موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٢ يوليو / تموز ٢٠٢٣

مَثَل الزُّؤان وحَبَّةِ الخَردَل وَالخَميرة

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد السَّادس عَشر من السنة: مَثَل الزُّؤان وحَبَّةِ الخَردَل وَالخَميرة (متى 13: 24-43)

الأحَد السَّادس عَشر من السنة: مَثَل الزُّؤان وحَبَّةِ الخَردَل وَالخَميرة (متى 13: 24-43)

 

النص الإنجيلي (متى 13: 24-43)

 

 24-وضرَبَ لَهم مَثَلاً آخَرَ قال: ((مَثَلُ مَلَكوت السَّمَواتِ كَمَثلِ رَجُلٍ زَرَعَ زَرْعاً طَيِّباً في حَقْله. 25 وبَينما النَّاس نائمون، جاءَ عَدوّهُ فزَرعَ بَعدَه بينَ القَمحِ زُؤاناً وانْصَرَف. 26 فلَمَّا نَمى النَّبْتُ وأَخرَجَ سُنبُلَه، ظَهَرَ معَه الزُّؤان. 27 فجاءَ رَبَّ البيتِ خَدَمُه وقالوا له: ((يا ربّ، ألَم تَزرَعْ زَرْعاً طَيِّباً في حَقلِكَ؟ فمِن أَينَ جاءَهُ الزُّؤان؟)). 28  فقالَ لَهم: ((أَحَدُ الأَعداءِ فَعَلَ ذلك)) فقالَ له الخَدَم: ((أَفَتُريدُ أَن نَذهَبَ فنَجمَعَه؟)). 29 فقال: ((لا، مَخافةَ أَن تَقلَعوا القَمْحَ وأَنتُم تَجمَعونَ الزُّؤان، 30 فَدَعوهما يَنبُتانِ معاً إلى يَومِ الحَصاد، حتَّى إِذا أَتى وَقْتُ الحَصاد، أَقولُ لِلحَصَّادين: اِجمَعوا الزُّؤانَ أَوَّلاً واربِطوه حُزَماً لِيُحرَق. وأمَّا القَمْح فَاجمَعوه وَأتوا بِه إلى أَهرائي)).  31وضربَ لَهم مَثَلاً آخَرَ قال: ((مَثَلُ مَلَكوت السَّمَوات كَمَثَلِ حَبَّةِ خَردَل أَخذَها رَجُلٌ فَزرعَها في حَقلِه. 32 هيَ أَصغَرُ البُزورِ كُلِّها، فإِذا نَمَت كانَت أَكبَرَ البُقول، بل صارَت شَجَرَةً حتَّى إِنَّ طُيورَ السَّماء تَأتي فتُعَشِّشُ في أَغصانِها)). 33 وأَورَدَ لَهم مَثَلاً آخَرَ قال: ((مثَلُ مَلَكوت السَّموات كَمَثلِ خَميرة أَخَذَتها امرأَةٌ، فجَعَلتها في ثَلاثةِ مَكاييلَ مِنَ الدَّقيق حتَّى اختَمرَت كُلُّها)). 34 هذا كُلُّه قالَه يسوعُ لِلجُموع بِالأَمثال، ولَم يقُلْ لَهُم شَيئاً مِن دونِ مَثَل، 35 لِيَتِمَّ ما قيلَ على لِسانِ النَّبِيّ: ((أَتَكَلَّمُ بِالأَمثال وأُعلِنُ ما كانَ خَفِيّاً مُنذُ إِنشاءِ العَالَم)).

 

 

مقدمة:

 

يُسلط إنجيل الأحَد (متى 13: 24-43) الأضواء على خِطاب يسوع بالأمثال حول نمو المَلَكوت في العَالَم، وما يمرُّ به من أخطار وكيفية مقاومتها بالصَّبْر من خلال مَثَل الزؤان (13: 24-30)، وبالثِّقَة من خلال مَثَل حَبَّةِ خَردَل (13: 31-32) وبالعَمل الخَفيِّ من خلال مَثَل الخَميرة (متى13: 31-32)؛ وعندما نتقبل ملكوت الله بالصَّبر والثِّقة والعَمل الخَفي نصبح أكثر إنسانية، وأكثر صِدْقًا، وأكثر أخوة بعضنا مع بعض وانفتاحا نحو الملكوت السَّماوي. يدعونا يسوع من خلال تعليمه بالأمثال إلى طريق جديد نتبعه الذي يقودنا نحو الملكوت. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 13: 24-43)

 

24 وضرَبَ لَهم مَثَلاً آخَرَ قال: مَثَل ُ مَلَكوت السَّمَواتِ كَمَثلِ رَجُلٍ زَرَعَ زَرْعاً طَيِّباً في حَقلِه.

 

تشير عبارة "ضرَبَ لَهم مَثَلاً " إلى لُغْز قدّمه يسوع إلى الجُموع لتنبيه أفكارهم كي يبحثوا عن معناها الروحي. يتكلم يسوع بالأمثال مقتبسًا ما جاء في المزامير "أَصغِ يا شَعْبي إِلى شَريعَتي أَمِلْ أُذَنيكَ إِلى أَقْوالِ فَمي. أَفتَحُ فَمي بِالأَمْثال وأَفيضُ بِأَلْغازِ الزَّمَنِ القَديم" (مز 78: 1-2).  أمَّا عبارة" مَثَل ُ مَلَكوت السَّمَواتِ كَمَثلِ رَجُلٍ" فلا تشير إلى تشبيه مَلَكوت السَّمَاوات برجل، بل إلى تشبيه مَلَكوت السَّمَاوات بحالة رجل حين يزرع زَرْعًا طيِّبًا في حَقْله. وهو أسلوب عمل الله خلال زمن الإنجيل، كما يظهر بوضوح في التَّفسير الذي ألقاه الرَّبّ (متى 13: 37-43). وتتكرر عبارة "مَثَل ُ مَلَكوت السَّمَواتِ" ثلاث مرات" (متى 13: 14، 31، 33) للدلالة على التركيز على الملكوت في تعليم يسوع هنا.  أمَّا عبارة "مَلَكوت السَّمَواتِ" فتشير إلى المَلَكوت الجديد الذي أتى به المسيح ليبدأه على الأرْض ويُتمِّمه في السَّماء. أمَّا عبارة "كَمَثلِ رَجُلٍ " فتشير إلى المسيح نفسه الذي يزرع في حَقْل رسالته. أمَّا عبارة " زَرْعاً طَيِّباً " فتشير إلى زَرْعٍ نافعٍ كالحِنطَة، وهذا الزَّرَع رمز إلى بَنُي المَلَكوت الذين يُمارسون بأمانة شريعة الله؛ أمَّا عبارة " حَقْله " فتشير إلى العَالَم، فالعَالَم كله بمثابة حَقْل الرَّبّ. ويزرع المسيح في كل الشعوب زَرْعه. وهذا الزَّرَع ليس تعليمًا وإنجيلاً وحقائق التي يُكرز بها ونعمًا التي تُغرس فحسب، إنَّما أيضًا نفوسًا التي تُقدّس.

 

25 وبَينما النَّاس نائمون، جاءَ عَدوُّهُ فزَرعَ بَعدَه بينَ القَمحِ زُؤاناً وانْصَرَف.

 

تشير عبارة "بَينما النَّاس نائمون" إلى الليل الذي هو وقت النَّوم، وهو وقت تسلّل العَدوّ إلى الكرم، حيث لا لوم على صاحب الحَقْل ولا على خدامه، لأنَّهم نائمون. ولم يقل متى الإنجيلي "بينما الزارع نائم"، لان المسيح لا ينام بل هو ساهر على كنيسته ومهتم بها. ولكن النَّاس هم الذين ينامون وهم الذين في غفلة وتراخ ٍ وكسل وإهمال ونسيان الله. بينما يزرع الزَّارع (المسيح) البذور الطِّيبة في وضح النهار، يقوم الشَّيطان بالعمل في ظلمة الليل.  أمَّا عبارة " عَدوّهُ " فتشير إلى أحد جيران الزارع الذين الحقوا الضرر به، وهذا هو رمز إلى الشيطان، رئيس مملكة الظلمة الذي لا يُطيق مملكة النور ويُخرّب عمل الله ويُقاوم صاحب الكرم، أي عمل الله، وهو يُحارب أولاد الله أيضًا، كما جاء في تنبيهات بطرس الرسول " إنَّ إِبليسَ خًصْمَكم كالأَسدِ الزَّائِرِ يَرودُ في طَلَبِ فَريسةٍ لَه" (1 بطرس 5: 8).  ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "بعد الأنبياء يأتي أنبياء كذبة، وبعد الرسل يأتي رسل كذبة، وبعد المسيح يأتي من هم ضد المسيح "؛ أمَّا عبارة "نائمون " فلا تشير إلى وصفَ الطريقة التي يتّبعها الشيطان للخداع، فأنه يستغل نوم الجسد الطبيعي وما يشير إليه النوم من التراخي والإهمال أو نسيان الله في العمل الرَّعوي والجِهاد الرُّوحي، ويُعلق القديس ايرونيموس " لا تسمح للعَدوّ أن يلقي زُؤاناً وسط القمح بينما الزَّارع نائم، أي عندما يكون الذهن الملتصق بالله في غير حراسة". يطلب يسوع ألاَّ ننام روحيًا، بل أن نكون دائمًا في يقظة وملتصقًين بالله. أمَّا عبارة "القَمحِ" فتشير إلى عمل الله؛ أمَّا عبارة "الزؤان" فتشير إلى العشب السام الضَّار بالزَّرَع، وهو يُشبه الحِنطَة كالشَّوك والقُرَّاص والعَوسَج المعروف في منطقة الجليل (أشعيا 34: 13)، إنه يشبه الحِنطَة في الشكل، ويصعب تمييزه عنها في البداية، وإذا طُحنت بذوره مع الغلال يكون الدقيق الناتج عنه سَامًا (هوشع 9: 6). زرع العَدوّ الزؤان حتى يُحْدِثَ ضررًا في الحَقْل ولا يُجني غلة جيّدة وقت الحَصاد، ويُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "إنّ طريقة الشيطان هي أن يمزج دائمًا الحقيقة في الخطأ المُتخفّي وراء مظاهر وألوان الحقيقة، بحيث يتمكّن بسهولة من الإيقاع بالذين ينخدعون بسهولة. لذا، تكلّم ربّنا فقط عن الزّؤان لأنّ هذه النَّبتة تشبه القمح" (عظات حول إنجيل القدّيس متّى، عظة رقم 46: 1-2). والزؤان يرمز إلى بنو الشَّرير، وهم الأشرار وفعلة الإثم الذين يُسبِّبون الشكوك والعثار ويعملون عمل الشيطان ويجعلون النَّاس يسقطون في حبائله. أمَّا القديس ايرونيموس فيرى في الزؤان رمز تعليم الهرطقة والآب إسيذورس بالبلسان يرى في الزؤان رمز الأفكار الشَّريرة".  فالزؤان هو رمز هرطقات وفلسفات مخادعة إلحادية وشكوك وشهوات وخطيئة. أمَّا عبارة "انْصَرَف" فتشير ذهابه خِفية، كما أتى كأنَّه لم يفعل شيئًا مع أنه سبب الشَّر الموجود في العَالَم. الشَّر موجودٌ، لأنّ قوّة الشَّر موجودة.  

