موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (لوقا 18: 9-14)
9 وضرَبَ أَيضاً هذا المَثَلَ لِقَومٍ كانوا مُتَيَقِّنينَ أّنَّهم أَبرار، ويَحتَقِرونَ سائرَ النَّاس: 10 ((صَعِدَ رَجُلانِ إلى الهَيكَلِ لِيُصَلِّيا، أَحَدُهما فِرِّيسيّ والآخَرُ جابٍ. 11 فانتَصَبَ الفِرِّيسي قائِماً يُصَلَّي فيَقولُ في نَفْسِه: ((الَّلهُمَّ، شُكراً لَكَ لِأَنِّي لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ السَّرَّاقينَ الظَّالمِينَ الفاسقِين، ولا مِثْلَ هذا الجابي. 12 إِنَّي أَصومُ مَرَّتَيْنِ في الأُسبوع، وأُؤَدِّي عُشْرَ كُلِّ ما أَقتَني)). 13 أمَّا الجابي فوَقَفَ بَعيداً لا يُريدُ ولا أَن يَرَفعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء، بل كانَ يَقرَعُ صَدرَه ويقول: ((الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ!)) 14 أَقولُ لَكم إِنَّ هذا نَزَلَ إلى بَيتِه مَبروراً وأمَّا ذاكَ فلا. فكُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِع)).
مُقَدِّمَة
يَتَناوَلُ إنجيلُ الأَحَدِ الثَّلاثينَ مِنَ السَّنَةِ مَثَلَ الفِرِّيسِيِّ والعَشَّارِ (لوقا 18: 9–14). ومن خِلالِ هذا المَثَلِ، يَدعونا الرَّبُّ يسوعُ إلى التَّحَرُّرِ مِنَ القَناعاتِ والاعتِقاداتِ الخاطِئَةِ مِن ناحيَةٍ، وإلى اتِّخاذِ مَوقِفِ التَّواضُعِ في الصَّلاةِ مِن ناحيَةٍ أُخرى. فَالصَّلاةُ المُتَواضِعَةُ هي الشَّرطُ الأَساسِيُّ لِقَبولِها مِن قِبَلِ اللهِ، وهي الَّتي تُحوِّلُ الخاطِئَ إنسانًا صالِحًا وبَارًّا. يُظهِرُ لنا يسوعُ أَنَّ البِرَّ لا يَكمُنُ في حِفظِ الشَّريعَةِ فَحسْب، بَل هو نِتيجَةُ مَغفِرَةٍ مَجَّانِيَّةٍ يُنعِمُ بِها اللهُ على الإنسانِ المُتَواضِعِ أمامَ رَحمَتِه. فَكُلُّنا خُطاةٌ أمامَ اللهِ وبِحاجَةٍ إلى نِعمَتِه وغُفرانِه، كما جاء في الكِتابِ المُقدَّس: "أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلا وَاحِدٌ" (رومة 3: 10).
إنَّ التَّواضُعَ مَوضوعٌ جَوهَريٌّ في حياةِ الإيمانِ، سَواءٌ أمامَ اللهِ أم أمامَ البَشَر، لأَنَّه يُحرِّرُ الإنسانَ مِن فَخِّ "الأنا" المُتَعَجْرِفَةِ الَّتي تُحَرِّفُ عَلاقَتَهُ باللهِ وبِقَريبِهِ. ومِن هُنا تَكمُنُ أَهَمِّيَّةُ هذا النَّصِّ الإِنجِيلِيِّ الَّذي يَدعونا إلى الوُقوفِ أمامَ الرَّبِّ بِقَلبٍ نَقِيٍّ ومُتَواضِعٍ، حتّى نَنالَ بِرَّهُ ورَحمَتَه.
أَوَّلًا: وَقائِعُ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ وتَحْليلُه (لوقا 18: 9–14)
9 "وَضَرَبَ أَيْضًا هٰذَا الْمَثَلَ لِقَوْمٍ كَانُوا مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ سَائِرَ النَّاسِ".
تشيرُ عِبارةُ "المَثَلَ" على صورةٍ رمزيَّةٍ أو حكايةٍ تَهدِفُ إلى تَجلِيَةِ موقفٍ إنسانيٍّ يُرادُ الاقتداءُ به أو تَجنُّبُه، ليأخُذَ المرءُ منه دَرسًا وعِبرةً. والأمثالُ في إنجيلِ لوقا تُعبِّرُ عن تَوجُّهٍ تربويٍّ ولاهوتيٍّ عميقٍ، إذ تُظهرُ فِكرَ يسوعَ في ضوءِ الحَياةِ اليوميَّةِ.
أمَّا عِبارةُ "لِقَومٍ كانوا مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ" فتُشيرُ إلى نَقدٍ واضحٍ لِلفِرِّيسِيِّينَ الَّذينَ اعْتَبَروا أَنفُسَهُم أَبرارًا (راجع لوقا 5: 32)، مُعتَمِدِينَ على أَعمالِهِم الظّاهِرَةِ لا على رَحمةِ اللهِ (راجع لوقا 16: 15) ولا على بِرِّ المَسيحِ. وهذا ما يُؤدِّي إلى ما يُسمَّى "الكِبْرِياءَ الدِّينِيَّةَ"، أيِ الاتِّكالَ على الذَّاتِ بدَلَ النِّعمةِ. والحَقُّ أَنَّ اكتفاءَ الإنسانِ بنفسِه وبأعمالِه يُحرِمُه مِن نِعمةِ اللهِ، لأنَّ البِرَّ الحقيقيَّ هو عَطِيَّةٌ إلهيَّةٌ لا استِحقاقٌ بشريٌّ. الـبِرُّ، في مَعناهُ الأَصيل، هُوَ العَلاقَةُ المُستَقيمَةُ الَّتي يُدْعَى الإِنسانُ لِيَعيشَها مَعَ اللهِ وَمَعَ إِخوَتِهِ البَشَر. فَاللهُ لا يَطلُبُ مِنّا تَبريرًا، بَل هُوَ الَّذي يُبَرِّرُنا. لا يَنتَظِرُ مِنَ الإِنسانِ أَنْ يُدافِعَ عَن نَفسِهِ، بَل أَنْ يَعترِفَ بِحاجَتِهِ إِلى الرَّحمَةِ. فَالتَّبريرُ عِندَ اللهِ لَيسَ جَزاءً لِلعَمَلِ، بَل هِبَةُ مَحبَّةٍ تُعطى لِلقَلبِ المُتَواضِعِ الَّذي يَثِقُ بِخَلاصِهِ. إِنَّهُ الرَّبُّ الَّذي "يُبَرِّرُ الخاطِئَ وَيُقِيمُ المُتَواضِعَ مِنَ التُّرابِ" (راجع رومة 4: 5؛ مزمور 113: 7).
كذلك، تُشيرُ عِبارةُ "يَحْتَقِرُونَ سَائِرَ النَّاسِ" إلى تَصوُّرٍ مُتَعالٍ يَجعَلُ صاحِبَهُ يَنظُرُ إلى الآخَرينَ كَأنَّهُم أَدنَى مِنهُ في القُداسَةِ أو البِرِّ. فَالكِبرياءُ تَقودُ دائمًا إلى الاحتِقارِ، إذ تُغلِقُ القَلبَ أمامَ مَحَبَّةِ اللهِ والقَريبِ. هٰكذا يَتحوَّلُ البِرُّ الذّاتِيُّ إلى حِجابٍ يَحُولُ دونَ رُؤيةِ الحَقيقَةِ الإلهيَّةِ في الإنسانِ الآخَر.
10 صَعِدَ رَجُلانِ إلى الهَيكَلِ لِيُصَلِّيا، أَحَدُهما فِرِّيسيّ والآخَرُ جابٍ.
تشيرُ عِبارةُ "صَعِدَ رَجُلانِ إِلى الهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا" إلى العادَةِ المألوفةِ عندَ الَّذينَ يَسكُنُونَ قُربَ أُورَشَليم، إذ كانوا يَصعَدُونَ إلى الهيكلِ للعبادةِ إمّا في الصَّباحِ أو في المَساءِ ساعةَ تقدمةِ الذبيحة، غيرَ أنّ هذا لا يَمنعُهم من أداءِ الصَّلاةِ في أيِّ وقتٍ من النَّهار، لأنَّ الهيكلَ كان مَركَزَ العبادةِ العامّ كما جاء في سفرِ إشعيا: "بَيْتِي بَيْتُ الصَّلاةِ يُدْعَى لِجَمِيعِ الشُّعُوبِ" (إشعيا 56: 7). وكانت الصَّلاةُ تُرفَعُ في الهيكلِ ثلاثَ مرّاتٍ يوميًّا: في السَّاعةِ التَّاسِعَةِ صباحًا (أعمال الرسل 2: 15)، وعندَ الظُّهرِ (السَّاعة الثَّانيةَ عشرة)، وفي السَّاعةِ التَّاسِعَةِ من النَّهار (أي الثالثة بعد الظهر) كما في (أعمال الرسل 3: 1).
أمَّا عِبارةُ "الهَيْكَلِ" ففي الأصلِ اليونانيِّ ἱερόν (هيرون)، وهي مأخوذةٌ من أصلٍ سُومَريٍّ يُفيدُ معنى "البَيْتِ الكَبيرِ". وفي العِبريةِ تُقابِلها كلمة הַמִּקְדָּשׁ (هَمِّقداش) أي "المكان المُقدَّس". والمقصودُ بها بيتُ الله، المَوضِعُ الَّذي يَسكُنُ فيه مَجدُهُ بينَ شعبِه، كما أنَّه بيتُ المؤمنين الَّذينَ يلتقونَ فيه بالرَّبِّ. لم يكنِ اليهودُ يُطلِقونَ لفظةَ الهيكل (הֵיכְלָא – هيخلا) إلّا على الهيكلِ الكبيرِ في أُورَشَليم، أمَّا سائرُ أماكنِ العبادةِ فكانوا يُسمُّونَها مجامِع (בֵּית הַכְּנֶסֶת – بيت هكنِسِت). وقد بَنَى سليمانُ الهيكلَ الأوّل (1 ملوك 6)، ثمَّ أُعيدَ بناؤُه في عهدِ زَرُبّابِل، وجُدِّدَ في عهدِ هِيرودُس الكبير. وتَرِدُ لفظةُ الهيكلِ في الكتابِ المُقدَّس غالبًا في معنى هيكلِ الرَّبِّ في أُورَشَليم، غيرَ أنَّها استُخدِمَت أحيانًا في مَعناها المَقدَسِ العامّ (راجع يوئيل 3: 5؛ عزرا 5: 14؛ أعمال الرسل 19: 27)، بل واستُعملَت أيضًا للإشارةِ إلى خيمةِ الشهادة (1 صموئيل 1: 9؛ 3: 3؛ 2 صموئيل 22: 7). ويُعلِّقُ الراهبُ الدومينيكيّ جان تولير قائلًا: "إنَّ الهيكلَ هو داخلُ النَّفسِ الحميم، حيث يُقيمُ الثالوثُ الأقدسُ بكُلِّ محبّةٍ، ويعملُ بجلالٍ في المَوضِعِ الَّذي أودَعَ فيه كُنوزَه بسخاءٍ، فيَسُرّ ويَفرحُ بتجلِّي صُورَتِه ومِثالِه في الإنسان" (العِظَة 48 للأحد الحادي عشر بعد أحد الثالوث الأقدس).
أمَّا عِبارةُ "فِرِّيسِيّ" ففي الأصلِ اليونانيِّ Φαρισαῖος (فاريسايوس)، وهي مُترجَمةٌ من العِبرية פָּרוּשׁ (باروش) أي "المُعتزل" أو "المنفصل). وتشيرُ إلى عضوٍ في جماعةٍ دينيّةٍ تَدعُو أتباعَها إلى التمسُّكِ الدقيقِ بالشريعةِ الموسويّةِ وبفرائضِ "سُنَّةِ الأقدمين". وكانوا يعتبرونَ أنفسَهم الأطهارَ والمُبرَّرينَ، فيَعتزلونَ مَن يَعدّونَهم خطأةً. غير أنَّ اهتمامَهم غالبًا ما انصبَّ على التفاصيلِ الشكليّةِ الصغيرة، فيما أهملوا جوهرَ الشريعةِ وواجباتِ الحياةِ الكبرى. ولأنَّهم لم يَعملوا بما يُعلِّمون، صاروا مَعرُوفينَ بـــالرياءِ الدينيّ، إذ كان تديُّنُهم مَبنيًّا على الظَّاهرِ دونَ الجوهر. ودافعُ عبادتِهم لم يكنَ المَحبّةَ بل الكِبرياءَ والاعتزازَ بالنَّفس، كما قالَ يسوع:"أَنْتُمْ تَبْدُونَ فِي ظَاهِرِكُمْ لِلنَّاسِ أَبْرَارًا، وَأَمَّا بَاطِنُكُمْ فَمُمْتَلِئٌ رِيَاءً وَإِثْمًا"(متى 23: 28).
أمَّا عِبارةُ "عَشَّارٌ" ففي الأصلِ اليونانيِّ τελώνης (تِلونِس)، وهي مُترجَمةٌ من العِبرية מוֹכֵס (موخِس)، أي "جابي الضَّرائب". وكان العَشَّارُ يَجبي الضَّريبةَ من أبناءِ وطنِه لحسابِ السلطةِ الرومانيّةِ، ويَحتفِظُ بالباقي لنفسِه، وغالبًا ما كان يُبالغُ في الجبايةِ ليُثرِي على حسابِ الشعب الفقراء. ولذلك كان العَشَّارونَ مَنبُوذينَ اجتماعيًّا ودينيًّا، ومحرومينَ من المشاركةِ في العبادةِ. وكانوا يُذكَرونَ مع الزُّناةِ والخطأة، كما في قولِ يسوع:"العَشَّارُونَ وَالزَّوَانِي يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ" (متى 21: 32). وهكذا صارت كلمةُ "عَشَّار" في الوجدانِ اليهوديّ مُرادِفَةً لكلمةِ "خاطئ" أو "فاسدٍ وخائنٍ". ومع ذلك، فإنَّ صُعودَ هذا العَشَّارِ إلى الهيكلِ وانسحاقَهُ أمامَ اللهِ يُظهِرُ بادرةَ تَوبَةٍ صادِقةٍ وبدايةَ طَريقِ البِرِّ الحقيقيّ.
11 فانتَصَبَ الفِرِّيسي قائِماً يُصَلَّي فيَقولُ في نَفْسِه: الَّلهُمَّ، شُكراً لَكَ لِأَنِّي لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ السَّرَّاقينَ الظَّالمِينَ الفاسقِين، ولا مِثْلَ هذا الجابي.
