موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النَّص الإنجيلي (لوقا 1: 41-50)
40ودَخَلَت بَيتَ زَكَرِيَّا، فَسَلَّمَت على أَليصابات. 41 فلَمَّا سَمِعَت أَليصابات سَلامَ مَريَم، ارتَكَضَ الجَنينُ في بَطنِها، وَامتَلأَت مِنَ الرُّوحِ القُدُس، 42 فَهَتَفَت بِأَعلى صَوتِها: ((مُبارَكة أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكة ثَمَرَةُ بَطنِكِ! 43 مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟ 44 فما إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ حتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهاجًا في بَطْني 45 فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ)).46 فقالَت مَريَم: ((تُعَظِّمُ الرَّبّ نَفْسي 47 وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي 48 لأَنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة. سَوفَ تُهَنِّئُني بَعدَ اليَومِ جَميعُ الأَجيال 49 لأَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُمورًا عَظيمة: قُدُّوسٌ اسمُه 50 ورَحمَتُه مِن جيلٍ إِلى جيلٍ لِلذَّينَ يَتَقّونَه.
المُقَدِّمَةُ
يَصِفُ الإِنجِيلِيُّ لُوقا (لوقا 1: 40-50) زِيَارَةَ مَرْيَمَ العَذْرَاءَ لِخَالَتِهَا أَلِيصَابَاتَ المُسِنَّةِ، شَقيقَةِ أُمِّهَا حَنَّةَ، كَامتِدَادٍ لِبِشَارَةِ المَلاكِ جِبرائيلَ لِمَرْيَمَ العَذْرَاءِ، وَكَمُقَدِّمَةٍ لِأَحْدَاثِ مِيلادِ الرَّبِّ. وَقَدْ أَصْبَحَت أَلِيصَابَاتُ بَعدَ مَرْيَمَ العَذْرَاءِ ثَانِيَ شَخْصٍ يَعْتَرِفُ بِتَجَسُّدِ يَسُوعَ، كَلِمَةِ اللهِ، فِي أَحْشَاءِ مَرْيَمَ البَتُولِ، إِذْ قَالَت: "مِنْ أَيْنَ لِي أَنْ تَأْتِيَنِي أُمُّ رَبِّي؟" فَأَعْلَنَتْ بِذَلِكَ أَيْضًا أُمُومَةَ مَرْيَمَ
هَكَذَا تُؤَكِّدُ زِيَارَةُ مَرْيَمَ العَذْرَاءِ حَقِيقَةَ التَّجَسُّدِ، مِنْ خِلَالِ تَحِيَّةِ السَّلَامِ المُتَبَادَلَةِ بَيْنَ مَرْيَمَ وَأَلِيصَابَاتَ؛ فَهِيَ صُوَرٌ تَمْهِيدِيَّةٌ تَكْشِفُ عَنْ شَخْصِ السَّيِّدِ المَسِيحِ نَفْسِهِ وَعَمَلِهِ فِي حَيَاتِنَا، كَمَا تُظْهِرُ صُورَةَ مَرْيَمَ العَذْرَاءِ الَّتِي اخْتَارَهَا اللهُ مُنْذُ الأَزَلِ وَالِدَةً لاِبْنِهِ المُتَجَسِّدِ. فَمَا أَحْرَانَا نَحْنُ أَبْنَاءَ الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ أَنْ نَكُونَ فِي طَلِيعَةِ المُفْتَخِرِينَ بِمَرْيَمَ العَذْرَاءِ، سَيِّدَةٍ لَنَا وَسُلْطَانَةٍ عَلَيْنَا. فِي هَذِهِ الأَرْضِ وُلِدَتْ مَرْيَمُ، وَعَاشَتْ، وَأَصْبَحَتْ أُمًّا لِلمَسِيحِ، وَرَفِيقَةً لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ وَقِيَامَتِهِ، وَفِيهَا أَصْبَحَتْ أُمًّا لَنَا وَلِلكنِيسَةِ بِأَسْرِهَا. وَمِنْ هُنَا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ البَحْثِ فِي وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنجِيلِيِّ وَتَطْبِيقَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ وَاللَّاهُوتِيَّةِ.
أولًا: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 1: 39-45)
40 ودَخَلَت بَيتَ زَكَرِيَّا، فَسَلَّمَت على أَليصابات
تُشِيرُ عِبَارَةُ "دَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا" إِلَى دُخُولِ مَرْيَمَ إِلَى بَيْتِ زَكَرِيَّا بَعْدَ اجْتِيَازِهَا المَنَاطِقَ الجَبَلِيَّةَ، كَمَا أُدْخِلَ بَيْتُ عُوبِيدَ أَدُومَ تَابُوتُ العَهْدِ بَعْدَ اجْتِيَازِهِ تِلْكَ المَنَاطِقَ (2 صموئيل 6: 10). فَرِسَالَةُ يَسُوعَ، الكَلِمَةِ المُتَجَسِّدِ فِي مَرْيَمَ، قَدِ انْطَلَقَتْ مِنْهَا إِلَى العَالَمِ. وَهَكَذَا أَصْبَحَتْ مَرْيَمُ أَوَّلَ المُبَشِّرِينَ بِالمَسِيحِ، إِذْ هِيَ الحَامِلَةُ الأُولَى لِلبُشْرَى السَّعِيدَةِ، كَمَا قِيلَ: "مَا أَجْمَلَ عَلَى الجِبَالِ قَدَمَيِ المُبَشِّرِ المُخْبِرِ بِالسَّلَامِ، المُبَشِّرِ بِالخَيْرِ، المُخْبِرِ بِالخَلاصِ" (إِشَعْيَا 52: 7). تَحْمِلُ مَرْيَمُ إِلَى اليَهُودِيَّةِ السَّلَامَ وَالسَّعَادَةَ وَالخَلاصَ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوسُ قَائِلًا: "مَنْ كَانَ أَرْفَعَ مَنْزِلَةً يَزُورُ الأَقَلَّ؛ مَرْيَمُ ذَهَبَتْ إِلَى أَلِيصَابَاتَ وَذَلِكَ وَفْقَ المَنْطِقِ الإِلَهِيِّ الكَبِيرِ الَّذِي يَطْلُبُ الصَّغِيرَ وَيَبْحَثُ عَنْهُ"، كَمَا جَاءَ فِي تَسْبِيحِ زَكَرِيَّا أَبِي يُوحَنَّا: "تَبَارَكَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُ افْتَقَدَ شَعْبَهُ وَافْتَدَاهُ" (لوقا 1: 68). فَأَصْبَحَتْ زِيَارَةُ مَرْيَمَ لِأَلِيصَابَاتَ نَمُوذَجًا لِمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ زِيَارَاتُنَا؛ حَامِلَةً السَّلَامَ وَالفَرَحَ وَالبُشْرَى.
أَمَّا اسْمُ "زَكَرِيَّا" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ Ζαχαρίας، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ العِبْرِيَّةِ זְכַרְיָה) وَمَعْنَاهُ "ذَكَرَهُ اللهُ" أَوْ "مَذْكُورُ اللهِ"، وَيُشِيرُ إِلَى زَوْجِ أَلِيصَابَاتَ. وَهُوَ كَاهِنٌ مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا (لوقا 1: 5)، أَبُو يُوحَنَّا المَعْمَدَانِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ صِفَاتُهُ وَصِفَاتُ زَوْجَتِهِ بِأَبْسَطِ وَأَوْضَحِ العِبَارَاتِ: "كَانَ كِلَاهُمَا بَارًّا عِنْدَ اللهِ، تَابِعًا جَمِيعَ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ، وَلَا لَوْمَ عَلَيْهِمَا" (لوقا 1: 6). أَمَّا مَوْلِدُ يُوحَنَّا فَقَدْ أُعْلِنَ بِطَرِيقَةٍ عَجِيبَةٍ خَارِقَةٍ لِلعَادَةِ، وَلَمْ يُصَدِّقْ زَكَرِيَّا وَحْيَ المَلَاكِ، فَطَلَبَ عَلَامَةً لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ رَيْبَةٍ، فَكَانَتْ آيَتُهُ أَنَّهُ فَقَدَ قُوَّةَ النُّطْقِ وَبَقِيَ صَامِتًا إِلَى اليَوْمِ الثَّامِنِ بَعْدَ مِيلَادِ الصَّبِيّ. وَلَمَّا دَعَا ابْنَهُ "يُوحَنَّا" كَمَا قَالَ لَهُ المَلَاكُ، انْطَلَقَ لِسَانُهُ فِي الحَالِ وَعَاوَدَتْهُ قُوَّةُ الكَلَامِ، فَأَخَذَ يُسَبِّحُ اللهَ وَيَحْمَدُهُ مُمْتَلِئًا مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، مُسَبِّحًا الرَّبَّ بِنَشِيدٍ يُشْبِهُ التَّسَابِيحَ العِبْرَانِيَّةَ القَدِيمَةَ (لوقا 1: 57–80). وَرَدَ اسْمُ زَكَرِيَّا أَيْضًا فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ: "يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا" (سُورَةُ مَرْيَمَ: 7).
أَمَّا عِبَارَةُ "فَسَلَّمَتْ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ ἠσπάσατο (مَعْنَاهَا: حَيَّتْ) فَتُشِيرُ إِلَى تَحِيَّةِ سَلَامٍ تُتَرْجَمُ أَيْضًا بِمَعْنَى الفَرَحِ. وَتُذَكِّرُنَا هَذِهِ العِبَارَةُ بِقَوْلِ الرَّبِّ يَسُوعَ لِتَلَامِيذِهِ: "وَإِذَا دَخَلْتُمُ البَيْتَ فَسَلِّمُوا عَلَيْهِ" (متى 10: 12). فَإِنَّ كِتَابَ العَهْدِ الجَدِيدِ هُوَ كِتَابُ السَّلَامِ، وَقَدْ تَكَرَّرَتْ فِيهِ كَلِمَةُ "سَلَام" 88 مَرَّةً. وَإِذَا كُنَّا فِي حَالَةِ النِّعْمَةِ، فَلَا نَسْتَعْلِي عَلَى الآخَرِينَ، بَلْ نُبَادِرُهُمْ بِسَلَامٍ نَقِيٍّ. وَبِهَذَا السَّلَامِ هَنَّأَتْ مَرْيَمُ أَلِيصَابَاتَ بِمَا رُفِعَ عَنْهَا مِنْ عَارٍ، إِذْ كَانَتْ عَاقِرًا، وَكَانَ المُجْتَمَعُ اليَهُودِيُّ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ يَقِيسُ قِيمَةَ المَرْأَةِ بِقُدْرَتِهَا عَلَى الإِنْجَابِ. فَالتَّقَدُّمُ فِي السِّنِّ دُونَ إِنْجَابٍ كَانَ يُعَدُّ عَارًا اجْتِمَاعِيًّا وَمُعَانَاةً نَفْسِيَّةً.
أَمَّا اسْمُ "أَلِيصَابَات" بِالصِّيغَةِ اليُونَانِيَّةِ Ἐλισάβετ، وَالمُشْتَقَّةِ مِنَ اللَّفْظَةِ العِبْرِيَّةِ אֱלִישֶׁבַע – أَلِيشَبَعْ، وَمَعْنَاهُ "اللهُ يُقْسِمُ" أَوْ "يَمِينُ اللهِ "فَيُشِيرُ إِلَى امْرَأَةٍ بَارَّةٍ تَقِيَّةٍ مِنْ سِبْطِ لاوِي وَمِنْ بَيْتِ هَارُونَ (خروج 6: 23)، وَهِيَ زَوْجَةُ زَكَرِيَّا وَأُمُّ يُوحَنَّا المَعْمَدَانِ الَّذِي وُلِدَتْهُ وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي السِّنِّ. وَقَدْ أَشَارَ زَكَرِيَّا إِلَى مَعْنَى اسْمِ زَوْجَتِهِ عِنْدَمَا قَالَ: "القَسَمَ الَّذِي أَقْسَمَهُ لِأَبِينَا إِبْرَاهِيمَ" (لوقا 1: 73). وَكَانَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنْ أَقَارِبِ مَرْيَمَ العَذْرَاءِ، وَقَدْ أَوْحَى إِلَيْهَا الرُّوحُ القُدُسُ بِأُمُومَةِ العَذْرَاءِ لِلمَسِيحِ المُنْتَظَرِ، فَدَعَتْهَا قَائِلَةً: "أُمُّ رَبِّي" (لوقا 1: 43). وَهِيَ لَمْ تُبْدِ شَكًّا فِي قُدْرَةِ اللهِ عَلَى إِتْمَامِ وَعْدِهِ، فَصَارَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ بَعْدَ مَرْيَمَ تَعْتَرِفُ بِمَجِيءِ المُخَلِّصِ مِنْ بَطْنِ البَتُولِ. وَهَكَذَا تُمَثِّلُ أَلِيصَابَاتُ العَهْدَ القَدِيمَ الَّذِي يَنْتَظِرُ الخَلَاصَ، وَتُمَثِّلُ مَرْيَمُ العَهْدَ الجَدِيدَ الَّذِي سَمِعَ كَلِمَةَ اللهِ وَآمَنَ بِهَا وَقَبِلَهَا فِي قَلْبِهِ وَحَمَلَهَا إِلَى الآخَرِينَ.
41 فلَمَّا سَمِعَت أَليصابات سَلامَ مَريَم، ارتَكَضَ الجَنينُ في بَطنِها، وَامتَلأَت مِنَ الرُّوحِ القُدُس
تُشِيرُ العِبَارَةُ "سَمِعَت أَليصابات سَلامَ مَريَم " إِلَى سَماعِ أَلِيصَابَاتَ الصَّوْتَ بِالأُذُنِ، أَمَّا الَّذِي قَبِلَ النِّعْمَةَ أَوَّلًا فَهُوَ يُوحَنَّا جَنِينُهَا، إِذِ تَهَلَّلَ بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ. كَانَت أَلِيصَابَاتُ أَوَّلَ مَنْ سَمِعَ صَوْتَ مَرْيَمَ، لَكِنَّ يُوحَنَّا كَانَ أَوَّلَ مَنْ تَأَثَّرَ بِنِعْمَةِ الرُّوحِ القُدُسِ. وَمَا إِنْ أَصْغَتْ أَلِيصَابَاتُ لِسَلَامِ مَرْيَمَ حَتَّى تَمَّتْ أَحْدَاثٌ عَجِيبَةٌ: ارْتِكَاضُ الجَنِينِ مَبْتَهِجًا، وَامْتِلَاءُ أَلِيصَابَاتَ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، وَاعْتِرَافُهَا بِأُمُومَتِهَا لِرَبِّهَا. فَكَيْفَ يَسْتَطِيعُ الرَّبُّ يَسُوعُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى بَيْتِ زَكَرِيَّا فِي عَيْنِ كَارِمَ، لَوْلَا أَنَّ أُمَّهُ جَلَبَتْهُ هُنَاكَ؟ وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوسُ قَائِلًا: "أَحَسَّتْ أَلِيصَابَاتُ بِمَجِيءِ مَرْيَمَ، وَأَحَسَّ يُوحَنَّا بِمَجِيءِ الرَّبِّ. تَحَدَّثَتِ المَرْأَتَانِ بِنِعَمِ اللهِ، وَالْوَلَدَانِ زَيَّنَا الأَحْشَاءَ الوَالِدِيَّةَ بِسِرِّ التَّقْوَى وَبِنِعَمِهِ" (في تفسير إنجيل لوقا 2، 19: CCL 1439-42).
أَمَّا عِبَارَةُ "الجَنِينُ" فَتُشِيرُ إِلَى يُوحَنَّا المَعْمَدَانِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَلِيصَابَاتَ، وَالجَنِينُ هُوَ ثَمَرَةُ الحَمْلِ فِي الرَّحِمِ حَتَّى نِهَايَةِ الأُسْبُوعِ الثَّامِنِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ مَكْسِيمُسُ الطُّورِينِيُّ قَائِلًا: "كَانَ لا يَزَالُ يُوحَنَّا فِي رَحِمِ أُمِّهِ عِنْدَمَا احْتَفَلَ بِقُدُومِ الرَّبِّ مِنْ خِلَالِ حَرَكَاتِهِ بِالفَرَحِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَبِّرَ بِصَوْتِهِ. فَرِحَ يُوحَنَّا، لأَنَّ عَقْلَهُ أَدْرَكَ مَنْ هُوَ سَيِّدُ هَذَا العَالَمِ" (العِظَةُ 36).