 

26 فلَمَّا نَمى النَّبْتُ وأَخرَجَ سُنبُلَه، ظَهَرَ معَه الزُّؤان.

 

تشير عبارة "ظَهَرَ معَه الزُّؤان" إلى عدم وجود فرق بين القمح والزؤان في البداية، لانَّهما كانا مَخفيان. لكن متى ظهرت السَّنابل ظهر الزؤان. قلما برزت الشَّرور في أو ل حدوثها.

 

27 فجاءَ رَبَّ البيتِ خَدَمُه وقالوا له: ((يا ربّ، ألَم تَزرَعْ زَرْعاً طَيِّباً في حَقْلكَ؟ فمِن أَينَ جاءَهُ الزُّؤان؟ ))

 

تشير عبارة " خَدَمُه " إلى عبيد رب البيت الذين لم يكونوا كسالى، لأنَّه حين ظهر الشَّر انتبهوا له وأخبروا به سيِّدهم. أمَّا عبارة "يا ربّ، ألَم تَزرَعْ زَرْعاً طَيِّباً في حَقْلكَ؟ " فتشير إلى سؤال استفهامي يُراد به إثبات أن الزَّرَع كان جيدا، وفيه تعجبٌ وحيرةٌ من النتيجة التي هي خلاف المتوقع، إذ أن المسيح الرَّبّ الذي هو صاحب الحَقْل والزَّرَع والمَلَكوت لا يأتي منه الشَّر، إنَّما من الرَّبّ يأتي الخير فقط، ولا نستطيع أن ننسب الشَّر إلى الرَّبّ، لانَّ الرَّبّ كامل، ولا يُمكن أن يصدر عن الكامل سوى الخير، كما جاء في سفر التكوين " ورأَى اللهُ جَميعَ ما صَنَعَه فاذا هو حَسَنٌ جِدًّا"(تكوين 1: 31). وهذا يؤكده يوحنا الإنجيلي "إِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العَالَم لِيَدينَ العَالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العَالَم" (يوحنا 3: 17)؛ أمَّا عبارة " فمِن أَينَ جاءَهُ الزُّؤان؟" فتشير إلى سبب وجود الزُّؤان ومصدره. يتحيَّر النَّاس لوجود الشَّر في العَالَم مع أن تعليم المسيح كان زَرْعًا جيدًا، وأنّ حياة السيّد المسيح كلّها صراع ضدّ قوّة الشَّر! وهذه هي حيرة النَّاس لوجود الشَّر في العَالَم. أمَّا عبارة " الزُّؤان " تشير إلى عشب اسمه باللاتينية Lolium وهو ذو أطراف ليفية كثيرة، والزؤان ينبت كثيرًا بين الحِنطَة بدون زراعة، ومرّات يُنثر حبوبه، وهو عشب سام. يتعذر التفريق بينه وبين الحِنطَة في البداية، ولكن الفرق يظهر بعد النضج والإثمار. ولا يمكن اقتلاع الزُّؤان من وسط الحِنطَة وإلاَّ حدثت أضرار بالغة للحِنطة، فيضطر صاحب الحَقْل إلى التأنِّي عليه حتى وقت الحَصاد حيث يُجمع أولاً للحريق، ثم تجمع الحِنطَة بعد ذلك. والزُّؤان يصوّر عمل إبليس لتعطيل مَلَكوت المسيح كما أن الزُّؤان هم يمثلون الأشرار في داخل الكنيسة.

 

28 فقالَ لَهم: ((أَحَدُ الأَعداءِ فَعَلَ ذلك)) فقالَ له الخَدَم: ((أَفَتُريدُ أَن نَذهَبَ فنَجمَعَه؟ ))

 

تشير عبارة "أَحَدُ الأَعداءِ فَعَلَ ذلك" إلى من ضمر العداوة في قلبه وزرع الزؤان في وقت الزَّرَع حيث لا يمكن أن يفعله صديق. ويدل العَدوّ على إبليس، عَدوّ الله هو الذي زرع الزؤان في ذات الحَقْل الّذي قد زرع فيه الرَّبّ زرعًا طيِّبًا. فالعَدوّ يُخرّب عمل الله؛ وأن الشَّر في العَالَم لا يأتي من الله، بل من العَدوّ، الشَّيطان الذي يزرع الانقسام والخلاف. وأمَّا عبارة " فقالَ له الخَدَم " فتشير إلى الصَّالحين الذين لا يطيقون رؤية الأشرار إلى جانبهم، ولا رؤية الشَّر من حولهم، فطلبوا استئصال الأشرار من مَلَكوت الله، كما اقترح التلاميذ يومًا على المسيح أن يستزل على السَّامريين نارًا من السَّماء فتأكلهم (لوقا 9: 54-55).  أمَّا عبارة "أَ فَتُريدُ أَن نَذهَبَ فنَجمَعَه؟ " فتشير إلى فصل الزؤان عن الحِنطَة، ولكن يتمُّ الفصل عادة بعد دق الحِنطَة أو درسها، وذلك لأَّنه يصعب في الأطوار الأولى من النمو التمييز بين نبات الحِنطَة ونبات الزؤان. ولا يظهر الزؤان جليًا إلاَّ بعد ظهور رؤوس النبات، لان للزُّؤان بذرة تُشبه في شكلها وفي حجمها بذرة الحِنطَة، ولكنها رمادية غامقة في لونها.  ويُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " تأمّلْ الآن حماس الخدّام. هم يريدون اقتلاع الزؤان في اللحظة عينها. مع أنّ ذاك التصرّف كان مُتسرِّعًا، لكنّه يبقى دليلاً على اهتمامهم بالزَّرَع. هم لم يبالوا سوى بخلاص الحَصاد، ولم يكن يهمّهم الانتقام من الذي زرع الزؤان" (عظات حول إنجيل القدّيس متّى، عظة رقم 46: 1-2). إن فكرة توجد الزؤان إلى جانبيا أمر مخيف، وينتج عن هذا الخوف الرغبة في القضاء عليه. إن عدم القضاء على الشَّر على الفور، يبقى حجر عثرة لنا ِ فيما يستعجل الخدم بقلع الزؤان، الشَّر، فربُّ البيت، الله، يتيح المجال الفرصة للأشرار لينفتحوا على الخلاص مثل الأبرار.  

 

29 فقال: ((لا، مَخافةَ أَن تَقلَعوا القَمْحَ وأَنتُم تَجمَعونَ الزُّؤان،

 

تشير الآية إلى منع ربُّ البيت قلع الزؤان، لأنَّه يأتي بالشَّر أكثر من الخَير، إذ يصعب في أول الأمر أن يُميَّز الزؤان عن القمح، بصورة يُحتمل أن يقلع القمح معه. وعلى هذا النسق يصبر الله على الأشرار لأجل الأبرار.  ويُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "إن اقتلعنا الزؤان الآن، قد نُلحق الأذى بالحَصاد الآتي، من خلال اقتلاع مَن يمكن أن يتغيّر ويُصبح أفضل" (عظات حول إنجيل القدّيس متّى، عظة رقم 46: 1-2).

 

30 فَدَعوهما يَنبُتانِ معاً إلى يَومِ الحَصاد، حتَّى إِذا أَتى وَقْتُ الحَصاد، أَقولُ لِلحَصَّادين: اِجمَعوا الزُّؤانَ أَوَّلاً واربِطوه حُزَماً لِيُحرَق. وأمَّا القَمْح فَاجمَعوه وَأتوا بِه إلى أَهرائي)).

 

تشير عبارة "فَدَعوهما يَنبُتانِ معاً" إلى الترقب والانتظار بترك ربُّ الحَقْل الزُّؤان ينمو مع الحِنطَة بقصد فَصْل الواحد عن الآخر في وقت الحَصاد وجمع النافع وحرق الضار. ويقصد الرب بالانتظار هو منح الإنسان فرصة للتوبة كما يقول صاحب الحكمة "بِأَعمالِكَ هذه علَّمتَ يا رب شَعبَكَ أَنَّ البارَّ يَجبُ علَيه أَن يكونَ مُحِبًّا لِلنَّاس وجَعَلتَ لأًبنائك رَجاءً حَسَنًا لأنكَ تَمنَحُ التَوبَةَ عنِ الخَطايا" (الحكمة 12: 14). يدعونا يسوع أن ننفتح على الفِئات المُهمَّشة وغير المرغوبة فيها بين الناس ونتعامل معهم بالصَّبر على مثال الله "الرَّبُّ رؤوفٌ رَحيم طَويلُ الأَناة كَثيرُ الرَّحمَة " (مزمور 103: 8). أمَّا عبارة " الحَصاد " فتشير إلى ساعة فصل الحِنطَة عن الزؤان، وهي استعارة كتابية تقليدية ترمز إلى الدَّينونة ونهاية الأزمنة الأخيرة (متى 3: 12)، " كما تنبأ يوئيل النبي "لِتَنهَضِ الأُمَمُ وتَصعَدْ إلى وادي يوشافاط فإنِّي هُناكَ أَجلِس لِأَدينَ جَميعَ الأُمَمَ مِن كُلِّ ناحِيَة أَعمِلوا المِنجلَ فإنَّ الحَصاد قد بَلغَ (يوئيل 4: 12-13). أمَّا عبارة "الحَصَّادين " فتشير إلى الملائكة، لأن هذا عمل الملائكة في الدَّينونة الأخيرة،  كما جاء في إنجيل متى " يُرسِلُ ابنُ الإِنسانِ مَلائكتَه، فَيَجْمَعونَ مُسَبِّبي العَثَراتِ والأَثَمَةَ كافَّةً، فيُخرِجونَهم مِن مَلَكوته" ( متى13: 41) ؛ أمَّا عبارة "اِجمَعوا الزُّؤانَ أَوَّلاً واربِطوه حُزَماً لِيُحرَق" فتشير إلى  جمع بنو الشَّرير من جماعة المسيح، وعندئذٍ يفقدون كل اشتراك مع المسيح في الحياة الأبدية، كما صرّح يسوع " مَن لا يَثْبُتْ فيَّ يُلْقَ كالغُصنِ إلى الخارِجِ فَيَيْبَس فيَجمَعونَ الأَغْصان وَيُلْقونَها في النَّارِ فَتَشتَعِل"(يوحنا 15: 6).  كان يوحناَّ المَعْمدان نفسه قد أعلن قائلاً: "بيَدِه المِذْرى يُنقِّي بَيْدَرَه فيَجمَعُ قَمحَه في الأَهراء، وأَمَّا التِّبنُ فيُحرِقُه بنارٍ لا تُطْفأ" (متى 3: 12). يدعونا النص الإنجيلي أن نتعرف على وجه الله كآب لنسير في رفقته نحو الملكوت عالمين أنَّ الشَّر مهما عَظُم لن يسود في النهاية، بل كلمة الأخيرة النصر للخير.