تشيرُ عِبارةُ "فَانْتَصَبَ الفِرِّيسِيُّ قَائِمًا" إلى الوَضعِ الاعتياديِّ لِليهوديِّ أثناءَ الصَّلاةِ، كما جاء في قولِ يسوع: "فِي الْمَجَامِعِ وَعَلَى زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يُظْهَرُوا لِلنَّاسِ" (متى 6: 5). لكنَّه كانَ أحيانًا يَجثُو أو يَركَعُ عندَ ما يُريدُ إظهارَ التَّواضُعِ أو الإِلحاحِ في الطَّلبِ (أعمال الرسل 9: 40). غير أنَّ الكَلِمَةَ اليونانيَّة σταθεὶς (ستاثِيس)، أي الواقف، تُفيدُ في هذا السِّياقِ أنَّ الفِرِّيسِيَّ أخَذَ مَكانًا بارزًا أمامَ الجميع، وكأنَّهُ نَصَبَ نَفسَهُ مَركَزًا لِلنَّظَرِ، في إشارةٍ إلى الزُّهو والاعتدادِ بالذَّاتِ والعُجرفةِ الفِرِّيسيَّةِ الَّتي سَمَّمَت جميعَ ميزاتِه. لقد تَقَدَّمَ إلى اللهِ لا بشُعورِ المُحتاجِ إلى الرَّحمة، بَل بشُعورِ المُستَحقِّ الَّذي يَطلُبُ الإِكرامَ.
أمَّا عِبارةُ "فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ" فَتُشيرُ إلى أنَّ جميعَ أفكارِه دَارَت حَولَ ذاتهِ، فَلَم تَخرُج عن نَفسِه ولا تَتَوجَّه إلى اللهِ. كانت صَلاتُه مُنغَلِقَةً على "الأنا"؛ يُعِدُّ فيها فَضائلَه ويُعجَبُ بِنَفسِه.
أمَّا عِبارةُ "شُكْرًا لَكَ"، فَلَوْ أَنَّهُ نَطَقَ بها بتَواضُعٍ لكانت بَدْءَةً مُبارَكَةً للصَّلاةِ، إذ إنَّ الشُّكرَ هو أسمى تَعبيرٍ عن الإِيمانِ. غير أنَّهُ جَعَلَ من الشُّكرِ وسيلةً لِلافْتِخارِ، فَحوَّلَ مَوضوعَ الصَّلاةِ من مَجدِ اللهِ إلى مَجدِ ذاتهِ. فهُو لا يَشكُرُ اللهَ على رَحمَتِهِ وعَظمَتِهِ، بَل يَشكُرُه لأنَّهُ يَعتَقِدُ أنَّه مُختَلِفٌ عن الآخَرينَ، مُعَظِّمًا نَفسَهُ ومُبَجِّلًاها. هٰكذا صَارت صَلاتُه شُكرًا زائفًا، مَبنيًّا على الأنا المُتَكَبِّرَةِ، لا على المَحبَّةِ المتواضِعةِ. إنَّه الخَطَرُ الَّذي يُدمِّرُ التَّواضُعَ الحقيقيَّ ويُبدِّدُ نُورَ الصَّلاةِ الصَّادِقةِ.
أمَّا عِبارةُ "أَنِّي"، فَتُشيرُ إلى الضَّميرِ الشَّخصيِّ الَّذي تَكرَّرَ خَمسَ مَرَّاتٍ في كَلامِهِ: "أَنَا"، "إِنِّي"، "لَستُ"، "َصُومُ"، "أُعَشِّرُ". فكانت صَلاتُه مِن نَفسِه، وعن نَفسِه، وإلى نَفسِه. كُلُّها دَورانٌ حولَ الأنا، بَعيدةٌ عن اللهِ والقَريبِ. إنَّها صلاةُ الإِعجابِ بالذَّاتِ الَّتي لا تَعرِفُ التَّوبةَ ولا النِّدامةَ.
وتُشيرُ عِبارةُ "شُكْرًا لَكَ لأَنِّي لَستُ كَسَائِرِ النَّاسِ" إلى تَقسيمٍ ثُنائِيٍّ مُغرُورٍ للعالَم: فَفي القِسمِ الأوَّل يَضَعُ الفِرِّيسِيُّ نَفسَه، مُعتَقِدًا أنَّهُ وحدَهُ الصَّالِحُ. وفي القِسمِ الآخَر يَضَعُ جميعَ النَّاسِ، ولا يَرى فيهم سِوى الشَّرِّ. لقد نَسِيَ أنَّهُ هو أيضًا إنسانٌ خاطِئٌ وضعيفٌ، كما قالَ النَّبِيُّ إِشعيا: "كُلُّنَا ضَلَلْنَا كَالْغَنَمِ، كُلُّ وَاحِدٍ مَالَ إِلَى طَرِيقِهِ" (إشعيا 53: 6). وهكذا خَدَعَ نَفسَه، كما يُحَذِّرُ الرَّسولُ يوحنا: "إِذَا قُلْنَا إِنَّنَا بِلا خَطِيئَةٍ، أَضْلَلْنَا أَنْفُسَنَا وَلَمْ يَكُنِ الحَقُّ فِينَا"(1 يوحنا 1: 8). ويُعلِّقُ القدِّيسُ يوحنا الذَّهبيُّ الفَم قائلاً:"ما أَشقاكَ، أَيُّها الَّذي تَجْرُؤُ على إِصدارِ الأَحكامِ على الأَرضِ بأَسرِها! لِمَ تُهِينُ قَريبَكَ؟ ما حاجتُكَ إلى أَن تَدينَ هذا العَشَّار؟ أَلَم يَكفِكَ ما فَعَلتَهُ بالأَرضِ؟ لقد أَصدَرتَ أَحكامًا على جميعِ البَشرِ دونَ استِثناء!"(عظات حول التوبة، العظة رقم 2).
أمَّا عِبارةُ "السَّرَّاقِينَ، الظَّالِمِينَ، الفَاسِقِينَ" فَتُشيرُ إلى تَصنيفٍ أَخلاقيٍّ جامِدٍ لِلنَّاسِ بحسبِ آثامِهم. لقد رَأى الفِرِّيسِيُّ خَطايا الآخَرينَ، لكنَّه لَم يُبصِر خطاياه هو. كَان بَصيرًا بِعيوبِ الآخَرينَ، أعمى عن ذاتهِ.
وأخيرًا، عِبارةُ "وَلا مِثْلَ هٰذَا الجَابِي" تُظهِرُ احتِقارَهُ لِلعَشَّارِ الدَّاخِلِ إلى الهيكل، إذ يَعتَبِرُه مِثالًا لِلفُجّارِ والسَّرَّاقِ. وكأنَّهُ يُريدُ أَن يَرتَفِعَ على أَكتافِ قَريبِهِ، فيَبني بَرَّهُ على إِدانَةِ الآخَر. الفِرِّيسيُّ، في صَلاتِهِ، شَعَرَ أنَّهُ أَفضلُ مِن غَيرِهِ، وَنَظَرَ إلى العَشَّارِ مِن عَلٍ، مُقارنًا فَضائِلَهُ بِخَطايا الآخَرين، غافلًا أَنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلى المَقامِ البَشَرِيِّ ولا إلى الأَعمالِ الخارِجِيَّة، بَل إلى القَلبِ المُتَواضِعِ الَّذي يَعرِفُ حَقيقتَهُ. يَضَعُ الفِرِّيسيُّ نَفْسَهُ في مَرتَبَةٍ أَعلَى مِنَ الآخَرين، كَمَن يَرفَعُ ذاتَهُ على المِذبحِ لا لِيُقدِّمَها لله، بَل لِيُعجَبَ بِها أَمامَ نَفسِهِ. ويُعلِّقُ القدِّيسُ يوحنا الذَّهبيُّ الفَم أيضًا قائلًا: "أمَّا العَشَّارُ، فقد سَمِعَ جيِّدًا هذه الكَلِمات، وكانَ بإمكانِه أَن يُجيبَ مُحتجًّا، لكنَّهُ لَم يَفعَل، بَل بالعَكسِ سَجَدَ قائلًا: اللّهمَّ ارْحَمنِي أَنَا الخاطِئ! فبُرِّئَ لأنَّه أظهَرَ تَواضُعَه"(عظات في التوبة، العظة رقم 2).
12 إِنَّي أَصومُ مَرَّتَيْنِ في الأُسبوع، وأُؤَدِّي عُشْرَ كُلِّ ما أَقتَني.
تشيرُ عِبارةُ "أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ" إلى أنَّ الفِرِّيسِيَّ كانَ يَصُومُ أَكثَرَ مِمَّا تَفرِضُهُ الشَّريعَةُ، لأنَّ الشَّريعةَ الإِلهيَّةَ لم تُوصِ سوى بِصومٍ واحِدٍ في السَّنَةِ، وهو يومُ الكَفّارَةِ العَظيم (يوم كيبور). وقد جاء في سِفرِ الأَحبار:"هٰذِهِ تَكُونُ لَكُمْ فَرِيضَةً أَبَدِيَّةً: فِي الْيَوْمِ العَاشِرِ مِنَ الشَّهْرِ السَّابِعِ تُذَلِّلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَلا تَعْمَلُونَ عَمَلًا، لَا ابْنُ الْبَلَدِ وَلَا النَّزِيلُ الْمُقِيمُ فِي مَا بَيْنَكُمْ"(الأحبار 16: 29). أمَّا الفِرِّيسِيُّ، فلم يَكتَفِ بِتِلكَ الفَريضَةِ القانُونِيَّة، بَل أضافَ إِلَيها أَصوامًا تَطَوُّعِيَّةً مَرَّتَيْنِ في الأُسبوع، أي يومَي الاِثنينِ والخَميس، كما جاء في التَّقليدِ اليهوديِّ وفي كتاب تعليم الرُّسُل الاِثنَي عَشَر (الديداخي 8: 1)، وكذلك أشارَ يسوعُ إلى هذه العادَةِ في (متى 6: 16). وهكذا حَوَّلَ الفِرِّيسِيُّ الصَّومَ من وسيلةٍ للتَّقوى والتَّوبة إلى مَوضِعٍ لِلتَّباهي والفَخر، مُعتَبِرًا أَنَّه يَتفوَّقُ على غيرِه في مَساعِيهِ الدِّينيَّة.
أمَّا عِبارةُ "أُؤَدِّي عُشْرَ كُلِّ مَا أَقْتَنِي"، فَتُشيرُ إلى تَشدُّدِهِ في دَفعِ العُشُورِ، حتّى مِن أَصغَرِ أَشيائِه، كَما قالَ يسوعُ: "تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَ وَالكَمُّونَ، وَتَرَكْتُمُ الأَثْقَلَ فِي النَّامُوسِ: الحُكمَ وَالرَّحمَةَ وَالإِيمَانَ" (متى 23: 23). فَالشَّريعةُ لم تَطلُبْ إلَّا عُشرَ أَثمارِ الحَقلِ والنَّبيذِ والزَّيتِ والبَهائِمِ، كما جاء في شريعةِ موسى: "أَمَّا بَنُو لاوِي فَإِنِّي أَعْطَيْتُهُم كُلَّ عُشرٍ فِي إِسْرَائِيلَ مِيرَاثًا، لِقَاءَ خِدمَتِهِمِ الَّتِي يَخدُمُونَهَا فِي خَيْمَةِ المَوعِدِ" (العدد 18: 21). لكنَّ الفِرِّيسِيَّ جاوَزَ ما أَوصَت به الشَّريعةُ، مُتَصَوِّرًا أنَّ اللهَ مَدينٌ له على أعمالِه الصَّالِحَةِ. فَصارَت ممارَساتُه الدِّينيَّةُ (صَومُه وعُشُورُه) وسيلةً لِلتَّباهي بِالذَّاتِ، لا لِلتَّقَديسِ أو التَّوبةِ. وتُشيرُ هذه الآيةُ إلى أنَّ الفِرِّيسِيَّ يَقُومُ بِأَعمالِ التَّقوى الَّتي يُفرِضُها عَلَيهِ مَذهَبُه (راجع لوقا 5: 33)، ويَجدُ فيها يَقينَهُ بِالبِرِّ والخَلاصِ. فَصَلاتُهُ اقتصَرَت على سَردِ مآثِرِهِ وحَسَناتِهِ من صَومٍ وزَكاةٍ، دونَ أَيِّ طَلَبٍ أو دُعاءٍ أو استِغفارٍ. إنَّهُ لا يَطلُبُ مِن اللهِ شيئًا، لأنَّهُ يَظُنُّ أنَّهُ لا يَحتاجُ إلى شيء. ويُعلِّقُ القدِّيسُ يوحنا الذَّهبيُّ الفَم قائلًا: "كَم مِنَ الاِدِّعاءِ في هٰذه الكَلِمات! يا لَهُ مِن بَائِس!" (عظات في التوبة، العظة رقم 2). وباختصارٍ، إنَّ صَلاةَ الفِرِّيسِيِّ صَلاةٌ مَشحونَةٌ بِالافْتِخارِ، يُعَدِّدُ فيها حَسَناتِه ويُمتَدِحُ أَعمالَه، ويَحتَقِرُ الآخَرين. ليسَ فيها تَواضُعٌ، ولا نَدَمٌ، ولا رَغبةٌ في التَّجَدُّد. بَل جَعَلَ مِن بَرِّهِ الذَّاتِيِّ مَوضِوعًا لِلكِبرياءِ والاِعْتِدادِ بالنَّفس، دونَ أَن يَشعُرَ بِحاجَتِهِ إِلى الاِعتِرافِ بِالخَطيئَةِ أَو طَلَبِ الغُفران.
13 أمَّا الجابي فوَقَفَ بَعيداً لا يُريدُ ولا أَن يَرَفعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء، بل كانَ يَقرَعُ صَدرَه ويقول: الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ!
تشيرُ عِبارةُ "وَقَفَ بَعِيدًا" إلى انزواءِ العَشَّارِ في صَلاتِه، بعيدًا عن الفِرِّيسِيِّ وعن أَنظارِ المُصَلِّينَ في الهَيكَل، وبعيدًا أيضًا عن الغُرورِ والاِدِّعاءِ. لقد وَقَفَ في مَوقِفِ الخاطِئِ المُتَواضِعِ، لا في مَوقِفِ البارِّ المُستَحقّ. إنَّهُ يَقِفُ أمامَ اللهِ لا بِثِقةِ الأبرار، بَل بِخُشوعِ الّذينَ يَعرِفونَ ضَعفَهم، كما جاء في المَزمور: "قُرْبَ الرَّبِّ مِنَ المُنْسَحِقِي القَلْبِ، وَيُخَلِّصُ مُنْسَحِقِي الرُّوحِ" (مزمور 34: 19).
أمَّا عِبارةُ " لا يُريدُ ولا أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ" فَتُشيرُ إلى خَجَلِهِ العَميقِ وشُعورِهِ بعدمِ الاِستِحقاقِ أمامَ قُدْسِ الله، كما قالَ عَزرا:"أَللهُمَّ، إِنِّي لَمُسْتَحٍ وَخَجِلٌ مِنْ أَنْ أَرْفَعَ إِلَيْكَ وَجْهِي، يَا إِلَهِي، لِأَنَّ ذُنُوبَنَا قَدْ تَكَاثَرَت عَلَى رُؤُوسِنَا وَتَفَاقَمَ إِثْمُنَا إِلَى السَّمَاوَاتِ" (عزرا 9: 6). فَعيناهُ مُنخَفِضَتانِ كَعَيْنَي العَبدِ التَّائِبِ، كما في المَزمور: "إِلَيْكَ رَفَعْتُ عَيْنَيَّ يَا سَاكِنَ السَّمَاوَاتِ. كَمَا يَرْفَعُ العَبِيدُ عُيُونَهُمْ إِلَى يَدِ سَادَتِهِمْ، وَكَمَا تَرْفَعُ الأَمَةُ عَيْنَيْهَا إِلَى يَدِ سَيِّدَتِهَا، كَذلِكَ عُيُونُنَا إِلَى الرَّبِّ إِلَهِنَا حَتَّى يَتَحَنَّنَ عَلَيْنَا"(مزمور 123: 1–3).