أَمَّا عِبَارَةُ "ارْتَكَضَ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ σκιρτάω (مَعْنَاهَا تَحَرَّكَ) وَتُقَابِلُهَا فِي العِبْرِيَّةِ יִּרְקַד أَيْ رَقَصَ، وَتُشِيرُ إِلَى تَعْبِيرٍ عَنْ فَرَحٍ رُوحِيٍّ عَمِيقٍ شَعَرَ بِهِ يُوحَنَّا قَبْلَ أَنْ يُولَدَ. إِنَّهُ ارْتِكَاضٌ خَاصٌّ وَغَيْرُ عَادِيٍّ نَسَبَتْهُ أَلِيصَابَاتُ إِلَى مَجِيءِ مَرْيَمَ. وَهِيَ نَفْسُ الكَلِمَةِ الَّتِي اسْتُخْدِمَتْ حِينَ رَقَصَ دَاوُدُ النَّبِيُّ فَرِحًا أَمَامَ تَابُوتِ العَهْدِ (2 صموئيل 6: 16). ارْتَكَضَ يُوحَنَّا المَعْمَدَانُ فَرَحًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَلِيصَابَاتَ بِسَبَبِ حُضُورِ يَسُوعَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مَرْيَمَ. وَيَقُولُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ: "لَمْ يَكُنِ الطِّفْلُ بَعْدُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصْرُخَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُسْمِعُ بِأَعْمَالِهِ". وَتَلْمَحُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ "ارْتَكَضَ" إِلَى مَرْيَمَ العَذْرَاءِ تَابُوتِ العَهْدِ الجَدِيدِ، الَّتِي تَحْمِلُ فِي أَحْشَائِهَا حُضُورَ كَلِمَةِ اللهِ المُتَجَسِّدِ. فَمَرْيَمُ هِيَ تَابُوتُ العَهْدِ الجَدِيدِ، حَيْثُ يَسْكُنُ اللهُ (2 صموئيل 6: 2–11)، وَحَيْثُ يُرِيدُ اللهُ أَنْ يَسْكُنَ مُنْذُ الآنَ فِي قُلُوبٍ حَيَّةٍ عَامِرَةٍ بِالإِيمَانِ وَالفَرَحِ. وَتَدُلُّ هَذِهِ العِبَارَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ المَسِيحَ أَسْمَى مِنْ يُوحَنَّا مُنْذُ كَانَ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ. وَيُعَلِّقُ العَلَّامَةُ أُورِيجَانُسُ قَائِلًا: "غَمَرَتِ السَّعَادَةُ يُوحَنَّا وَهُوَ مَا يَزَالُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَلَمْ يُمْكِنْ إِيقَافُهُ، إِذْ عِنْدَ قُدُومِ أُمِّ رَبِّنَا أَرَادَ أَنْ "يَخْرُجَ" مِنْ بَطْنِ أَلِيصَابَاتَ".
أَمَّا عِبَارَةُ "امْتَلَأَتْ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ" فَتُشِيرُ إِلَى حُلُولِ رُوحِ النُّبُوءَةِ مِنْ عَهْدِ القُدَمَاءِ عَلَى أَلِيصَابَاتَ، وَاعْتِرَافِهَا بِمَرْيَمَ أُمًّا لِلمَسِيحِ. فَحُلُولُ الرُّوحِ القُدُسِ جَعَلَهَا تَفْهَمُ وَتُؤْمِنُ وَتَخْتَبِرُ شَخْصِيًّا عَمَلَ الرَّبِّ فِي حَيَاتِهَا. إِنَّ هَذَا الرُّوحَ نَفْسَهُ الَّذِي حَلَّ عَلَى أَنْبِيَاءِ العَهْدِ القَدِيمِ، وَعَلَى مَرْيَمَ أُخْتِ مُوسَى (خروج 15: 20)، وَشُيُوخِ إِسْرَائِيلَ (عدد 11: 27)، وَشَاوُلَ المَلِكِ (1 صموئيل 10: 6)، قَدْ حَلَّ أَيْضًا عَلَى أَلِيصَابَاتَ. وَيُعَلِّقُ أُورِيجَانُسُ مُجَدَّدًا:"امْتَلَأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، لِأَجْلِ ابْنِهَا يُوحَنَّا، الَّذِي كَانَ لَا يَزَالُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَامْتَلَأَ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ. فَإِذَا تَقَدَّسَ الاِبْنُ، امْتَلَأَتِ الأُمُّ أَيْضًا مِنَ الرُّوحِ". امْتَلَأَتْ أَلِيصَابَاتُ بَعْدَ أَنْ حَمَلَتْ، أَمَّا مَرْيَمُ فَقَدْ امْتَلَأَتْ قَبْلَ الحَمْلِ. إِنَّ أَلِيصَابَاتَ الْمُسِنَّةَ العَاقِرَ آمَنَتْ وَفَرِحَتْ، لأَنَّ أُمَّ رَبِّهَا أَتَتْ إِلَيْهَا وَزَارَتْهَا. فَبَعَثَ اللِّقَاءُ عَلَى الفَرَحِ، وَصَارَتْ فَرْحَةُ اللِّقَاءِ عِيدًا لِلرَّبِّ عَلِمَتْ أَلِيصَابَاتُ أَنَّ ابْنَ مَرْيَمَ سَيَكُونُ أَعْظَمَ مِنِ ابْنِهَا، لأَنَّ يُوحَنَّا سَيُرْسَلُ أَمَامَ المَسِيحِ لِيُهَيِّئَ طَرِيقَهُ. فَلْيَكُنْ فِي زِيَارَاتِنَا وَلِقَاءَاتِنَا مَعَ الآخَرِينَ أَنْ نَحْمِلَ إِلَيْهِمْ مَسِيحَنَا القُدُّوسَ، الَّذِي يُبْهِجُ أَحْشَاءَهُمُ الدَّاخِلِيَّةَ وَيُشْعِلُ رُوحَهُ القُدُّوسَ فِي قُلُوبِهِمْ.
أمّا عبارةُ "الرُّوحُ القُدُسُ" فتشيرُ إلى رُوحِ اللهِ، الأقنومِ الثالثِ في الثالوثِ الأقدس. وقد سُمِّيَ رُوحًا لأنَّهُ مُبدِعُ الحياةِ، ودُعِيَ قُدُسًا لأنَّ من جُملَةِ أعمالِهِ تقديسُ قلبِ المؤمنِ. كما يُدعَى رُوحَ اللهِ ورُوحَ المسيحِ. ويُعلِّمُنا الكتابُ المقدَّسُ بوضوحٍ عن ذاتيّةِ الرُّوحِ القُدُسِ وعن ألوهيّتِهِ، إذ نُسِبَتْ إليه أسماءُ اللهِ الحيِّ (أعمالُ الرُّسلِ 5: 3–4)، وصِفاتُهُ (1 قورنتس 2: 10)، وأعمالُهُ (مزمور 104: 30)، وعبادتُهُ (متى 28: 19). وقال عنه النبيُّ إشعيا إنَّهُ "رُوحُ الحِكمَةِ والفَهمِ، رُوحُ المَشورَةِ والقُوَّةِ، رُوحُ المَعرِفَةِ ومَخافَةِ الرَّبِّ" (إشعيا 11: 2).
ويُعلِّمُنا الإِيمانُ المسيحيُّ أنَّ الرُّوحَ القُدُسَ هو الأقنومُ الثالثُ في الثالوثِ الأقدس، يَنْبَثِقُ مِنَ الآبِ، كما أعلنَ السَّيِّدُ المسيحُ قائلاً: "متى جاءَ المُعَزِّي، الَّذي سأُرسِلُهُ إِلَيْكُم مِنَ الآبِ، رُوحُ الحَقِّ الَّذي يَنبَثِقُ مِنَ الآبِ، فَهُوَ يَشهَدُ لِي"(يوحنا 15: 26). فهو رُوحُ الآبِ والابنِ، يَربِطُ بينهما في وحدةِ المَحبَّةِ الأزلِيَّةِ، ويُفيضُ حياتَهُما الإلهيَّةَ على الكنيسةِ والعالَم. وفي قانونِ الإِيمانِ النيقاويّ-القسطنطينيّ نُعلِنُ إِيمانَنا قائلين: "وبالرُّوحِ القُدُسِ، الرَّبِّ المُحيي، المُنبَثِقِ مِنَ الآبِ، الَّذي هو مَعَ الآبِ والابنِ يُسجَدُ لَهُ ويُمجَّدُ، الَّذي تكلَّمَ بِالأَنبياءِ". فالرُّوحُ القُدُسُ ليسَ طاقةً أو قوَّةً مجرَّدةً، بل شخصٌ إلهيٌّ كاملُ الألوهيَّةِ، يُواصِلُ عملَ المسيحِ في العالمِ، ويُقدِّسُ المؤمنين، ويُحيي الكنيسةَ بأسرارِها، ويُعلِّمُها كلَّ الحقِّ (يوحنا 16: 13). إنَّهُ رُوحُ الحَياةِ، ورُوحُ الحَقِّ، ورُوحُ المَحبَّةِ الَّذي يُقيمُ في قلبِ المؤمنِ ويَجعَلُهُ هيكلاً للهِ (1 قورنتس 6: 19). تبين هذه الآية الفرح المريميّ: من الإصغاء إلى الرسالة، إذ تربط بين سلام مريم، وفرح يوحنا، ودعوتنا نحن إلى حمل المسيح بفرح إلى العالم.
42 فَهَتَفَت بِأَعلى صَوتِها: مُبارَكة أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكة ثَمَرَةُ بَطنِكِ"
تُشيرُ عبارةُ "هَتَفَتْ" في الأصلِ اليونانيِّ ἀναφωνέω (ومعناها "هتفت")، ويُستعملُ في التَّوراةِ بارتباطٍ دائمٍ بِرُتَبٍ دينيَّةٍ مِحورُها تابوتُ العهدِ، إلى صَرخةِ أليصاباتَ أو بالأحرى إلى أنشودتِها التي تُلَمِّحُ، مرَّةً أخرى، إلى أنَّ مَريَمَ العذراءَ كانت بمثابةِ تابوتِ العهدِ الجديدِ، حامِلةً في أحشائِها كلمةَ اللهِ الحيَّ (1 أخبار 15: 28). ولأنَّ أليصاباتَ اِمتَلأَتْ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، فإنَّ كلماتِها هي كلماتٌ نَبويَّةٌ قادرةٌ على تفسيرِ علاماتِ حضورِ اللهِ في مريم.
أمَّا عبارةُ "مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساءِ! وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ"، فتُشيرُ إلى أنَّ الرُّوحَ القُدُسَ كَشَفَ لأليصاباتَ حقيقةَ الحَملِ الإلهيِّ في مريم. وتُشكِّلُ هذه التحيَّةُ، مَعَ تحيَّةِ الملاكِ جبرائيل في البشارة، جزءًا من الصَّلاةِ المَشهورةِ للعذراءِ: "السَّلامُ المَلائِكيُّ". وهي تُذكِّرُنا بأيامِ ما قبلَ الميلادِ، عندما كان يسوعُ في أحشاءِ مريمَ، حيثُ يخفقُ قلبُ الأمِّ قريبًا من قلبِ الاِبنِ، ويخفقانِ بدَمٍ واحدٍ بشريٍّ. فالمُبارَكَةُ هنا فعلُ شُكرٍ عميقٍ لمريمَ ويسوعَ ابنِها: الأمُّ مُبارَكَةٌ، والاِبنُ مُبارَكٌ. ويُعلِّقُ الأبُ رينيه لورانتان، الخبيرُ بمؤلَّفاته عن سيدتنا العذراء، قائلاً: "كان بإمكانِ أليصاباتَ أن تهتفَ: مُبارَكَةٌ ثمرةُ بطنِكِ، ولكنّها – بوحيٍ من الرُّوحِ القُدُسِ – أسبقت التَّبريكَ ليسوعَ بالتَّبريكِ لأمِّه العذراءِ، وذلك لإكرامِ الأمِّ التي تسبقُ دومًا أبناءَها في النِّظامِ الطبيعيّ."
أمَّا عبارةُ "مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساءِ"، فتُشيرُ إلى إحدى صفاتِ مريمَ، إذ هي مُبارَكَةٌ لإنعامِ اللهِ عليها بالبَرَكةِ التي لم يَهَبْها لغيرِها من النِّساء، وذلك بسببِ نعمةِ أمومتِها الإلهيَّةِ، إذ أصبحت حوّاءَ الجديدةَ التي نالت البَرَكةَ والحياةَ بدلًا من حوّاءَ الأُولى التي استحقَّت اللَّعنةَ والشَّقاءَ كما ورد في سفرِ التكوين (3: 16).. حوّاءُ ماتت بسببِ رغبتِها المتكبِّرةِ في أكلِ ثمرةِ الحياة، أمّا مريمُ العذراءُ فأطاعتِ الرَّبَّ، فحلَّت ثمرةُ الحياةِ الحقيقيَّةُ في أحشائِها، تلكَ الثمرةُ التي دَعَتْها أليصابات "مُبارَكَةً". وفي سفرِ يهوديت نجدُ ذاتَ المباركة: "بارَككِ، يا بُنَيَّةُ، الإِلهُ العَلِيُّ فَوقَ جَميعِ النِّساءِ اللَّواتي على الأَرضِ" (يهوديت 13: 18). وهذه البَرَكةُ تُذكِّرُنا أيضًا بنشيدِ دبورةَ النَّبيَّةِ:"لْتُبارَكْ بَينَ النِّساءِ يا عَيلُ، اِمرَأَةُ حابَرَ القَينِيِّ، لِتُبارَكْ بَينَ جميعِ السَّاكِناتِ في الخِيامِ!" (قضاة 5: 24).
وأمَّا عبارةُ "مُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ"، فتشيرُ إلى يسوعَ المسيحِ، الثمرةِ المُبارَكةِ، الّذي هو سَببُ مُبارَكةِ مريمَ: "مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساءِ". فيسوعُ هو الثمرةُ المباركةُ، وبذلك تُصبِحُ مريمُ شجرةَ الحياةِ الجديدةَ، المزروعةَ في وسطِ الجنَّةِ، تُقدِّمُ ثَمرَتَها للأجيالِ كلِّها، والأجيالُ جميعُها تُطوِّبُها من أجلِ الثمرةِ التي تُعطيها. وتدلُّ هذه العبارةُ أيضًا على أنَّ مريمَ العذراءَ أصبحت تابوتَ العهدِ الجديدِ الحاوي حضورَ اللهِ. فهي مسكنُهُ الجديدُ، قدسُ الأقداسِ الحيُّ، ألم يقل لها الملاكُ:"قُدرَةُ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ"؟ (لوقا 1: 35). فكما هتفَ داودُ الملكُ أمام تابوتِ العهدِ قائلاً: "كَيفَ يَنزِلُ تابوتُ الرَّبِّ عِندي؟" (2 صموئيل 6: 10)، هكذا هتفت أليصاباتُ أمام مريمَ، تابوتِ العهدِ الجديدِ: "مِنْ أَيْنَ لي أنْ تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟ (لوقا 1: 43). مريمُ حقًّا هي تابوتُ العهدِ الجديدُ، حيثُ يَسكُنُ اللهُ بتجسُّدِ يسوعَ المسيحِ في أحشائِها. يريدُ اللهُ أن يسكنَ في قلوبٍ حيَّةٍ مملوءةٍ إيمانًا وفرحًا. وكما أقامت مريمُ عند أليصاباتَ نحوَ ثلاثةِ أشهرٍ (لوقا 1: 56)، كذلك "بَقِيَ تابوتُ الرَّبِّ في بَيتِ عوبيدَ أَدومَ الجَتِّيِّ ثلاثةَ أَشهُرٍ" (2 صموئيل 6: 11). وهكذا تُصبِحُ مريمُ الصُّورةَ المُستقبليَّةَ عن الكنيسةِ، الّتي يسكنُها القربانُ الأقدسُ إلى الأبدِ. فاللهُ فَضَّلَ قلبَ الإنسانِ على أيِّ بيتٍ من الحجارةِ، وهذه دعوةٌ لنا أن نجعلَ من قلوبِنا مغارةً لميلادِ المسيحِ على مثالِ الأمِّ البتولِ مريمَ. لقد أصبحت تحيَّةُ أليصاباتَ تُشكِّلُ جزءًا من صلاةِ "السَّلامُ عليكِ يا مريم" مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساءِ، ومُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ".