 

31 وضربَ لَهم مَثَلاً آخَرَ قال: ((مَثَلُ مَلكوتِ السَّمَوات كَمَثَلِ حَبَّةِ خَردَل أَخذَها رَجُلٌ فَزرعَها في حَقلِه.

 

تشير عبارة " وضربَ لَهم مَثَلاً آخَرَ " إلى تقديم المسيح مَثَل ثالث أخذه من فعل الحارث وحياة المُزارع، لأنَّ كل سامعيه كانوا قد اختبروا ذلك. أمَّا عبارة " حَبَّةِ خَردَل " فتشير إلى بزرة واحدة التي تنبت عادة ًعلى ضفاف نهر الأردن بأحجام مختلفة حتى يبلغ ارتفاعها حوالي ثلاثة أمتار، وتُصبح شجرة ضخمة في فلسطين تعشِّش فيها طيورُ السَّماء وتقف على أغصانها لالتقاط الحَب. والخَردَل يُزرع أيضا في الحدائق طلبًا في بذوره التي تستخدم كنوع من أنواع التوابل كالملح والفلفل. ويُعبّر لوقا الإنجيلي بمَثَل حَبَّةِ خَردَل عن انتشار مَلَكوت الله وعن قدرته على التحويل، كما اختبره في العمل الرسولي (لوقا 13: 18-19). أمَّا عبارة " رَجُلٌ " فتشير إلى المسيح؛ أمَّا عبارة "حَقلِه " فتشير إلى العَالَم.

 

32 هيَ أَصغَرُ البُزورِ كُلِّها، فإِذا نَمَت كانَت أَكبَرَ البُقول، بل صارَت شَجَرَةً حتَّى إِنَّ طُيورَ السَّماء تَأتي فتُعَشِّشُ في أَغصانِها)).

 

تشير عبارة " أَصغَرُ البُزورِ كُلِّها " إلى البذور التي يزرعها النَّاس، إذ أنّ هناك تباين عظيم بين حَبَّةِ خَردَل ونبتتها. فصغر حجم حَبَّةِ خَردَل هو تعبير لنتائج العمل الصغير، وأمَّا كِبر النبتة التي تنمو من هذه البذرة فيمثِل انتشار مَلَكوت السَّمَاوات من بداية ضئيلة.  وقد استعمل اليهود هذه البذرة في أمثالهم، كما استعملها يسوع للدلالة على الأشياء الصغيرة.  "إِن كانَ لَكم مِنَ الإِيمانِ قَدْرُ حَبَّةِ خَردَل "(متى 17: 20) وجاءت في هذا المعنى في القرآن الكريم "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" (الأنبياء/47). إن التباين بين صِغر حَبَّةِ خَردَل وهي مدفونة في الأرْض، وكبرها في نهاية نموها تشير إلى قوة مَلَكوت الله التي تعمل في الخَفَاء من خلال أعمال يسوع وتعاليمه. أمَّا عبارة "البُقول" فتشير إلى نباتات أو خضروات. أمَّا عبارة "شَجَرَةً " فتشير إلى شعب الله الجديد، إسرائيل الجديد، كما ورد في نبوءة حزقيال " في جَبَلِ إِسْرائيل العالي أَغرِسُه فيُنشِئُ أَفْنانًا ويثمِرُ ثَمَرًا ويَصيرُ أَرزًا جَليلاً، فيَأوي تَحتَه كُلُّ طائِر، كُلُّ ذي جَناحٍ يَأوي في ظِلِّ أَغْصانِه"(حزقيال 17: 23).  أمَّا عبارة " صارَت شَجَرَةً " فتشير إلى علو حَبَّةِ خَردَل ونموها حتى تستحق أن تُحسب شَجرة. وقد ترمز الشَّجرة إلى إمبراطورية أشور وبابل، كما ورد في نبوءة دانيال "أَوراقُها بَهِيَّة وثَمَرُها كَثير وفيها غِذاءٌ لِكُلِّ أَحَد وتَحتَها تَستَظِلُّ وُحوشُ البَرِّيَّة وإلى أَغْصانِها تَأوي طُيورُ السَّماء ومِنها يَتَغَذَّى كُلُّ بَشَر" (دانيال 4: 9) ، كما ترمز الشجرة إلى الكنيسة التي كانت صغيرة في بدايتها لكنها أصبحت عظيمة وممتدَّة إلى أقاصي الأرْض؛ أمَّا عبارة "طُيورَ السَّماء " فتشير إلى الطُّيور التي تستظل بها حيث أنَّ الطٌّيور تحب حبوب الخَردَل ، وهذه الحبوب ي تستخدم كغذاء للحَمام في فلسطين، وترمز الطُّيور إلى الأمم، وكان هذا رمزًا مألوفًا في كتب الأدب اليهودية في ذلك العصر، فهي تدل هنا على الشُّعوب الوثنية الذين آمنوا ودخلوا تحت ظلال الكنيسة. فالمَثَل يرمز بالتالي إلى انتشار الإنجيل وازدهار الحق ونمو المَلَكوت بالرغم من مضايقات أهل العَالَم، كما تدل أيضا على نمو الكنيسة لتُصبح قوة مسكونية.  يقوم يسوع هنا بالمقارنة بين نبتة الخَردَل ومَلَكوته أي كنيسته في ثلاثة أمور: صغر كل منهما في أول الأمر، ثم نمو كل من البزرة والكنيسة بالتدريج، وثالثا عظمة النتيجة في كليهما. وتدلّ حَبَّةِ خَردَل على أن بداية المَلَكوت الضعيفة (هو كلا شيء) لا تستبعد نموّه المجيد في زمن المجيء الثاني للمسيح. وقد رغبت الجماعات الأولى وانتظرت تجلّي مَلَكوت الله.

 

 33 وأَورَدَ لَهم مَثَلاً آخَرَ قال: ((مثَلُ مَلَكوت السَّموات كَمَثلِ خَميرة أَخَذَتها امرأَةٌ، فجَعَلتها في ثَلاثةِ مَكاييلَ مِنَ الدَّقيق حتَّى اختَمرَت كُلُّها))

 

تشير عبارة "أَورَدَ لَهم مَثَلاً آخَرَ" إلى مَثَل الخَميرة الذي هو المَثَل الرابع الذي يرمز إلى نمو مَلَكوت المسيح من بداية صغيرة في قلب المؤمن وفي الكنيسة نموًا باطنيًا خفيًا، بعكس حَبَّةِ الخَردَل التي تنمو نموا ظاهريًا. أمَّا عبارة " خَميرة " فتشير إلى مادة تُسبب تخميرًا فتجعل الخبز ألذَّ طعمًا وأسهل هضمًا وأوفق صحةً. فالخَميرة في واقعها مأخوذة من الدقيق، لكنها تحمل "قوّة التخمُّر"، وإذا وضُعت في مادة تختلف عنها حوَّلتها كلها حتى صارت مِثلها.  ولها دلائل رمزية في الكتاب المقدس منها، الشَّر حيث إنَّها استعيرت في الإنجيل للرِّياء والخُبث، إذ حذّر يسوع تلاميذه من خَميرَ الفِرِّيسيِّينَ والصَّدُّوقِّيين، كما جاء في إنجيل متى "ففَهِموا عِندَئذٍ أَنَّه لم يأمُرْهم أَن يَحذَروا خَميرَ الخُبز، بل تَعليمَ الفِرِّيسيِّينَ والصَّدُّوقيِّين" (متى 16: 12) حيث أوضح ذلك بولس الرسول في تعليمه " لْنُعيِّدْ إِذًا، ولكِن لا بِالخَميرة القَديمة ولا بِخَميرة الخُبْثِ والفَساد، بل بِفَطيرِ الصَّفاءِ والحَقّ" (1 قورنتس 5: 8). ومُنع الخَميرة من أن تكون في تقدمات خيمة الاجتماع والهيكل (خروج 13: 3)، لكن متى الإنجيلي استخدم الخَميرة لصغر حجمها وكميتها لكن في داخلها مادة فعَّالة تغيِّر كل العجين. فهكذا النعمة في قلب الإنسان تحوّل كل صفاته إلى صفاتها، ومثلها مَلَكوت المسيح الذي إذ وضُع بين ممالك العَالَم يجعلها مثله بواسطة خَميرة الإنجيل. فالملكوت خَفيٌّ، كالخَميرة في الدقيق، لكنه موجود حقًا، ويحمل أمل لأولئك الذين ينتظرونه.  أمَّا عبارة " أَخَذَتها " فتشير إلى أخذها من خارج الخَميرة. وكذلك إنجيل المسيح أتى هذا العَالَم إلى قلب إلى الإنسان من الخارج، أتاه من السَّماء.  أمَّا عبارة " امرأَةٌ " فتشير إلى اختصاص المرأة في العجين ويعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس "تلقّت حوّاء من الشيطان خَميرة الخداع؛ وها هي هذه المرأة تتلقّى من الله خَميرة الإيمان"(العظة 99). أمَّا عبارة " فجَعَلتها " في الأصل اليوناني ἐνέκρυψεν (معناها خبَّأت) إلى خلط الخَميرة في العجين حتى لم تتميز عنه، لكنَّها تعمل بقوة؛ أمَّا عبارة " مَكاييلَ "فتشير إلى وِحدة قياس في فلسطين، ومكيال هو ما يعادل خمسة كيلوغرام. وعليه فإن ثَلاثةِ مَكاييلَ من الدقيق تعادل خمس عشر كيلوغرام أي مقدار من الخبز يكفي لإطعام مئة شخص (التكوين 18: 6)، وهي كمِّية عجين الذي اصطلح عليها في ذلك العصر للدلالة على التضخيم. وهنا تدل على أنَّ الأمور الإلهية تفوق انتظار الإنسان.  لكن رأى البعض في ثَلاثةِ مَكاييلَ رموز أخرى: فالقديس أوغسطينوس قال "أنها تمثل أولاد نوح الثلاثة الذين ينحدر منهم الجنس البشري. وقال غيره أنَّها تمثل أجزاء العَالَم الثلاثة المعروفة في ذلك الزمن. أمَّا القديس ايرونيموس فيرى في ثَلاثةِ مَكاييلَ "رمز الوِحدة بين الروح والنفس والجسد، فالكنيسة إنّما تقدّم السيّد المسيح كسرّ تقديس للإنسان في كليَّته، روحًا ونفسًا وجسدًا".  أمَّا عبارة " حتَّى اختَمرَت كُلُّها " فتشير إلى تأثير الخَميرة على العجين كتأثير الإنجيل على قوى الشَّر في العَالَم، وهو يُقدّس كل قلب يدخله تقديسا كاملا.  ومن هنا نجد أوجه الشَّبه بين الخَميرة والإنجيل، إن كلاهما امر خارج عنه وله تأثير في غيره عند اختلاطه به (العبرانيين 4: 12) وكلاهما إذا جُعل في شيء يؤثر فيه فيصبح مثله تمامًا، كما صرَّح بولس الرسول" ما تَعلَمونَ أَنَّ قَليلاً مِنَ الخَميرِ يُخَمِّرُ العَجينَ كُلَّه؟ (1 قورنتس 5: 6)، وان كلاهما يؤثر باطنا بالهدوء (مرقس 4: 27) ومفعولهما يؤثر تأثير فعَّال في غيره، فالعجين المختمر، يخمِّر غيره والمسيحي بالحق يجعل غيره مسيحيًا.