أمَّا عِبارةُ "يَقْرَعُ صَدْرَهُ" فَتُشيرُ إلى حَركةٍ جَسَديَّةٍ تعبيريَّةٍ عن النَّدامَةِ العَميقَةِ، وعن الحُزنِ الشَّديدِ على الخَطيئَةِ. فهي علامةُ التَّوبةِ وانسِحاقِ الرُّوحِ. يُقْرَعُ الصَّدرُ لأنَّهُ مَوضِعُ القَلبِ، نَبْعُ النَّجاسَةِ والرَّغَباتِ الشِّرِّيرَةِ كما قالَ إِرميا: "القَلْبُ أَخْدَعُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ، فَمَنْ يَعْرِفُهُ؟" (إرميا 17: 9).
وكما قالَ يسوع:"لأَنَّهُ مِنْ بَاطِنِ النَّاسِ، مِنْ قُلُوبِهِمْ، تَنْبَعِثُ المَقَاصِدُ السَّيِّئَةُ وَالفُحْشُ وَالسَّرِقَةُ وَالقَتْلُ وَالزِّنَى وَالطَّمَعُ وَالخُبْثُ وَالمَكْرُ وَالفُجُورُ وَالحَسَدُ وَالكِبْرِيَاءُ وَالغَبَاوَةُ. جَمِيعُ هٰذِهِ المُنْكَرَاتِ تَخْرُجُ مِنْ بَاطِنِ الإِنسَانِ فَتُنَجِّسُهُ" (مرقس 7: 21–23). تَرِدُ حركةُ قَرْعِ الصَّدرِ مَرَّتَيْنِ أُخريَيْنِ في إنجيلِ لوقا: عِندَ طريقِ الجُلجُثة، إذ "تَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ وَمِنَ النِّسَاءِ كُنَّ يَضْرِبْنَ الصُّدُورَ وَيَنْحَنَّ عَلَيْهِ" (لوقا 23: 27). بَعدَ مَوتِ يَسوع، حيثُ "رَجَعَتِ الجُمُوعُ جَمِيعًا وَهِيَ تَقْرَعُ الصُّدُورَ"(لوقا 23: 47–48). إنَّها حركةُ تَوبةٍ واعترافٍ بالذَّنبِ تُحوِّلُ نَظْرَةَ الإنسانِ إلى نَفْسِه وإلى اللهِ، وتَجعَلُه يَرَى كُلَّ شَيءٍ بِعَيْنِ الحَقيقَةِ والرَّحمَةِ.
أمَّا عِبارةُ "اللَّهُمَّ، ارْحَمْنِي أَنَا الخَاطِئَ!" فَتَحْمِلُ صَدَى ابْتِهالِ داوُدَ المَلِكِ التَّائِبِ: "اِرْحَمْنِي يَا اللهُ بِحَسَبِ رَحْمَتِكَ" (مزمور 51: 3). إنَّهُ اعترافٌ صادِقٌ يُظهِرُ إِدراكَهُ لِفَسادِ طَبيعَتِهِ وحاجَتِهِ إلى غُفرانِ اللهِ. لم يَطلُب العَشَّارُ شيئًا من اللهِ سِوى رَحمَتِهِ المُطلَقَةِ. لا طَمَعَ في مَكافأةٍ، ولا ادِّعاءَ بِاستِحقاقٍ. رَحمَةُ اللهِ هي رَجاؤهُ الأوحدُ وخَلاصُهُ الأكيدُ.
أمَّا عِبارةُ "أَنَا الخَاطِئُ!" فَتُشيرُ إلى إِدانَتِهِ لِنَفسِهِ كَأنَّهُ الخاطِئُ الوحيدُ على الأَرض، دونَ أَن يُقارِنَ نَفسَهُ بِأَحَدٍ. بخِلافِ الفِرِّيسِيِّ الَّذي رَفَعَ نَفسَهُ فوقَ الآخَرينَ، يَضَعُ العَشَّارُ نَفسَهُ دُونَ الجَميع. هُوَ يَتَّضِعُ حتّى التُّراب، فيَرتَفِعُ إلى نِعمةِ اللهِ. إنَّ اِعْتِرافَ الإِنسَانِ بِخَطَايَاهُ هو في الحقيقة اعْتِرافٌ بِرَحمَةِ اللهِ وبِبِرِّهِ وعدالَتِهِ. فَمَنْ يُدِينُ نَفسَهُ أمامَ اللهِ، يُبَرَّرُ أمامَهُ. وباختصارٍ، فإنَّ صَلاةَ العَشَّارِ هي صَلاةُ الإِنسَانِ المُنْسَحِقِ الرُّوحِ، المُتَواضِعِ القَلْبِ، الَّذي يَطلُبُ الرَّحمَةَ دونَ ادِّعاءٍ أو مُقابِلٍ. إنَّ اللهَ يَمنَحُ فُرصةَ التَّوبةِ لِجميعِ النَّاسِ، دونَ استِثناء، ويَستَجيبُ لِقَلبٍ نادِمٍ يَصرُخُ بصدقٍ:"اللَّهُمَّ، ارْحَمْنِي أَنَا الخَاطِئَ!". قد أدرَكَ العَشَّارُ أَنَّ الخَطيئَةَ لا تَحجُبُهُ عَن وَجهِ الله، بَل تَدفعُهُ إلى الاِتِّكالِ عَلَيهِ. فَخَطايا الإنسانِ، إِذا ما اعتَرَفَ بِها بتَواضُعٍ، تُصبِحُ جِسرًا يُوصِلُهُ إلى رَحمَةِ اللهِ، لا جِدارًا يَفصِلُهُ عَنهُ. وَهذا المَوقِفُ نادِرٌ في البَشر، لأَنَّ المَيلَ إلى تَبريرِ الذّاتِ رافَقَ الإِنسانَ مُنذُ سُقوطِهِ الأَوَّل (تكوين 3: 13) وَإِلى يَومِنا هذا، حينَ أَلقى آدَمُ اللَّومَ على حَواءَ، وَحَواءُ على الحَيَّةِ، فَضاعَ الصِّدقُ أمامَ الله، وَتَوَارَى التَّواضُعُ الَّذي يُعيدُ الإِنسانَ إلى الحَقيقَةِ وَالخَلاص.
14 أَقولُ لَكم إِنَّ هذا نَزَلَ إلى بَيتِه مَبروراً وأمَّا ذاكَ فلا. فكُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِع
تشيرُ عِبارةُ "أَقُولُ لَكُمْ" إلى تَأكيدٍ جَازِمٍ لما سَيُعلِنُهُ يسوعُ، حتّى وإنْ خالَفَ توقُّعاتِ السَّامِعين. إنّها صيغةُ سُلطانٍ إلهيٍّ يَخْتِمُ بها يسوعُ المَثَلَ ليُعلِنَ الحُكمَ الإلهيَّ الفاصِل في القِصّة.
أمَّا عِبارةُ "هٰذَا" فتُشيرُ إلى العَشَّارِ الَّذي أدانَ نَفْسَهُ وتَواضَعَ أمامَ الله، فَنالَ بِرَّهُ.
وأمَّا عِبارةُ "مُبَرَّرًا" (δικαιωθεὶς) فَتُعبِّرُ عن قَضاءِ اللهِ بِمَغفِرَةِ خَطايا العَشَّارِ كُلِّها، فَصارَ بارًّا في عَيْنَيْ اللهِ. فَالتَّبريرُ، في المفهومِ اللاهوتيّ، هو عَملُ نِعْمَةٍ إلهيَّةٍ يَنقُلُ الإِنسَانَ مِن حالةِ الخَطيئَةِ إلى حالةِ النِّعمةِ والمُصالَحَةِ مع الله. فَالبِرُّ الحَقيقيُّ هُوَ عَلاقَةُ رَحمَةٍ مَعَ اللهِ وَمَعَ الإِخوَة، رَحمَةٌ يَغفِرُ اللهُ فيها لِلكُلِّ مَجانًا، لِكُلِّ مَن لا يُبَرِّرونَ أَنفُسَهم، كالعَشَّارِ الَّذي لا يُدافِعُ عَن ذاتِهِ، ولا يَلتَمِسُ أَعذارًا، بَل يَعترِفُ بِخَطيئَتِهِ وَيَقِفُ في حَضرَةِ اللهِ في الحَقيقَة. هُناكَ، يَدرِكُ أَنَّ اللهَ وَحدَهُ هُوَ العادِلُ، وَأَنَّ عَدلَهُ مُتَّحِدٌ دائِمًا بِرَحمَتِهِ؛ لأَنَّ عَدلَ اللهِ لا يَنفَصِلُ عَن مَحبَّتِهِ، وَعَدلُهُ هُوَ الغُفرانُ بِذَاتِهِ. فَهذِا هو بر المَسيحِ: عَدْلٌ يُحَرِّرُ، وَرَحمَةٌ تُبَرِّرُ، وَغُفرانٌ يُقيمُ الخاطِئَ ليَصيرَ بارًّا أَمامَ وَجهِ الله.
أمَّا عِبارةُ "وَأَمَّا ذَاكَ فَلَا" فَتُشيرُ إلى الفِرِّيسِيِّ الَّذي بَرَّرَ نَفسَهُ، ولكنَّهُ لَم يُبَرَّرْ مِن عِندِ الرَّبِّ. فَكَيْفَ يُبَرِّرُ يسوعُ مَن لَم يَطلُبِ البِرَّ، ويَغفِرُ لِمَن لَم يَستَغفِر؟ إنَّ الفِرِّيسِيَّ لم يَطلُبِ الغُفرانَ، بَلِ اعتَبَرَ أنَّ بِرَّهُ يَنبَعُ مِن أَعمالِهِ، في حينِ أَنَّ البِرَّ هو عَطيَّةٌ مَجَّانيَّةٌ مِن اللهِ، كَما يُؤَكِّدُ بولسُ الرَّسول:"لا يَكُونَ بِرِّي ذلِكَ الَّذي يَأتي مِنَ الشَّريعَةِ، بَلِ البِرُّ الَّذي يُنالُ بِالإِيمانِ بِالمَسيح، أَيِ البِرُّ الَّذي يَأتي مِنَ اللهِ ويَعتَمِدُ على الإِيمان" (فيلبّي 3: 9).
لقد استَبدَلَ الفِرِّيسِيُّ ثِقَتَهُ باللهِ بِثِقَةٍ في نَفسِهِ، بينما العَشَّارُ أَلقَى نَفسَهُ على رَحمَةِ اللهِ. وهٰكذا نَزَلَ الأَوَّلُ مُبَرَّرًا، والآخَرُ مَرفوضًا، لا لأَنَّ أعمالَهُ شِرِّيرَةٌ في الظَّاهِر، بَل لأَنَّ قَلبَهُ مُغلَقٌ أمامَ نِعمةِ الله. ويُذكَرُ أَنَّ كَلِمَةَ "البِرّ" (δικαιοσύνη) تَرِدُ في إنجيلِ لوقا خَمسَ مَرّاتٍ، وفي إنجيلِ متّى مَرَّتَيْنِ، ولا تَرِدُ في مَرقُس أو يوحنّا، بينما يُكثِرُ بولسُ الرَّسولُ مِن استِعمالِها في رِسائِلِهِ، إذ يَجعَلُها مِحورَ التَّبريرِ الإيمانيّ.
ويُتابِعُ يسوعُ قائِلًا: "فَكُلُّ مَنْ رَفَعَ نَفْسَهُ وُضِعَ، وَمَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِعَ" تَحْمِلُ هذه العِبارةُ حِكمَةً إلهيَّةً خالِدَةً، تَستَلهِمُ نُبوءَةَ حزقيال:"يُرْفَعُ الوَضِيعُ وَيُوضَعُ الرَّفِيعُ" (حزقيال 21: 31). فَهي تُلَخِّصُ قانونَ المَلَكوتِ: أَنَّ الرَّبَّ يُسقِطُ المُتَكَبِّرينَ ويَرفَعُ المُتواضِعينَ. هٰذا المبدأُ عَينُهُ أكَّدَهُ الرَّسولُ يعقوب: "تَوَاضَعُوا بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ فَيَرْفَعَكُمْ"(يعقوب 4: 10)، وكذلك بطرسُ الرَّسولُ: "فَتَوَاضَعُوا تَحْتَ يَدِ اللهِ القَادِرَةِ لِيَرْفَعَكُمْ فِي حِينِهِ" (1 بطرس 5: 6).
أمَّا عِبارةُ "مَنْ رَفَعَ نَفْسَهُ وُضِعَ" فَتُشيرُ إلى إِدانَةِ المُتكبِّرينَ الَّذينَ يَثِقونَ بأنفُسِهِم ويَتَسامَونَ على الآخَرينَ، مِثلِ الفِرِّيسِيِّ. أمَّا "مَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِع"، فَتُعبِّرُ عن فِعلِ النِّعمَةِ الإلهيَّةِ الَّتي تَرفَعُ المُتَواضِعينَ وتُبَرِّرُهم. فَرَفعَ الفِرِّيسِيُّ نَفسَهُ فَوَضَعَهُ اللهُ، ووَضَعَ العَشَّارُ نَفسَهُ فَرَفَعَتْهُ رَحمَةُ اللهِ. وهكذا يَختِمُ يسوعُ المَثَلَ بِدَعوَةٍ واضحةٍ إلى التَّواضُعِ كَطَريقِ الخَلاصِ. فَمَن يَعرِفُ نَفسَهُ ويَدِينُها أمامَ اللهِ، يُرفَعُ إلى نِعمتِهِ، ومَن يُمجِّدُ ذاتَهُ يَسقُطُ في حُكمِها. وكما فَعَلَت رَحمَتُكَ يا رَبُّ معَ العَشَّار، اِشْفِقْ عَلَيْنَا نَحْنُ أَيْضًا، لِنَحْيَا بِنِعْمَتِكَ وَتُبَرِّرَنَا بِمَحَبَّتِكَ.
ثانيًا: تَطبيقُ النَّصِّ الإِنْجِيلِيّ (لوقا 18: 9–14)
انطلاقًا من الملاحظاتِ الوجيزةِ حولَ وَقائِعِ النَّصِّ الإِنجيليّ (لوقا 18: 9–14)، نَستنتِجُ أنَّ المَثَلَ يَتمَحوَرُ حَولَ الصَّلاة:
1. صَلاةُ الفِرِّيسِيِّ الزَّائِفَة الَّتي يَملؤُها الاغتِرارُ بالذَّاتِ،
2. وصَلاةُ العَشَّارِ المُتَواضِعَة الَّتي يَسكُنُها التَّوبةُ والحَنينُ إلى رَحمَةِ الله.
1. صَلاةُ الفِرِّيسِيّ
"فَانْتَصَبَ الفِرِّيسِيُّ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ فَيَقُولُ: اَللَّهُمَّ شُكْرًا لَكَ لأَنِّي لَسْتُ كَسَائِرِ النَّاسِ: السَّرَّاقِينَ، الظَّالِمِينَ، الفَاسِقِينَ، وَلا مِثْلَ هٰذَا الجَابِي" (لوقا 18: 11). صلّى الفِرِّيسيُّ بِكِبرياءٍ وتعالٍ، فجاءت صلاتُه انعكاسًا لِثِقَتِهِ المَزْعُومَةِ بِبِرِّهِ واحتِقارِهِ لِلآخَرين.