أمَّا عبارةُ "مُبارَكَةٌ"، فتشيرُ إلى تعبيرٍ من الحياةِ اليوميَّةِ لدى إنسانِ العهدِ القديمِ، إذ كان الناسُ يستقبلونَ القريبَ ويُودِّعونَه بالبركةِ، أي بالتحيّةِ (تكوين 47: 7). وتدلُّ البركةُ على الوحدةِ وعلاقةِ الحياةِ، وهو أمرٌ خاصٌّ بثقافتِنا الشَّرقيَّة. لكنَّ كلمةَ "مُبارَكَةٌ" على فمِ أليصاباتَ هي تمجيدٌ للهِ وشكرٌ له، وإقرارٌ بجميلِه وأعمالِه العجيبةِ. فبهذه البركةِ عبَّرت أليصاباتُ عن الوحدةِ بين مريمَ ويسوعَ: إنّها بركةٌ مزدوجةٌ، إذ مريمُ هي المُبارَكَةُ، ويسوعُ الّذي فيها هو المُبارَكُ، وكِلاهُما يأتيانِ بِاسمِ الرَّبِّ لإعلانِ المَلكوتِ المَسيحانيّ. فبركةُ الرَّبِّ تبلغُ البَشرَ بواسطةِ مريمَ ويسوعَ المُتَّحِدَينِ اتّحادًا لا ينفصم. إنَّ مريمَ مرتبطةٌ بابنِها ارتباطًا وثيقًا في خصيّتِها وطبيعتِها وتاريخِها، ولذلك فهي ليست أداةً جامدةً، بل شريكةٌ فعّالةٌ في إعلانِ المَلكوتِ.
أمَّا عبارةُ "ثَمَرَةُ بَطنِكِ"، فتشيرُ إلى يسوعَ المسيحَ، كما سبق أن كُرِّسَ كثيرونَ من رجالاتِ العهدِ القديمِ للرَّبِّ منذُ بطونِ أُمَّهاتِهم: مثل شمشون (قضاة 13: 5)، وإرميا (إرميا 1: 5)، وعبدِ الرَّبِّ (أشعيا 49: 1). وهذا يعني أنَّ اللهَ اختارهم منذُ الحبلِ بهم لرسالةٍ خاصَّةٍ، كما يقولُ بولسُ الرَّسولُ: "لَمَّا حَسُنَ لدى اللهِ الَّذي أفرَدَني مُذ كُنتُ في بَطنِ أُمِّي، ودَعاني بنِعمَتِه" (غلاطية 1: 15). وهكذا، فقد عظَّمَت أليصاباتُ الرَّبَّ وابتهجت بخلاصِه، إذ تحدَّثت المرأتانِ بنِعمِ اللهِ، وزيَّنَ الرَّبُّ الأحشاءَ الوالديَّةَ بسرِّ التَّقوى وبنِعمتِه، فصارتا مَثَلًا للإيمانِ والطَّاعةِ والتواضعِ في تاريخِ الخلاصِ.
43 مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟"
تُشيرُ عبارةُ "مِن أَيْنَ لِي أَنْ تَأْتِيَنِي أُمُّ رَبِّي؟" إلى دهشةِ أَليصاباتَ كيفَ تأتيها أمُّ الرَّبِّ. وهي تُعلنُ، بإلهامِ الرُّوحِ القُدُسِ، أمومةَ مريمَ للرَّبِّ من دونِ آيةٍ منظورةٍ سوى إصغائِها لسلامِ مريم. إنَّ هذا الإعلانَ فعلُ سجودٍ وعرفانِ جميلٍ لحضورِ اللهِ وخلاصِهِ. ولمّا جاءت مريمُ لزيارةِ أَليصاباتَ عرَفَت هذه الأخيرة، بوُحي الرُّوحِ القُدُسِ، أنَّ ابنَ مريمَ هو المسيحُ المُنتَظَر، فآمنتْ وفرحتْ، وإذ ذاكَ يُفهمُ سؤالُها أنَّ الحَبَلَ البتوليَّ أمرٌ ممكنٌ عندَ الله لا مُستحيلٌ. وهكذا تُؤكِّدُ أَليصاباتُ، باسمِ العهدِ القديم، أنَّ الرَّجاءَ المسيحانيَّ قد تحقَّق في أحشاءِ مريم. ويُعلِّقُ الأبُ رينيه لورانتان: كان بوسْعِ أَليصاباتَ أن تقولَ مُتسائلةً: "مِن أينَ لي أن يأتي ربي إليَّ؟" بدلًا من "… أن تأتيني أمُّ ربي؟". فـالمسيحُ الرَّبُّ، وهو بعدُ جنينٌ، "يحملُ والدتَه" – تلك التي سمّاها دانتي: "يا بنتَ ابنِكِ" – لأنَّه الكلمةُ الذي به كانَ كلُّ شيءٍ، ومِن ذلك أمُّه. غير أنَّ الرُّوحَ القُدُسَ ألهمَ أَليصاباتَ إكرامَ الوالدة واحترامَها، لا على حسابِ ألوهيّةِ الابن، إذ ما كان تحرُّكُ الجنينِ الإلهيِّ ليظهرَ لولا حركةُ الأمِّ الطَّهور من النَّاصرة إلى عينِ كارِم. ولذلك لا عجبَ أن يرفعَ القدِّيسُ كيرلُّس الكبير ترنيمتَه في مجمعِ أفسس: "السَّلامُ لمريمَ والدةِ الإله، الكنزِ الملوكيِّ للعالمِ كلِّه، إكليلِ البتوليَّة، الهيكلِ غيرِ المُدرَك، المسكنِ غيرِ المحدود، الأمِّ والعذراء".
وتُشيرُ عبارةُ "مِن أَيْنَ لِي" إلى نِعمةٍ فائضةٍ لا تستحقُّها أَليصاباتُ أن تأتيَها "أمُّ الرَّبِّ" . ويُشبهُ هذا قولَ يوحنّا المعمدان ليسوع عندَ الأردنّ: " أَوَ أَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ؟" (متّى 3: 14). وعلى لسانِ أَليصاباتَ يقولُ القدِّيسُ أمبروسيوس:" أيُّ فضْلٍ لي؟ أيُّ عملٍ قمتُ به؟ أيُّ حقٍّ هو لي؟ … إنّي أشعرُ بالمُعجزةِ وأتلمَّسُ السِّرَّ". لقد عَرَفت أَليصاباتُ أنّ ابنَها يكونُ عظيمًا، غير أنّها عَرَفت أيضًا أنّ ابنَ مريم أعظمُ منه
أمَّا عبارةُ "أمُّ ربِّي" تُفيدُ فهمًا روحيًّا عميقًا بأنَّ يسوعَ هو الرَّبُّ الإلهُ المُتجسِّد، وهو المسيحُ المُنتظَر؛ وتُشيرُ أيضًا إلى مريمَ لا بوصفِها "أمَّ الرَّبِّ" فحسب، بل "أمَّ ربِّي" أنا أيضًا: أمُّ الرَّبِّ الذي خلَّصَ أَليصاباتَ ونزَعَ عنها العارَ وأهَّلها للأمومةِ في شيخوختِها، لأنَّها ثبتتْ أمينةً لله. وقد استفتح يوحنّا رسالتَه بشهادةِ أمِّه (لوقا 1: 43): فما سيقوله يوحنّا لاحقًا عن المسيح، تقولُه أَليصاباتُ الآن عن مريمَ وابنِها. ويستعملُ لوقا لقبَ "الرَّبِّ" تِسعَ عشرةَ مرَّةً في إنجيلِه، وأكثرَ من أربعينَ مرَّةً في أعمالِ الرُّسل، إذ تتجلّى سيادةُ يسوعَ خصوصًا بعدَ قيامتِه.
أمَّا "رَبِّي" في الأصلِ اليونانيِّ κυρίου μου ، أي: "سيِّدي" ، فهو لقبٌ مسيحانيٌّ-إلهيّ يدلُّ على يسوعَ المسيحِ الرَّبِّ (أعمال الرسل 2: 36) ويستحضرُ تفسيرَ يسوعَ لقولِ المزمور: " قالَ الرَّبُّ لِرَبِّي…" (متّى 22: 44؛ مزمور 110). ومن اللافتِ أنّ أَليصاباتَ هي أوَّلُ مَن نادته في الإنجيلِ " كِيريوسκύριος". ويؤكِّدُ بولسُ: "لا يَستطيعُ أَحدٌ أَن يقولَ: يسوعُ ربٌّ، إلّا بإلهامٍ من الرُّوحِ القُدُسِ" (1 قورنتس 12: 3). وهكذا يتضمَّنُ لقبُ "الرَّبِّ" الإيمانَ بيسوعَ القائمِ من بينِ الأموات، ربًّا غلبَ الموت. ولذا يُطلق أعمالُ الرُّسل اللقبَ نفسَه على اللهِ وعلى يسوع (قارن لوقا 7: 13: "فلمّا رآها الرَّبُّ…")، وتشهدُ الجماعةُ الأولى: "الرَّبُّ هو يسوعُ المسيح"؛ وكان بولسُ "يُعلِنُ ملكوتَ اللهِ ويُعلِّمُ بكلِّ جرأةٍ ما يختصُّ بالرَّبِّ يسوعَ المسيح" (أعمال 28: 31)، لكي يؤمنَ به الجميعُ (اعمال الرسل 11: 17)، وهو أيضًا ابنُ اللهِ (أعمال الرسل 9: 20). إذًا، في المسيحِ يسوع الذي ماتَ وقامَ، ربِّ الكلِّ، يُعرَضُ الخلاصُ لكلِّ مَن يؤمنُ، يهوديًّا كان أو وثنيًّا: " ولهُ يشهدُ جميعُ الأنبياءِ بأنَّ كلَّ مَن آمنَ به ينالُ باسمِهِ غفرانَ الخطايا" (أعمال 10: 43). فطوبى لنا إن استقبلنا مجيءَ يسوعَ كما استقبلت أَليصاباتُ مريمَ، بنظرةِ الإيمان التي مكَّنتها من رؤيةِ بَرَكةِ الله مُتجدِّدةً في صيرورةِ التاريخ.
44 فما إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ حتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهاجًا في بَطْني.
تُشيرُ عبارةُ "إِنْ وَقَعَ صَوْتُ سَلامِكِ" إلى صوتِ مريم الّذي يُبشِّرُ بيسوعَ، علامةَ الرُّوحِ القُدُسِ، والّتي تحقَّقت لأَليصاباتَ ما كانت قد عرَفَتْهُ سلفًا عندما نادت مريمَ قائلةً: "أُمُّ رَبِّي؟". ويُعيدُ لوقا الإنجيليّ هنا ما قاله سابقًا:"فلمّا سَمِعَت أَليصاباتُ سَلامَ مَريَم، ارتَكَضَ الجَنينُ في بَطنِها، وامتَلأَت مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ"(لوقا 1: 41). ويُعلّق العلّامة أوريجانوس على هذا المشهد قائلاً:"في البدءِ لم يُعطِ الربُّ يسوعُ كنيستَه أن تَعرِفَهُ إلّا عبرَ صوتِهِ. لقد بدأ بإطلاقِ صوتِهِ عبرَ الأنبياءِ؛ فمن دون أن يَظهرَ، أسمعَهم صوتَهُ فقط". إنَّ صوتَ مريم، الحاملةِ كلمةَ الله في أحشائِها، يُصبحُ أوَّلَ وسيلةٍ لسماعِ صوتِ المسيحِ في العالم.
أمَّا عبارةُ "ارْتَكَضَ الجَنينُ ابْتِهَاجًا في بَطْني" فتُشيرُ إلى الفرحِ العميقِ الذي شعرَ به الجنينُ يوحنّا عندما سمعَ سلامَ مريم. هذا الارتكاضُ في بطنِ أُمِّه يُمثِّل ترحيبًا مسبقًا بقدومِ المسيحِ إلى العالم. وقد أعاد لوقا هذه العبارةَ (لوقا 1: 41) مُضيفًا كلمةً حاسمةً: "ابتهاجًا"، وهي تُبرزُ سببَ الارتكاض ومعناهُ اللاهوتيّ. فالابتهاجُ علامةُ فرحٍ سماويٍّ يُعبِّرُ عن حضورِ اللهِ المخلِّص، وهو الفرحُ الّذي لم يُجلب لأَليصاباتَ وطفلِها الخوفَ أو القلقَ، بل الطمأنينةَ والأمانَ، لأنَّ لقاءَ الربِّ يُبدِّدُ الاضطرابَ ويملأُ القلبَ نعمةً وسلامًا. وهذا الفرحُ يُشيرُ إلى أمانةِ أَليصاباتَ للهِ، وإلى عملِ الرُّوحِ القُدُسِ في قلبِها وبيتِها. لقد نقلت مريمُ الفرحَ الإلهيَّ إلى منزلِ خالتِها، لأنَّها تحملُ المسيحَ نفسه، "فرحَ العالمِ وخلاصَه". وهكذا يُقدِّسُ يسوعُ يوحنّا المعمدان من خلالِ مريمَ أُمِّه، إذ يتذوّق يوحنّا طَعمَ الفرحِ الحقيقيِّ وهو ما يزالُ في بطنِ أُمِّه. لقد صارَ يوحنّا أوَّلَ مَن استقبلَ البِشارةَ السّارةَ بعد العذراءِ، وأوَّلَ مَن ابتهجَ بحضورِ الكلمةِ المُتجسِّد. وبعد ثلاثينَ سنةٍ، يُكمِلُ يوحنّا شهادتَهُ بفرحٍ مماثلٍ إذ يقول: "مَن كانت له العروسُ فهو العريسُ، وأمَّا صديقُ العريسِ الّذي يقفُ ويستمعُ إليهِ، فإنَّه يفرحُ أشدَّ الفرحِ لصوتِ العريسِ. فها قد تمَّ فرحي" (يوحنّا 3: 29). ومن هنا دَعَت التقليداتُ الكنسيّة يوحنّا "نبيَّ الفرح"، لأنَّهُ أوَّلُ من تهلّلَ لحضورِ المسيحِ قبلَ ميلادِهِ، وأوَّلُ من أعلنَ، من الأحشاءِ، مجيءَ النورِ الحقيقيّ إلى العالم. إنَّ كلَّ نفسٍ تغمرُها كلمةُ اللهِ تفرحُ وتستريحُ في حضورهِ. فـحيثُ يدخلُ صوتُ المسيحِ، هناكَ يُولَدُ الفرحُ ويُحرَّكُ القلبُ نحو الحياة.