 

34 هذا كُلُّه قالَه يسوعُ لِلجُموعِ بِالأَمثال، ولَم يقُلْ لَهُم شَيئاً مِن دونِ مَثَل،

 

تشير عبارة " هذا كُلُّه " إلى الأمثال التي خاطب بها يسوع الجُموع وعلمهم بها مقتصرًا على هذا الأسلوب من تعليمه في ذلك الوقت.

 

35 لِيَتِمَّ ما قيلَ على لِسانِ النَّبِيّ: ((أَتَكَلَّمُ بِالأَمثال وأُعلِنُ ما كانَ خَفِيّاً مُنذُ إِنشاءِ العَالَم)).

 

عبارة "أَتَكَلَّمُ بِالأَمثال" في الأصل اليوناني Ἀνοίξω ἐν παραβολαῖς τὸ στόμα μου (معناها أفتح فمي للأمثال) تشير إلى استخدام يسوع فن أسلوب الأمثال حيث يقتضي الوحي بالأسرار الإلهية.  أمَّا عبارة ((أَتَكَلَّمُ بِالأَمثال وأُعلِنُ ما كانَ خَفِيّاً مُنذُ إِنشاءِ العَالَم)) فتشير إلى تعليم يسوع بالأمثال الذي هو إتمام لنبوءة صاحب المزامير "أَفتَحُ فَمي بِالأَمْثال وأَفيضُ بِأَلْغازِ الزَّمَنِ القَديم"(مزمور 78: 2).  وهذا ما يؤكده بولس الرسول بقوله " لِذاكَ القادِرِ على أَن يُثَبِّتَكم بِحَسَبِ البِشارَة الَّتي أُعلِنُها مُنادِيًا بِيَسوعَ المسيح وَفْقًا لِسِرٍّ كُشِفَ وقد ظَلَّ مَكْتومًا مَدى الأَزَل" (رومة 16: 25).

 

36 ثُمَّ تَركَ الجُموعَ ورَجَعَ إلى البَيت. فدَنا مِنه تَلاميذُه وقالوا له: ((فَسِّرْ لَنا مثَلَ زُؤانِ الحَقْل)).

 

 تشير عبارة " الجُموعَ " إلى الجُموع الذين ذُكروا سابقا "فازْدَحَمَت عليهِ جُموعٌ كَثيرة" (متى 13: 2). أمَّا عبارة "البَيت" فتشير إلى بيت سمعان بطرس في كفرناحوم (متى 14: 8)؛ وهي ترمز للكنيسة حيث نجتمع باسم المسيح الذي يعلن أسراره لنا.  أمَّا عبارة "دنا" فتشير إلى تقدم التلاميذ من يسوع ليسألوه. إن تقدّم أحدٌ لله وكان غيورًا، فالله من جانبه يُعطيه كل شيء، أمَّا من لم ينشغل بالاقتراب من الله، ولا يساهم بشيء من جانبه فلن تُمنح له عطايا الله. أمَّا عبارة " تَلاميذُه " فلا تشير إلى الاثني عشر فحسب، أنما أيضا إلى غيرهم المحيطين بهم، كما يوضِّح متى الإنجيلي " فلَمَّا اعتَزَلَ الجَمْع، سأَلَه الَّذينَ حَولَه معَ الاثْنَي عَشَرَ عنِ الأَمثال"(مرقس 4: 10).

 

37 فأَجابَهم: ((الَّذي يَزرَعُ الزَّرْعَ الطَّيِّبَ هو ابنُ الإِنسان،

 

تشير عبارة " فأَجابَهم " إلى شرح يسوع للمرة الثانية مثلا آخر. أمَّا عبارة" يَزرَعُ الزَّرْعَ الطَّيِّبَ" فتشير إلى يسوع المسيح، كما ورد سابقا " كَمَثلِ رَجُلٍ زَرَعَ زَرْعاً طَيِّباً في حَقلِه" (متى 13: 24). أمَّا عبارة " ابنُ الإِنسان" فتشير إلى يسوع المسيح في حال اتِّضاعه في بدء حياته الرسولية، كما ورد في إنجيل متى "وأمَّا ابنُ الإِنسان فَلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه" (متى 8: 20). 

 

38 والحَقْلُ هو العَالَم والزَّرْعُ الطَّيِّبُ بَنُو المَلَكوت، والزُّؤانُ بَنُو الشَّرير،

 

تشير عبارة " الحَقْلُ هو العَالَم " إلى الحَقْل حيث زُرع الزَّرَع الجيد، والعَالَم حيث زُرع الزؤان، فأراد يسوع أن يُبيِّن لتلاميذه اختلاط الأبرار بالأشرار في العَالَم باسره، كما يؤكده إنجيل متى" يُطلِعُ الله شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار"(متى 5: 45)؛ أمَّا عبارة "والزَّرْعُ الطَّيِّبُ" فتشير إلى أبناء المَلَكوت، لانَّ كلمة الله التي زُرعت في قلوبهم جدّدتهم فكانت إثمار أعمالهم الصالحة، كما يصرِّح يعقوب الرسول " شاءَ أَن يَلِدَنا بِكَلِمَةِ الحَقّ لِنَكونَ كمِثْلِ باكورَةٍ لِخَلائِقِه" ( يعقوب 1: 18)  أمَّا عبارة " بَنُو المَلَكوت " فتشير إلى أولئك الذين ينتمون إلى المَلَكوت وأصبحوا ورثة المَلَكوت لا بالميلاد ولا بالإرث بل بالنعمة؛ وهم الذين يعيشون حياة التقوى في القلب (متى 6: 33) ويسيرون على النِّظام الذي أتى المسيح لتشكيله (متى 4: 17)؛  أمَّا عبارة "بَنُو الشَّرير" فتشير إلى أولئك الذين ينتمون إلى الشَّرير، وهم الزؤان الوارد ذكره سابقا (متى 13: 19).وسُمُّوا أولاد الشَّيطان، لأنّهم يُشبهونه في صفاتهم وأعمالهم، وهو يقودهم، وهم خاصته ويعملون أعماله في العَالَم وسيشاركونه في العذاب، كما ورد في الإنجيل "ثُمَّ يقولُ لِلَّذينَ عنِ الشِّمال: ((إِليكُم عَنِّي، أَيُّها المَلاعين، إلى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ المُعدَّةِ لإِبليسَ وملائِكَتِه" ( متى 25: 41)، ويصفهم بولس الرسول بقوله " يتبعون سيرَةَ هذا العَالَم، سيرَةَ سَيِّدِ مَملَكَةِ الجَوّ، ذاك الرُّوحِ الَّذي يَعمَلُ الآنَ في أَبْناءِ المَعصِيَة" (أفسس 2: 2). أمَّا إنجيل يوحنا فيصف بنو الشَّرير بقوله "أنتُم أَولادُ أَبيكُم إِبليس تُريدونَ إتمامَ شَهَواتِ أَبيكم. كانَ مُنذُ البَدءِ قَتَّالاً لِلنَّاس ولَم يَثبُتْ على الحَقّ لأَنَّه ليسَ فيه شَيءٌ مِنَ الحقّ. فَإِذا تكَلَّمَ بِالكَذِب تَكَلَّمَ بِما عِندَه لأَنَّه كذَّابٌ وأَبو الكَذِب" (يوحنا 8: 44).

 

39 والعَدوّ الَّذي زَرَعَه هو إِبليس، والحَصاد هوُ نِهايَةُ العَالَم، والحَصَّادونَ هُمُ المَلائِكة.

 

تشير عبارة "العَدوّ" إلى عَدوّ المسيح، كما ذكر في الآية (متى 13: 25) وعَدوّ الإنسان منذ القِدَم أيضًا (التكوين 3: 15). أمَّا عبارة " إِبليس " فتشير إلى الشَّيطان (معناها خصم) ومعناه أيضا واشٍ أو مشتكٍ (متى 4: 1)، وسُمِّي بالشَّرير (متى 13: 38)، لأنَّه أعظم الأشرار فهو شرٌ في ذاته، وهو عِلة الشَّر في غيره. وهو يعارض المسيح على الدوام بإرسال أنبياء كذبة مقابل أنبياء صادقين، ورسل مخادعين ونصّاَبين مقابل رسل مستقيمين ونزهين. أمَّا عبارة " الحَصادُ " فتشير إلى جمع غلال العَالَم من خير وشر على طوال الأزمنة منذ بدء الخليقة إلى يوم الدَّينونة لتمييز الواحد عن الآخر وفصله عنه إلى الأبد. أمَّا عبارة " نِهايَةُ العَالَم " فتشير إلى انقضاء الدَّهر الحالي المُعَّين للفصل بين الأبرار والأشرار. أمَّا عبارة "الحَصَّادونَ " فتشير إلى الفعلة الذين يستخدمهم الله للجمع أو الفصل.  أمَّا عبارة " المَلائِكة." فتشير إلى أرواح ارفع رتبة من البشر، وهم منزَّهون عن العوارض الجَسدية والنقص البشري، وهم مُطيعون لأوامر الله ومتممون مقاصده.

