بالمال والعطاء، فجمعهم حوله ووزّع عليهم الهبات، وقبّل أيديهم جميعًا بمحبةٍ. ومنذ ذلك الحين، كما كتب في وصيّته: "عندما كنتُ أتخبّط في الخطايا، كان يشقّ عليّ أن أُشاهدَ البُرْص، لكنَّ الربَّ اقتادني إليهم، فانقلبَ الأمرُ عذبًا على قلبي وجسدي حتّى هجرتُ العالم". لقد تحوّل الاشمئزازُ إلى عذوبةٍ، والخوفُ إلى حنانٍ، والابتعادُ إلى خدمةٍ. فالربّ شفى فرنسيسَ من برصِ الخوف والأنانيّة، بفضل قبلةٍ واحدةٍ من الأبرص (سيرة حياة القدّيس فرنسيس الأسيزي كما رواها ثلاثة من رفاقه § 11)
يقدّم لنا إنجيلُ شفاءِ العَشَرَةِ البُرْص (لوقا 17: 11–19) مشهدًا فريدًا تتجلّى فيه قوّة الإيمان والشكر، كما يتجلّى فيه وجهُ الله الرحوم الذي لا يرفض أحدًا. يسوعُ لا يخافُ من لمسِ المريض، ولا يشمئزّ من البَرَص، بل يَمدّ يده ليعيد إلى الإنسان كرامته المفقودة.وهذه النظرة الرحيمة نفسها عاشها بعد قرونٍ من الزمان القدّيسُ فرنسيسُ الأسيزي، الّذي اكتشفَ وجهَ يسوعَ في وجه الأبرص، ووجدَ في خدمتهِ طريقَ الخلاص والحرّية الداخليّة.هكذا يلتقي الأبرصُ السامريّ في الإنجيل مع الأبرصِ الذي شفى القدّيسَ فرنسيس: كلاهما كان أداةَ نعمةٍ، كشفَ من خلال ضعفه قوّةَ الله الشافية. الأولُ عادَ إلى يسوعَ شاكرًا، والثاني جعلَ يسوعَ حاضرًا في الأبرص. وفي كليهما نرى أنّ الخلاص لا يتحقّق إلّا في اللقاء:لقاءِ الإنسانِ بالله، ولقاءِ الإنسانِ بأخيهِ الإنسان.إنَّ الذي يعودُ ليشكر، والذي ينحني ليخدم، كلاهما قد شُفي.ففي الشكرِ نُشفى من برصِ الجحود، وفي الخدمةِ نُشفى من برصِ الكبرياء.
بَرقين: مَكان إِبراءِ عَشَرَةٍ مِنَ البُرْصِ
التَّسْمِيَة:
تُعَدُّ قَرْيَةُ بَرقين، الواقِعَةُ في مَنطِقَةِ جِنين، مَعْلَماً سِياحِيّاً ودينيّاً هامّاً لِلحُجّاجِ المَسيحيّينَ القادِمينَ إلى فِلسطين. فقد ذُكِرَت باسم "بورقينا"في رَسائِلِ تَلِّ العَمارنَةِ المِصريَّةِ، وهي مَراسَلاتٌ جَرَت بين الفَراعِنَةِ ومَمالِكِ المُدُنِ الفِلسطينيَّةِ. ولمّا شَفى يسوعُ البُرْصَ العَشَرَةَ في هذا المَوضِع، سُمِّيَ المكانُ "بورصين»، ثمّ تَحوَّلَ الاسمُ إلى "بورقين"، واستَقَرَّ في النِّهايَةِ على بَرقين. ويَرى بَعضُ الباحِثينَ أنّ اسمَ بَرقين مُشتَقٌّ من اللَّفظةِ السّاميَّة "بَرَكَ"أي جَثا على رُكبَتَيْهِ وبارَكَ أوِ استَراحَ؛ فيما يَميلُ آخَرونَ إلى أنَّ بَرقين مُشتَقَّةٌ من "البُرقان"أي اللَّمَعان، في إشارةٍ إلى مَرضِ البُرْصِ الّذي تَميَّزَ بِبَياضِ الجِلدِ وبُريقِه.