45 فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ
تُشِيرُ عِبَارَةُ "فَطُوبَى لِمَن آمَنَتْ" إِلَى تَطْوِيبِ أَلِيصَابَاتَ لِمَرْيَمَ بِسَبَبِ إِيمَانِهَا العَمِيقِ وَثِقَتِهَا فِي وَعْدِ اللهِ، إِذْ آمَنَتْ مَرْيَمُ أَنَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنَ اللهِ سَيَتَحَقَّقُ. هَذَا الإِيمَانُ هُوَ سَبَبُ تَطْوِيبِ مَرْيَمَ عَلَى مَرِّ الأَجْيَالِ، لأَنَّهَا صَدَّقَتْ كَلِمَةَ اللهِ وَعَاشَتِ انْتِظَارَهَا بِثِقَةٍ وَفَرَحٍ وَرَجَاءٍ. لَقَدْ ظَهَرَتْ عَلَامَاتُ الإِيمَانِ وَالاِبْتِهَاجِ عَلَى وَجْهِ مَرْيَمَ، فَرَأَتْ أَلِيصَابَاتُ فِيهَا المَرْأَةَ المُؤمِنَةَ الَّتِي وَثِقَتْ بِقُدْرَةِ اللهِ العَامِلَةِ فِيهَا. وَهَكَذَا تُصْبِحُ مَرْيَمُ شَرِيكَةَ المُؤمِنِينَ فِي فَوَائِدِ مَوَاعِيدِ اللهِ، لأَنَّ عَمَلَ اللهِ هُوَ أَنْ يُبَارِكَ وَيُخَلِّصَ، أَمَّا عَمَلُ الإِنْسَانِ فَهُوَ الإِيمَانُ بِمَنْ يُبَارِكُ وَيُخَلِّصُ. إِنَّ العَلاَمَةَ المُـمَيِّزَةَ لِمَرْيَمَ هِيَ إِيمَانُهَا؛ فَهِيَ المَرْأَةُ الجَدِيدَةُ الَّتِي وَضَعَتْ كُلَّ ثِقَتِهَا فِي اللهِ، وَآمَنَتْ أَنَّ عَمَلَهُ فِيهَا بَرَكَةٌ وَحَيَاةٌ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس قَائِلًا:"طُوبَاكُم أَنْتُمْ أَيْضًا الَّذِينَ سَمِعْتُمْ وَآمَنْتُمْ، لأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ إِذَا آمَنَتْ فَإِنَّهَا تَحْمِلُ وَتَلِدُ كَلِمَةَ اللهِ وَتَعْتَرِفُ بِأَعْمَالِهِ" (CCL 14: 26–27)..
أَمَّا عِبَارَةُ "طُوبَى"، فَتُشِيرُ إِلَى إِعْلَانٍ وَتَهْنِئَةٍ مِنْ أَجْلِ حَالَةِ سَعَادَةٍ أَوْ فَرَحٍ رُوحِيٍّ. لَقَدْ طَوَّبَتْ أَلِيصَابَاتُ مَرْيَمَ العَذْرَاءَ لأَجْلِ الإِلَهِ الَّذِي تَحْمِلُهُ فِي بَطْنِهَا، وَطَوَّبَتْهَا أَيْضًا لأَجْلِ إِيمَانِهَا. فَالمُطَوَّبُونَ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ اللهِ وَيَقْبَلُونَهَا وَيَعْمَلُونَ بِهَا، وَهُمُ الَّذِينَ يُؤمِنُونَ دُونَ أَنْ يَرَوْا. وَكُلُّ نَفْسٍ تُؤمِنُ حَقًّا يُمْكِنُهَا أَنْ تَحْمِلَ وَتَلِدَ كَلِمَةَ اللهِ وَتُعْلِنَ أَعْمَالَهُ فِي حَيَاتِهَا. وَيَقُولُ الأَخُ مَاكْس تُورْيَان مِنْ جَمَاعَةِ تِيزِيـه: "مَرْيَمُ هِيَ المَرْأَةُ المُخْتَارَةُ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ النِّسَاءِ، وَهِيَ فَوْقَهُنَّ جَمِيعًا. إِنَّهَا المَرْأَةُ الأُولَى، الكُلِّيَّةُ الطُّوبَى؛ مَا مِنْ أَحَدٍ قَبْلَهَا بُورِكَ كَمَا بُورِكَتْ، وَلَا أَحَدٍ بَعْدَهَا سَيُبَارَكُ مِثْلَهَا. مَرْيَمُ أُمُّ المَسِيحِ، لَهَا وَحْدَهَا تَمَامُ البَرَكَةِ وَالطُّوبَى فِي جَمِيعِ الأَزْمِنَةِ".
أَمَّا عِبَارَةُ "لِمَن آمَنَتْ" فَتُشِيرُ إِلَى مَرْيَمَ العَذْرَاءَ الَّتِي آمَنَتْ بِكَلامِ المَلَاكِ فِي مِيلادِ الطِّفْلِ يَسُوعَ، بَيْنَمَا شَكَّ زَكَرِيَّا وَلَمْ يُؤمِنْ بِالخَبَرِ عَيْنِهِ (لوقا 1: 18). وآمَنَتْ مَرْيَمُ بِكَلِمَاتِ المَلَاكِ، وَقَبِلَتْ أَنْ تَحْمِلَ الطِّفْلَ فِي ظُرُوفٍ بَشَرِيَّةٍ مُسْتَحِيلَةٍ، لأَنَّهَا آمَنَتْ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. فَإِيمَانُ مَرْيَمَ هُوَ مِثَالٌ حَيٌّ لِلإِيمَانِ الَّذِي تَحَدَّثَ عَنْهُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "الإِيمَانُ قِوَامُ الأُمُورِ الَّتِي تُرْجَى، وَبُرْهَانُ الحَقَائِقِ الَّتِي لَا تُرَى" (العِبْرَانِيِّينَ 11: 1). لَمْ تَلْتَفِتْ مَرْيَمُ إِلَى عَوَائِقِ الوَعْدِ الإِلَهِيِّ، بَلْ نَظَرَتْ إِلَى قُدْرَةِ الوَاعِدِ تَعَالَى. وَيَقُولُ المَجْمَعُ الفَاتِيكَانِيُّ الثَّانِي: "تَقَدَّمَتْ مَرْيَمُ فِي غُرْبَةِ الإِيمَانِ" (نُورُ الأُمَمِ، 58). وَفِي هَذَا السِّيَاقِ قَالَ يَسُوعُ: "طُوبَى لِلَّذِينَ يُؤمِنُونَ وَلَمْ يَرَوْا"(يُوحَنَّا 20: 29). فَالإِيمَانُ وَحْدَهُ يَجْعَلُ اللهَ حَاضِرًا فِي العَالَمِ. وَمِنْ هَذَا المَنْطَلَقِ، تَدْعُونَا مَرْيَمُ إِلَى أَنْ نَتَجَاوَبَ مَعَ اللهِ بِالإِيمَانِ لَا بِالضَّحِكِ كَمَا فَعَلَتْ سَارَةُ (تَكْو ين 18: 9–15)، وَلَا بِالخَوْفِ كَمَا فَعَلَ مَنُوحُ وَالِدُ شِمْشُونَ (قُضَاة 13: 22)، وَلَا بِالشَّكِّ كَمَا فَعَلَ زَكَرِيَّا، بَلْ بِالقَبُولِ المُتَوَاضِعِ الخَاضِعِ لِمَشِيئَةِ اللهِ. فَلْيَكُنْ رُوحُ مَرْيَمَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا، لِيُمَجَّدِ اللهُ فِينَا، وَلْيَبْتَهِجْ قَلْبُنَا بِاللهِ مُخَلِّصِنَا. وَإِذْ صَارَتِ القِدِّيسَةُ مَرْيَمُ مُمَثِّلَةً لِلبَشَرِيَّةِ المُؤمِنَةِ، أَيْ صُورَةً لِلكَنِيسَةِ، فَهِيَ الَّتِي قَبِلَتِ الإِيمَانَ بِوَعْدِ اللهِ، وَانْحَنَتْ بِتَوَاضُعٍ لِحُلُولِ كَلِمَتِهِ فِيهَا. وَيَقُولُ المَجْمَعُ الفَاتِيكَانِيُّ الثَّانِي أَيْضًا: "إِنَّ المِثَالَ الكَامِلَ لِلحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ وَالرَّسُولِيَّةِ هُوَ الطُّوبَاوِيَّةُ العَذْرَاءُ مَرْيَمُ" (رِسَالَةُ العَلْمَانِيِّينَ، 4).
أَمَّا عِبَارَةُ "فَسَيَتِمُّ مَا بَلَغَهَا مِنْ عِندِ الرَّبِّ" َتُشِيرُ إِلَى مَا عَرَفَتْهُ مَرْيَمُ بِوَحْيِ الرُّوحِ القُدُسِ. وَكَلِمَةُ "َسَيَتِمُّ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ ὅτι μεται تُفِيدُ السَّبَبِيَّةَ، وَتَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لإِتْمَامِ وَعْدِ اللهِ لِمَرْيَمَ، أَيْ: "طُوبَى لِمَن آمَنَتْ، لأَنَّ مَا بَلَغَهَا مِنْ عِندِ الرَّبِّ سَيَتِمُّ"، فَيُصْبِحُ إِتْمَامُ وَعْدِ اللهِ لِمَرْيَمَ مُرْتَبِطًا بِإِيمَانِهَا؛ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ النَّتِيجَةَ وَالغَايَةَ، أَيْ: "طُوبَى لِمَن آمَنَتْ، إِذْ سَيَتَحَقَّقُ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ عِندِ الرَّبِّ". فِي كِلَا المَعْنَيَيْنِ، الإِيمَانُ هُوَ الوَسِيلَةُ الَّتِي تُتَمُّ بِهَا المَوَاعِيدُ الإِلَهِيَّةُ، وَهُوَ أَيْضًا سَبَبُ فَرَحِ مَرْيَمَ وَسَعَادَتِهَا. إِنَّ إِعْلَانَ أَلِيصَابَاتَ لِمَا حَصَلَ مَعَهَا هُوَ فِعْلُ إِيمَانٍ وَشَهَادَةٌ لِعَظَمَةِ تَدَخُّلِ اللهِ فِي حَيَاتِهَا وَفِي حَيَاةِ مَرْيَمَ وَابْنِهَا يَسُوعَ. فَلَا إِيمَانَ دُونَ عَمَلِ الرُّوحِ القُدُسِ، وَلَا إِيمَانَ دُونَ شَهَادَةٍ — لَا بِالأَعْمَالِ فَقَطْ، بَلْ بِالكَلِمَةِ أَيْضًا. لَقَدْ شَهِدَ الجَنِينُ يُوحَنَّا لِوُجُودِ الرَّبِّ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ، وَشَهِدَتْ أَلِيصَابَاتُ المُسِنَّةُ لِأَعَاجِيبِ اللهِ فِي حَيَاتِهَا، وَحَمَلَتْ مَرْيَمُ البَتُولُ الرَّبَّ الجَنِينَّ وَنَقَلَتْهُ إِلَى الآخَرِينَ. وَلَا إِيمَانَ دُونَ فَرَحٍ، فَالفَرَحُ هُوَ سِمَةُ المُؤمِنِ الحَقِيقِيِّ، إِذْ يَقُولُ يَسُوعُ: "فَيَكُونَ فَرَحُكُمْ تَامًّا"(يُوحَنَّا 16: 24). إِنَّ لِقَاءَ القِدِّيسَتَيْنِ مَرْيَمَ وَأَلِيصَابَاتَ فِي حَدَثِ الزِّيَارَةِ هُوَ لَحْظَةٌ مَرْكَزِيَّةٌ فِي تَارِيخِ الخَلَاصِ: لِقَاءُ الإِيمَانِ وَالفَرَحِ وَالنِّعْمَةِ، حَيْثُ يَتَجَلَّى اللهُ فِي قَلْبَيْ اِمْرَأَتَيْنِ مُؤمِنَتَيْنِ، وَتَبْدَأُ البَشَرِيَّةُ الجَدِيدَةُ مِنْ إِيمَانِ اِمْرَأَةٍ قَالَتْ: "هَاءَنَذَا أَمَةُ الرَّبِّ، لِيَكُنْ لِي بِحَسَبِ قَوْلِكَ".
46 فقالَت مَريَم: ((تُعَظِّمُ الرّبّ نَفْسي))
تُشِيرُ عِبَارَةُ "تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسِي"ِ إلَى رَدِّ فِعْلِ مَرْيَمَ مِنْ خِلَالِ نَشِيدِهَا لِتَمْجِيدِ اللهِ عَمَّا سَيَعْمَلُهُ لِلْعَالَمِ مِنْ خِلَالِهَا. وَيَعْكِسُ هَذَا النَّشِيدُ فَرَحَ مَرْيَمَ وَتَقْدِيرَهَا لِعَمَلِ اللهِ فِي حَيَاتِهَا. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ فْرَنسِيس دِي سَال قَائِلًا:"اِعْتَرَفَتْ مَرْيَمُ بِأَنَّ سَعَادَتَهَا كُلَّهَا نَابِعَةٌ مِنَ اللهِ الَّذِي نَظَرَ إِلَى تَوَاضُعِ أَمَتِهِ، فَرَتَّلَتْ ذَلِكَ النَّشِيدَ الجَمِيلَ وَالرَّائِعَ: تُعَظِّمُ نَفْسِيَ الرَّبَّ» (In Ephata ، الجُزْء الأَوَّل). إِنَّهَا تُشِيدُ بِعَظَمَةِ اللهِ وَسَخَائِهِ نَحْوَهَا (لوقا 1: 46–49)، وَهَذَا النَّشِيدُ هُوَ اِعْتِرَافٌ بِعَظَمَةِ اللهِ بِشَكْلٍ مَوْضُوعِيٍّ: اللهُ هُوَ العَظِيمُ، وَالعَظَمَةُ هِيَ لِلهِ وَحْدَهُ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ العَلَّامَةُ أَمْبْرُوسْيُوس قَائِلًا: "لَقَدْ تَعَظَّمَ الرَّبُّ، لَا لِأَنَّ الصَّوْتَ البَشَرِيَّ أَضَافَ لَهُ شَيْئًا، بَلْ لِأَنَّ اللهَ تَعَظَّمَ فِينَا، وَلِأَنَّ صُورَةَ اللهِ هِيَ المَسِيحُ (2 قورنتس 4: 4). لِذَلِكَ، إِذَا عَمِلَ أَحَدُنَا بِرَحْمَةٍ وَعَدْلٍ، فَهُوَ يُعَظِّمُ صُورَةَ اللهِ الَّذِي خَلَقَهُ عَلَى مِثَالِهِ، وَهَكَذَا بِتَعْظِيمِ هَذِهِ الصُّورَةِ يُرْفَعُ بِنَوْعٍ مِنَ المُشَارَكَةِ فِي عَظَمَةِ اللهِ"(مَقَالَةٌ فِي إِنْجِيلِ القِدِّيسِ لُوقَا، الكِتَابُ الثَّانِي). وَهَذَا النَّشِيدُ هُوَ أَوَّلُ نَشِيدٍ احْتَفَظَ بِهِ الإِنْجِيلِيُّ لُوقَا، حَيْثُ تُنْشِدُ مَرْيَمُ شُكْرَهَا (لوقا 1: 46–50) وَشُكْرَ شَعْبِهَا (لوقا 1: 51–55)، بَعْدَ أَنْ تَمَّتْ مَوَاعِيدُ العَهْدِ. وَيَلِيهِ نَشِيدُ زَكَرِيَّا (لوقا 1: 68–79)، وَنَشِيدُ المَلَائِكَةِ (لوقا 2: 14)، وَنَشِيدُ سِمْعَانَ الشَّيْخِ (لوقا 2: 29–32). وَيُلَخِّصُ كِتَابُ التَّعْلِيمِ المَسِيحِيِّ الكَاثُولِيكِيِّ صَلَاةَ العَذْرَاءِ بِقَوْلِهِ: "إِنَّ نَشِيدَ مَرْيَمَ: تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسِي هُوَ فِي آنٍ وَاحِدٍ نَشِيدُ وَالِدَةِ الإِلَهِ وَنَشِيدُ الكَنِيسَةِ، نَشِيدُ ابْنَةِ صِهْيَوْنَ وَشَعْبِ اللهِ الجَدِيدِ، وَنَشِيدُ شُكْرٍ لِمِلْءِ النِّعَمِ الَّتِي أُفِيضَتْ فِي تَدْبِيرِ الخَلَاصِ، وَنَشِيدُ المَسَاكِينِ الَّذِينَ تَحَقَّقَ رَجَاؤُهُمْ بِإِنْجَازِ مَا وَعَدَ بِهِ آبَاؤُنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ" (التَّعْلِيمُ المَسِيحِيُّ الكَاثُولِيكِيُّ، رَقْم 2619).