 

40 فكما أَنَّ الزُّؤانَ يُجمَعُ ويُحرَقُ في النَّار، فكذلك يكونُ عِندَ نِهايَةِ العَالَم:

 

تشير عبارة " يُجمَعُ ويُحرَقُ في النَّار " إلى عقاب الأشرار، إذ يهلكون حال انفصالهم عن الأبرار يوم الدينونة.

 

41 يُرسِلُ ابنُ الإِنسانِ مَلائكتَه، فَيَجْمَعونَ مُسَبِّبي العَثَراتِ والأَثَمَةَ كافَّةً، فيُخرِجونَهم مِن مَلَكوته،

 

تشير عبارة " ابنُ الإِنسانِ " إلى المسيح الذي يحتمل الأشرار بطول الأناة وبصبر لكنه لا يحتملهم إلى الأبد.  أمَّا عبارة " مُسَبِّبي العَثَراتِ " فتشير إلى المُضلِّين الذين يوقعون غيرهم في الإثم.  أمَّا عبارة "مُسَبِّبي العَثَراتِ والأَثَمَةَ كافَّةً" فتشير إلى ما ورد في نبوءة صفنيا النبي " وَيلٌ لِلَمُتَمَرِّدَةِ الدَّنِسَة المَدينَةِ الظَّالِمَة " (صفنيا 1: 3). أمَّا عبارة "الأَثَمَةَ" في الأصل اليوناني ἀνομίαν  (معناها مخالفة القانون أو التمرد) فتشير إلى "الجُبَناءُ وغَيرُ المُؤمِنينَ والأَوغادُ (الأدنياء) والقَتَلَة والزُّناة والسَّحَرَةُ وعَبَدَةُ الأَوثانِ وجَميعُ الكَذَّابين"(رؤية 21: 8).

 

42 ويَقذِفونَ بِهم في أَتُّونِ النَّار، فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان.

 

تشير عبارة " أَتُّونِ " في الأصل اليوناني κάμινος (في العبرية תַּנּוּר معناها فرن ولعلها مستعارة من الكلمة الأكادية "أتونو") إلى فرن لحرق الطوب أو لصهر المعادن، وقد وردت الكلمة في سفر دانيال (3: 6).  وكثيرًا ما تستخدم مرادفًا لجهنم مصير العصاة غير التائبين (متى 13: 5). ومن هذا نرى أن كلمة " أتون " تستعمل في أغلب الحالات مجازيًا للدلالة على دينونة الله. أمَّا عبارة " فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان" فتشير إلى الظلمة الخارجية، كما جاء في إنجيل متى " فقالَ المَلِكُ لِلخَدَم: "شُدُّوا يَديَه ورِجلَيه، وأَلقوهُ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان " (متى 22: 13). هناك بعض الذين يربطون الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة بشكل عام كمكان للانفصال عن الله. وكثيرًا ما تستخدم هذه العبارات للدلالة على الدَّينونة الآتية.   أمَّا عبارة " البُكاءُ" فتشير إلى الحزن أو النَّدم؛ وأمَّا عبارة " صَريفُ الأَسنان " فتشير إلى صرير المرء بأسنانه علامة الخوف والغضب واليأس والندم (متى 8: 12)، وهو رد الفعل للقلق المفرط أو إلى الأمل المضنى. 

 

43 والصِّدِّيقونَ يُشِعُّونَ حِينَئذٍ كالشَّمْسِ في مَلَكوت أَبيهِم. فمَن كانَ له أُذُنان فَلْيَسْمَعْ!

 

تشير عبارة " الصِّدِّيقونَ يُشِعُّونَ " إلى الأبرار الذين يُصَدِّقون قولَهم بالعمل، وتوحي إلى ما ورد في نبوءة دانيال " يُضيءُ العُقَلاءُ كضِياء الجَلَد، والَّذينَ جَعَلوا كَثيراً مِنَ النَّاس أَبْراراً كالكَواكِبِ أَبَدَ الدُّهور" (دانيال 12: 3). يُعلق القديس غريغوريوس أسقف نيصص" إذ يترك الإنسان (مَحبّة) هذا العَالَم المُظلم ويُصبح نَقيًا طاهرًا بعمل الرُّوح وبالتِصاقه بالنقاء الحقيقي... فتشع النفس ضوءً وتصير هي نفسها نورًا كوعد الرَّبّ".  أمَّا عبارة "كالشَّمْسِ" فتشير إلى وَجه أشبه مع البَهاء والطَّهارة والبَهجة وإنارة الغير. وكثيرا ما يُعبَّر عن السَّعادة السَّماوية بالنُّور، ويُعبَّر عن جهنم بالنَّار. ولا يظهر جمال الأبرار، كما هو إلاَّ بعد فصل الأشرار عنهم "لأَنَّكم قد مُتُّم وحَياتُكم مُحتَجِبةٌ معَ المسيحِ في الله" (قولسي 3: 3)، أمَّا عبارة " مَلَكوت أَبيهِم " فتشير إلى اعتراف الله بانَّ الأبرار هم أبناؤه ووريثته في خير الله وبركاته عليهم. أمَّا عبارة "فمَن كانَ له أُذُنان فَلْيَسمَعْ!" فتشير إلى خاتمة تعليم يسوع هنا عن الملكوت، ولكنها أيضا افتتاح ودعوة إلى الأصغاء التَّام لإدراك معنى تعليم يسوع عن الملكوت. وقد تكرَّرت هذه العبارة مرارًا في أسفار العهد الجديد (مرقس 9: 16، ولوقا 14: 35، ورؤيا 2: 7)؛ فعدم معرفة النَّاس طريق الخلاص ليس لعدم توفر آذان للسمع بل لعدم إرادتهم للأصغاء بآذانهم وقلوبهم. لنتعلم الإصغاء لكلمات يسوع كي نخطو بخطوات ثابتة نحو الملكوت. أمَّا عبارة "أُذُنان" فتشير إلى الانتباه لإدراك فحوى تعليم مجازي كما جاء في تعليم موسى النبي لشعبه "ولم يُعطِكمُ الرَّبّ إلى هذا اليَومِ قُلوبًا لِتَعرِفوا وعُيونًا لِتُبصِروا وآذانًا لِتَسمعوا" (تثنية الاشتراع 29: 3). أمَّا عبارة "فَلْيَسمَعْ!" فتشير إلى ضرورة الانتباه المطلوب من المرء كي يفهم معنى التعليم الذي يُقدّم له. ويتوجّه المَثَل إلى كل من يسمع ويستعد ليأخذ الموقف المطلوب. نحن نسمع بآذاننا، ولكن هناك نوعا أعمق من الأصغاء، وذلك عن طريق الذهن والقلب. فمن شأن المَثَل أن يحمل السامعين على التفكير لتحقيق مفعوله فيهم.  فمن يفتح قلبه على الكلمة يسمع ويفهم ويلتزم، ويدخل في هذا السر ويحمل ثمراً. أمَّا الذي ينغلق في أنانية وكبرياء، فهو يسمع ولا يفهم، ينظر ولا يبُصر.  ويُعلق القديس ايرونيموس بقوله " يقول أشعيا" يُنَبِّهُ أُذُني صَباحاً فصَباحاً لِأَسمعَ كتِلْميذ " (أشعيا 50: 4). لتفهم ماذا يقول؟ لقد أعطاني الرَّبّ أذنًا، إذ تكون لي أذن القلب؛ وهبني الأذن التي تسمع رسالة الله فما يسمعه النبي إنّما يسمعه في قلبه".   لذلك فالسيد المسيح يقول " فتَنَبَّهوا كَيفَ تَسمَعون" لوقا 8: 18) أي كونوا ممن يريد أن يسمع ويفهم وينفذ ما تعلمه. وليس المهم السمع فقط بل أن نسمع ونعمل، فيُنتج ثمر الأعمال الصالحة (يعقوب1: 21-25). هل نسمع باهتمام وتأمل لنفهم وننفذ ما سمعناه وفهمناه

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 13: 24-43)

 

  بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 13: 24-43)، نستنتج انه يتمحور حول مَلَكوت الله في ثلاثة أمثال: مَثَل الزؤان ومَثَل حَبَّةِ خَردَل ومَثَل الخَميرة. ويدعونا فيها يسوع إلى انتظار نمو المَلَكوت بصبر وثقة وبالعمل الخفيِّ.

 

1) دعوة إلى الصَّبْر من خلال مَثَل الزؤان

 

يدعونا يسوع في مَثَل الزؤان إلى التحلِّي بالصَّبْر تجاه شرور العَالَم وأعمال إبْليس. إذ يتكلم المَثَل عن مَلَكوت الله الذي يتمَثَل في الأرْض الطيِّبة. ويمتد زمنه من المجيء الأول للمسيح إلى مجيئه الثاني في الدَّينونة، يوم الحَصاد في نهاية العَالَم. في هذه المُدَّة يواصل مَلَكوت الله نمّوه بالرَّغم من وجود القمح (الأبرار) والزؤان (الأشرار) معاً وظهور أعمال العَدوّ (إبليس). والله يصبر حتى النهاية، فيُمهل وجود الأبرار والأشرار معاً، حتى النهاية حين يتمَّ الفرز والفصل بينهما. تتضح سمة ملكوت السَّماوات في النمو معًا. ينمو ملكوت السَّماوات من خلال الصَّبر في حياة أولئك الّذين يتعرفون عليه، ويعرفون كيف ينتظرون، ويتركون الوقت أيّ الوقت المناسب لكل شيء حتى يصل إلى مرحلة النضج.