أ) صَلاةٌ تَثِقُ بِالبِرِّ المَزْعُوم
صَلاةُ الفِرِّيسِيِّ تُشبه ظاهريًّا مَزمورَ شُكرٍ، ولكنَّها في جوهرِها محاكاةٌ ساخِرَةٌ له. إذ يقولُ المزمور: "يا رَبُّ، لا أَخْزَ، فَإِنِّي دَعَوْتُكَ، بَلْ لِيَخْزَ الأَشْرَارُ وَلْيَهْبِطُوا إِلَى مَثْوَى الأَمْوَاتِ صَامِتِينَ" (مزمور 30: 18). غير أنَّ الفِرِّيسِيَّ لم يُمجِّدِ اللهَ على أعمالِهِ العَظِيمَة، بَل هنَّأَ نَفسَهُ على إنجازاتِهِ واستِحقاقاتِهِ. شَكَرَ اللهَ بِاللِّسانِ لا بِالقَلبِ، فَلَم يَطلُبْ شَيئًا مِن اللهِ، ولَم يَنتَظِرْ مِنهُ شيئًا، لأنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ لا يَحتاجُ إلى اللهِ في شَيءٍ. نَسِيَ أَنَّ الإِنسَانَ يَحيا بالنِّعمةِ لا بالأعمالِ، وأَنَّ الأعمالَ وحدها لا تُخَلِّصُ مَن لَم يَنَل رَحمَةَ الله.
ظنَّ الفِرِّيسِيُّ نَفسَهُ بارًّا قِدِّيسًا، لكنَّهُ خَدَعَ نَفسَهُ، كما يقولُ الكِتاب:"مَا مِن أَحَدٍ بارٍّ، وَلا وَاحِدٍ" (رومة 3: 10). "وَيُبَرِّرَ مَن كَانَ مِن أَهلِ الإِيمانِ بِيَسوعَ" (رومة 3: 26). ويُعلِّقُ القدِّيسُ باسيليوس الكبير قائلًا: "صَلّى الفِرِّيسِيُّ مَعَ نَفسِهِ وَلَيسَ مَعَ اللهِ، لأَنَّ خَطيئَةَ الكِبرياءِ رَدَّتْهُ إِلى ذَاتِهِ".
فَقَدْ بَنَى خَلاصَهُ على حِفظِ الشَّريعَةِ حِفظًا صارِمًا، مُتَّكِلًا على بِرِّهِ الذَّاتِيّ، لا على نِعمَةِ الله. لَم يَرَ في نَفسِهِ سِوى الحَسَنات، وَلَم يَرَ في غَيرهِ سِوى السَّيِّئات، ناسيًا قولَ الرَّبِّ في سِفرِ الرُّؤيا: "أَنْتَ تَقُولُ: أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اغْتَنَيْتُ، فَلَا أَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا تَعْلَمُ أَنَّكَ شَقِيٌّ بَائِسٌ فَقِيرٌ أَعْمَى عُرْيَانٌ" (رؤيا 3: 17–19).
ب) صَلاةٌ خالِيَةٌ مِنَ الطَّلَبِ وَالتَّوَاضُع
صَعِدَ الفِرِّيسِيُّ لِيُصَلِّي، وَلَكِنَّهُ لَم يُصَلِّ إِلَى اللهِ، بَل إِلَى نَفسِهِ. هُوَ يَعتَبِرُ نَفسَهُ مِنَ "الأَصِحَّاءِ الَّذينَ لا يَحتاجونَ إِلى طَبيبٍ"، ومِن "الأبرارِ الَّذينَ لا يَحتاجونَ إِلى التَّوبَةِ" (متى 9: 12–13). لذلكَ لَم يَطلُب شَيئًا، فَلَم يَنَل شَيئًا. ويُعلِّقُ البابا فرنسيس قائلًا: "الفِرِّيسِيُّ يُصَلِّي إِلَى اللهِ، وَلَكِنَّهُ فِي الحَقيقَةِ يُصَلِّي إِلَى نَفسِهِ. يَنظُرُ إِلَى ذَاتِهِ وَيُمَجِّدُها. فَصَلَاتُهُ كَلامٌ مَوْجَّهٌ إِلَى ذَاتِهِ لِتَمْجِيدِها، كَمَا يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ: "إِنِّي أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ، وَأُؤَدِّي عُشْرَ كُلِّ مَا أَقْتَنِي" (لوقا 18: 12). إِنَّهُ مُتَكَبِّرٌ مُرَائٍ، يَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ لِيَنْظُرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، كَمَا جَاءَ فِي الإِنجِيلِ: "وَجَمِيعُ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِيَنْظُرَ النَّاسُ إِلَيْهِمْ" (متى 23: 5)".
ج) جَوهَرُ خَطِيئَةِ الفِرِّيسِيّ
خَطِيئَتُهُ الأساسيَّةُ هي الاِعْتِدادُ بالذَّات. نَسِيَ أَنَّ "كُلَّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلَّ هِبَةٍ كَامِلَةٍ تَنْزِلُ مِنْ عُلُوٍّ، مِنْ عِندِ أَبِي الأَنْوَارِ" (يعقوب 1: 17). وَبَرَّرَ نَفسَهُ أمامَ اللهِ، ناسيًا قَولَ المَزمور: "إِنْ كُنْتَ، يَا رَبُّ، لِلآثَامِ مُرَاقِبًا، فَمَنْ يَبْقَى، يَا سَيِّدُ، قَائِمًا؟"(مزمور 130: 3). وكذلك قَولَ يوحَنّا الرَّسول: “إِذَا قُلْنَا إِنَّنَا بِلا خَطِيئَةٍ، أَضْلَلْنَا أَنْفُسَنَا، وَلَمْ يَكُنِ الحَقُّ فِينَا" (1 يوحنا 1: 8). فَفِي العَلاقَةِ مَعَ الرَّبِّ، لا مَكانَ لِلتَّفاخُرِ أو لِلتَّبَاهِي أو لِلتَّدَعي بِالكَمال، وكَأنَّ لِنا حَقًّا عَلَيهِ. مَن يَتَّكِلُ عَلَى نَفسِهِ يَسقُطُ في الغُرورِ، أَمَّا مَن يَتَّكِلُ عَلَى رَحمَةِ اللهِ فيَرتَفِعُ بِنِعمَتِهِ.
د) خَطايا الفِرِّيسِيّ: مَظاهِرُها وبُعدُها الرُّوحيّ
تَكمُنُ خَطيئَةُ الفِرِّيسِيّ أيضًا في اِسْتِهتارِهِ بالآخَرينَ، إذ أدانَ قَريبَهُ العَشَّارَ. قَد قالَ المَسيحُ:"لا تَدينوا فَلا تُدانوا. لا تَحكُموا على أَحَدٍ فَلا يُحكَمَ عَلَيكُم" (لوقا 6: 37). لَم يَنتفِعِ الفِرِّيسِيُّ مِن صَلاتِهِ، على الرَّغمِ مِن كَثرةِ أَعمالِ البِرِّ الَّتي قامَ بِها؛ فَهُوَ الَّذي يَعتَقِدُ نَفسَهُ بارًّا، غافِلٌ عن الوَصِيَّةِ الأَهَمّ: مَحبَّةِ اللهِ والقَريبِ، كَما جاءَ في إِنجيلِ لوقا: "أَحْبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ مِن كُلِّ قَلبِكَ، وَكُلِّ نَفسِكَ، وَكُلِّ قُوَّتِكَ، وَكُلِّ ذِهنِكَ، وَأَحْبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ" (لوقا 10: 27). ويُعلِّقُ القدِّيسُ يوحنّا الذَّهبيُّ الفَم قائلًا: "ما أَشقاكَ، أَيُّها الَّذي تَجرُؤُ على إِصدارِ الأَحكامِ على الأَرضِ بأَسرِها! لِمَ تُهِينُ قَريبَكَ؟ ما حاجتُكَ إلى أَن تَدينَ هذا العَشَّار؟ أَلَم يَكفِكَ ما فَعَلتَهُ بالأَرضِ؟ لقد أَصدَرتَ اتِّهاماتٍ بِحَقِّ جَميعِ البَشَرِ دونَ استِثناء! كَم مِنَ الاِدِّعاءِ في هٰذِهِ الكَلِمات! يا لَهُ مِن بَائِس"! (عِظات في التَّوبَة، العِظَة رقم 2). ويقولُ يَعقوبُ الرَّسولُ: "لَيسَ هُناكَ إِلّا مُشَرِّعٌ واحِدٌ ودَيّانٌ واحِد، وهو القادِرُ على أَن يُخَلِّصَ وَيُهلِك. فمَن أَنتَ لِتَدينَ القَريب؟" (يعقوب 4: 12). ويُضيفُ سِفرُ الأَمثالِ تَحذيرًا واضِحًا: "مَن كَتَمَ مَعاصِيَهُ لَم يَنجَحْ، وَمَنِ اعتَرَفَ بِها وَأَقلَعَ عَنْها يُرحَم" (أمثال 28: 13).
هـ) نِسيانُ الفِرِّيسِيّ لِرَحمَةِ الله
تَكمُنُ خَطيئَةُ الفِرِّيسِيّ أَيضًا في نِسيانِهِ ما يُريدُهُ الرَّبُّ مِن الإِنسان، أَلَا وهو الرَّحمَةُ لا الذَّبيحَةُ، كَما جاءَ في الكِتابِ المُقَدَّس: "إِنَّما أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحَة" (متى 12: 7). وقد قالَ اللهُ عَلى لِسانِ النَّبِيِّ إِشعيا: "أَلَيْسَ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُهُ هُوَ هٰذا: حَلُّ قُيودِ الشَّرِّ، وَفَكُّ رُبُطِ النِّيرِ، وَإِطْلاقُ المَسحوقينَ أَحرارًا، وَتَحطِيمُ كُلِّ نِير؟" (إشعيا 58: 6). ويُعلِّقُ القدِّيسُ أَثناسيوس الرَّسوليّ قائلًا: "مَعَ أَنَّ الفِرِّيسِيَّ كانَ يَصُومُ يَومَيْنِ في الأُسبوعِ، إِلّا أَنَّهُ لَم يَستَفِدْ شَيئًا، لأَنَّهُ اِفتَخَرَ بِذٰلِكَ عَلَى العَشَّار". ويُضيفُ القدِّيسُ البابا غريغوريوس الكَبير شارِحًا: "إِنَّهُ اتَّخَذَ كُلَّ الاِحتِياطاتِ المُمكِنَةِ لِحِمايَةِ نَفسِهِ، غَيرَ أَنَّهُ تَرَكَ ثُغرَةً مَفتوحَةً لِلعَدوِّ حينَ أَضافَ عِبارَةَ: "لأَنِّي لَستُ مِثلَ هٰذا العَشَّار". هٰكَذا، ومِن خِلالِ غُرورِهِ، سَمَحَ لِعَدوِّهِ أَن يَدخُلَ مَدينَةَ قَلبِهِ الَّتي كَانَ قَد أَغلَقَها بِإِحكامٍ بِالصَّومِ والصَّدَقَةِ"(Moralia).
و) كِبرياءُ الفِرِّيسِيّ وتَبْريرُهُ لِنَفسِهِ
تَكمُنُ خَطيئَةُ الفِرِّيسِيّ أَيضًا في الكِبرياءِ، وفي عَدمِ الاِعتِرافِ بِخَطاياهِ. اكتَفَى بِدَفعِ العُشورِ وَالاِعتِمادِ عَلى أَعمالِهِ، مُتَغافِلًا أَنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إِلى الأَعمالِ فَقَط، بَل إِلى القَلبِ. ويُعلِّقُ البابا غريغوريوس الكَبير قائلًا: "إِنْ كانَت أَفكارُنا مَصدَرَ غُرورٍ أَو كِبرياءٍ في قُلوبِنا، فَهٰذا يَعني أَنَّنا نُجاهِدُ مِن أَجلِ مَجدٍ باطِلٍ، لا مِن أَجلِ مَجدِ الخالِق" (Moralia). فَالفِرِّيسِيُّ يُخطِئُ إلى اللهِ الَّذي يُكرِّمُهُ بِدَفعِ العُشورِ، ولكنَّهُ يُناقِضُ روحَ اللهِ الَّذي يُحِبُّ الجَميعَ ولا يَحتَقِرُ الخُطاةَ. ويُؤكِّدُ البابا فرنسيس قائلًا: "الفِرِّيسِيُّ يُسَرُّ بِمُحافَظَتِهِ عَلى الشَّرائِعِ، وَمَعَ ذٰلِكَ فَمَواقِفُهُ وَكَلِماتُهُ بَعِيدَةٌ عَن أُسلوبِ تَصَرُّفِ اللهِ الَّذي يُحِبُّ جَميعَ البَشَرِ وَلا يَحتَقِرُ الخُطاة".
ز) تَبْريرُ النَّفسِ وَنِسيانُ الحاجَةِ إِلى الرَّحمَة
أَخيرًا، تَكمُنُ خَطيئَةُ الفِرِّيسِيّ في أَنَّهُ يُبَرِّرُ نَفسَهُ بِنَفسِهِ. اللهُ لا يُريدُ مِمَّن يَقِفُ أَمامَهُ أَن يُذَكِّرَهُ بِأَعْمالِهِ وَصَومِهِ، فَهُوَ يَعرِفُها، كَما جاءَ في الكِتابِ المُقدَّس: "إِنِّي عَليمٌ بِأَعْمالِكَ وَجَهدِكَ وَثَباتِكَ"(رؤيا 2: 2–3). لَيسَ مِنَ المَطلوبِ أَن يَضعَ الفِرِّيسِيُّ الإِكليلَ عَلى رَأسِهِ، بَل عَلَيهِ بِالحَريّ أَن يَذكُرَ خَطاياَهُ لِيَرحَمَهُ اللهُ، مُردِّدًا مَع داوُدَ النَّبِيّ: "فَإِنِّي عالِمٌ بِمَعاصِيَّ، وَخَطيئَتي أَمامِي فِي كُلِّ حِينٍ"(مزمور 51: 5). فَمَن يَذكُرُ خَطاياَهُ بِتواضُعٍ، يَنساهَا اللهُ بِرَحمَتِهِ. كَما قالَ الأَديبُ العالَميّ وِليم شِكسبير: "الإِنسانُ يَغفِرُ، وَاللهُ يَنسى".