47 وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي
تُشِيرُ عِبَارَةُ "تَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ" إِلَى فَرَحِ مَرْيَمَ بِاللهِ مُخَلِّصِهَا، الَّذِي يَعْكِسُ تَوَاضُعَهَا وَشُكْرَهَا لِلهِ. وَهَذَا الاِبْتِهَاجُ هُوَ تَحْقِيقٌ لِبِشَارَةِ المَلَاكِ جِبْرَائِيلَ لِمَرْيَمَ: "اِفْرَحِي، أَيَّتُهَا الْمُمْتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ" (لوقا 1: 28). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ بيدُسُ المُكَرَّمُ قَائِلًا:"إِنَّ المَعْنَى الأَوَّلِيَّ لِهَذِهِ الكَلِمَاتِ هُوَ بِالتَّأْكِيدِ اِعْتِرَافُ مَرْيَمَ بِالعَطَايَا الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَيْهَا بِصُورَةٍ خَاصَّةٍ؛ وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الجَمِيعَ بِأَنَّ اللهَ لَا يَتَوَقَّفُ أَبَدًا عَنْ إِغْدَاقِهِ النِّعَمَ عَلَى الجِنْسِ البَشَرِيِّ"(ِعظَاتٌ عَنِ الإِنْجِيلِ). وَكَلِمَاتُ مَرْيَمَ هَذِهِ هِيَ صَدًى لِتَرْنِيمَةِ حَنَّةَ بَعْدَ أَنْ وَلَدَتْ صَمُوئِيلَ:"اِبْتَهَجَ قَلْبِي بِالرَّبِّ" (1 صموئيل 2: 1). إِنَّ كِلَا النَّشِيدَيْنِ يُصَوِّرُ اللهَ نَصِيرًا لِلْفُقَرَاءِ وَالأَذِلَّاءِ وَالْمُحْتَقَرِينَ وَالمَظْلُومِينَ. وَاللهُ هُوَ مَصْدَرُ هَذَا الاِبْتِهَاجِ؛ إِنَّهُ مَزْمُورٌ مِنَ الزَّمَنِ المَلَكِيِّ يُعَبِّرُ عَنْ رَجَاءِ الفُقَرَاءِ (صفنيا 2: 3)، وَيَنْتَهِي بِالإِشَارَةِ إِلَى المَلِكِ المَسِيحِ. وَلَكِنْ فِي نَشِيدِ مَرْيَمَ العَذْرَاءِ نَجِدُ بُعْدًا شَخْصِيًّا وَاضِحًا، حَيْثُ تَنْطَلِقُ مَرْيَمُ فِي فَرَحِهَا الشَّخْصِيِّ لِتُعَبِّرَ عَنْ عَظَمَةِ اللهِ فِي حَيَاتِهَا. وَيُعَلِّقُ الفَيْلَسُوفُ وَاللَّاهُوتِيُّ الفَرَنْسِيُّ جَان غِيتُو قَائِلًا: "إِنَّ نَشِيدَ مَرْيَمَ قَدْ يَكُونُ قَدِ اسْتَغْرَقَ خَمْسَ أَوْ سِتَّ لَحَظَاتٍ، لَكِنَّهُ يَرْوِي حَيَاةً بِأَكْمَلِهَا".
أَمَّا عِبَارَةُ "رُوحِي" فَتُشِيرُ إِلَى مَا هُوَ أَسْمَى وَأَعْمَقُ مَا فِي الإِنْسَانِ، أَيْ مَا يُمَكِّنُنَا مِنْ إِدْرَاكِ مَا لَا يُرَى وَمَا هُوَ أَبَدِيٌّ.
وَأَمَّا عِبَارَةُ "بِاللهِ مُخَلِّصِي" فَتُعَبِّرُ عَنْ تَجْرِبَةٍ وِجْدَانِيَّةٍ عَمِيقَةٍ لِعَظَمَةِ اللهِ فِي حَيَاةِ مَرْيَمَ، مُلَخَّصَةٍ فِي تسع آيَاتٍ تُجَسِّدُ مَرَاحِلَ تَجْرِبَتِهَا الإِيمَانِيَّةِ:
اِبْتِهَاجٌ بِالخَلَاصِ الآتِي (لوقا 1: 46–47)،
فَقْرٌ وَخِدْمَةٌ (لوقا 1: 48)،
حَالُ التَّوَاضُعِ (لوقا 1: 49)،
مَخَافَةُ اللهِ (لوقا 1: 50)،
اِنْفِتَاحٌ عَلَى التَّدْبِيرِ الإِلَهِيِّ وَتَأَهُّبٌ لِخِدْمَتِهِ (لوقا 1: 51)،
إِدْرَاكُ الضَّعْفِ الذَّاتِيِّ (لوقا 1: 52)،
حِسٌّ بِالعَدَالَةِ (لوقا 1: 53)،
ثِقَةٌ بِالرَّحْمَةِ الإِلَهِيَّةِ (لوقا 1: 54)،
تَحْقِيقُ وُعُودِ الإِلَهِ الآمِينَ (لوقا 1: 55).
وَلَا تَعْنِي "مُخَلِّصِي" أَنَّ السَّيِّدَةَ البَتُولَ خَطِئَتْ – حَاشَا – وَنَالَتِ الخَلَاصَ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ إِنَّ اللهَ خَلَّصَهَا بِالْوِقَايَةِ، لِأَنَّهَا سَتَكُونُ البَتُولَ الوَالِدَةَ لِلكَلِمَةِ المُتَجَسِّدِ. فَكَمْ عَلَيْنَا أَنْ نَمْتَلِئَ فَرَحًا نَحْنُ أَيْضًا، عِنْدَمَا يَزُورُنَا هَذَا المُخَلِّصُ الإِلَهِيُّ مِنْ خِلَالِ القُرْبَانِ المُقَدَّسِ وَالنِّعَمِ الدَّاخِلِيَّةِ وَالكَلِمَاتِ الَّتِي يَقُولُهَا لَنَا يَوْمِيًّا فِي قُلُوبِنَا!
48 لأَنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة. سَوفَ تُهَنِّئُني بَعدَ اليَومِ جَميعُ الأَجيال
تُشِيرُ عِبَارَةُ "لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى أَمَتِهِ الوَضِيعَةِ" إِلَى تَعْبِيرِ مَرْيَمَ عَنْ تَوَاضُعِهَا العَمِيقِ، إِذْ تَعْتَرِفُ بِأَنَّهَا خَادِمَةٌ مُتَوَاضِعَةٌ نَظَرَ إِلَيْهَا اللهُ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ وَالمَحَبَّةِ. وَكَلِمَاتُ مَرْيَمَ تُشِيرُ إِلَى صَلَاةِ حَنَّةَ أُمِّ صَمُوئِيلَ، وَهَذَا نَصُّهَا: "أَنْتَ نَظَرْتَ إِلَى بُؤْسِ أَمَتِكَ، وَذَكَرْتَنِي وَلَمْ تَنْسَ أَمَتِكَ" (1 صموئيل 1: 11). إِنَّ المَرْءَ المُتَوَاضِعَ هُوَ أَفْضَلُ النَّاسِ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ. فَالتَّوَاضُعُ هُوَ مَوْضُوعٌ أَسَاسِيٌّ فِي العَهْدِ القَدِيمِ، وَهُوَ عَكْسُ الكِبْرِيَاءِ. وَفِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ، التَّوَاضُعُ هُوَ ذَلِكَ الفِكْرُ الَّذِي لَا يَطْمَعُ فِي المَعَالِي، بَلْ يَمِيلُ إِلَى الوَضِيعِ، وَلَا يَحْسِبُ نَفْسَهُ عَاقِلًا (رومة 12: 16)، وَلَا يَرْتَئِي وَيَسْمُو فَوْقَ مَا يَنْبَغِي فِي الاِعْتِدَادِ بِالنَّفْسِ مَذْهَبًا يُجَاوِزُ المَعْقُولَ (رومة 12: 3)، بَلْ يَتَنَافَسُ فِي إِكْرَامِ غَيْرِهِ (رومة 12: 10). وَيُضِيفُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "لَا تَفْعَلُوا شَيْئًا بِدَافِعِ المُنَافَسَةِ أَوِ العُجْبِ، بَلْ لِيَتَوَاضَعْ كُلٌّ مِنْكُمْ، وَيَعُدَّ غَيْرَهُ أَفْضَلَ مِنْ نَفْسِهِ" (فِيلِبِّي 2: 3). وَبِكَلِمَةِ التَّوَاضُعِ نَعْنِي عَدَمَ الاِعْتِدَادِ بِالذَّاتِ أَوْ إِفْنَاءَهَا، بَلْ إِعْطَاءَ النَّفْسِ حَقَّ قَدْرِهَا. فَأَنْ يَكُونَ الإِنْسَانُ مُتَوَاضِعًا لَا يَعْنِي أَنْ يَحْتَقِرَ نَفْسَهُ، بَلْ أَنْ يَعْتَرِفَ بِفَضْلِ رَبِّهِ وَالنَّاسِ عَلَيْهِ، وَأَلَّا يَدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ. وَيَقُولُ القِدِّيسُ مَنْصُورُ دِي بُول: "التَّوَاضُعُ هُوَ إِفْرَاغُ الذَّاتِ مِنَ الذَّاتِ لِإِحْلَالِ اللهِ مَحَلَّهَا". وَالْعَذْرَاءُ القِدِّيسَةُ، عَلَى كَوْنِهَا أَمَةً مُتَوَاضِعَةً، فَهِيَ فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ أُمُّ اللهِ. وَيَقُولُ مَارْتِن لُوثَر:"مَرْيَمُ تَعْرِفُ أَنَّهَا أُمُّ اللهِ، فَوْقَ البَشَرِ أَجْمَعِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تَتَخَلَّ عَنْ بَسَاطَتِهَا وَلَا عَنْ تَوَاضُعِهَا، غَيْرَ مُعْتَبِرَةٍ نَفْسَهَا أَعْلَى مِنْ أَحَدٍ، حَتَّى وَلَا مِنْ خَادِمَةٍ بَسِيطَةٍ. وَهِيَ لَا تُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ إِلَيْهَا نَحْنُ، بَلْ بِهَا إِلَى اللهِ".
أَمَّا عِبَارَةُ "نَظَرَ" فَتُشِيرُ إِلَى نَظَرِ اللهِ الَّذِي يَنْحَدِرُ نَحْوَ الإِنسَانِ، فَاللهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَّا إِلَى ذَاتِهِ أَوْ إِلَى الأَسْفَلِ، لأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ فَوْقَ اللهِ، كَمَا وَرَدَ فِي كَلِمَاتِ صَاحِبِ المَزَامِيرِ:"مَنْ مِثْلُ الرَّبِّ إِلَهِنَا، الجَالِسِ فِي الأَعَالِي، الَّذِي تَنَازَلَ وَنَظَرَ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ؟" (مزمور 113: 5–6). وَيُعَلِّقُ اللَّاهُوتِيُّ البْرُوتِسْتَانْتِيُّ كَارْل بَرْث قَائِلًا:"إِنْ كَانَ قَدْ حَدَثَ فِي التَّارِيخِ العَالَمِيِّ أَمْرٌ أَسَاسِيٌّ، فَإِنَّمَا هُوَ تِلْكَ النَّظْرَةُ إِلَى أَمَتِهِ الوَضِيعَةِ".
أَمَّا عِبَارَةُ " أَمَتِهِ" فَتُشِيرُ إِلَى مَرْيَمَ كَمَا سَمَّتْ نَفْسَهَا، فَقَدْ كَانَتْ مِنْ طَبَقَةٍ بَسِيطَةٍ، تَعِيشُ فِي قَرْيَةٍ مَجْهُولَةٍ فِي نَوَاحِي الجَلِيلِ، وَعَاشَتْ دَوْمًا فِي عَمَلِ مَشِيئَةِ اللهِ وَخِدْمَةِ ابْنِهَا يَسُوعَ. وَيَقُولُ القِدِّيسُ لُوِيس مَارِي غْرِينْيُون دُو مُونْفُور: "كَانَ تَوَاضُعُ مَرْيَمَ عَمِيقًا جِدًّا إِلَى حَدٍّ أَنَّهَا لَمْ تَجِدْ عَلَى الأَرْضِ مَيْلًا أَقْوَى وَأَدْوَمَ مِنَ التَّخَفِّي عَنْ نَفْسِهَا وَعَنْ كُلِّ خَلِيقَةٍ، كَيْ لَا يَعْرِفَهَا سِوَى اللهِ وَحْدَهُ" (لدِّرَاسَةُ فِي التَّقْوَى الحَقِيقِيَّةِ لِمَرْيَمَ العَذْرَاءَ، 1–6).
أَمَّا عِبَارَةُ "سَوْفَ تُهَنِّئُنِي بَعْدَ اليَوْمِ جَمِيعُ الأَجْيَالِ" فتُشِيرُ إِلَى إِعْلَانِ مَرْيَمَ أَنَّ جَمِيعَ الأَجْيَالِ سَتُطَوِّبُهَا، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ فِي مَكَانَتِهَا فِي التَّارِيخِ المَسِيحِيِّ. وَلِهَذِهِ الكَلِمَاتِ صَدًى فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ: "لأَنَّ النِّسَاءَ تُهَنِّئُنِي" (التَّكْوِين 30: 13). وَمَعَ عِلْمِهَا أَنَّ جَمِيعَ الأَجْيَالِ سَتُطَوِّبُهَا لِأَجْلِ العَظَائِمِ الَّتِي صَنَعَهَا الرَّبُّ لَهَا، فَهِيَ تُرِيدُ أَنْ يَعُودَ الفَضْلُ كُلُّهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَيَقُولُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "مَنِ افْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرَّبِّ" (1قورنتس 1: 31).
أَمَّا كَلِمَةُ "تُهَنِّئُنِي" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ μακαριοῦσίν (فَمَعْنَاهَا "تُطَوِّبُنِي"، وَهِيَ تُشِيرُ إِلَى تَهْنِئَةِ الأَجْيَالِ لِمَرْيَمَ، لَا بِسَبَبِ فَضِيلَتِهَا فَقَطْ، بَلْ بِسَبَبِ قُدْرَةِ اللهِ صَانِعِ العَظَائِمِ فِيهَا، كَمَا قَالَ لَهَا المَلَاكُ جِبْرَائِيلُ:"وَقُدْرَةُ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ" (لوقا 1: 35). فَمَوْقِعُ العَذْرَاءِ المُمَيَّزُ هُوَ نَتِيجَةُ أُمُومَتِهَا لِيَسُوعَ، وَهَذَا هُوَ جَوْهَرُ الإِيمَانِ المَسِيحِيِّ الَّذِي يَقُومُ عَلَى تَجَسُّدِ الكَلِمَةِ. وَقَدْ أُوحِيَ إِلَى مَرْيَمَ بِهَذَا السِّرِّ العَظِيمِ بِسَبَبِ دَوْرِهَا الرَّفِيعِ فِي إِتْمَامِهِ، فَقَدْ جَاءَ إِلَيْهَا كَلِمَةُ اللهِ لِيَتَّحِدَ فِيهَا بِالطَّبِيعَةِ البَشَرِيَّةِ. وَلِذَلِكَ تَفَوَّهَتْ مَرْيَمُ العَذْرَاءُ بِعِبَارَةِ "تُهَنِّئُنِي" لَا عَنْ كِبْرِيَاءٍ، بَلْ اِعْتِرَافًا بِفَضْلِ عَطِيَّةِ اللهِ عَلَيْهَا وَتَقَبُّلِهَا لَهَا بِإِيمَانٍ. فَالكِبْرِيَاءُ هُوَ رَفْضُ قَبُولِ عَطَايَا اللهِ، أَمَّا الاِتِّضَاعُ فَهُوَ قَبُولُهَا وَاسْتِعْمَالُهَا فِي تَمْجِيدِهِ وَخِدْمَتِهِ. وَلَنَا الشَّرَفُ نَحْنُ فِي الكَنِيسَةِ الكَاثُولِيكِيَّةِ وَشَقِيقَتِهَا الأُرْثُوذُكْسِيَّةِ، أَنْ نُهَنِّئَ العَذْرَاءَ دَائِمَةَ البَتُولِيَّةِ، وَالِدَةَ المَسِيحِ وَأُمَّنَا، مَعَ أَلِيصَابَاتَ، بِصَوْتٍ جَهِيرٍ: "مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ، وَمُبَارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ" (لوقا 1: 42).