 

يمكن أن يُصاب البعض بالدهشة أحياناً، ويمكنهم أن يتعثّروا لرؤيتهم الرَّبّ لا يضرب فوراً مُروّجي الشَّر والظلم. ولكنّ الرَّبّ لا يمكنه أن يُنكر ذاته: "إنَّ الرَّبّ طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الرَّحمَة يَحتَمِلُ الإِثْمَ والمَعصية، لَكِنَّه لا يَتغاضى عن شَيء، بل يُعاقب إِثْمَ الآباءِ في البَنينَ إلى الحمل الثَّالثِ والرَّابع" (عدد 14: 18)، إنه تعالى يُعلمنا كيف ننتظر. هو ينظر إلى "حَقْل" كلِّ إنسان بصبر ورحمة.  وعلى الإنسان أن يسير على خطى الرَّبّ، كما يُوصي بولس الرَّسول "فإِنَّ عَبْدَ الرَّبّ يَجِبُ علَيه أَن لا يَكونَ مُشاجِرًا، بل لَطيفًا بِجَميعِ النَّاس، أهْلاً لِلتَّعْليم، صَبورًا" (2 طيموتاوس 2: 24). فالصَّبْر فضيلة تقود إلى الأمل، وفي الأمل ثقة للتغيير الأحسن، بل هناك حكمة قديمة تقول: الصَّبْر يفترس الشيطان. فالنصر عند الله هو لمن يُقاوم بالصَّبْر.

 

يوصينا القديس بولس الرسول أن نصبر على زؤان الآخرين " مِن غَيرِ تَذمُّرٍ ولا تَرَدُّد لِتَكونوا بِلا لَومٍ ولا شائبة وأَبناءَ اللهِ بِلا عَيبٍ في جِيلٍ ضالٍّ فاسِد تُضيئُونَ ضِياءَ النَّيِّراتِ في الكَون" (فيلبي 2: 14-15، ويُعلق القديس ايرونيموس " سمح الله بالزمن لأجل التوبة. إنه يحذّرنا هنا لئلا نقطع أخًا قبل الوقت المناسب، فإن من يكون اليوم مُصابًا بالتعاليم السامة قد يعود غدًا إلى صوابه ويصير مدافعًا عن الحق". فمثلاً لو سمح الله بقلع الزُّؤان لقلعوا شاول الطرسوسى بسبب شره ومهاجمته للكنيسة غير عارفين أنه سيتحوَّل إلى أعظم حنطة وهو بولس الرسول. وقد علّق القدّيس بطرس كريسولوغس "بينما كان حنانيّا يرى شاؤول، كان الرَّبّ يرى بولس؛ وبينما كان حنانيّا يعتبره زؤان، جدير بجهنّم، فقد كان بالنسبة للسيّد المسيح إناء مختار، وكان يضعه منذ الآن في الأهراء السماويّة..." (عظة رقم 97). لا داعي إلى الخوف: إنّ الرَّبّ هو الأقوى.  فعملنا ليس الحكم بل تحويل الزُّؤان إلى حنطة بمعونة الرَّبّ.

 

السؤال المطروح إلى متى نتحمل الزؤان أي الأشرار بيننا؟ 

 

إنَّ الزُّؤان الصغير ونبات القمح متشابهان ولا يمكن التمييز بينهما إلى أن ينضجا وقت الحَصاد. ينمو الزُّؤان (غير المؤمنين) والقمح (المؤمنون) جنبًا إلى جنب في هذا العَالَم، ويسمح الله لغير المؤمنين أن يستمرُّوا بعض الوقت حتى لا يُقتلع القمح مع الزُّؤان.  إن الدِّينونة الأخيرة ليست الآن ولا هنا.  فحياة الأنسان على الأرض هي زمن صبر الرب، لأنَّها تُتيح لكلَّ شخص فرصة الارتداد إلى الخير، والعودة إلى الرَّبّ. وصبر الرَّبّ هو نعمة للجميع.  ويعلق التعليم المسيحي الكاثوليكي "في يوم الدَّينونة، عند انتهاء العَالَم، سيأتي المسيح في المجد ليحقق الانتصار النهائي للخير على الشَّر، اللذين، مَثَل حبة القمح والزؤان، ينموان معَا على مر التاريخ" (بند 681). فالوقت هو سر صبر الله ورحمته.

 

في وقت الحَصاد سيُقلع الزؤان ويُلقى بعيدًا، ويُعلق القديس أوغسطينوس" لماذا لا تحتملون بصبرٍ خُلطة الأشرار بالأبرار؟ إنهم معكم في الحَقْل، لكن الأمر لا يكون هكذا في المخزن!". إنَّ السيد المسيح سيرسل في نهاية الأزمنة ملائكته لفصل بين البشر بعدل تام، كما جاء في إنجيل متى "وإِذا جاءَ ابنُ الإِنسانِ في مَجْدِه، تُواكِبُه جَميعُ الملائِكة، يَجلِسُ على عَرشِ مَجدِه، وتُحشَرُ لَدَيهِ جَميعُ الأُمَم، فيَفصِلُ بَعضَهم عن بَعْضٍ، كما يَفصِلُ الرَّاعي الخِرافَ عنِ الجِداء" (متى 25: 31-32). إنّ الدينونة ليست الآن، وليست هنا، وما التاريخ إلاّ زمن صبر الرَّبّ حيث يُتاح لكلّ شخص فرصة الارتداد إلى الخير، والعودة إلى الآب. 

 

يدعونا يسوع في هذا المَثَل إلى التحلي بالصَّبْر، والصَّبْر الإنجيلي لا يتثمل باللامبالاة أمام الشَّر إنَّما يتمثَّل بترك الحكم لله، لان الانتصار لله في يوم الحَصاد، أي الدينونة في آخر الأزمنة (متى 3/12)، لأنَّها ساعة فصل القمح عن الزؤان (يوئيل 4: 12 – 13). إن الله يكشف أمام أعيننا مظاهر الرحمة اللامتناهية. ويُعلق القديس ايرونيموس " نسألك أن تكون أنت الديّان، لأنك تحنو على جميع الأمم" يعلم الله بان القمح لن يهلك بالرغم من المخاوف التي يمكن أن نتوقعها.  احتكر يسوع لنفسه الحكم في نهاية الأزمنة، ولا يَحقُّ لنا نحن البشر أن نحكم على أحدٍ، فالإدانة ليست من شأن الإنسان، بل لله الديان وما علينا أن نثق بعمل الرَّبّ.

 

يدعونا يسوع أيضا ألاَّ ندين أحداً قائلاً " لا تَدينوا لِئَلاَّ تُدانوا" (متّى 7: 1)؛ نحن، كثيرًا ما نكون نافذي الصَّبْر، مَثَل الخَدم في مَثَل الزُّؤان. ندَّعي أننا قادرون على تمييز ما هو صالح وما هو ضار.  وفي الواقع، فإنّ الإنسان يُحكم عليه في النهاية، ليس على أساس فعل واحد أو مرحلة واحدة من حياته، بل على أساس حياته بجملتها. لا يمكن أن يكون الحكم صحيحاً إلاّ في النهاية.  فالرَّبّ وحده هو ربّ كل إنسان، وهو وحده يعرف ما في قلب كلّ إنسان. لذلك فإنّ الّذي له حق الحكم على النَّاس ودينونتهم هو الرَّبّ وحده. إنّ الرَّبّ وحده قادر أن يُميّز بين الصالح والشَّرير، لأنّ الرَّبّ وحده هو الّذي يعرف الإنسان بجملته، لأنّه وحده عالم الخفايا وكاشف الأسرار كما ورد في الإنجيل "لا يَحتاجُ إلى مَن يَشهَدُ لَه في شَأنِ الإِنْسان، فقَد كانَ يَعلَمُ ما في الإِنسان" (يوحنا 2: 25).

 

الصَّبْر بحاجة إلى مدة معينة، فنحن بحاجة للوقت. ولكن لا يعني ذلك عدم الاكتراث، بل من واجبنا ألاّ نتهاون مع الشَّر الحقيقي أو تبرير موقف الجُمود أو عدم الاكتراث. لكن لا يعنى هذا أن نتهاون مع الذين يُصرُّون على خطاياهم خارج الكنيسة، بل علينا أن نتحلى بالصَّبْر، لان وقت الدَّينونة لا بدَّ منها. كما يكون الفصل في الحَصاد بين القمح والزُّؤان كذلك يكون الفصل بين الأبرار والأخيار.  وهذا الإنذار الصريح كثيرًا ما أعلنه المسيح، كما جاء في مَثَل الزؤان " إِذا أَتى وَقْتُ الحَصاد، أَقولُ لِلحَصَّادين: اِجمَعوا الزُّؤانَ أَوَّلاً واربِطوه حُزَماً لِيُحرَق. وأمَّا القَمْح فَاجمَعوه وَأتوا بِه إلى أَهرائي" (متى 13: 30).

 

يوضّح بولس الرسول موقفنا تجاه الخاطئين داخل الكنيسة بقوله " أَلاَّ تُخالِطوا مَن يُدْعى أَخًا وهو زانٍ أَو جَشِعٌ أَو عابِدُ أَوثان أَو شَتَّامٌ أَو سِكِّيرٌ أَو سَرَّاق. بل لا تُؤاكِلوا مِثْلَ هذا الرَّجُلأَفمِن شَأني أَن أَدينَ الَّذينَ في خارِجِ الكنيسة؟ أمَّا علَيكُم أَنتُم أَن تَدينوا الَّذينَ في داخِلِها؟ أمَّا الَّذينَ في خارِجِها فاللّه هو الَّذي يَدينُهم" (1 قورنتس 5: 9-13). أمَّا موقفنا تجاه الذين يُصرُّون على خطاياهم داخل الكنيسة فيقول بولس الرسول " أَزيلوا الفاسِدَ مِن بَينِكُم" (1 قورنتس 5: 13).  ويؤكد يوحنا الرسول موقف بولس الرسول بقوله "إِذا جاءَكم أَحَدٌ لا يَحمِلُ هذا التَّعليم فلا تَقبَلوه في بُيوتِكم ولا تَقولوا لَه: سَلام" (2يوحنا 1: 10).

 

يعالج المَثَل أيضا مشكلة قيام الشَّر إلى جانب الخير في عالم صالح. والمَثَل يوحي بانَّ الشَّر لم يوجد في العَالَم بإرادة الله، بل بفعل إبليس، عَدوّ الله والبشرية. وحرصا على سلامة الحَقْل وتمهيدًا لنصرة الخَير في آخر الأمر، يسمح الله بوجود الشَّر في العَالَم.  وهو لا يقضي على الشَّر بالعنف أو بالقوة، ذلك لان الشَّر والخير متشابكان في العَالَم، وفي النفس البشرية. وقلع الشَّر بالقوة يكمن في حرمان الإنسان من حريته ومن مسؤوليته وهما شرطان لنمو الخير. 