ح) صَلاةٌ تَحتَقِرُ الآخَرين
لَم يَكتفِ الفِرِّيسِيُّ في صَلاتِهِ بِثِقَتِهِ بِبِرِّهِ المَزعوم، بَل اِحتَقَرَ الآخَرينَ وابتَعَدَ عن العِبادَةِ المُتَواضِعَةِ الدَّاخِلِيَّةِ والاتِّكالِ على الله. صلَّى إلى اللهِ شاكِرًا، لَكِنَّهُ شُكرٌ زائفٌ نابعٌ مِن الإِعجابِ بالذَّاتِ، إذ قال: "لَستُ كَسَائِرِ النَّاسِ، السَّرَّاقينَ، الظَّالمينَ، الفاسِقينَ"(لوقا 18: 11). ولِسانُ حالِهِ يقولُ: أنا لستُ مثلَ العَشَّارِ، فَبِفَضلِ أَعمالي الصَّالِحَةِ لَستُ خاطِئًا كَالبَقيَّة. فهو مُترَفِّعٌ عَنِ النَّاسِ، مُحتَقِرٌ لَهُم، مُتَّهِمٌ العالَمَ كُلَّهُ جَهرًا، حاسِبًا نَفسَهُ أَفضَلَ مِن جَميعِ البَشَرِ، مُتَناسِيًا أَنَّ الشَّريعَةَ تَدعُو إلى التَّواضُعِ وأَلّا يَتَعالَى الإِنسانُ على إِخوَتِهِ (تثنية الاشتراع 17: 7). ويُعلِّقُ القدِّيسُ يوحنّا الذَّهبيُّ الفَم قائلًا:"لَم يَكفِهِ الاِزدِراءُ بِكُلِّ جِنسِ البَشَرِ، بَل هاجَمَ أَيضًا العَشَّارَ. رُبَّما كانَ خَطَؤُهُ أَقَلَّ لو لَم يَهاجِمْهُ، لَكِن بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ جَرَحَ الحاضِرَ وأَهانَ الغائِبين".
صَلّى الفِرِّيسِيُّ بِكِبرياءٍ، إِذ سَخِرَ بِعَبيدِ اللهِ لِيُبَرِّرَ نَفسَهُ. قال:"اللَّهُمَّ، شُكرًا لَكَ لأَنِّي لَستُ كَسَائِرِ النَّاسِ: السَّرَّاقينَ، الظَّالمينَ، الفاسِقينَ" (لوقا 18: 11). ويُعلِّقُ القدِّيسُ كِيرِلُّس الإِسكَندَريّ قائلًا: "ضَعفُ الآخَرينَ لا يَجِبُ أَلّا يَكونَ مَوضِعَ ازدراءٍ؛ لأَنَّ الازدراءَ بِعَبيدِ اللهِ هُوَ ازدراءٌ بِاللهِ نَفسِهِ". فَالَّذي يَحتَقِرُ القَريبَ يَسقُطُ في الاِزدراءِ بِالخالقِ وعدلِهِ. لِذٰلِكَ يَقولُ الكِتابُ:"يَسخَرُ اللهُ مِنَ السَّاخِرينَ، وَلِلمُتَواضِعينَ يُعطِي النِّعمَةَ" (أمثال 3: 34). ويُؤكِّدُ المَزمورُ:"الشَّريرُ بِكِبريائِهِ يُلاحِقُ البائِسَ، فَلْيُؤخَذْ بِالمَكايدِ الَّتي دَبَّرَها"(مزمور 10: 2). ويُضيفُ بطرسُ الرَّسولُ تَحذيرًا قائِلًا: "فاعلَموا أَوَّلَ الأَمرِ أَنَّهُ سَيَأتي في آخِرِ الأَيَّامِ قَومٌ مُستَهزِئونَ كُلَّ الاِستِهزاءِ، تَقودُهُم أَهواؤُهُم" (2 بطرس 3: 3).
اِحْتَقَرَ الفِرِّيسِيُّ العَشَّارَ قائِلًا: "اللَّهُمَّ، شُكرًا لَكَ لأَنِّي لَستُ مِثلَ هٰذا الجابي" (لوقا 18: 11). فَقَد صَلّى بِكِبرياءٍ، يَمدَحُ نَفسَهُ عَلَى حِسابِ غَيرِه، مُتَجاهِلًا الكِتابَ الَّذي يَقولُ:"لِيَمدَحْكَ الغَريبُ، لا فَمُكَ، الأَجنَبِيُّ، لا شَفَتاكَ"(أمثال 27: 2). فَوجودُ العَشَّارِ إلى جانِبِهِ مَنَحَهُ فُرصَةً لِلتَّفاخُرِ أَكثَرَ: "أَنَا لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ، أَمَّا هُوَ فَكَسائِرِ النَّاسِ السَّرَّاقينَ الظَّالمينَ الفاسقينَ". ويُعلِّقُ القدِّيسُ يوحنّا الذَّهبيُّ الفَم قائلاً:"كانَ بِوُسعِ العَشَّارِ أَن يُجيبَهُ قائلًا: مَن تَظُنُّ نَفسَكَ؟ أَنتَ الَّذي تُوجِّهُ إِليَّ كَلِماتٍ مُهينَةً، مَاذا تَعرِفُ عَن حَياتي؟ لِمَ تُظهِرُ هٰذا الكِبرياء؟ وَمَن يُثبِتُ صِدقَ أَعمالِكَ الصَّالِحَةِ؟ لِمَ تَمدَحُ نَفسَكَ وَتُمَجِّدُها؟" (عِظات حول التَّوبة، العِظة رقم 2).
ي) تَدَيُّنٌ شَكْلِيّ وسُطْحِيّ
تَدَيُّنُ الفِرِّيسِيِّ تَدَيُّنٌ ظاهِريٌّ شَكْلِيّ، بَل رُبَّما تَدَيُّنٌ مَريضٌ. إِذ تَحوَّلَت الحياةُ الرُّوحِيَّةُ لَدَيهِ إلى مُمارَساتٍ آليَّةٍ روتينيَّةٍ، غابَ عنها القَلبُ والتَّواضُعُ والحُبُّ. ويُعلِّمُنا القِدِّيسُ دوروثيوس قائلًا: "عِندَما كانَ الفِرِّيسِيُّ يُصَلِّي وَيَشكُرُ اللهَ مِن أَجلِ فَضائِلِهِ لَم يَكذِب، بَل نَطَقَ بِالحَقِّ، وَلَم يُدَنْ مِن أَجلِ هٰذا. وَلٰكِن لَمّا اِلْتَفَتَ نَحوَ العَشَّارِ وَقالَ: "إِنِّي لَستُ مِثلَ هٰذا العَشَّار"، ارتَكَبَ الإِدانَة!" . وَعَلَى هٰذا الأَساسِ يُعَلِّمُنا الرَّسولُ بولُس: "فَإِن ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيءٌ، مَعَ أَنَّهُ لَيسَ بِشَيءٍ، فَقَد خَدَعَ نَفْسَهُ. فَليَنظُرْ كُلُّ واحِدٍ فِي عَمَلِهِ هُوَ، فَيَكونَ افتِخارُهُ حِينَئِذٍ بِمَا يَخُصُّهُ مِن أَعمالِهِ فَحَسْبُ، لا بِالنَّظَرِ إِلَى أَعمالِ غَيرِهِ"(غلاطية 6: 3–4). إنَّ الكبرياءَ الَّذي يَسْكُنُ القَلبَ يُحَوِّلُ الدِّينَ إلى صُوَرٍ وَمُمارَساتٍ جافَّةٍ، فَيُصبِحُ الإِنسانُ عابِدًا لِنَفسِهِ لا للهِ، وَتُفقَدُ في حياتِهِ قُوَّةُ النِّعمَةِ الَّتي لا تُعطَى إِلّا لِلمُتَواضِعين.
ط) نَتيجَةُ صَلاةِ الفِرِّيسِيّ
رَغمَ أَنَّ الفِرِّيسِيَّ يَبدو في نَظرِ نَفسِهِ وأمامَ أَعيُنِ النّاسِ مِن أَوائِلِ المُصَلّينَ والمُبرَّرينَ، إِلّا أَنَّهُ لَم يَتَبَرَّرْ في عَينِ اللهِ. صَعِدَ مُدَّعِيًا أَنَّهُ يُريدُ الصَّلاة، لَكِنَّهُ لَم يَطلُبْ شَيئًا مِنَ اللهِ، بَل تَحَدَّثَ إِلى نَفسِهِ ومَدَحَها. ونَستَنتِجُ مِمّا سَبَقَ أَنَّ اللهَ يُجازِي المُتَكَبِّرينَ، كَما قالَ يَسوع: "فَكُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَهُ وُضِعَ." (لوقا 18: 14). فَهُم كَما يَقولُ سِفرُ الحِكمَة:"يَمْضُونَ كَالدُّخانِ، فَماذا نَفَعَتْنَا الكِبْرِيَاء؟ ... إِنَّهُ يَتَبَدَّدُ كَدُخانٍ فِي الهَوَاءِ"(حِكمَة 5: 8–14).
هُم الَّذينَ سَخِروا بِالآخَرينَ (لوقا 14: 16)، فَارتِفاعُهُم ما هُوَ إِلّا مُقَدِّمَةٌ لِدَمارِهِم، كَما يَقُولُ صاحِبُ الأَمثال: "قَبْلَ التَّحَطُّمِ الكِبرياء، وَقَبْلَ السُّقوطِ تَرَفُّعُ الرُّوح" (أمثال 16: 18). إِنَّ الرَّبَّ "شَتَّتَ المُتَكَبِّرينَ في قُلوبِهِم" (لوقا 1: 51).
صَلاةٌ مَرفوضَةٌ لِأَنَّهَا خالِيَةٌ مِنَ النِّعمَة. لَم يَكُنِ الفِرِّيسِيُّ سَارِقًا ولا ظالِمًا ولا زَانِيًا، وَلَم يُهمِل أَعمالَ التَّقوى، بَل كَانَ يَصُومُ مَرَّتَينِ فِي الأُسبوعِ، وَيُؤَدِّي عُشْرَ كُلِّ مَا يَقتَنِي. وَمَعَ ذٰلِكَ لَم يَتَقَبَّلِ الرَّبُّ صَلاتَهُ، لأَنَّهُ لَم يَتَجَرَّدْ مِن ذَاتِهِ (فيلبّي 2: 7)، بَلِ اِتَّكَلَ عَلَى نَفسِهِ وَأَعمَالِهِ، وَرَضِيَ عَن نَفسِهِ وَأُعجِبَ بِها، فَلَم يَطلُب شَيئًا.
فَهُوَ أَيقونَةُ الإِنسانِ الفاسِدِ الَّذي يَتَظاهَرُ بِأَنَّهُ يُصَلّي، وَلَكِنَّ كُلَّ مَا يَفعَلُهُ هُوَ أَنَّهُ يُباهي نَفسَهُ أَمامَ المِرآة، مُمَجِّدًا الصُّورَةَ الَّتي بَناها لِنَفسِهِ. إِنَّ الغُرورَ يَجعَلُ الإِنسانَ مَخلوقًا غَبِيًّا لا يَفقَهُ حَقِيقَةَ ذاتِهِ. كانت صَلاةُ الفِرِّيسِيِّ "كَالعُصافَةِ الَّتي تَذروها الرِّياح" (مزمور 1: 4)، لأَنَّ مَن تُنجِّسْهُ الكِبرياءُ يَكونُ مَغْلُقًا أَمامَ النِّعمَة. كَما قالَ اللهُ عَلى لِسانِ إِشعيا: "حينَ تَبسُطونَ أَيدِيَكُم أَحجُبُ عَينَيَّ عَنكُم، وَإِن أَكثَرتُم مِنَ الصَّلاةِ لا أَستَمِعُ لَكُم، لأَنَّ أَيدِيَكُم مَمْلُوءَةٌ مِنَ الدِّماءِ. فَاغتَسِلوا وَتَطَهَّروا وَأَزيلوا شَرَّ أَعمالِكُم مِن أَمامِ عَينَيَّ، وَكُفّوا عَنِ الإِساءَةِ." (إشعيا 1: 15–16). ويُؤكِّدُ بطرسُ الرَّسولُ قائلًا: "اللهُ يُكابِرُ المُتَكَبِّرينَ، وَيُنعِمُ عَلَى المُتَواضِعينَ." (1 بطرس 5: 5): ويُعلِّقُ القدِّيسُ أُوغسطينوس قائلًا:"كَمَا تَرَونَ، مَن يَطلُبُ الاِفتِخارَ لا يَدخُل، بَل يَسقُط؛ أَمّا مَن يَتَواضَعْ فَيَدخُلْ مِنَ البَابِ مَعَ الرّاعِي وَلا يَسقُط".
قَضاءُ اللهِ يَختَلِفُ عَن قَضاءِ البَشَر؟ نَستَنتِجُ أَنَّ حُكمَ اللهِ يَختَلِفُ عَن حُكمِ البَشَر الَّذي يَنظُرُ إِلى الظّاهِرِ وَيُحابِي الوُجوه. اللهُ فاحِصُ القُلوبِ وَالكُلَى، يَستَجيبُ لِاستِغاثَةِ المُتَعَبِّدِ المُتَواضِعِ (يشوع بن سيراخ 35: 15–17). رَفَضَ اللهُ صَلاةَ الفِرِّيسِيِّ لأَنَّهُ كَانَ مُتَكَبِّرًا وَمُرائيًا، مَغرورًا بِنَفسِهِ وَأَعمالِهِ. فيُجيبُهُ الرَّبُّ: "لأَنَّكَ تَقولُ: أَنا غَنِيٌّ وَقَدِ اغتَنَيتُ، فَمَا أَحْتاجُ إِلى شَيءٍ، وَلا تَعلَمُ أَنَّكَ شَقِيٌّ بائِسٌ فَقيرٌ أَعْمَى عُرْيَانٌ" (رؤيا 3: 17). لَم يَتَبَرَّرِ الفِرِّيسِيُّ، لأَنَّهُ أَحَبَّ أَن يَراهُ النّاسُ يُصَلّي، وَيَدَّعي الصَّلاةَ وَقَلبُهُ غَيرُ مُتَواضِع. وَالحُكمُ الإِلَهيُّ واضِحٌ: "كُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَهُ وُضِعَ، وَمَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِعَ" (لوقا 18: 14). ويُؤكِّدُ الرَّبُّ فِي مَوضِعٍ آخَرَ: "سَيَقولُ لِي كَثيرٌ مِنَ النّاسِ فِي ذٰلِكَ اليَومِ: يا رَبّ، أَمَا بِاسمِكَ تَنَبَّأْنا؟ وَبِاسمِكَ طَرَدْنا الشَّياطينَ؟ وَبِاسمِكَ أَتَينا بِالمُعجِزاتِ الكَثيرة؟ فَأَقولُ لَهُم عَلانِيَةً: ما عَرَفتُكُم قَطّ. اِنصَرِفوا عَنِّي أَيُّها الأَثَمَة!" (متى 7: 22–23).
باختصار، العِبرَةُ الرُّوحيَّة هي كَثيرونَ يَعتَقِدونَ أَنَّهُم قاموا بِأَعمالٍ صالِحَةٍ كَالفِرِّيسِيِّ، وَلكِنَّ اللهَ وَحدَهُ "رَبُّ القُوّاتِ، الحاكِمُ بِالبِرّ، الفاحِصُ الكُلَى وَالقُلوبِ" (إرميا 11: 20)، وَهُوَ يُعطِي كُلَّ واحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ وَثَمَرِ أَعمالِهِ. فَالْأَهَمُّ لَيسَ الكَثرةُ فِي الأَعمالِ الصَّالِحَةِ، بَل الاعترافُ بِما صَنَعَهُ يَسوعُ مِن أَجلِنا عَلَى الصَّليب، وَالنَّظَرُ إِلى أَنفُسِنا بِتَواضُعٍ، طَالِبِينَ رَحمَةَ اللهِ مِثلَ العَشَّارِ وَاللِّصِّ اليمينِ. فلنَضَعْ نُفوسَنا أَمامَ الرَّبِّ لِنُعيدَ نِظامَ حَياتِنا، حَتّى تَتوافَقَ عَلاقتُنا مَعَ اللهِ بِـ عَلاقتِنا مَعَ الآخَرينَ فِي الصَّلاةِ وَالحَياةِ العَمَلِيَّةِ، لأنَّ التَّواضُعَ هُوَ الطَّريقُ إلى التَّبَريرِ وَالحُرِّيَّةِ الرُّوحِيَّةِ الحَقَّة.