49 لأَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُمورًا عَظيمة: قُدُّوسٌ اسمُه
تُشِيرُ عِبَارَةُ "لأَنَّ القَدِيرَ صَنَعَ إِلَيَّ أُمُورًا عَظِيمَةً" إِلَى تَوَاصُلِ مَرْيَمَ فِي تَسْبِيحَتِهَا، مُشِيرَةً إِلَى اللهِ القَدِيرِ الَّذِي صَنَعَ بِهَا أُمُورًا عَظِيمَةً، وَمُؤَكِّدَةً قَدَاسَةَ اسْمِهِ. فَهَذَا الاِعْتِرَافُ هُوَ شَهَادَةٌ لِعَظَمَةِ عَمَلِ اللهِ فِي حَيَاتِهَا، وَإِعْلَانٌ لِقُوَّتِهِ الَّتِي تَتَجَلَّى فِي الضُّعْفِ. إِنَّ مَا صَنَعَهُ اللهُ لِمَرْيَمَ هُوَ تَحْقِيقٌ لِمَا وَعَدَ بِهِ لِإِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتِهِ إِلَى الأَبَدِ (لوقا 1: 51–55). فَاللهُ يَقِفُ مَعَ مَرْيَمَ، كَمَا يَقِفُ دَوْمًا مَعَ الوَضِيعِ وَالفَقِيرِ. وَإِنْ كَانَ الرَّبُّ قَدْ عَظَّمَ مَرْيَمَ وَطَوَّبَهَا جَمِيعُ البَشَرِ، فَلِأَنَّ القَدِيرَ صَنَعَ لَهَا عَظَائِمَ. إِنَّ عَظَائِمَ اللهِ لَا تَزَالُ مُتَوَاصِلَةً فِي كُلِّ زَمَانٍ، غَيْرَ أَنَّهَا مَخْفِيَّةٌ وَتَتَطَلَّبُ مِنَّا أَنْ نَكْتَشِفَهَا فِي أَعْظَمِ الأُمُورِ وَأَبْسَطِهَا، وَأَنْ نَتَمَثَّلَ بِمَرْيَمَ فَلَا نُنْكِرَ مَا نِلْنَاهُ مِنْ عَطَايَا اللهِ، بَلْ نَشْكُرَهُ عَلَيْهَا وَنَسْتَخْدِمَهَا لِمَجْدِ اسْمِهِ.
أَمَّا عِبَارَةُ "صَنَعَ إِلَيَّ" فَتُشِيرُ إِلَى مَرْيَمَ الَّتِي كَانَتْ أَوَّلَ المُسْتَفِيدِينَ مِنْ نِعْمَةِ التَّجَسُّدِ الخَلَاصِيِّ، إِذْ صَارَتْ مَسْكَنَ الرُّوحِ القُدُسِ وَمَوْضِعَ حُلُولِ الكَلِمَةِ.
وَأَمَّا عِبَارَةُ "أُمُورًا عَظِيمَةً" فَتُشِيرُ إِلَى رَائِعَةِ التَّجَسُّدِ الإِلَهِيِّ وَإِلَى أُمُومَةِ مَرْيَمَ لِلرَّبِّ يَسُوعَ، وَهِيَ أَعْظَمُ عَجَائِبِ اللهِ فِي تَدْبِيرِ الخَلَاصِ. وَفِي العَهْدِ القَدِيمِ، كَانَتْ الأُمُورُ العَظِيمَةُ تُشِيرُ إِلَى رَوَائِعِ أَيَّامِ الخُرُوجِ: وَيْلَاتِ مِصْرَ، وَعُبُورِ البَحْرِ الأَحْمَرِ، وَالمَنِّ السَّمَاوِيِّ، وَعُبُورِ الأُرْدُنِّ، كَمَا وَرَدَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ: "هُوَ إِلهُكَ الَّذِي صَنَعَ لَكَ تِلْكَ العَظَائِمَ وَالأُمُورَ الرَّهِيبَةَ الَّتِي رَأَتْهَا عَيْنَاكَ" (تَثْنِيَةُ الاشْتِرَاعِ 10: 21).
أَمَّا عِبَارَةُ "قُدُّوسٌ اسْمُهُ" فَتُشِيرُ إِلَى قَدَاسَةِ اللهِ، وَهِيَ صِفَتُهُ الرَّئِيسِيَّةُ، كَمَا تَرَنَّمَ صَاحِبُ المَزَامِيرِ قَائِلًا:"اِسْمُهُ قُدُّوسٌ رَهِيبٌ" (مزمور 111: 9). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ بيدَا المُكَرَّمُ قَائِلًا: "يُدْعَى اسْمُهُ قُدُّوسًا، أَيْ إِنَّهُ يَسْمُو بِعِزَّةِ قُدْرَتِهِ فَوْقَ كُلِّ خَلِيقَةٍ، وَهُوَ مُتَمَيِّزٌ وَمُفَضَّلٌ عَلَى جَمِيعِ الكَائِنَاتِ"(في إِنْجِيلِ القِدِّيسِ لُوقَا، الكِتَابُ الأَوَّل، 46–55؛ CCL 120، 37-3).
50 ورَحمَتُه مِن جيلٍ إِلى جيلٍ لِلذَّينَ يَتَقّونَه
تُشِيرُ عِبَارَةُ "وَرَحْمَتُهُ مِنْ جِيلٍ إِلَى جِيلٍ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ" إِلَى حَدِيثِ مَرْيَمَ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي تَمْتَدُّ عَبْرَ الأَجْيَالِ لِكُلِّ الَّذِينَ يَتَّقُونَهُ وَيَخَافُونَهُ. هَذِهِ الرَّحْمَةُ هِيَ تَعْبِيرٌ عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ المُسْتَمِرَّةِ وَعَنْ النِّعْمَةِ الَّتِي يَمْنَحُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. إِنَّ كَلِمَاتِ مَرْيَمَ هُنَا هِيَ صَدًى لِدُعَاءِ صَاحِبِ المَزَامِيرِ: "رَحْمَةُ الرَّبِّ مُنْذُ الأَزَلِ وَلِلأَبَدِ عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَهُ، وَبِرُّهُ عَلَى بَنِي البَنِينَ" (مزمور 103: 17). فَقَدْ كَانَتْ مَرْيَمُ، وَمَعَهَا العَالَمُ كُلُّهُ مِنْ خِلَالِهَا، مَوْضُوعَ رَحْمَةٍ إِلَهِيَّةٍ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ. وَيُعَلِّقُ العَلَّامَةُ مَاكْس تُورِيَان قَائِلًا: "كَانَ، يَوْمَ البِشَارَةِ وَلَحْظَةِ التَّجَسُّدِ، العَلَامَةُ الوَحِيدَةُ لِرَحْمَةِ اللهِ، تِلْكَ الرَّحْمَةُ الَّتِي سَوْفَ تَعُمُّ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ العَالَمَ بَأَسْرِهِ، فِي المَسِيحِ وَكَنِيسَتِهِ".
أَمَّا عِبَارَةُ "رحْمَتُهُ" فَتُشِيرُ إِلَى صِفَةٍ رَئِيسِيَّةٍ مِنْ صِفَاتِ اللهِ الَّتِي أُوحِيَ بِهَا إِلَى مُوسَى: "الرَّبُّ، الرَّبُّ! إِلَهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ الأَنَاةِ، كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَالوَفَاءِ" (خُرُوج 34: 6). وَقَدْ وَسَّعَ صَاحِبُ المَزَامِيرِ مَعْنَى هَذِهِ الرَّحْمَةِ وَأَكَّدَهَا، مُمَهِّدًا للإِنْجِيلِ النِّعْمَةِ، خَاصَّةً كَمَا جَاءَ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا: "مَنْ لَا يُحِبّ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ، لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ" (1 يوحَنَّا 4: 8). فَاللهُ مَحَبَّةٌ وَرَحْمَةٌ، وَلِذَلِكَ لَيْسَتْ مَحَبَّتُهُ فَرْضًا يُلْزِمُ الإِنْسَانَ، بَلْ عَطَاءٌ يَدْعُونَا لاِكْتِشَافِهِ وَالاِسْتِجَابَةِ لَهُ بِحُبٍّ وَحُرِّيَّةٍ.
أَمَّا عِبَارَةُ "يَتَّقُونَهُ" فَتُشِيرُ إِلَى إِكْرَامِ اللهِ وَالْعَيْشِ بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ. إِنَّ مَخَافَةَ اللهِ لَيْسَتْ خَوْفًا مُقَلِقًا، بَلْ مَخَافَةُ البَنُوَّةِ، الَّتِي تَجْعَلُ الإِنْسَانَ يَحْيَا فِي مَحَبَّةِ اللهِ وَتَقْوَاهُ بِقَلْبٍ نَقِيٍّ وَمُتَّضِعٍ. إِنَّ هَذَا النَّشِيدَ هُوَ كَلِمَاتُ مَرْيَمَ الأُولَى الَّتِي تُعَبِّرُ عَنْ حَالَتِهَا النَّفْسِيَّةِ العَمِيقَةِ وَتَكْشِفُ عَنْ الآفَاقِ الرُّوحِيَّةِ العُلْيَا الَّتِي كَانَتْ تُحَلِّقُ فِيهَا فِي مَسِيرَةِ إِيمَانِهَا. وَيَقُولُ البَابَا يُوحَنَّا بُولُسُ الثَّانِي: "إِنَّ هَذِهِ العِبَارَاتِ الرَّائِعَةَ تَنُمُّ عَنْ اِخْتِبَارِ مَرْيَمَ الشَّخْصِيِّ، عَنْ اِنْخِطَافِ قَلْبِهَا. وَهِيَ إِشْعَاعٌ لِسِرِّ اللهِ، وَلِمَجْدِ قَدَاسَتِهِ الفَائِقَةِ، وَلِرَحْمَتِهِ وَلِلْحُبِّ الأَبَدِيِّ الَّذِي دَخَلَ تَارِيخَ الإِنْسَانِ عَطَاءً نِهَائِيًّا لَا رُجُوعَ عَنْهُ" (رِسَالَةُ أُمِّ الفَادِي، 1987، فَقْرَة 36). وَيَنْتَهِي نَشِيدُ مَرْيَمَ بِالتَّأَمُّلِ فِي وَعْدِ اللهِ بِمَجِيءِ المُخَلِّصِ لِإِبْرَاهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ، أَيْ لِأَبْنَاءِ الوَعْدِ كَافَّةً، الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: "فَإِذَا كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ، فَأَنْتُمْ إِذًا نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنْتُمْ الوَرَثَةُ وَفْقًا لِلوَعْدِ" (غَلاطِيَّة 3: 29). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ بيدَا المُكَرَّمُ عَلَى هَذَا النَّصِّ قَائِلًا: "كَمَا قَالَ لِآبَائِنَا، لِإِبْرَاهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ" (لوقا 1: 54–55). فلَا يُشِيرُ النَّصُّ إِلَى نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ بِحَسَبِ الجَسَدِ فَقَطْ، بَلْ بِحَسَبِ الرُّوحِ أَيْضًا، أَيْ لَيْسَ لِلَّذِينَ وُلِدُوا مِنْهُ حَسَبَ الجَسَدِ فَقَطْ، بَلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا كَمَا آمَنَ هُوَ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الخِتَانِ أَوْ مِنْ غَيْرِ الخِتَانِ. لِأَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ آمَنَ قَبْلَ أَنْ يُخْتَنَ، وَعُدَّ لَهُ ذَلِكَ بِرًّا" (في إِنْجِيلِ القِدِّيسِ لُوقَا، الكِتَابُ الأَوَّل، 46–55؛ CCL 120، 37-39).
ثانيًا: تَطْبيقاتُ النَّصِّ الإِنجيليّ (لوقا 1: 39-45)
بَعدَ دِراسَةِ وَقائِعِ النَّصِّ الإِنجيليِّ وتَحليلِهِ (لوقا 1: 39-45)، نَستَنتِجُ أَنَّ النَّصَّ يَتَمحورُ حَولَ زِيارَةِ مَريَمَ لِأَليصابات. وتُعتَبَرُ هذِهِ الزِّيارةُ تَكمِلَةً لِبِشارَةِ المَلاكِ جِبرائيلَ لِمَريَمَ العَذراءِ بِحَبَلِها البَتوليِّ بِيَسوعَ المَسيح؛ إِذ أَعطى المَلاكُ لِمَريَمَ عَلامةً على أَنَّ الحَبَلَ البَتوليَّ أَمرٌ مُمكِنٌ، بِدَليلِ قَولِهِ: "ها إِنَّ نَسيبَتَكِ أَليصابات قد حَبِلَت هي أَيضًا بِابنٍ في شَيخوخَتِها، وهذا هو الشَّهرُ السَّادِسُ لِتِلكَ الَّتي كانَت تُدعى عاقِرًا" (لوقا 1: 36).
وتُؤَكِّدُ زِيارَةُ مَريَمَ العَذراءِ حَقيقَةَ التَّجسُّدِ الإِلَهيّ مِن خِلالِ لِقاءِ مَريَمَ، أُمِّ المُخَلِّصِ المُنتَظَر، بِأَليصابات، أُمِّ يُوحَنَّا المَعمَدان، أَكبَرِ أَنبياءِ اللهِ، والسَّلامِ المُتَبادَلِ بَينَهُما. ومِن هُنا نَتَساءَلُ:
- كَيفَ أَنَّ سَلامَ مَريَمَ يُؤَكِّدُ حَقيقَةَ التَّجسُّدِ الإِلَهيّ؟
- وكَيفَ أَنَّ سَلامَ أَليصابات يُؤَكِّدُ حَقيقَةَ التَّجسُّدِ الإِلَهيّ؟
1) كَيْفَ يُمْكِنُ سَلامُ مَريَمَ أَنْ يُؤَكِّدَ حَقِيقَةَ التَّجَسُّدِ الإِلَهِيّ؟
يَقولُ لوقا الإِنجيليّ: "فَلَمَّا سَمِعَت أَليصاباتُ سَلامَ مَريَمَ، ارْتَكَضَ الجَنينُ في بَطنِها، وَامْتَلأَتْ مِنَ الرُّوحِ القُدُس" (لوقا 1: 41). وكَما أَنَّ حُضورَ اللهِ في تَابوتِ العَهدِ قَدْ جَعَلَ داوُدَ المَلِكَ يَثِبُّ ويَرقُصُ فَرَحًا (صموئيل الثاني 6: 16)، كَذلِكَ سَلامُ مَريَمَ، الَّذي يَحمِلُ في داخِلِهِ حُضورَ المَسيحِ كَلِمَةِ اللهِ المُتَجَسِّدِ، مَلأَ خالَتَها أَليصاباتَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، وأَيْقَظَ الفَرَحَ والاِبْتِهاجَ في جَنينِها يُوحَنَّا، الَّذي يُمَثِّلُ شَعبَ اللهِ المُنْتَظِرَ خَلاصَ الرَّبِّ.
كَلامُ الأُمِّ (العَذراءِ) يَنقُلُ كَلامَ ابنِها (يَسوعَ)، ويَمنَحُ الرُّوحَ القُدُسَ لأَليصابات. وهذِهِ الوَحدةُ بَينَ الأُمِّ وابنِها تُؤَكِّدُ حَقيقَةَ التَّجَسُّدِ. فَكَلِمَةُ اللهِ اتَّخَذَ جَسَدًا مِن مَريَمَ العَذراءِ، وإِنَّهُ حَقًّا اِبنُ مَريَمَ، ومَريَمُ هِيَ حَقًّا أُمُّ كَلِمَةِ اللهِ. الأُمُّ وابنُها مُتَّحِدانِ في الرِّسالَةِ، لا يَنفَصِلانِ في المَحبَّةِ ولا في العَطاءِ. مَريَمُ، في سَلامِها إلى أَليصاباتَ الحامِلِ في بَطنِها الجَنينَ يُوحَنَّا المَعمَدان، هِيَ أَوَّلُ المُبَشِّرينَ بالمَسيح، وأَوَّلُ مَن حَمَلَ بُشرى الخَلاصِ. كَما جاءَ في نُبوءَةِ أَشعيا: "ما أَجمَلَ على الجِبالِ قَدَمَيِ المُبَشِّرِ المُخبِرِ بِالسَّلامِ، المُبَشِّرِ بِالخَيرِ، المُخبِرِ بِالخَلاصِ، القائِلِ لِصِهْيونَ: قد مَلَكَ إِلهُكِ"(أشعيا 52: 7).