المَوقِعُ:
تَقَعُ قَرْيَةُ بَرقين على بُعْدِ خَمْسَةِ كيلومتراتٍ إلى الغَرْبِ مِن مَدِينَةِ جِنين، في الطَّرَفِ الشَّماليِّ مِن سَهلِ عَرابَةَ، على الطَّريقِ الرَّئيسيِّ الّذي يَرْبِطُ جِنين بِحَيفا .وتَرْتَفِعُ بَرقين نَحْوَ ٢٥٠ متراً عن سَطْحِ البَحْرِ. ويَحُدُّ بَرقين مِن الشَّرْقِ مَدِينَةُ جِنين ومُخَيَّمُها، ومِن الغَرْبِ قُرى كَفْركود والهاشِمِيَّة وكُفيرِت وبِئْرُ الباشا وعَرابَة، ومِن الجَنوبِ قَباطِيَّة ومُثَلَّثُ الشُّهَداءِ، ومِن الشَّمالِ كَفْرُذان واليامون. تَشْتَهِرُ القَرْيَةُ بِزِراعَةِ الزَّيْتونِ، الّذي يُطْلِقُ عَلَيْهِ الأهالِي اسمَ "الزَّيْتونِ الرُّومِيِّ"، إشارةً إلى قِدَمِ أُصُولِهِ الّتي تَعُودُ إلى العَهْدِ الرُّومانِيِّ. ويَعْتَمِدُ مُعظَمُ سُكّانِ القَرْيَةِ على مَوسِمِ قَطْفِ الزَّيْتونِ في تَحْسينِ مُسْتَوى مَعيِشَتِهِم.
السُّكّانُ
يَبلُغُ عَدَدُ سُكّانِ بَرقين نَحْوَ ٨٥٠٠ نَسَمَةٍ تقريباً، وَفْقاً لِمَصادِرِ دائِرَةِ الإحصاءِ الفِلسطينيَّةِ لعامِ ٢٠١٠. ويُشَكِّلُ المُسلمونَ الأغلبيَّةَ السُّكّانيَّةَ في القَرْيَةِ، في حين يَبلُغُ عَدَدُ السُّكّانِ المَسيحيّينَ نَحوَ تِسعينَ نَسَمَةً تَقريباً، وهُم مُوَزَّعونَ بَيْنَ طائِفَتَيْ اللّاتينِ والرُّومِ الأُرثوذُكس.
أمّا أَشْهَرُ عائِلاتِ القَرْيَةِ فَهِيَ:
كما يُوجَدُ في القَرْيَةِ بَعضُ الأُسَرِ الّتي تَعودُ أُصولُها إلى حَمْلَةِ إبراهيمَ باشا في القَرْنِ التّاسِعِ عَشَرَ.
المَعالِمُ التّاريخيَّةُ
يَرْوي التَّقليدُ أنَّه كانَ في قَرْيَةِ بَرقين، في العَصْرِ الرُّومانيِّ الأوَّل، جَماعَةٌ مِنَ المُصابينَ بِمَرَضِ البُرْصِ، وقد عُزِلوا في مَغارَةٍ ذاتِ ثُغْرَةٍ في سَقْفِها، وكانَ أهالي المَرضى يُلْقونَ لَهُم الطَّعامَ والشَّرابَ مِنْ خِلالِها.
ولمّا سَمِعَ سُكّانُ القَرْيَةِ والمَرضى بِمُعْجِزاتِ السَّيِّدِ المَسيح، طَلَبوا مِنهُ، عِندَ مُرورِهِ بِقَريَتِهِم قادِماً مِنَ الجَليلِ إلى أُورَشَليم، أنْ يَشْفِيَ مَرضاهُم. فاستَجابَ لَهُم وزارَهُم في مَغارَتِهِم، وشَفاهم جَميعاً، كما يَرْوي الإنجيليُّ لوقا (17: 11-19). وهكذا نالَ هذا المَكانُ قَداسَتَهُ وباتَ مَعلَماً مُبارَكاً يَرمُزُ إلى قُوَّةِ الإيمانِ وشُكْرِ النِّعْمَةِ.
وفي العَصْرِ البِيزَنْطيِّ، بُنِيَت كَنيسَةٌ على المَغارَةِ ذاتِها، لا تَزالُ قائِمَةً حتّى اليوم، وتُرى فيها الفُتْحَةُ الّتي كانَ يُلْقَى مِنها الطَّعامُ إلى المَرضى. وقد عُرِفَت الكَنيسَةُ باسمِ "كَنيسَةِ البُرْصِ العَشَرَةِ".
وفي عامِ 1600م، جُدِّدَت الكَنيسَةُ تَحتَ رِعايَةِ الرُّومِ الأُرثوذُكس، وحَمَلَت اسْمَ القدِّيسِ جاوِرْجيوس، ولا تزالُ تُعرَفُ إلى اليومِ أيضاً بِاسمِ كَنيسَةِ البُرْصِ العَشَرَةِ.