2) صَلاةُ العَشَّار
"وَوَقَفَ العَشَّارُ بَعيدًا لا يُريدُ ولا أَن يَرفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماءِ" (لوقا 18: 13)، وكأنَّه يُعيدُ صَلاةَ عَزْرا الكاتِب: "إِنِّي لَمُسْتَحٍ وَخَجْلانٌ مِنْ أَنْ أَرْفَعَ إِلَيْكَ وَجْهِي، يَا إِلهي، لأَنَّ ذُنوبَنا قَدْ تَكَاثَرَتْ عَلَى رُؤوسِنا، وَتَفاقَمَ إِثْمُنا إِلَى السَّمَوات" (عَزْرا 9: 6). أخذَ يُصلّي بقَلبٍ مُتَواضِعٍ، يَقرَعُ صَدرَه مُنْسَحِقًا قائلاً: "اللَّهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطِئ!" مُردِّدًا مزمورَ التوبة: "ارْحَمْني يا اللهُ كَعَظيمِ رَحْمَتِكَ" (مزمور 51: 1). فهو يَعلَم أنَّه أمامَ اللهِ لا أَحَدٌ بارّ، ولا أَحَدٌ يَستطيعُ أنْ يَتَباهى بِنَفْسِهِ، "إِذِ الكُلُّ خَطِئُوا وأَعْوَزَهُم مَجْدُ الله" (رومة 3: 10). ويقول الراهب الدومينيكيّ جان تولييه:" في الحقيقة، أُريدُ أن أَتصرَّفَ مِثلَما فَعَلَ العَشَّار، وأَعيَ على الدَّوامِ فَراغي. هذا هو الطَّريقُ الأَسمى والأَصلحُ الّذي يُمكِنُنا أَنْ نَتَّبِعَه" (العِظة 48 للأَحد الحادي عشر بعد أَحد الثَّالوث الأَقدَس).
تُذكِّرُنا صَلاةُ العَشَّارِ بِمَشهَدِ الجُلْجُثَة، حَيثُ "الجُموعُ الَّتي احتَشَدَت لِتَرَى ذلِكَ المَشهَد، فَلَمَّا رَأَت ما حَدَثَ، رَجَعَت تَقرَعُ صُدورَها" (لوقا 23: 48). رأت الجُموعُ يَسوعَ يَموتُ على الصَّليب، فَعَرَفَت حَقيقتها، وأَخَذَت تَقرَعُ صُدورَها حُزنًا لا على المَسيحِ البارّ فَحَسْب، بل على خَطاياها وآثامِها.
صَلّى العَشَّارُ بِتَواضُعٍ، مُبَيِّنًا ذلكَ في وَقْفَتِه، وقَرْعِ صَدرِه، ومَضمونِ صَلاتِه. ويقولُ القِدّيسُ إيرونيموس: «الكِبرياءُ ضِدُّ التَّواضُع». فالتَّواضُعُ يُساعِدُنا على رُؤيةِ ذواتِنا على حَقيقتها، ويَفتحُنا على نِعمةِ الله ورَحمَتِه، على عَكْسِ الفِرّيسيِّ المُتَكَبِّرِ الَّذي أَغلَقَ نَفْسَه في حُبِّ ذَاتِه دونَ الحاجةِ إلى الله.
لَمْ يَجْرُؤ العَشَّارُ أنْ يَرفَعَ عَينَيهِ إلى السَّماء، إذْ رَأى نَفْسَه خَاطِئًا أمامَ اللهِ القُدّوس، فَأَخَذَ يَقرَعُ صَدرَه حُزنًا على ذُنوبِه طَالِبًا المَغفِرَة.
أ) صَلاةٌ مُتَواضِعَةٌ في وَقْفَتِه
صَلّى العَشَّارُ بتَواضُعٍ، "فَوَقَفَ بَعيدًا" (لوقا 18: 13)، كَخَليقَةٍ خاطِئَةٍ أمامَ اللهِ القُدّوس، طَالِبًا الرَّحمَةَ ومُبتَعِدًا عن حُبِّ الظُّهورِ والزَّهْو. وكما يُعَلِّمُ بولسُ الرَّسولُ: الَّذينَ يَتَّشِحونَ بثَوبِ التَّواضُعِ "يَجلِسونَ في المَكانِ الأَخير" (فيلبي 2: 3-4). ويقول القِدّيس أوغسطينوس: "انَ تَوبِيخُ قَلبِهِ يُبعِدُه عن الله، لكنَّ مَحبَّتَه كانت تُقرِّبُه مِنه". فالعَشَّارُ وقَفَ بَعيدًا، لكنَّ اللهَ اقتَرَبَ مِنه لِيَسمَعَه، كما يُؤكِّدُ المزمور: "الرَّبُّ تَعالى ونَظَرَ إلى المُتَواضِع، أَمّا المُتَكَبِّرُ فيَعرِفُه مِن بَعيد" (مزمور 138: 6).
وبإحساسِ ضَميرِه كانَ بَعيدًا، لكن بتَواضُعِه اقتَرَبَ. وما التَّواضُعُ إِلّا انْفِتاحُ القَلبِ نَحوَ الله، والخُضوعُ لِنِعمتِهِ وكَلِمَتِه المُقَدَّسَة. فاللهُ "يَسكُنُ مَعَ المُنسَحِقِ والمُتَواضِعِ الرّوح" (أشعيا 57: 15). صَلّى العَشَّارُ بتَواضُعٍ غَيرِ مُتَّكِلٍ على ذاتِه، مُعتَرِفًا أنَّهُ عَبدٌ ضَعيف: "ولَمْ يَجْرُؤْ أَن يَرفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماءِ" (لوقا 18: 13)، لأنَّ ضَميرَهُ كانَ يُخْفِضُه. ولم يُرِدْ أنْ يَكونَ حَكيمًا في عَينَي نَفسِه، كَما يَنصَحُ سِفرُ الأَمثال: "لا تَكُنْ حَكيمًا في عَينَي نَفسِكَ، إِتَّقِ الرَّبَّ وجانِبِ الشَّرّ" (الأمثال 3: 7). ويقول القِدّيس أوغسطينوس أيضًا: "إِنَّ اللهَ لا يُميلُ أُذُنَه إلى الغَنيِّ، بل إلى الفَقيرِ والمِسكين، إلى المُتَواضِعِ الَّذي يَعترِفُ بِخَطاياه، إلى الَّذي يَتَضَرَّعُ لِلحُصولِ على الرَّحمَةِ الإلهيَّة، لا إلى الشَّبعانِ الَّذي يَتَفاخَرُ بِنَفْسِه كَمَن لا يَحتاجُ إلى شَيء" (أحاديث عن المزامير، مزمور 85).
ب) صَلاةٌ مُتَواضِعَةٌ في قَرعِ صَدرِهِ
صَلّى العَشَّارُ وهو يَقرَعُ صَدرَهُ، دَلالةً على شُعورِهِ بِالخَطيئةِ واعترافِهِ بِمَسؤوليّتِهِ عن اختياراتِهِ وأفعَالِهِ. عَرَفَ حَقيقةَ نَفسِهِ، عَرَفَ أنَّهُ خاطِئٌ ولا يَستَحِقُّ شَيئًا، وأنَّهُ لا يَقدِرُ أن يَعيشَ دونَ رَحمةِ الله. فَهُوَ خاطِئٌ أَمامَ قَداسةِ الله، ومُحتاجٌ إلى رَحمَتِهِ وغُفرانِهِ، وَيَعلَمُ أنَّهُ سَيَهلِكُ حَتمًا إِنْ لَمْ يَنَلْ غُفرانًا لِخَطاياهِ. لِذلِكَ عَبَّرَ عن إيمانِهِ بتوبتِهِ وتواضُعِهِ، وَبِإنكارِهِ لِذاتِهِ، وَبِطَلَبِهِ لِرَحمَةِ الله وغُفرانِهِ. يَميلُ الإنسانُ المُتَواضِعُ إلى الاتِّجاهِ نَحوَ الله بِقَلبٍ تائِبٍ مُنسَحِقٍ، كَما جاءَ في سِفرِ المَزامير: "إِنَّما الذَّبيحَةُ للهِ رُوحٌ مُنكَسِر، القَلبُ المُنكَسِرُ والمُنسَحِقُ لا تَزْدَرِهِ يا الله" (مزمور 51: 19).
فَالبَحثُ عَنِ اللهِ هُوَ التِماسُ التَّواضُعِ (صفينا 2: 3)، والمُتَواضِعُ — باللُّغةِ اليونانيَّة πραΰς — يَجعَلُ خُضوعَهُ للهِ صَبُورًا ووَدِيعًا، كَما قالَ يسوع: "تَعلَّموا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ ومُتواضِعُ القَلب" (متى 11: 29).
ومِثلُ صَلاةِ العَشَّارِ المُتَواضِعَة، يَجعَلُ التَّواضُعُ الإنسانَ يَنفتحُ لِنِعمةِ اللهِ ويُمجِّدُه، لأَنَّ "الرَّبَّ يَضَعُ ويَرفَع" (1 صموئيل 2: 7)، و"قَبْلَ المَجْدِ التَّواضُع" (الأمثال 15: 33).
صَلّى العَشَّارُ بِرُوحٍ مُتَواضِعَةٍ، فَبِالرُّغمِ مِن خَطيئتِهِ، تَسامى على الفِرِّيسيِّ الَّذي كانَ يَتَفاخَرُ بِأصوامِهِ ودَفعِ العُشور. تَغَلَّبَ العَشَّارُ على الكِبرياءِ والمَجدِ الباطِلِ بتَواضُعِهِ. فاللهُ يَستَجيبُ لِصاحِبِ القَلبِ المُنسَحِقِ المُتَّكِلِ عَلَيه، لا لِصاحِبِ الاعْتِدادِ والمُكتَفِي بِذاتِهِ. إِنَّهُ يَقرَعُ صَدرَهُ، مُعتَرِفًا بِخَطاياهُ، كَمَن يَكشِفُ مَرضَهُ أمامَ الطَّبيب، ويَسأَلُهُ الشِّفاءَ والرَّحمَة.
شَعَرَ العَشَّارُ أَنَّهُ لا شَيءَ بِسَبَبِ خَطاياه، وشَعَرَ أَنَّ اللهَ وَحدَهُ يَغفِرُ خَطاياه. وَهذَا الشُّعورُ بِالانْسِحاقِ هُوَ الطَّريقُ المَقبولُ لِلحُصولِ على مَراحِمِ الله، إِذ رَبَطَ المَسيحُ التَّوبَةَ بِالتَّواضُع. فَالخاطِئُ شَخصٌ مَدينٌ، يُبرِئُهُ اللهُ مِن دَينِهِ بِالصَّفحِ عَنهُ (العدد 14: 19). ويُؤَكِّدُ المَسيحُ أَنَّ الإِبراءَ مَجَّانيٌّ، كَما قالَ لِسِمعانَ وهُوَ في بَيتِ الفِرِّيسيّ: "كانَ لِمُدايِنٍ مَدينانِ، ولَمْ يَكُنْ بِإِمكانِهِما أَن يُوفِيا دَينَهُما، فَأَعفاهُما جَميعًا (لوقا 7: 42). وهكذا يُصبِحُ قَرعُ صَدرِ العَشَّارِ صَدىً لِصَلاةِ التَّائِبِ الَّذي يَعرِفُ ذاتَهُ وَيَثقُ بِمَحبَّةِ اللهِ وغُفرانِهِ، فيَجِدُ الرَّاحَةَ في رَحمةِ اللهِ الَّذي "يُقَاوِمُ المُستَكبِرِينَ، وأمَّا المُتَواضِعونَ فيُعطيهِم نِعمَة" (يعقوب 4: 6).
ج) صَلاةٌ مُتَواضِعَةٌ في مَضمونِها
ذَهَبَ العَشَّارُ، جابي الضَّرائِب، إلى الهَيكلِ مُدرِكًا خَطيئتَهُ ومُعتَرِفًا بِها أمامَ الله، مُلتمِسًا رَحمَتَه. صَلَّى وهو شاعِرٌ أنَّهُ لا يَستَحِقُّ شَيئًا، لأَنَّ خَطاياهُ هي سَبَبُ عَدمِ استِحقاقِهِ. ولِذلِكَ وَقَفَ لا يَطلُبُ شَيئًا سِوى مَراحِمِ اللهِ قائِلًا: "اللَّهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطِئ!" (لوقا 18: 13). ولِهذِهِ الصَّلاةِ البَسيطَةِ والعَميقَةِ غَفَرَ اللهُ لَهُ خَطاياهُ وسامَحَه. ويُعَلِّقُ القِدّيس باسيليوس الكبير قائلاً: "التَّواضُعُ لا يَعني اِنحِطاطَ الفِكرِ، بَل سُمُوَّهُ وَارْتِفاعَهُ مِن خِلالِ اِتِّحادِهِ بِالسَّيِّدِ المَسيحِ المُتَواضِع، فَنَحمِلُ مَعَ الرَّسولِ بولس فِكرَ المَسيح. فَلنَقتَرِبْ مِنَ الرَّبِّ الصَّالِحِ القُدُّوسِ بِمَوقِفِ التَّواضُعِ وَالتَّوبَةِ، عَلى مِثالِ العَشَّارِ، لِيَرحَمَنا نَحنُ الخُطاةَ أيضًا".
الإنسانُ الخاطِئُ الَّذي يَعرِفُ حالَتَهُ لا يَعتَمِدُ على قُواهُ الذّاتِيَّة، بَل يَغتَنِمُ كُلَّ الفُرَصِ المُتاحةِ لِتَوبَتِهِ وَعودَتِهِ عَن غَيِّهِ. ولَم يَكُن لَدَى العَشَّارِ ما يَفتَخِرُ بِهِ سِوى طَلَبِهِ رَحمَةَ الله. فَقَدِ اقتَصَرَت صَلاتُهُ على كَلِماتِ المَزمورِ: "اِرْحَمْني يا اللهُ كَعَظيمِ رَحمَتِكَ" (مزمور 51: 3)، "إِنَّما الذَّبيحَةُ للهِ رُوحٌ مُنكَسِر، القَلبُ المُنكَسِرُ والمُنسَحِقُ لا تَزْدَرِيهِ يا الله" (مزمور 51: 19). اِعتَرَفَ بِضَعفِهِ، فَنالَ المَغفِرَةَ وَالخَلاص. ويُعَلِّقُ يوحنّا السُّلَّميّ قائلاً: "لِتَكُنْ صَلاتُكُم في غايَةِ البَساطَة؛ فَقَد تَمكَّنَت كَلِمَةٌ واحِدَةٌ مِنَ العَشَّارِ مِنِ التَّأثيرِ على رَحمَةِ الله، كَما أَنَّ كَلِمَةً واحِدَةً مُفعَمَةً بِالإيمانِ أَنقَذَتِ اللِّصَّ الصّالِح" (السلّم المقدّس، الفَصل 28؛ راجع لوقا 23: 42). ويُؤكِّدُ البابا فرنسيس قائلاً: "إِنَّ الخُطوَةَ الأُولى في الصَّلاةِ هِيَ أنْ يَكونَ المَرءُ مُتَواضِعًا، فيَتَوجَّهَ إلى الآبِ السَّماويِّ قائلاً: "أَنا خاطِئٌ وَضَعيف؛ أَنا شِريرٌ..."، وَالرَّبُّ سَيُصغي، لأَنَّهُ يُصغي إلى الصَّلاةِ المُتَواضِعَة" (عِظَةُ الأَربِعاءِ، 5 كانون الثاني 2018).