إِنَّ مَريَمَ تَحمِلُ مَعَها السَّلامَ والسَّعادَةَ والخَلاصَ، مُبَشِّرَةً أَنَّ مَلكوتَ اللهِ قَد أَتى. وهكَذا تَصيرُ أَليصاباتُ، رَمزًا لِلعَهدِ القَديمِ، أَوَّلَ مَن يَتَلَقَّى هذِهِ البُشرى، إلى الحَدِّ الَّذي فيهِ ارْتَكَضَ الجَنينُ ابْتِهاجًا في بَطنِها. ويُكرِّرُ لوقا الإِنجيليّ هذِهِ الآيَةَ مَرَّةً أُخرَى، لَكِن بِصيغَةِ المُتَكَلِّمِ، مَعَ إِضافَةٍ مُهِمَّةٍ هِيَ كَلِمَةُ "ابْتِهاج": "فَما إِنْ وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ، حتّى ارْتَكَضَ الجَنينُ ابْتِهاجًا في بَطني" (لوقا 1: 44). ويُعلِّقُ الفيلسوفُ واللاهوتيُّ الفَرنسيّ جان غيتون Jean Guitton على مَشهَدِ الزِّيارةِ فيقولُ: "كَأَنِّي بِالأَشخاصِ (مَريَمَ وأَليصاباتَ) في مَشهَدِ الزِّيارةِ قَدْ رُفِعوا فَوقَ الأَرضِ، وَخَرَجوا مِن ذَواتِهِم في نَشوَةٍ. ويَبدو لِلَحظَةٍ واحِدَةٍ، كَما في مَشهَدِ التَّجَلِّي، وكَأَنَّ ما يُقَيِّدُ النَّفْسَ بِالجَسَدِ قَد حُلَّ، فَظَهَرَت خَليقَةٌ جَديدَةٌ وَراءَ الخَليقَةِ القَديمَةِ، وَلَكِن دونَ اِنخِطافٍ ولا أَعجوبَةٍ. إِنَّ ما نُلاحِظُهُ مِن حَيَويَّةٍ واهتِزازٍ، ومِن فَرَحٍ يَفوقُ الفَرَحَ، إِنَّما هُوَ فِعلُ الرُّوحِ القُدُس" (راجع لوقا 1: 15، 41).
إِنَّ مَريَمَ وابنَها لَم يَجلِبا لِأَليصاباتَ ولا لِطِفلِها الخَوفَ أو القَلَقَ، بَل الفَرَحَ والاِبْتِهاجَ. فَيَسوعُ المُخَلِّصُ الحاضِرُ في مَريَمَ، ومِن خِلالِها، يُحدِثُ شُعاعًا نُورانيًّا في نَفْسِ أَليصاباتَ وابنِها يُوحَنَّا، فَيَمتَلِئُ كُلٌّ مِنهُما مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ وَفَرَحِ الخَلاصِ. فَهَل لِزِياراتِنا بَينَ بَعضِنا البَعضِ اليَومَ هذَا البُعدُ الرُّوحيُّ نَفسُهُ، حَيثُ نَسمَحُ لِلرَّبِّ أَنْ يَكونَ حاضِرًا فينا، ويُعطي ذَاتَهُ لِمَن نَزورُهُم، سَواءٌ لِلخِدمَةِ، أَو لِلصَّداقَةِ، أَو لِلتَّهْنِئَةِ، أَو لِلتَّعْزيَةِ؟
2) كَيْفَ يُمْكِنُ سَلامُ أَليصاباتَ أَنْ يُؤَكِّدَ حَقِيقَةَ التَّجَسُّدِ الإِلَهِيّ؟
في البِشارةِ، لَم يُعلِنِ المَلاكُ جِبرائيلُ عَنِ الوَقتِ الَّذي فيهِ يَتَحَقَّقُ كَلامُهُ حَولَ الحَبَلِ البَتوليِّ لِمَريَمَ بِيَسوعَ المَسيح، إِلَّا أَنَّ هذا السِّرَّ يَثبُتُ ويَظهَرُ حِسِّيًّا وَقتَ الزِّيارةِ. فَتُؤَكِّدُ أَليصاباتُ، بِاسمِ العَهدِ القَديمِ، أَنَّ الرَّجاءَ المَسيحانيَّ قَد تَحَقَّقَ في أَحشاءِ مَريَمَ البَتول، وَذلِكَ مِن خِلالِ تَحيَّتِها لِمَريَمَ العَذراء. وَمِن هُنا يُمكِنُ أَن نُقَسِّمَ سَلامَ أَليصاباتَ إلى ثَلاثَةِ أَجزاءٍ:
الجزءُ الأوَّلُ: «هَتَفَت أَليصاباتُ بِأَعلى صَوتِها: مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساءِ، وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ» (لوقا 1: 42)
إنَّ كَلِمَةَ مُبارَكَةٌ هِيَ كَلِمَةُ تَمجيدٍ لِلهِ وَشُكرٍ لَهُ تعالى، تَتَّجِهُ في آنٍ واحِدٍ إلى مَريَمَ وَإِلى ابنِها. فَهِيَ بَرَكَةٌ لِأُمومَةِ مَريَمَ العَذراء، إِذِ اختارَها اللهُ وَمَيَّزَها مِن بَينِ جَميعِ النِّساءِ لِتَكونَ أُمَّ المَسيح. إِنَّ الخَلاصَ يَأتي مِن خِلالِ المَرأَةِ، لا بِمَعنى أَنَّ المَرأَةَ هِيَ المُخَلِّصَةُ، بَل أَنَّ المُخَلِّصَ هُوَ يَسوعُ المَسيح، وَمَعَ ذلِكَ فَإِنَّ مَريَمَ، مِثلُ كُلِّ أُمٍّ، مُرتَبِطَةٌ بِابنِها في شَخصِيَّتِها وَتاريخِها وَرِسالَتِها. وَلِذلِكَ فَإِنَّ البَرَكَةَ المُزْدَوَجَةَ: "مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساءِ، وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ"، تُوحِي بِاِشتِراكِ يَسوعَ وَمَريَمَ في عَمَلِ الخَلاصِ، فَبَرَكَةُ الرَّبِّ تَبلُغُ البَشَرَ بِوَاسِطَةِ مَريَمَ وَيَسوعَ المُتَّحِدَيْنِ اِتِّحادًا وَثيقًا.
شَهِدَت أَليصاباتُ، وَهيَ مُمتَلِئَةٌ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، بِهِتافِها لِحُضورِ اللهِ في أَحشاءِ مَريَم، وَقَد مَلأَ الرُّوحُ القُدُسُ قَلبَها وَقادَها إلى التَّسبيحِ، عَلَى غِرارِ أُولئِكَ الَّذينَ يُسَبِّحونَ اللهَ أَمامَ تابوتِ العَهدِ في المَقدِسِ، مِثلَ داوُدَ النَّبيّ (صموئيلَ الثّاني 6: 16). وَمِن هَذا المَنطَلَقِ، تُصبِحُ مَريَمُ بِمَثابَةِ تابوتِ العَهدِ الَّذي يَحمِلُ في داخِلِهِ حُضورَ اللهِ نَفسَهُ. أَلَمْ يَقُلْ لَها المَلاكُ: "قُدرَةُ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ" (لوقا 1: 35)؟
إِنَّ الهُتافَ الَّذي تُطلِقُهُ أَليصاباتُ أَمامَ ظُهورِ الخَلاصِ النِّهائيِّ في مَريَمَ هُوَ هُتافُ فَرَحٍ بِمَجيءِ المَسيحِ، وَبِكَثرَةِ الأَبناءِ الَّذينَ سَيُولَدونَ إلى الإِيمانِ بِهِ، كَما جاءَ في نُبوءَةِ أَشعيا: "اِهتِفي أَيَّتُها العاقِرُ الَّتي لَم تَلِدْ، اِنْدَفِعي بِالهُتافِ وَاصرُخي أَيَّتُها الَّتي لَم تَتَمَخَّضْ، فَإِنَّ بَني المَهْجورَةِ أَكثَرُ مِن بَني المُتَزَوِّجَةِ" (أَشعيا 54: 1). إِنَّهُ هُتافٌ عَظيمٌ، لِأَنَّهُ حَيثُما حَلَّت مَريَمُ العَذراءُ، المُمْتَلِئَةُ نِعمَةً، تَملَأُ كُلَّ شَيءٍ فَرَحًا وَسَلامًا. وَقَد أَبدى الأَخُ ماكس توريان مِن جَماعَةِ تِيزِيه إعجابَهُ بِمَريَمَ قائِلًا: "مَريَمُ هِيَ المَرأَةُ المُختارَةُ مِن جَميعِ النِّساءِ، وَما مِن أَحَدٍ قَبلَها بُورِكَ كَما بُورِكَت، وَلَنْ يُبارَكَ أَحَدٌ مِثلَها. مَريَمُ أُمُّ المَسيحِ، لَها وَحدَها كَمالُ البَرَكَةِ وَالسَّعادَةِ".
الجُزءُ الثّاني: «مِن أَيْنَ لِي أَنْ تَأْتِيَنِي أُمُّ رَبِّي؟» (لوقا 1: 43)
اِستَدْرَكَت أَليصاباتُ هذا الحَدَثَ العَظيمَ كفُرْصَةٍ لا تَستَحِقُّها، فَأَكْمَلَت هُتافَها قائلةً: "مِن أَيْنَ لِي أَنْ تَأْتِيَنِي أُمُّ رَبِّي؟" (لوقا 1: 43). وهُنا نَجِدُ إِشارَةً إلى قَولِ داوُدَ النَّبيِّ الَّذي يَدعو المَسيحَ رَبًّا بِوَحيٍ مِنَ الرُّوحِ: "قالَ الرَّبُّ لِسَيِّدي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حتَّى أَجْعَلَ أَعْداءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ" (مزمور 110: 1). ويُفَسِّرُ يَسوعُ المَسيحُ هذا القَولَ لِليَهودِ قائِلًا: "كَيفَ يَقولُ النّاسُ إِنَّ المَسيحَ هُوَ ابنُ داوُد؟ فَداوُدُ نَفْسُهُ يَقولُ في سِفْرِ المَزاميرِ: قالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حتَّى أَجْعَلَ أَعْداءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ. فَداوُدُ يَدعوهُ رَبًّا، فَكَيْفَ يَكونُ ابنَهُ؟" (متى 22: 44). يُلمِّحُ المَسيحُ في هذا المَزمورِ إلى أُلوهيَّتِهِ وتَساميِهِ، ولِذلِكَ فَإِنَّ يَسوعَ المَسيحَ تَجَسَّدَ حَقًّا، فَهُوَ حَقًّا اِبْنُ مَريَمَ، وَمَريَمُ هِيَ حَقًّا أُمُّ اللهِ. أ َلَيْسَت مَريَمُ مَسْكَنَ العَلِيِّ الَّتي يُظَلِّلُها اللهُ بِقُدْرَتِهِ؟ أَلَيْسَت هِيَ تابوتَ العَهْدِ الجَديدِ الحامِلَ حُضورَ اللهِ؟
تَتَّضِحُ عَقيدَةُ الكَنيسَةِ الكاثوليكيَّةِ في ضَوءِ صَرْخَةِ أَليصاباتَ: "مِن أَيْنَ لِي أَنْ تَأْتِيَنِي أُمُّ رَبِّي؟" إِنَّ هذا السُّؤالَ يُعيدُ إلى الأَذهانِ سُؤالَ داوُدَ النَّبيِّ عِندَ مَجيءِ تابوتِ العَهدِ إليهِ:"كَيفَ يَنزِلُ تابوتُ الرَّبِّ عِندي؟" (2 صموئيل 6: 9). فَمَريَمُ تُكرَّمُ لأَنَّها أُمُّ المَسيحِ وحامِلَتُهُ؛ وَوُجودُ مَريَمَ لَدَى أَليصاباتَ هُوَ وُجودُ الرَّبِّ نَفسِهِ في بَيتِها. وَهكَذا، فَوُجودُ مَريَمَ في حَياتِنا يَعني وُجودَ الرَّبِّ مَعَنا. إِنَّ قولَ أَليصاباتَ: "مِن أَيْنَ لِي أَنْ تَأْتِيَنِي أُمُّ رَبِّي؟" يُبَيِّنُ أَنَّ الإِكرامَ الَّذي نُقَدِّمُهُ لِمَريَمَ يَستَمِدُّ مَعناهُ الحَقيقيَّ مِن اتِّحادِها بابنِها الإِلَهيّ؛ فَهِيَ تُكرَّمُ لا لِذاتها بَل لأَنَّها تابوتُ العَهدِ الَّذي يَحمِلُ في أحشائِهِ الاِبْنَ يَسوعَ، رَبَّ الخَلاصِ والعَهْدِ الجَديدِ.
يَسوعُ، اِبْنُ اللهِ، وَهوَ جَنينٌ في بَطنِ مَريَمَ، يَزورُ أَليصاباتَ. وَأَليصاباتُ، بِالرُّوحِ القُدُس، تُخاطِبُ مَن تَفَوَّقَت على النِّساءِ في القَداسَةِ وَالطُّهرِ، وَاستَحَقَّت أَنْ تَحمِلَ الثَّمرَ المُبارَك، يَسوعَ. وَهُنا تَتَكَلَّمُ أَليصاباتُ بِالرُّوحِ القُدُس، وَتُسَمِّي العَذراءَ "ُمَّ الرَّبِّ"، أَي أُمَّ اللهِ، لأَنَّ "الرَّبَّ هُوَ اللهُ وَقَد أَنارَنا" (مزمور 118: 27). فَأَليصاباتُ تَنطِقُ بِوَحيِ الرُّوحِ، وَتُعلِنُ أُمومَةَ مَريَمَ لِرَبِّها، بَينَما لَم تَكُن هُناكَ آيَةٌ ظاهِرَةٌ تُثبِتُ ذلِكَ. إِنَّما جَاءَت شَهادَتُها نَتيجَةَ إِصغائِها لِسَلامِ مَريَمَ الَّذي مَلأها نِعْمَةً وَفَرَحًا. إِنَّها تَشهَدُ أَنَّ اِبْنَ مَريَمَ هُوَ الرَّبُّ، رَغمَ أَنَّهُ لا يَزالُ في بَطنِ أُمِّهِ، وَذلِكَ بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُس. ومَعَ أَنَّ لَقَبَ "الرَّبّ" لَم يُطلَق على يَسوعَ إِلَّا بَعدَ قيامَتِهِ (أَعمالُ الرُّسُلِ 2: 36)، إِلّا أَنَّ أَليصاباتَ، بِفَعلِ الإِلهامِ الإِلَهيِّ، تَستَبقُ الزَّمَنَ وَتُعلِنُ الإِيمانَ بِأُلوهيَّتِهِ. وَلَم تَكتَفِ أَليصاباتُ بِأَنْ تَدعُوَ مَريَمَ أُمَّ الرَّبّ، بَل قالَت أُمَّ رَبِّي، أَي أُمَّ اللهِ الَّذي خَلَّصَها وَنَزَعَ عَنْها العارَ وَغَمَرَها بِرَحمَتِهِ. فَهَل نُصغي نَحنُ أَيضًا لِإِلهامِ الرُّوحِ القُدُسِ في حَياتِنا، كَما أَصغَت أَليصاباتُ، فَنُدرِكَ حُضورَ اللهِ في كُلِّ لِقاءٍ مُقدَّسٍ؟ إِنَّ البَرَكَةَ الَّتي تَحمِلُها القِدِّيسَةُ الكُلِّيَّةُ القَداسَةِ مَريَمُ هِيَ الثَّمرَةُ المُبارَكَةُ، وَهِيَ الَّتي تَجعَلُ مَجيءَ مَريَمَ إلى أَليصاباتَ شَرَفًا عَظيمًا لا تَستَحِقُّهُ البَشَرِيَّةُ، بَل تَنالُهُ نِعمَةً مِنَ اللهِ.