 

لا يدعو مَثَل الزؤان المسيحيين إلى التساهل مع الشَّر وتحطيم الأشرار، بل يدعوهم أن يكونوا من الأبرار، أبناء المَلَكوت بصبرهم إلى يوم الدينونة على مثال أبيهم السماوي. وقد أوضح القديس أوغسطينوس موقف الكنيسة من الهراطقة "الزُّؤان" قائلًا: "إن كان أحد المسيحيين وهو ثابت في الكنيسة قد أُخذ في خطيّئة من نوع يستحق أن يُحرم من الكنيسة، فلْيتِم هكذا: بجب تجنّب حدوث الانشقاق، بمعالجة الأمر بالحُبِّ حيث تصحّح عِوض أن تُقتلع. فإن لم يأتِ إلى معرفة خطأه ولم ينصلِح بالتوبة يُطرد. ليقطع بإرادته من شركة الكنيسة، لأنَّ قول الرَّبّ "دَعوهما يَنبُتانِ معاً " قد أضيف إليه السَّبب وهو " مَخافةَ أَن تَقلَعوا القَمْحَ وأَنتُم تَجمَعونَ الزُّؤان ".  ويعلمنا هذا المَثَل مزاحمة الباطل للحق في هذا العَالَم ثم انتصار الحق في النهاية. إنّ زمن الصَّبْر هو زمن الخصوبة. يجد الرَّبّ دائماً الوسيلة لترتيب كلّ الأمور، كي ينتصر الخير على الشَّر، ويظفر الحُبّ.

 

قوة المَلَكوت كامنة في ذاته وكلام الله فيه قوة ذاتية دافعة لا يعرقلها شيء، كما يؤكّده بولس الرسول "إِنِّي على يَقينٍ مِن أَنَّ ذاكَ الَّذي بَدَأَ فيكم عَمَلاً صالِحًا سيَسيرُ في إِتمامِه إلى يَوم المسيحِ يسوع"(فيلبي 1: 6).  فالبداية تضمن النهاية، ونقطة الانطلاق تضمن نقطة الوصول. فما علينا إلاَّ أن ننتظر بالصَّبْر والثِّقَة والعمل، فان فاعلية كلمة الله كامنة في يسوع الذي أدان الشَّر فعليّاً وانتصر عليه بالصَّليب، فلا خوف لديه من الشَّر، فهو ليس في عجلة من أمره. ولا يُمكن أن يخاف منه كلُّ من وُلد من جديد من الصَّليب.

 

نستنتج مما سبق أن غاية المَثَل هو التأكيد على وجود فترة انتقالية طويلة تظهر من خلالها أعمال العَدوّ، وانَّ مَلَكوت الله يبلغ غايته بالرغم من تشابك الشَّر والخير تشابكا مُعقَّداً.  فلا بدَّ من الصَّبْر، على مثال الله، والتغاضي عن اختلاط الأبرار والأشرار، لِعلَّ الأشرار يتداركون أمرهم ويطلبون الخلاص، كما جاء في سفر الحكمة "مَنَحتَهم مُهلَةً لِلتوبَة وإِن لم يَخْفَ علَيكَ أَنَّ طَبيعَتَهم شِرِّيرة وأَنَّ خُبثَهم غَريزيٌّ وعَقلِيَّتَهم لا تَتَغير أَبدًا" (الحكمة 12: 10)، لان الله يُحب ُّالحياة على الموت، والخلاص على الهلاك، إنه الخلاص والحياة. 

 

 

2) دعوة إلى الثِّقَة من خلال مَثَل حَبَّةِ خَردَل

 

يدعونا يسوع في مَثَل حَبَّةِ خَردَل إلى التحلي بالثِّقَة، لانَّ "حَبَّةِ خَردَل " كان يُضرب فيها المَثَل للدلالة على التفاوت بين صِغر البداية والعظمة في النهاية. ولا يُذكر النمو إلاَّ في جملة معترضة (متى 13: 32).  ويستوحي يسوع هذه المَثَل من حزقيال النبي " في جَبَلِ إِسْرائيل العالي أَغرِسُه فيُنشِئُ أَفْنانًا ويثمِرُ ثَمَرًا ويَصيرُ أَرزًا جَليلاً، فيَأوي تَحتَه كُلُّ طائِر، كُلُّ ذي جَناحٍ يَأوي في ظِلِّ أَغْصانِه" (حزقيال 13: 23)، كما أنه مُستوحى أيضًا من دانيال النبي الذي يذكر طيور السَّماء " وقَد نَمَتِ الشَّجَرَةُ وقَوِيت وبَلَغَ ارتفاعها إلى السَّماء ومَرْآها إلى أَقْصى الأرْض كُلِّها.  وأَوراقُها بَهِيَّة وثَمَرُها كَثير وفيها غِذاءٌ لِكُلِّ أَحَد وتَحتَها تَستَظِلُّ وُحوشُ البَرِّيَّة وإلى أَغْصانِها تَأوي طُيورُ السَّماء"(دانيال 4: 8-9). وكما أن حَبَّةِ خَردَل تبدأ صغيرة وتنمو وتُصبح شجرة عظيمة كذلك مَلَكوت السَّمَاوات. والواقع إن كنيسة المسيح بدأت بالضَعف، ونمت نموًا كبيرًا لتُصبح قوة مسكونية. فالمَثَل يدعونا أن نرى من خلال حياة يسوع الوديعة المتواضعة مجده بعد القيامة، وبالتَّالي يدعونا إلى الثِّقَة والرجاء.

 

إن حَبَّةِ خَردَل صغيرة جدًا ثم تنمو فتصبح شجرة. كذلك رسالة يسوع تبدأ في الضعف، ثم تنمو نموًا كبيرًا، كما حدث في زمن متى الإنجيلي. أراد متى الإنجيلي أن يُبيِّن من خلال مَثَل حَبَّةِ خَردَل الصُغر في البداية والعظمة في النهاية. يدعونا المَثَل إلى الثِّقَة من خلال التعارض بين صغر الحبّة في البداية وكبرها في النهاية (متى 13: 31-32)، فالمَلَكوت بدأ صغيرًا في يسوع، ولكنَّه نما في زمن مرقس الإنجيلي فصار شجرة كبيرة.  إنَّ سُنّة النُّمو وسُنة الانتظار هما سُنتا الحَياة، أن أصغر الأشياء تُصبح كبيرة في عين من يحسن الانتظار. هكذا يكون كلام يسوع نداء إلى الثِّقَة والرجاء.

 

بدأ المَلَكوت ببزرة وسيبلغ في مل الزمن طور الاكتمال، كما حدث مع حبة صغيرة التي نمت فأصبحت شجرة وافرة الظلال تستظل تحت أفنانها كل شعوب الأرْض. فنحن بحاجة للوقت. يبدا مَلَكوت الله بداية متواضعة مَثَل حَبَّةِ خَردَل أو خَميرة صغيرة وينتهي في نهاية رائعة حيث يصبح قادرًا على رفع العَالَم بالرغم من العقبات.  ويرى آباء الكنيسة في حَبَّةِ خَردَل يسوع وإنجيله. يقول القديس غريغوريوس الكبير:" إنه حَبَّةِ خَردَل، نمت في بستان القبر إلى شجرة عظيمة. لم يكن إلا حَبّة حين مات يسوع وشجرة عندما قام. كان بذرة في تواضع جسده وشجرة في قوّة عظمته...! في هذه الفروع تجد الطيور راحتها، لأن النفوس النَقيَّة، إذ ترتفع بأجنحة نعمته وتجد في كلماته راحتها من الهموم الأرْضيّة والتَّعزية من قلق الحياة الحاضرة"؛ ألم يقلْ يسوع المسيح "إنَّ حَبَّةَ الحِنطَةِ الَّتي تَقَعُ في الأرْض إِن لَم تَمُتْ تَبقَ وَحدَها. وإذا ماتَت، أَخرَجَت ثَمَراً كثيراً" (يوحنا 12: 24).  أن مَلكوت السَّماوات مثل هذه البذرة الصغيرة التي تنتشر بين الأرض والحجارة، يصعب رؤيته، ولكنه يصبح شجرة كبيرة قادرة على استضافة الطيور. وهذا هو السرّ الإلهي إذ ينمو ملكوت السماوات في صغره حيث يتمّ التّعرف عليه، ويُعرف كيف يُحصد ثماره، ويصرح القديس يوحنا الذهبي الفم إن حَبَّةِ خَردَل تمثِّل إنجيله والكرازة به قائلا: "بذرة الإنجيل هي أصغر البذور، لأن التلاميذ كانوا أكثر حياءً من غيرهم، لكنهم يحملون فيهم قوّة عظيمة، فانتشرت كرازتهم في العَالَم كله".

 

تفسير المَثَل بحسب إنجيل لوقا هو أن يسوع أدرك أنَّ مَلَكوت الله خَفيٌّ، فقد أعلن " لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العَالَم" (يوحنا 18: 36). كما أنَّ النَّاس لا يروا نمو شجرة بشكل ظاهر للعيان، كذلك ينمو مَلَكوت السَّمَاوات من غير أن يلاحظه كثيرون.  ولا يكشف لنا هذا النمو إلاَّ الإيمان. ينمو مَلَكوت الله بشكل لا يجد أحد إلى إيقافه سبيلا، لان فيه قوة حياة.  يدعونا يسوع إلى الثِّقَة بمسيرة المَلَكوت. فهو يفعل فعله منذ الآن في قلب البشر، وإن بدا صغيرًا لكن في النهاية يكون نموه عجيبًا (لوقا 13: 13 20-21).

 

إن سير المَثَل بحسب إنجيل مرقس هو انتشار المَلَكوت من بداية طفيفة، ودعوة إلى إنجاح كلمة الله في النهاية (مرقس 4: 30-32). ومَثَل حَبَّةِ خَردَل تشبه مَثَل حبة القمح تبدأ في الخَفية، حيث يزرعها الله في النفس وفي العَالَم، وتنمو ببطء وبشكل خفي لكنها تستمر في النمو. رغم إنَّها خفية وغير منظورة فان الحياة تتقدّم ولن تتوقف.  إن حَبَّةِ خَردَل الصغيرة بالأمس أصبحت شجرة باسقة تمتد فروعها حتى أقاصي العَالَم.