اِعتَمَدَ العَشَّارُ على رَحمَةِ اللهِ طالِبًا الرَّحمَةَ، فَنالَها. وَأَصبَحَت هذِهِ الصَّلاةُ "صَلاةَ القَلب"، الَّتي رَدَّدَها السَّائِحُ الرُّوسيّ في دُروبِ الرَّبِّ قائلاً: "يا يَسوعُ، ابنُ داود، ارحَمني أَنا الخاطِئ". فَقدِ اشتَرَكَت جَميعُ أعضائِهِ في تِلكَ الصَّلاة: رِجلَاهُ وَيَداهُ، قَلبُهُ وَعَقلُهُ، لِسانُهُ وَصَدرُهُ وَعَيناهُ. وَأَصبَحَت صَلاةُ العَشَّارِ نَمُوذَجًا في صَلاةِ الكنيسَة. وفي صَلاةِ الغُروب نَقول:"فَما أَجسَرَ أنْ أَنظُرَ إلى عُلُوِّ السَّماءِ، لَكِنِّي أَتَّكِلُ على غِنى رَحمَتِكَ وَمَحبَّتِكَ لِلبَشَرِيَّة، صارِخًا قائِلاً: اللَّهُمَّ اغفِرْ لي أَنا الخاطِئُ وَارْحَمني". وكذلك في صَلاةِ النَّوم نُرتِّل: "لكِنِّي أَتَّخِذُ صُورَةَ العَشَّارِ، قارِعًا صَدري قائِلاً: اللَّهُمَّ ارْحَمني أَنا الخاطِئ".
ج) نَتيجَةُ صَلاةِ العَشَّار
ماذا كانتِ النَّتيجة؟ "إِنَّ هذا (العَشَّار) نَزَلَ إِلى بَيتِهِ مَبْرورًا، وأمَّا ذاكَ (الفِرِّيسي) فَلا. فَكُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَهُ وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِع" (لوقا 18: 14). كيفَ نَتوقَّعُ مِنَ الرَّبِّ أَنْ يُصغي إلى صَلاةِ الفِرِّيسي، إِذا كانَ لا يَقتَرِبُ مِنهُ بِتَواضُعٍ وبِقَلبٍ مُنسَحِقٍ تائِب؟ فالفِرِّيسيّ الغَنِيّ كانَ يَتَغَنَّى بِمَزاياه، أَمّا العَشَّارُ الفَقيرُ فكانَ يَعترِفُ بِخَطاياه. وكما قالَ النَّبيّ هوشَع على لِسانِ الرَّبِّ: "فَإِنِّي أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحَة"(هوشع 6: 6).
إِنَّ البِرَّ الذّاتِيَّ والإطراءَ الذّاتِيَّ مُدمِّرانِ وخَطيرانِ. كانت صَلاةُ الفِرِّيسي متمركِزَةً على ذاتِه لا على الله، فلم يُسبِّحِ الرَّبَّ ولم يَطلُب رَحمَتَهُ أو مَعونتَه. ومن جانِبٍ آخَرَ، فإنَّ ازدراءَهُ لِلقَريبِ أَغْلَقَ بابَ قَلبِ اللهِ أمامَه، لأَنَّ "إِنَّ اللهَ يُكابِرُ المُتَكَبِّرين ويُنعِمُ على المُتَواضِعين" (يعقوب 4: 6). ويُقدِّمُ لنا أَفضَلَ شَرحٍ لِهذِهِ الحَقيقَةِ نَشيدُ العَذراءِ مَريم الَّذي يُمجِّدُ اللهَ القَديرَ القَلْبِيِّ: "كَشَفَ عَن شِدَّةِ ساعِدِهِ، فَشَتَّتَ المُتَكَبِّرينَ في قُلوبِهِم. حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروشِ، وَرَفَعَ الوُضَعاء" (لوقا 1: 51–52).
غادَرَ الفِرِّيسيُ الهَيكلَ مَحرومًا مِنَ الغُفران، أَمّا العَشَّارُ فَذَهَبَ وَقَلبُهُ مُتَجَدِّدٌ بِالرَّحمَةِ الَّتي حَظِيَ بِها.
حَكَمَ العَشَّارُ على نَفْسِهِ، فَدافَعَ اللهُ عن قَضيَّتِهِ. وهنا نَفهَمُ مَغزى ما يُعَلِّمُنا إيّاه الرَّسول بولس: "فَليَنظُرْ كُلُّ واحِدٍ في عَمَلِهِ هُوَ، فيَكونُ افتِخارُهُ حِينَئِذٍ بِما يَخُصُّهُ مِن أَعمالِهِ فَحَسْبُ، لا بِالنَّظَرِ إِلى أَعمالِ غَيرِهِ" (غلاطية 6: 4). العَشَّارُ اتَّهَمَ نَفسَهُ، فَدافَعَ اللهُ عَنهُ. واسمعْ ما يَقولُ الديّانُ الإلهيّ: "إِنَّ هذا نَزَلَ إلى بَيتِهِ مَبرورًا" (لوقا 18: 14). لِماذا؟ لأَنَّ "كُلَّ مَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِعَ" (لوقا 18: 14). إِنَّ مِعيارَ اللهِ يَختَلِفُ عن مِعيارِ البَشر؛ فَأَحكامُهُ لا تَستَندُ إلى المَظاهِرِ بل إلى نَقاوَةِ القَلبِ.
لقد نالَت صَلاةُ العَشَّارِ المُتَواضِعَةُ لَهُ نِعمةَ الخَلاص، كَما يُؤكِّدُ كِتابُ الأَمثالِ: "ثَوابُ التَّواضُعِ وَمَخافَةِ الرَّبِّ هُوَ الغِنى وَالمَجدُ وَالحَياة" (الأمثال 22: 4). إِنَّ اللهَ يَنظُرُ إلى المُتَواضِعينَ وَيَحنو عَلَيهِم (مزمور 138: 6)، فَيَنالونَ مَغفِرَةَ الخَطايا، لأَنَّ "هَبَةَ اللهِ هي الحَياةُ الأَبديَّةُ في المَسيحِ يَسوع" (رومة 6: 23). وتَتِمُّ هذِهِ المَغفِرَةُ عِندَ التَّوبَةِ الحَقيقيَّةِ القَلبِيَّةِ، كَما تَقولُ الكَلِمَةُ الإلهيَّة: "إِذا اعتَرَفْنا بِخَطايانا فَإِنَّهُ أَمينٌ وَبارٌّ، يَغفِرُ لَنا خَطايانا ويُطَهِّرُنا مِن كُلِّ إِثم" (1 يوحنّا 1: 9).
لم يَلتَمِسِ العَشَّارُ المُبرِّرات، بَل أَلقى نَفسَهُ بَينَ ذِراعَيِ الرَّحمَةِ الإلهيَّة، وابتهَلَ بانسِحاقِ القَلبِ طالِبًا الغُفران، فاستُجيبَت صَلاتُه. تَواضُعُهُ وَمَعرِفَتُهُ لِخَطاياهُ جَعَلاهُ يَسبِقُ الفِرِّيسيَّ إلى الغُفرانِ والخَلاصِ والبِرِّ والسَّلام، كَما قالَ الرَّبُّ لِلفِرِّيسيِّين:"إِنَّ العَشَّارينَ وَالزَّوانيَ يَسبِقونَكُم إلى مَلكوتِ الله" (متى 21: 31). لِذلِكَ يَنصَحُ الكِتابُ المُقدَّسُ:"إِزْدَدْ تَواضُعًا كُلَّما ازْدَدْتَ عَظَمَةً، فَتَنالَ حُظوَةً لَدَى الرَّبِّ" (يشوع بن سيراخ 3: 20). "صَلاةُ المُتَواضِعِ تَنفُذُ الغُيومَ، ولا يَهدَأُ حَتّى تَبلُغَ السَّماء» (يشوع بن سيراخ 35: 17). وهَكذا تُعلِّمُنا الكنيسَةُ أَن نُرَدِّدَ صَلاةَ الرَّحمَةِ: "يا رَبّي يَسوعَ المَسيح، اِرحَمني أَنا الخاطِئ"، ونُصلّي في كُلِّ قُدّاسٍ: "يا رَبُّ اِرحَمْ" — كِيريَا إلَيْسُون (Κύριε ἐλέησον. فَتُصبِحُ الصَّلاةُ مِعيارًا لِتَقييمِ حَياتِنا أمامَ الله، عَلى ضَوءِ كَلِمَتِهِ، وَسُؤالًا دائمًا في ضَميرِ كُلِّ مُؤمِن: كيفَ نَقفُ أمامَ الله؟ أَبِرٍّ ذَاتِيٍّ كالفِرِّيسي، أَمْ مُتَواضِعٍ تائِبٍ كالعَشَّار؟
3. العِبْرَة: التعليم الإنجيلي، واللاهوت الروحي، والتطبيق العملي في حياة المؤمن اليوم
أوضَحَ يسوعُ مَعنى المَثَلِ، وقالَ إنَّ العَشَّارَ هوَ الشَّخصُ الَّذي نالَ المَوقِفَ الصَّحيحَ أمامَ الله، لأَنَّهُ كانَ مُتَواضِعًا. أَمَّا الفِرِّيسيُّ، فَرَجَعَ إِلى بَيتِهِ غَيرَ مَبرورٍ، كَما كانَ مِن قَبلُ، لأَنَّهُ نَفَخَ ذاتَهُ أمامَ الله. دَخَلَ الفِرِّيسيُّ بَيتَ اللهِ مُتَعالِيًا مُمْتَلِئًا مِن ذاتِهِ، فَخَرَجَ خالِيَ الوفاض؛ أَمَّا العَشَّارُ، فَدَخَلَ مُفرَغًا مِن ذاتِهِ، لِيَملأَهُ اللهُ بنِعمَتِهِ. ومِن هُنا نَتَعلَّمُ العِبَرَ التّالية:
أ) الصَّلاةُ بروحِ التَّواضُعِ والتَّوبَة: يُعلِّمُنا مَثَلُ الفِرِّيسيِّ والعَشَّارِ كيفَ نُصَلِّي بروحِ التَّواضُعِ والتَّوبَةِ الحَقيقيَّة. فالعَشَّارُ يُمَثِّلُ الخاطِئَ الَّذي يَعرِفُ ضَعفَهُ، وهو في الوقتِ عَينِهِ رَمزٌ لِجَماعةِ الأُمَمِ الَّتي اشتاقَت إلى الخَلاصِ، رُغمَ افتِقارِها إلى المَعرِفَةِ وإِلى كُلِّ ما تَمَتَّعَ بِهِ اليَهودُ مِن عُهودٍ ووُعودٍ وشَريعَةٍ ونُبُوءَات. فَكُلُّ مَن يَتَّكِلُ على بَرِّهِ يَسقُط، وأَمَّا مَن يَتَّكِلُ على بَرِّ المَسيحِ شاعِرًا بِخَطاياهِ فَيَتَبَرَّر. وكَما قالَ شكسبير: "التَّواضُعُ يُحَطِّمُ الغُرور". فمَن يَتَّكِلُ على بَرِّهِ الذّاتِيّ، يَرى في نَفسِهِ كُلَّ الحَسَنات، ولا يَرى في غَيرِهِ إِلّا السَّيِّئات (راجع رؤيا 3: 17–19). ويقولُ القِدّيس أوغسطينوس: "تَشبَّهْ بِالعَشَّارِ لِئلّا تُدانَ مَعَ الفِرِّيسيّ"، ويُضيفُ قائلاً: "لا تَيْأَسْ، فإِنَّ أَحَدَ اللِّصَّينِ خَلُصَ، ولا تَغتَرَّ، فإِنَّ اللِّصَّ الآخَرَ هَلَكَ". إِذًا، يَجِبُ عَلَينا أَنْ نُصَلِّي مِثلَ العَشَّارِ أمامَ الله، مَصدَرِ "كُلِّ أُبوَّةٍ في السَّماءِ والأَرض" (أفسس 3: 15)، لأَنَّنا جَميعًا مُحتاجونَ إِلى رَحمَةِ اللهِ كُلَّ يَوم.
ب) تَجنُّبُ الاِحتِقارِ وَالحُكمِ على الآخَرين: يَدعُونا يَسوعُ لِلصَّلاةِ دونَ احتِقارِ الآخَرين، عالِمينَ أَنَّنا خُطاةٌ، لا نَفوقُ غَيرَنا في شَيء، كَما ادَّعى الفِرِّيسيّ. ظَنَّ أَنَّ اللهَ يُرضيهِ إِتمامُ الفَرائِضِ دونَ نَقاوَةِ القَلبِ وَاتِّضاعِهِ، فَرَأى أَنَّهُ أَفضَلُ مِن غَيرِهِ، دونَ أَنْ يَذكُرَ ضَعفَهُ أَو يُنَقِّيَ قَلبَهُ مِنَ الخَفايا. ومِن هُنا، فَكُلُّ مَن يَعتَبِرُ نَفسَهُ بارًّا، وَيَحتَقِرُ الآخَرين، يُصبِحُ فِرِّيسيًّا فاسِدًا وَمُرائيًا. ويُعلِّقُ البابا فرنسيس قائلاً: "إِنَّ الغُرورَ يُفسِدُ كُلَّ عَمَلٍ صالِح، وَيُفرِغُ الصَّلاةَ مِن مَعناها، وَيُبعِدُنا عَنِ اللهِ وَالآخَرين". فَالرَّبُّ "شَتَّتَ المُتَكَبِّرينَ في قُلوبِهِم... وَرَفَعَ الوُضَعاء" (لوقا 1: 51–52). وهذا المَثَلُ لا يَزالُ صالِحًا لِعَصرِنا؛ فَكَم مِن أُناسٍ يُشبِهونَ الفِرِّيسيّ في تَصَرُّفاتِهِم، يَفتَخِرونَ بِبِرِّهِم الذّاتِيّ، وَيَرَونَ أَنَّهُم أَفضَلُ مِن غَيرِهِم: في ثَقافَتِهِم وَعِلمِهِم، في أَموالِهِم وَمُمتَلَكاتِهِم، في جِنسِيَّتِهِم وَقومِيَّتِهِم، بل وفي اِنْتِمائِهِم السِّياسِيِّ والدِّينِيّ.