ظَلَّت بَرقين قَرْيَةً صَغيرةً طِوالَ الفَتْرَةِ العُثمانيَّةِ، وكانت تَتْبَعُ سَنْجَقَ نابُلُس ضِمْنَ وِلايَةِ بيروت في أواخِرِ القَرْنِ التّاسِعَ عَشَرَ. ولمّا سَقَطَت فِلسطينُ بِيَدِ الجَيْشِ البِرِيطانِيِّ عامَ 1917م، ضُمَّت القَرْيَةُ إلى قَضاءِ جِنين، واستَمَرَّ هذا التَّقسيمُ الإداريُّ حتّى النَّكْبَةِ عامَ 1948م.
ويَتَذَكَّرُ الفِلسطينيّونَ شُهَداءَ الجَيْشِ العِراقِيِّ الّذينَ سَقَطوا دِفاعاً عن جِنين وقُراها، حيثُ تُوجَدُ مَقْبَرَةٌ لِلعَشَراتِ مِنهُم قُرْبَ مُثَلَّثِ الشُّهَداءِ إلى الجَنوبِ مِن بَرقين.
وفي عامِ 1951م، انضَمَّت الضِّفَّةُ الغَربيَّةُ، ومِنها بَرقين، إلى المَملَكَةِ الأُردُنِّيَّةِ الهاشِمِيَّةِ. ثُمَّ صارت جِنين عامَ 1964م مَركَزاً لِلواءِ جِنين التّابِعِ لِمُحافَظَةِ نابُلُس، وبَقِيَت تَحتَ الحُكمِ الأُردُنّيِّ حتّى احتِلالِها في حَربِ حُزَيرانَ عامَ 1967م.
وقد صادَرَت سُلطاتُ الِاحْتِلالِ الإسْرائيليِّ جُزْءاً مِن أَراضيها، وأقامَت عَلَيْها مُستَوطَنَةً تُدْعى "بروكين"، وهي قَرْيَةٌ تَعاوُنِيَّةٌ أُنشِئَت عامَ 1982م.
ومع قيامِ السُّلْطَةِ الفِلسطينيَّةِ عامَ 1995م، أُلحِقَت جِنين ومُحيطُها بِالإدارةِ الفِلسطينيَّةِ، وقامت دائِرَةُ الآثارِ في وِزارَةِ السِّياحَةِ الفِلسطينيَّةِ بأَعمالِ صِيانَةٍ وتَرميمٍ مُكَثَّفَةٍ في الكَنيسَةِ والمَنطِقَةِ المُحِيطَةِ بِها خلالَ عامَي 1996 و1997م، بِتَمويلٍ مِن الحُكومَةِ الهولنديَّةِ.
وأُعلِنَت بَرقين بَلْدَةً عامَ 1999م، وأُلحِقَت إداريّاً بِـ مُحافَظَةِ جِنين، وتَقَعُ مُعظَمُ أَراضيها ضِمْنَ تَصنيفَيْ منطقة (أ) و(ب) وَفْقَ اتِّفاقِ أوسلو.
المَعالِمُ الأَثَرِيَّةُ
كَشَفَتِ الحَفْرِيّاتُ الأَثَرِيَّةُ أَنَّ قَرْيَةَ بَرقين تَعُودُ أُصُولُها إلى الفَتْرَتَيْنِ الرُّومانيَّةِ والبِيزَنْطِيَّةِ. ويُعَدُّ أَهَمُّ مَعالِمِها الأَثَرِيَّةِ كَنيسَةُ بَرقين، الّتي تُقامُ على المُنحَدَرِ الشَّماليِّ لِلتَّلَّةِ، وتُطِلُّ على وادِي بَرقين الّذي يَمتَدُّ حتّى مَرْجِ بِنِ عامِر، على بُعْدِ نَحْوِ أرْبَعَةِ كيلومتراتٍ إلى الشَّرْقِ مِنَ القَرْيَةِ.
وتُشيرُ الدَّلائِلُ الأَثَرِيَّةُ إلى أَنَّ الكَنيسَةَ مَرَّت بِـ أرْبَعِ مَراحِلَ رَئيسيَّةٍ في تاريخِها:
١. المَرحَلَةُ الأُولَى
بَدَأَت الكَنيسَةُ على هَيئَةِ كَهْفٍ يُشْبِهُ الآبارَ الرُّومانيَّةَ، لَهُ فُتْحَةٌ دائِرِيَّةٌ في السَّقْفِ، وُضِعَ فِيهِ مَذْبَحٌ وشُيِّدَ جِدارٌ حَجَرِيٌّ على مَدْخَلِهِ. وفي هذا الكَهْفِ تَمَّت مُعْجِزَةُ إِبْراءِ العَشَرَةِ بُرْصٍ على يَدِ السَّيِّدِ المَسيح.