 

 

3) دعوة إلى التغيير من خلال مَثَل الخَميرة

 

يدعونا يسوع في مَثَل الخَميرة إلى التحلي بالعمل الخَفي عن الأنظار للقيام بالتغيير. إذ أَورَدَ يسوع للجُموع مَثَل الخَميرة قال: ((مَثَل مَلَكوت السَّموات كَمَثلِ خَميرة أَخَذَتها امرأَةٌ، فجَعَلتها في ثَلاثةِ مَكاييلَ مِنَ الدَّقيق حتَّى اختَمرَت كُلُّها)" (متى 13: 33). وهذا المثل يتكلم عن حقيقة مختفيّة عن الأنظار، وهي اختلاط الخميرة في العجين. تتفاعل الخَميرة بطريقة كيميائية مع العجين فيجعله يختمر، ولا يحدث هذا إلاَّ إذا اختبأت الخَميرة داخل العجين. إن الخميرة تضيع في العجين وتختفي من عين المرأة التي وضعها في العجين. إن ملكوت السَّماوات مثل الخميرة التي تنتشر في العجين يصعب رؤيتها، ولكنها تخمِّر كل الدَّقيق. هذه الخميرة التي تمَّ وضعها في الدَّقيق لا يمكن رؤيتها، لكنها موجودة وستجلب حياة غير متوقعة. وهذا هو السرّ الإلهي، إذ ينمو ملكوت السماوات في عمله الخَفي عن الأنظار، وهي اختلاط الخميرة في العجين ومَن يقدر على إدراك القليل غير المرئي للعيون، أيّ الأساسي القادر على إحداث التغيير في العجين؟

 

استخدم متى الإنجيلي الخَميرة ليُبيِّن من خلاله نمو مَلَكوت الله.  فأشار يسوع إلى أن ما على المرأة أن تفعله إلاَّ أن تأخذ الخَميرة وتضعها في العجين. وهذا عينه ما يريده الله أن نفعله. ويعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس: "تلقّت حوّاء من الشيطان خَميرة الخداع؛ وها هي هذه المرأة تتلقّى من الله خَميرة الإيمان، أفسَدَت حوّاء في شخص آدم، كلّ عجين الجنس البشريّ؛ وامرأة أخرى تُجدّد في شخص الرَّبّ يسوع المسيح، من خلال خَميرة القيامة، كلّ العجين البشريّ. وتخبز الثانية خبز الحياة والخلاص" (العظة 99).  فالخَميرة هي رمز إيجابي لطاقة النمو والتغيير باختفاء الخَميرة وتحوّل العجين.  بالرغم من أنَّ الخَميرة تبدو عاملاً صغيرًا، لكنَّها تُخمِّر العجين كله، كما يقول بولس الرسول " قَليلٌ مِنَ الخَمير ِيُخَمِّرُ العَجينَ كُلَّه (غلاطية 5: 9).

 

مع أنَّ بداية المَلَكوت تبدو صغيرة، لكنها سرعان ما ينمو ويصبح له تأثير في كل العجين. إن قوة مَلَكوت الله تعمل في الخَفاء عبر أعمال يسوع وتعليمه، بانتظار أن تعمل في تلاميذه الضعفاء والمضطهدين. وهذا المَلَكوت يمتد إلى جميع الأمم (حزقيال 17: 23). ويصرح كتاب التعليم المسيحي الكاثوليكي في هذا الصدد بقوله "الكنيسة في رسالتها تسير مع البَشرية كلها، وتنال قسطها من مصير العَالَم الأرْضي؛ وهي بمثابة خَميرة، وكرُوح للمجتمع البشري الذي يجب أن يتجدَّد في المسيح ويتحوّل إلى أسرة الله " (357)، وهكذا فالعمل الرسولي يقتضي التحلي بالعمل الخَفي للتغيير.

 

يشير مَثَل الخَميرة إلى التفاوت بين صغر الخَميرة وضخامة العجين، لكنه يُضيف أيضًا فكرة اختفاء الخَميرة وتحوّل العجين، ويُشدِّد على تحوّل الدقيق كله بفعل هذا الخمير القليل. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم صورة فعّالة لمَلَكوت السَّمَاوات، حيث انه لا يُمكن للدقيق أن يختمر ما لم تُدفن فيه الخَميرة أو تحبس في داخله. فالعمل الخَفيّ في التغيير له أهميته في الكنيسة، فلا نتوقف فقط عند المظاهر، والشكليات والمراسيم، بل خاصة عند الجوهر، أي الإيمان بكلمة الله وَفقًا بقول بولس الرسول: "لا نَهدِفُ إلى ما يُرى، بل إلى ما لا يُرى. فالَّذي يُرى إِنَّما هو إلى حِين، وأمَّا ما لا يُرى فهو لِلأَبَد. (2 قورنتس 4: 18)، وهكذا يفعل الإنجيل العجائب في القلوب.  فالمَثَل لا يدعونا فقط إلى عدم الخوف لقلة عددْنا، وإنَّما أيضًا إلى التغيير من خلال العمل الخفي.

 

هل نحن مندمجون في العَالَم ونتقبلهم حتى نسهم في تغييرهم من الداخل؟  من يقبل إن يصير خَميرة ويرضى أن يمتزج بالعجين البشري سوف يتحوّل إلى قوة حياة التي تنتقل إلى كل البيئة تمتزج بها. فنحن خَميرة العَالَم، ورسالة المسيحي هي الخَميرة التي تُخمِّر العجين كله. ألم يقل الرسول بولس: " أَمَا تَعلَمونَ أَنَّ قَليلاً مِنَ الخَميرِ يُخَمِّرُ العَجينَ كُلَّه؟  طَهِّروا أَنفُسَكُم مِنَ الخَميرة القَديمة لِتَكونوا عَجينًا جَديدًا لأَنَّكُم فَطير"(1 قورنتس 5: 6-7). ولذلك قد تكون أفضل خَميرة هي تلاميذ ورسل المسيح، لانَّ المسيح أعدَّهم لنشر الإيمان في العَالَم كله.  تدعونا الكنيسة "أن نعجن بالصلاة عجينة الأحوال اليومية الوضيعة. ويمكن أن تكون جميع صيغ الصلاة تلك الخَميرة التي يشبِّه بها الرَّبّ المَلَكوت" (التعليم المسيحي الكاثوليكي 2660)، "وان نرفع الأرْض بروح المسيح كما تفعل الخَميرة في العجين" (2832).

 

 

الخلاصة

 

يصف إنجيل متى ثلاث أمثال عن الملكوت السّماوي في الفصل الثالث: مثل الزؤان (متى 13: 24-30)، ومثل حَبَّة الخردل (متى 13: 32) ومثل الخميرة (متى 13: 33).  لن نتمكن أبدًا من تحديد مكان الـملكوت ولا يمكننا تحديد مكانه، لأنه موجود في كل زمان وفي كل مكان وبداخلنا كما يصف السيد المسيح من خلال الأمثال الثلاثة.

 

يصف مَثَل الزؤان كيف يتم زرع بعض القمح الطيب في حَقْل ما، غير أن عَدوّه يأتي سرّا ويزرع يعض الزؤان. وعندما ينبت كلاهما، يعبّر مزارعو الحَقْل عن رغبتهم في اقتلاع الزؤان، ولكن صاحب الحَقْل يدعوهم، عوضاً عن ذلك، إلى التحلي بالصَّبْر. يحتاج القمح إلى الوقت كي يتم التعرف عليه كقمح، وكي لا يتم الخلط بينه وبين الزؤان.  ومن هنا نسأل: من أين جاء الشَّر؟ لماذا يصبر على وجود الشَّر في عالمه؟ فَلِمَ الله طويل الأناة وصبور؟

 

يصف مَثَل حَبَّةِ خَردَل ومَثَل الخَميرة نتيجة مزدوجة لوجود مَلَكوت الله في العَالَم: مَثَل حَبَّةِ خَردَل يشير للنمو الظاهر من الخارج، أما مَثَل الخَميرة فيشير للنمو الداخلي. وكلاهما يشيران لعمل نعمة الله في النمو، النتيجة الأولى ترمز إلى كنيسة كبرى بدأت من بداية صغرى، والنتيجة الثانية تأثير التغيير من خلال العمل الخَفي. إن كان مَثَل الحَبَّةِ خَردَل يمَثَل امتداد المَلَكوت، فان مَثَل الخَميرة يمثل طريقة الإنماء والامتداد.  فإن إدخال قطعة من الخَميرة في العجين تجعله خفيفَا ذا مسام وتنتشر الخَميرة في العجين كله.

 

وكما أنَّ حَبَّةِ خَردَل تنمو إلى شجرة كبيرة والخَميرة تخمّر العجين كله كذلك مَلَكوت الله ينمو ويكبر حتى يتغير العَالَم كله في النهاية. المَلَكوت خفيّ، كالخَميرة في الطحين، وهو صغير كحَبَّةِ خَردَل؛ ولكنّه موجود حقّاً. يُخمّر كلّ العجين، ويمكنه أن يُصبح رافعة أمل لأولئك الّذين ينتظرونه. 

 

 

دعاء

 

"أيها الآب السماوي، نريد أن نكون أبناء مَلَكوتك، فأعطنا قوّة صبر انتظار عودتك المجيدة والثِّقَة لتثمر كلمتك فنظل ساهرين في عمل الخير فينا، كي ينتعش فينا رجاء رؤية نموّ البشريّة الجديدة، الّتي سوف يجعلها الرَّبّ، لدى عودته، فنكون أهلاً لدخول مَلَكوت الرَّبّ. آمين

 

 

قصة: الزؤان في البستان

 

ذهبت إلى حديقة أحد البيوت ورأيت في حديقته زهورًا لونها أصفر جميل،

فقلت له ما أجمل هذه الزهور،

فضحك وقال إنَّما هي (ويدز) وتعجبت من الكلمة التي لم أفهم معناها،

فقال هذه نباتات نسميها هكذا وهي نباتات تمتص كل غذاء التربة فتقتل كل نباتات الحديقة إن تركناها،

فقلت وما العمل؟

فقال عندنا أدوات خاصة لنقلعها من جذورها.

فقلت ومن زرعها، فقال نسميها نباتات شيطانية، والعين الخبيرة فقط هي التي تميِّزها عن النباتات العادية

وهكذا فالشيطان يعمل في أتباعه ويبدو أن لهم منظرا جميلا يجذب الآخرين، ولكن من يسقط في شباكهم يهلك.