ج) التَّعلُّمُ مِنَ المَعلِّمِ الوَديع: يَدعُونا يَسوعُ أَنْ نَتَخَرَّجَ مِن مَدرَسَتِهِ، هُوَ الَّذي قالَ: "تَعلَّموا مِنِّي لأَنِّي وَديعٌ ومُتَواضِعُ القَلب" (متى 11: 29). فَالتَّواضُعُ، كَما يَقولُ القِدّيس أوغسطينوس، هو "عَلامَةُ المَسيح". لِنُصَلِّ إذًا مِثلَ العَشَّارِ، بِكُلِّ تَواضُعٍ، دونَ طَلَبٍ سِوى مَراحِمِ الله، قائلين:"اللَّهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطِئ"، لأَنَّ "اللهَ يُكابِرُ المُتَكَبِّرين ويُنعِمُ على المُتَواضِعين" (1 بطرس 5: 5). وَيَجِدُ كَلامُ بُطرسَ الرَّسولِ صَدى في المَزامير: "دَعا بائِسٌ، فَسَمِعَهُ الرَّبّ، ومِن جَميعِ مَضايِقِهِ خَلَّصَه" (مزمور 34: 7). إِنَّ الغُفرانَ يَأتي مِن خِلالِ اِعتِرافِنا بِخَطايانا بِتَواضُعٍ، وَهُوَ شَرطٌ أَساسيٌّ لِدُخولِ مَلكوتِ السَّماوات.
د) التَّواضُعُ مَدخلُ الغُفرانِ والخَلاص: يَدعُونا يَسوعُ أَخيرًا في هذَا المَثَلِ أَنْ نَتَقَدَّمَ إِلَيهِ بِرُوحِ التَّواضُعِ وَالاِنسِحاقِ وَالنَّدَمِ وَالتَّوبَةِ عَنِ الخَطيئَة، طالِبِينَ المَغفِرَةَ الَّتي تَأتي كَهِبَةٍ مَجّانِيَّةٍ مِن الله، دونَ مُقابِلٍ مِنَ الإنسان، لأَنَّ المَسيحَ يَسوعَ قَد دَفَعَ ثَمَنَ هذَا الغُفرانِ بِدَمِهِ الغالِي الثَّمين: "قَد عَلِمتُم أَنَّكُم لم تُفتَدَوا بِالفاني، مِن فِضَّةٍ أَو ذَهَبٍ، مِن سيرَتِكُمُ الباطِلَةِ الَّتي وَرِثتُموها عَن آبائِكُم، بَل بِدَمٍ كَريمٍ، دَمِ الحَمَلِ الَّذي لا عَيبَ فيهِ ولا دَنَس، دَمِ المَسيح" (1 بطرس 1: 18–19). إنَّ مِثلَ الفِرِّيسيِّ والعَشَّارِ هو مِرآةٌ تُظهِرُ لنا طَريقَ الخَلاص: لا مَن يَرفَعُ نَفسَهُ يُبرَّر، بَل مَن يُوَضِعُها أمامَ الله. فَالتَّواضُعُ ليسَ ضَعفًا، بَل حَقيقَةُ القُوَّةِ الَّتي تَجذِبُ نِعمَةَ اللهِ إلى القَلبِ البَشَرِيّ، وَتُدخِلُه في مَسيرةِ التَّبريرِ وَالمَصالَحةِ وَالسَّلام.
هـ) دعوةٌ إلى صَلاةِ القَلبِ اليَوم: يَدعونا يسوعُ اليوم، كما دَعا العَشَّارَ بالأمس، إلى أن نَدخُلَ إلى حَضرَةِ اللهِ بِقَلبٍ صادِقٍ ومُتواضِعٍ، لا بِكَثْرَةِ الكَلِماتِ ولا بِتَظاهُرِ الأَعْمال، بَل بِصَلاةِ القَلبِ الَّتي تَنبُعُ مِن عُمقِ الإِحساسِ بِالحاجَةِ إلى الرَّحمَةِ الإلهيَّة. فالقُدّيس إفرام السُّرياني يقول: "قَلبٌ مُنسَحِقٌ أَفضَلُ مِن أَلفِ كَلِمَةٍ، وَتَنَهُّدٌ صادِقٌ يَبلُغُ السَّماءَ أَسرعَ مِن خُطَبِ المُتَكَبِّرين". فَصَلاةُ العَشَّارِ هِيَ نَفْسُها صَلاةُ القَلبِ الَّتي تُرَدَّدُ في الكنيسةِ الشَّرقيَّةِ مُنذُ القُدَم: "يا رَبِّي يَسوعَ المَسيح، ابنَ اللهِ الحَيّ، اِرحَمني أَنا الخاطِئ". هي صَلاةُ التَّائِبِ الَّذي يُريدُ أَنْ يَسكُنَ المَسيحُ في قَلبِهِ، وَيَتَحوَّلَ أنينُهُ إلى سَلام، وَدُموعُهُ إلى نِعمة، وَتَواضُعُهُ إلى مَجْدٍ إلهيّ.
تُعلِّمُنا هذه الصَّلاةُ أنَّ اللهَ لا يَطلُبُ مِنّا كَمالَ الألفاظ، بَل صِدقَ القَلب. فَكُلُّ مَن يَقرَعُ صَدرَهُ اليومَ في صَلاةٍ صادِقَةٍ، يَجِدُ الرَّبَّ فاتِحًا ذِراعَيْهِ لِيَقبَلَهُ، كَما قَبِلَ العَشَّارَ في الهَيكل. فِي بُيوتِنا، فِي العَملِ، فِي العائِلَةِ وَالخِدمَةِ، يَدعُونا الرَّبُّ إِلى تَبنِّي هذِهِ الصَّلاةِ البَسيطَةِ الدّاخِلِيَّةِ الَّتي تُجَدِّدُ نَبضَ الإيمانِ في القَلبِ وَتُحَوِّلُ كُلَّ لَحظَةٍ إلى لِقاءٍ معَ الله. طوبى لِمَن يَعرِفُ أَنَّهُ خاطِئ، لأَنَّهُ سَيُختَبَرُ بِرُّ اللهِ في حَياتِهِ.
الخُلاصَة
قَدَّمَ لَنا يسوعُ مَثَلَ الفِرِّيسيِّ والعَشَّارِ، واصِفًا نَهجَيْنِ مُختَلِفَيْنِ لِلحَياةِ وَلِلعَلاقَةِ مَعَ الله. فَقَد صَعِدَ رَجُلانِ إِلى الهَيكَلِ لِيُصَلِّيا (لوقا 18: 10)، لكنَّهما فَعَلا الأَمرَ نَفسَهُ بِطَريقَتَيْنِ مُتَناقِضَتَيْنِ:
الفِرِّيسيُّ يَقِفُ أَمامَ اللهِ مُتَكَبِّرًا، يُبْرِزُ ذَاتَهُ وَكَمالَ أَعمالِهِ وَحِفظَهُ لِلشَّريعَةِ، فَلا يَرى اللهَ بَل نَفسَهُ، ويَزدَري غَيرَهُ؛ فَحَرَمَ نَفسَهُ مِن رَحمَةِ الله.
أَمّا العَشَّارُ "فَوَقَفَ بَعيدًا، لا يُريدُ ولا أَن يَرفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماءِ، بَل كانَ يَقرَعُ صَدرَهُ ويَقول: اللَّهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطِئ" (لوقا 18: 13). فَبِمَوقِفِهِ المُتَواضِعِ نالَ العَشَّارُ رَحمَةَ الله وغُفرانَهُ.
يُعَلِّمُنا يسوعُ مِن خِلالِ هاتَيْنِ الشَّخصِيَّتَيْنِ سِرَّهُ الإلهيَّ، وَيَكشِفُ الفَرقَ بَينَ التَّواضُعِ الحَقيقيِّ وَالزّائِف.
ويَقولُ القِدّيس يُوحَنّا الذَّهبيُّ الفَمّ: "العَشَّارُ اِعتَرَفَ أَنَّهُ خاطِئ، وَبِذلِكَ أَصبَحَ بارًّا؛ فَكَم بِالأَحرَى البارُّ الَّذي يَعترِفُ أَنَّهُ خاطِئ، فَهُوَ سَيَرى ازديادَ بِرِّهِ وَاستِحقاقاتِهِ! فَالتَّواضُعُ يَجعَلُ الخاطِئَ بارًّا، لأَنَّهُ يَعترِفُ بِحَقيقَةِ حَياتِهِ؛ وَفي نُفوسِ الأَبرارِ يَعمَلُ التَّواضُعُ الحَقيقيُّ بِقُوَّةٍ أَكبَر" (عِظاتٌ عَنِ القِدّيسِ مَتّى، العِظَةُ الثّالِثَة).
ضَرَبَ يسوعُ هذا المَثَلَ لِيُعَلِّمَ تَلاميذَهُ كَيفَ يُصَلّونَ. فَصَلاةُ الفِرِّيسيِّ كانَت خِطابًا مُتَكَبِّرًا، أَمّا صَلاةُ العَشَّارِ فَدُعاءٌ مُتَواضِعٌ. الأَوَّلُ تَحَدَّثَ عَن فَضائِلِهِ وَعَن خَطايا غَيرِهِ؛ أَمّا الثّاني فَطَلَبَ رَحمَةَ اللهِ عَن نَفسِهِ، دونَ أَنْ يَدينَ غَيرَهُ. الأَوَّلُ اتَّكَلَ على بَرِّهِ الذّاتِيّ، وَالثّاني اتَّكَلَ على رَحمَةِ الله. الأَوَّلُ صَلّى بِشَفَتَيْهِ، وَالثّاني صَلّى بِقَلبِهِ. وَيُخَلِّصُ القِدّيس يُوحَنّا الذَّهبيُّ الفَمّ المَثَلَ بِصُورَةٍ بَليغَةٍ قائلًا: "الفِرِّيسيُّ رَكِبَ مَركَبَةً يَجرُّها البِرّ مَعَ الكِبرياءِ، أَمّا العَشَّارُ فَرَكِبَ مَركَبَةً تَجرُّها الخَطيئَةُ مَعَ التَّواضُع؛ الأُولى تَحَطَّمَت وَهَوَت، وَالثّانِيَةُ اِرتَفَعَت وَعَلَت، بَعدَ أَنْ غُفِرَت خَطايا العَشَّارِ بِتَواضُعِهِ". كَم هُوَ عَظيمٌ تَواضُعُ الرّوح، وَكَم هُوَ مُفسِدٌ الكِبرياء! فالقدّيسونَ العِظامُ، حِينَ وَقَفوا أمامَ الله، لَم يَجِدوا شَيئًا يُقَدِّمونَهُ سِواهُم أَنفُسَهم، فَوقفوا أمامَهُ عُراةً وَضُعفاء: قالَ إِبراهيمُ أبُ الآباءِ: "قَد أَقدَمتُ على الكلامِ مَعَ سَيِّدي، وَأَنا تُرابٌ وَرَماد" (تكوين 18: 27). وقالَ أَيّوبُ الصِّدِّيقُ: "فَلِذلِكَ أَرجِعُ عَن كَلامي وَأَندَمُ في التُّرابِ وَالرَّماد"(أيّوب 42: 6). وقالَ داوُدُ النَّبِيّ: "ما الإِنسانُ يا رَبُّ حتَّى تَعرِفَهُ؟ وَابنُ الإِنسانِ حتَّى تُفَكِّرَ فيه؟"(مزمور 144: 3). "لَقَد لَصِقَت بِالتُّرابِ نَفْسي، فَأَحْيِني بِحَسَبِ كَلِمَتِكَ" (مزمور 119: 25). أَمّا اللهُ، فيُقِيمُ في المُتَواضِعينَ وَيَسْكُنُ في القُلوبِ المُنسَحِقَةِ، كَما جاءَ في نُبوءَةِ إِشَعْيا: "أَسكُنُ في العَلاءِ وَفي القُدْس، وَمَعَ المُنسَحِقِ وَالمُتَواضِعِ الرّوح، لِأُحيِيَ أَرواحَ المُتَواضِعينَ وَأُحيِيَ قُلوبَ المُنسَحِقين" (إشعيا 57: 15).
الدُّعــاء
نَسألكَ، أَيُّها الرَّبُّ الإِلَه، أَنْ تَجعَلَنا مُتَواضِعي القَلبِ وَالفِكرِ وَالنَّفْسِ في صَلاتِنا.
ولا تَدَعِ الكِبرياءَ تَسودُ عَلَينا فَتُفسِدَ حَياتَنا،
بَل عَلِّمْنا أَنْ نُحاسِبَ أَنفُسَنا قَبلَ أَنْ نُحاسِبَ الآخَرين،
وَساعِدْنا لِنَعرِفَ أَنَّنا خُطاةٌ لا نَجرُؤُ أَنْ نَنظُرَ نَحوَ السَّماءِ،
وَلَكِنَّنا نَتَّكِلُ على غِنى رَحمَتِكَ وَمَحبَّتِكَ لِلبَشَرِيَّة،
صارِخينَ مَعَ العَشَّارِ: "اللَّهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطِئ".
وَلْنُعَبِّرْ عَن شُكرِنا مَعَ أُمِّنا مَريَمَ المُتَواضِعَة قائلينَ: "تُعَظِّمُ نَفسي الرَّبَّ، وَتَبتَهِجُ رُوحي بِاللهِ مُخَلِّصي،
لأَنَّهُ نَظَرَ إِلى أَمَتِهِ الوَضيعة، وَرَحمَتُهُ مِن جيلٍ إِلى جيلٍ لِلَّذينَ يَتَّقونَهُ» (لوقا 1: 46–50). آمين.
قصة رمزية: العطاء الحقيقي
دَخَلَ رَجُلٌ إِلى الكَنيسَةِ لِيُصَلِّي، وَسَجَدَ أَمامَ هَيْكَلِ اللهِ وَقالَ:
"يا رَبّ، أَتيتُ اليومَ إِلَيكَ لأُقَدِّمَ لَكَ العالَمَ وَما يَحمِلُهُ مِن شُرورٍ وَمآسٍ وَحُروبٍ، لِتُحوِّلَهُ أَنتَ إِلى عالَمٍ مَملوءٍ أَفراحًا وَسَلامًا وَأَمانًا".
فَسَمِعَ صَوتَ الرَّبِّ يَقولُ لَه: "أَنا خَلَقتُ العالَمَ، وَأَنتَ ماذا فَعَلتَ لأَجلِهِ؟"
فأجابَ المُصَلِّي قائلاً: "يا رَبّ، أُقَدِّمُ لَكَ حَياتي كَي تَكونَ تَحتَ تَصَرُّفِكَ".
فَقالَ لَهُ الرَّبّ: "أَنا وَهَبتُكَ الحَياةَ، فَهَل عِشتَ وَفقَ إِرادَتي؟"
فَتابَعَ الرَّجُلُ قائلًا: "يا رَبّ، أُقَدِّمُ لَكَ أَعمالي"
فأَجابَهُ الرَّبّ: "أَنا وَهَبتُكَ الأَعمالَ وَالمَقدِرَةَ عَلى إِتمامِها"
فَخَرَّ المُصَلِّي ساجِدًا، وَقالَ بِانكِسارٍ: "يا رَبّ، لا أَملِكُ شَيئًا أُقَدِّمُهُ لَكَ، لأَنَّكَ أَنتَ مالِكُ كُلِّ شَيءٍ، وَما عِندي سِوى خَطايايَ وَذُنُوبي، فَها أَنا أُقَدِّمُها لَكَ"
وَفي تِلكَ اللَّحظَةِ سَمِعَ صَوتَ الرَّبِّ يَقولُ لَهُ بِحَنانٍ: "أَنا رَفَعتُ عَنكَ خَطاياكَ".