٢. المَرحَلَةُ الثّانِيَة
في الفَتْرَةِ البِيزَنْطِيَّةِ (مِنَ القَرْنِ الخامِسِ حتّى التّاسِعِ)، شُيِّدَت كَنيسَةٌ على مَدْخَلِ الكَهْفِ، حُوِّلَت المَغارَةُ بِها إلى مَكانِ عِبادَةٍ. وكانت الكَنيسَةُ صَغيرَةَ المِساحَةِ لا تَتَّسِعُ لِعَدَدٍ كَبيرٍ مِنَ المُصَلّين، غير أَنَّهُ جَرَى تَوسِيعُها في نِهايَةِ الفَتْرَةِ البِيزَنْطِيَّةِ في القَرْنِ التّاسِعِ، ثُمَّ دُمِّرَت لاحِقاً.
٣. المَرحَلَةُ الثّالِثَة
في القَرْنِ الثّانِي عَشَرَ، أَعادَ الصّليبيّونَ بِنَاءَ الكَنيسَةِ، وأضافوا إِلَيْها غُرَفاً جَديدَةً وَساحَةً حَولَ المَبْنى الرَّئيسيِّ.
٤. المَرحَلَةُ الرّابِعَة
أَصْبَحَت الكَنيسَةُ تَتَكَوَّنُ مِن الكَهْفِ الأَصْلِيِّ وَالكَنيسَةِ الّتي أُعِيدَ تَشيِيدُها في القَرْنِ الثّالِثَ عَشَرَ. وتَقُومُ على الكَنيسَةِ عَقْدانِ مَعْقودانِ على شَكْلِ صَليبٍ، وأُضيفَت لاحِقاً غُرْفَةٌ مِنَ الجِهَةِ الشَّرْقِيَّةِ استُخدِمَت مَدْرَسَةً، وفي عَقدِ السِّتّيناتِ أُضيفَت غُرْفَتانِ جَديدَتانِ إلى الجِهَةِ الغَربيَّةِ مِنَ السّاحَةِ. وخَضَعَت الكَنيسَةُ لِسِلسِلَةٍ مِن عَمَليّاتِ الإِصلاحِ والتَّرميمِ كانَ آخِرُها في سَبيعيناتِ القَرْنِ العِشْرينَ، حَيْثُ جَرَى قَصْرُ الجُدرانِ الدّاخِلِيَّةِ وتَجْدِيدُها.
يَذْكُرُ الرَّحّالَةُ الإِنكليزيُّ كُونْدُور (C. Conder) في مَسْحِهِ لِفِلسطين عامَ 1875م، أَنَّ الكَنيسَةَ هي غُرْفَةٌ صَغيرَةٌ تَحتَوِي على إيقونُسطاسٍ حَجَرِيٍّ في الجِهَةِ الشَّرْقِيَّةِ، يَفصِلُ حَنِيَّةَ الكَنيسَةِ عن صَحْنِها. ولَها ثَلاثَةُ مَداخِلَ تُغْلَقُ بِأَبوابٍ، ويُوجَدُ كُرْسِيٌّ حَجَرِيٌّ في الجِهَةِ الجَنوبِيَّةِ لَهُ ذِراعانِ مَنْحوتَتانِ عَلَيْهِما رَأْسُ حَيَوان.كما تُوجَدُ مَقْرَأَتانِ حَجَرِيَّتانِ لِحَمْلِ الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ.
وتَحْتَوِي الكَنيسَةُ على جُرْنِ مَعْمُودِيَّةٍ يُرْجَعُ إلى القَرْنِ السّادِسِ للمِيلادِ، في حينِ يُعَدُّ الإيقونُسطاسُ والكُرْسِيُّ الأُسْقُفِيُّ مِنَ العَناصِرِ الأَصْلِيَّةِ الّتي تَعودُ إلى أَكثَرَ مِن أَلْفٍ وَخَمْسِمِئَةِ عامٍ.
وفي عامِ 1997م، قَامَت دائِرَةُ الآثارِ الفِلسطينيَّةِ العامَّةِ بِأَعمالِ تَرميمٍ شامِلَةٍ في الكَنيسَةِ، باستِخدامِ تِقْنِيّاتٍ تَقْليدِيَّةٍ وَحَديثَةٍ، وبِتَمويلٍ مِن الحُكومَةِ الهولنديَّةِ.