الجُزءُ الثّالِثُ: «فَطوبى لِمَن آمَنَتْ، فَسَيَتِمُّ ما بَلَغَها مِن عِندِ الرَّبِّ» (لوقا 1: 45)
تابَعَت أَليصاباتُ سَلامَها بِتَحيَّةٍ قائلةً: "فَطوبى لِمَن آمَنَتْ، فَسَيَتِمُّ ما بَلَغَها مِن عِندِ الرَّبِّ" (لوقا 1: 45). إِذا كانَ عَمَلُ اللهِ أَن يُبارِكَ ويُخَلِّص، فَإِنَّ عَمَلَ الإِنسانِ هُوَ أَن يُؤمِنَ بِاللهِ الَّذي يُبارِكُ ويُخَلِّص، فيُصبِحَ الإِنسانُ مُبارَكًا. هكَذا وُضِعَت مَريَمُ العَذراءُ ثِقَتَها الكامِلَةَ بِاللهِ، وَآمَنَت بِعَمَلِهِ في حَياتِها، فَصارت مُبارَكَةً بَيْنَ النِّساءِ. الإِيمانُ هُوَ دَومًا فِعلُ اِنطِلاقٍ نَحوَ الآخَر، هُوَ خُروجٌ مِنَ العُزلَةِ وَالاِنطِواءِ لِلدُّخولِ في مُغامَرَةِ الحُبِّ الإِلَهيّ. وَهُوَ مُختَصَرُ حَياةِ مَريَمَ: آمَنَت، فَاِنطَلَقَت نَحوَ أَليصاباتَ، تَخدُمُها وتُحِبُّها.
آمَنَت مَريَمُ العَذراءُ بِبِشارَةِ المَلاكِ جِبرائيل، أَنَّها سَتَلِدُ ابنَها يَسوعَ بِقُدرَةِ الرُّوحِ القُدُس، إِذ قالَت: "أَنا أَمَةُ الرَّبِّ، فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَولِكَ"(لوقا 1: 38). اِستَحَقَّت مَريَمُ العَذراءُ الطُّوبى والسَّعادَة لأَنَّها آمَنَت بِكَلامِ اللهِ وَعَمِلَت بِهِ. وَلا يُشيرُ هذا الكَلامُ إلى تَواضُعٍ فَقط، بَل إلى إِيمانٍ عَميقٍ وثِقَةٍ كامِلَةٍ ومَحَبَّةٍ ناضِجَةٍ. فَرِسالَةُ الإِلهِ المُتَجَسِّدِ في مَريَمَ قَدِ انطَلَقَت مِنهَا، وَصارت هِيَ ذاتُها أَوَّلَ مُؤمِنَةٍ وأَوَّلَ مُبَشِّرَةٍ. وفي هذا الصَّدَدِ يَقولُ المَجمَعُ الفاتيكانيُّ الثّاني: "إِنَّ المِثالَ الكامِلَ لِلحَياةِ الرُّوحيَّةِ وَالرَّسوليَّةِ هُوَ الطُّوباوِيَّةُ العَذراءُ مَريَم، فَإِنَّها، وَإِنْ عاشَت حَياةً عائليَّةً، ظَلَّت على اِتِّصالٍ وَثيقٍ بابنِها، وَما زالَت مُشتَرِكَةً بِصُورَةٍ تامَّةٍ في العَمَلِ الخَلاصِيِّ بِطَريقَةٍ فَريدَةٍ" (قرار مَجمَعيّ في رِسالَةِ العِلمانيِّين، 4).
تَدعونا زِيارَةُ مَريَمَ العَذراءِ إلى أَن نُؤمِنَ بِمَولودِ بَيتِ لَحمٍ، حتّى وَإِنْ كُنّا لا نُدْرِكُهُ بِالحِسِّ. وتَدعونا أَيضًا إلى أَن نَرى في يَسوعَ الضعيفِ إِلهًا قَديرًا، كَما آمَنَت أَليصاباتُ، وَآمَنَ يُوحَنَّا وهوَ في أَحشاءِ أُمِّهِ. تَدعونا أَليصاباتُ إلى اللُّجوءِ إِلى اللهِ بِإِيمانٍ وتَواضُعٍ وثِقَةٍ، فَهُوَ القَديرُ الحَنونُ الَّذي يَستَجيبُ الدُّعاءَ ولا يُخَيِّبُ الرَّجاءَ. وتَدعونا الزِّيارةُ إلى أَن نَبتَهِجَ بِدُنُوِّ مَريَمَ وَيَسوعَ مِنَّا، كَما اِبتَهَجَت أَليصاباتُ وَجَنينُها. وتَدعونا الزِّيارةُ أَيضًا إلى أَن نَنقُلَ إلى النّاسِ بُشرى يَسوعَ، كَما نَقَلَتها العَذراءُ، وَأَن نَشكُرَ اللهَ عَلَى عَظائِمِهِ فينا، كَما شَكَرَت مَريَمُ في نَشيدِها.
وأَخيرًا، يَدعونا لِقاءُ العَذراءِ بِنَسيبَتِها أَليصاباتَ إلى قَبولِ الآخَرينَ والتَّرحيبِ بِهِم، مُتَذَكِّرينَ وَصِيَّةَ يَسوعَ: "مَن قَبِلَكُم قَبِلَني أَنا" (متى 10: 40).
نَطلُبُ في الخِتامِ مِن سَيِّدَتِنا مَريَمَ العَذراءِ أَن تَزورَنا كَما زارَت نَسيبَتَها أَليصابات، فَنُحَيِّيها بِتَحيَّةِ المَلاكِ جِبرائيل، وَتَحيَّةِ أَليصابات، وَتَحيَّةِ الكَنيسَةِ قائلين:"السَّلامُ لَكِ يا مَريَمُ العَذراءُ المُمتَلِئَةُ نِعمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ، مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساءِ، وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ يَسوع. يا قُدِّيسَةَ مَريَم، يا والِدَةَ اللهِ، صَلِّي لأَجلِنا نَحنُ الخُطاةَ، الآنَ وَفي ساعَةِ مَوتِنا. آمين".
الخُلاصة
يُورِدُ الإِنجيلُ الكَريمُ قِصَّةَ زِيارَةِ مَريَمَ العَذراءِ لِنَسيبَتِها أَليصابات، وَالِدَةِ يوحَنَّا المَعْمَدان، فِي عَينِ كارِم، بَعدَ أَن حَبِلَت فِي أَحشائِها المُبارَكَةِ بِالسَّيِّدِ المَسيحِ. إِنَّ هذَا اللِّقاءَ البَسيطَ فِي مَظهَرِهِ، العَظيمَ فِي مَعناهُ، هُوَ لَحظَةٌ مَركَزيَّةٌ فِي تَاريخِ الخَلاصِ، يَلتَقي فِيهَا الإِلهُ وَالإِنسانُ، وَيُعلَنُ فِيهَا الحُضورُ الإِلَهيُّ فِي التَّاريخِ البَشَرِيّ.
فِي بَيتِ أَليصاباتَ يَلتَقِي المَسيحُ، كَلِمَةُ اللهِ المُتَجسِّدُ، وَيوحَنَّا، أَعظَمُ أَنبِياءِ اللهِ، وَيَظهَرُ الرُّوحُ القُدُسُ الَّذي يَملأُ القُلوبَ فَرَحًا وَابْتِهاجًا. إِنَّهُ لِقاءُ جَميعِ العُصورِ وَالعُهودِ: مِن إِبراهيمَ وَأَنبياءِ العَهدِ القَديمِ إِلى زَمَنِ الخَلاصِ. وَيُصغِي القارئُ إِلى صَدى هذَا اللِّقاءِ كَمَوسيقًى لاهوتيَّةٍ تُعلِنُ بِرَهافَةٍ أَنَّ الخَلاصَ قَد بَدَأَ وَالحُضُورَ الإِلَهيَّ قَد تَجَلَّى. إِنَّ اللِّقاءَ بَينَ الوالِدَتَيْنِ هُوَ فِي الحَقيقَةِ لِقاءٌ بَينَ الوَلَدَيْنِ اللَّذَينِ يَحمِلانِ مِفاتيحَ الخَلاصِ. فَيوحَنَّا يَمتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ وَهُوَ في بَطنِ أُمِّهِ، كَما أَخبَرَ المَلاكُ أَباهُ زَكَرِيَّا: "يَكونُ عَظيمًا أَمامَ الرَّبّ، ولَن يَشرَبَ خَمرًا وَلا مُسكِرًا، وَيَمتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ وَهُوَ في بَطنِ أُمِّهِ" (لوقا 1: 15).
أَمَّا مَريَمُ، فَتَحمِلُ فِي أَحشائِها كَلِمَةَ اللهِ الحَيَّةَ، وَلا تُخفيهِ بَل تُقدِّمُهُ لِلعالَمِ كُلِّهِ، إِلى أَن تَبلُغَ يَومَ العَطاءِ الكامِلِ عَلى الصَّليبِ لِخَلاصِ النَّاسِ. هَكَذا تُصبِحُ زِيارَةُ مَريَمَ نَموذَجًا لِكُلِّ مَن يُريدُ أَن يَحمِلَ المَسيحَ إِلى إِخوَتِهِ، فَتُعَلِّمُنا أَن نُؤمِنَ كَما آمَنَت، وَأَن نَفرَحَ كَما اِبتَهَجَت، وَأَن نَشكُرَ اللهَ عَلَى عَظائِمِهِ كَما شَكَرَت.
في هذِهِ الزِّيارةِ نَجِدُ دَعوتَنا المَسيحيَّةَ: اللهُ يَتَدخَّلُ فِي حَياتِنا، يَدعونا، فَنُؤمِنُ وَنَقبَلُ وَنَثِقُ، وَنَجعَلُ هذِهِ الدَّعوَةَ في خِدمَةِ الآخَرينَ. نَحمِلُ إِلَيهم كَلِمَةَ اللهِ وَنُبشِّرُ بِها، لا بِالكَلامِ فَقط، بَل بِالمَحبَّةِ وَالخِدمَةِ وَالعَطاءِ. وَيُوجِزُ القَدّيسُ بروكليس بَطريركُ القُسطنطينيَّة (نحو 446م) هذا السِّرَّ في كَلِماتٍ عَميقَةٍ: "لقد فَهِمتِ يا مَريَمُ كَيفَ أَنَّ أَليصاباتَ أَصبَحَت أُمًّا وَهِيَ عاقِرٌ. اِذهَبي إِلى بَيتِها فَتَعرِفي أُمَّ مَن أَنتِ! وَعِندَما تَشعُرينَ بابْتِهاجِ يوحَنَّا، سَتَفهَمينَ كَيفَ سَتُطوِّبُكِ جَميعُ الأَجيالِ... وَبِذلِكَ تُعلِنُ الخَليقَةُ أَنَّ الخالِقَ قَد تَأنَّسَ، وَيُصبِحُ النَّبيُّ رَمزَ السَّيِّدِ، وَالمُعمِّدُ رَمزَ المُعمَّدِ".
نَحنُ، أَبناءَ الأَرضِ المُقدَّسَةِ، نُكرِّمُ مَريَمَ البَتولَ، سُلطانَةَ فِلسطينَ، وَنَحتَفِلُ بِمَجدِها، لأَنَّها تَملِكُ مَعَ المَسيحِ إِلى الأَبَدِ. نَرفَعُ عَينَينا إِليها، نَستَودِعُها أَرضَنا وَشَعبَنا، وَنَضرَعُ إِلى اللهِ بِشَفاعَتِها قائلينَ: يا سَيِّدَةَ فِلسطينَ، يا سُلطانَةَ السَّلامِ، صَلِّي مِن أَجلِنا، وَمِن أَجلِ كُلِّ مَن يَطلُبُ العَدلَ وَالحُرِّيَّةَ وَالوَفاءَ في هذِهِ الأَرضِ، لِيُشرِقَ النُّورُ مِن جَديدٍ، وَيَتَبَدَّدَ الظُّلمُ وَيَحلَّ سَلامُ المَسيحِ العادِلُ فِي كُلِّ القُلوبِ. آمين.
الدُّعاء
أيُّها الإِلـهُ الأَزَلـيُّ القَدير، الَّذي أَوحَيْتَ إِلى القِدّيسَةِ مَريَمَ البَتول، وَهِيَ حامِلٌ بِابنِكَ المُتَجَسِّدِ، أَنْ تَخرُجَ إِلى زِيارَةِ أَليصابات، وَهِيَ حامِلٌ بيوحَنَّا، وَتَخدُمَها بِالمَحبَّةِ وَالتَّواضُعِ، اِجعَلْنا نَهتِفُ بفرَحٍ مَع أَليصابات قائلينَ: "طوباكِ، يا مَريَمُ العَذراءُ، لأَنَّ فيكِ تَجَسَّدَ يَسوعُ المَسيحُ رَبُّنا!" وَمَنَحْنا، يا رَبُّ، أَنْ نَبْتَهِجَ فِي حَضرَتِكِ كَيوحَنَّا المَعْمَدان، فَنَمتَلِئَ مِن رُوحِكَ القُدُسِ، وَنَتَقَدَّسَ بِنِعمَتِكَ، وَيَتَمَجَّدَ فِينَا اِسمُكَ المُبارَكُ، لِتُعَظِّمَكَ نُفوسُنا إِلى دَهرِ الدُّهورِ. آمين.
صلاةُ سَيِّدَةِ فِلسطين
يا مَريَمَ البَريئَةَ مِن كُلِّ عَيبٍ، يا سُلطانَةَ السَّماءِ وَالأَرضِ البَهِيَّةَ،
ها نَحنُ جاثُونَ أَمامَ عَرشِكِ السّامي، واثِقونَ كُلَّ الثِّقَةِ بِجُودِكِ وَقُدرَتِكِ غَيرِ المَحدودَةِ.
نَلتمِسُ مِنكِ أَنْ تُلقِيَ نَظرةً عَطوفًا عَلى هذِهِ البِلادِ الفِلسطينيَّةِ الَّتي تَخصُّكِ أَكثرَ مِن سائِرِ البِلادِ،
لأَنَّكِ بارَكتِها بِميلادِكِ فِيها، وَبِفَضائِلِكِ وَآلامِكِ، وَمِن هذِهِ الأَرضِ مَنَحتِ الفادي لِلعالَمِ.
اُذكُري يا أُمَّنا الحَنونَ أَنَّكِ هُنا أَقَمتِ لَنا أُمًّا شَفيقَةً وَمُوزِّعَةً لِلنِّعَمِ. فَاِسهَري إِذًا بِعِنايَةٍ فَريدَةٍ عَلى وَطنِكِ هذَا الأَرضيِّ، وَبدِّدي عَنهُ ظُلُماتِ الضَّلالِ، بَعدَ أَن سَطَعَت فِيهِ شَمسُ البِرِّ الأَبَديِّ.
وَاجعَلي يا سَيِّدَتَنا العَذراءَ أَنْ يَتِمَّ سريعًا الوَعدُ الصّادِرُ مِن فَمِ ابنِكِ الإِلَهيِّ، بِأَنْ تَكونَ رَعيَّةٌ واحِدَةٌ وَراعٍ واحِدٌ.
اِستَمدِّي لَنا أَجمَعينَ أَنْ نَخدُمَهُ تَعالى بِالقَداسَةِ وَالبَرارَةِ مُدَّةَ أَيّامِ حَياتِنا، حَتّى نَستَطيعَ أَخيرًا، بِاِستِحقاقاتِ سَيِّدِنا يَسوعَ المَسيحِ، وَبِعَونِكِ الوالِديِّ، أَنْ نَنتَقِلَ مِن أُورَشَليمَ هذِهِ الأَرضيَّةِ إِلى أَفراحِ أُورَشَليمَ السَّماويَّةِ. آمين.