موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٦ مارس / آذار ٢٠٢١

موقف يسوع من السبت

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
موقف يسوع من السبت

موقف يسوع من السبت

 

الاحد التاسع للسنة: موقف يسوع من السبت (مرقس 2: 23-3: 6)

 

النص الإنجيلي (مرقس 2: 23-3: 6)

 

23 ومَرَّ يسوعُ في السَّبتِ مِن بينِ الزُّروع، فأَخَذَ تَلاميذُه يَقلَعونَ السُّنبُلَ وهم سائرون. 24 فقالَ له الفِرِّيسيُّونَ: ((أُنظُرْ! لِماذا يَفعَلونَ في السَّبتِ ما لا يَحِلّ؟)) 25 فقالَ لهم: ((أَمَا قَرأتُم قَطُّ ما فَعَلَ داوُد، حينَ احتاجَ فجاعَ هو والَّذينَ معَه؟ 26 كَيفَ دخَلَ بَيتَ اللهِ على عَهدِ عَظيمِ الكَهَنَةِ أَبْياتار، فأَكَلَ الخُبزَ المُقدَّس، وأَعطى مِنه لِلَّذينَ معَه، وأَكْلُه لا يَحِلُّ إِلاَّ لِلكَهَنَة)). 27 وقالَ لهم: ((إِن السَّبتَ جُعِلَ لِلإِنسان، وما جُعِلَ الإِنسانُ لِلسَّبت. 28 فَابنُ الإِنسانِ سَيِّدُ السَّبتِ أَيضاً)). 1 وَدَخَلَ ثانيَةً بَعضَ المَجامِع وكانَ فيه رَجُلٌ يَدُه شَلاَّء 2. وكانوا يُراقِبونَه لِيَرَوا هَل يَشفيهِ في السَّبْت ومُرادُهم أَن يَشكوه 3. فقالَ لِلرَّجُلِ ذي اليَدِ الشَّلاَّء: ((قُمْ في وَسْطِ الجمَاعة)) 4. ثُمَّ قالَ لهم: ((أَعَمَلُ الخَيرِ يَحِلُّ في السَّبتِ أَم عَمَلُ الشَّرّ؟ أَتَخليصُ نَفْسٍ أَم قَتْلُها؟)) فظَلُّوا صامِتين 5. فأَجالَ طَرْفَه فيهِم مُغضَباً مُغتَمّاً لِقَساوةِ قُلوبِهم، ثُمَّ قالَ لِلرَّجُل: ((اُمدُدْ يَدَك)). فمَدَّها فعادَت يَدُه صَحيحَة 6. فخَرَجَ الفِرِّيسيُّونَ وتآمَروا علَيه لِوَقْتِهم معَ الهِيرودُسِيِّينَ لِيُهلِكوه.

 

مقدمة

 

يصف إنجيل مرقس (2: 23-3: 6) مناظرة يسوع مع الفِرِّيسيِّين في أمر السبت متضامنا مع تلاميذه إزاء نقذ خصومه الفِرِّيسيِّين لهم؛ وكان موضوع مادة النزاع حفظ السبت. فقد أراد الفريسيُّون حفظ السبت حرفياً كعبيد للسبت، بينما علم المسيح " إِن السَّبتَ جُعِلَ لِلإِنسان " (مرقس 2: 27). وكان يريد ليوم السبت أن يكون يوم الخدمة وعمل الرحمة بالإضافة الى يوم للعبادة. إذ جاء السيد المسيح يقدم أعماقًا جديدة للشريعة خاصة تقديس يوم السبت، منطلقًا بفكرنا إلى ما وراء الحرف القاتل لننعم بالروح المحيي البنّاء. لذلك أعطى يسوع تعليمه حول السبت اولا في الحقول، وثانيا في مجمع.  ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.

 

أولاً: وقائع النص الانجيلي (مرقس 2: 23-3: 6)

 

23 ومَرَّ يسوعُ في السَّبتِ مِن بينِ الزُّروع، فأَخَذَ تَلاميذُه يَقلَعونَ السُّنبُلَ وهم سائرون.

 

عبارة "السَّبتِ" في الأصل اليوناني σάββατον مشتقة من العبرية שַּׁבָּת (معناها راحة) تشير الى اليوم الذي يترك فيه الإنسان أشغاله المادية حتى يستريح، وذلك تذكاراً لليوم السابع من الخليقة " لذلك بارك الله يوم السبت وقدسه لأن فيه استراح الرب من جميع أعماله" (تكوين 2: 1 -3) ولأنه قدسه أيضاً (عدد 15: 32 -36). فإن السبت يوم عينته إرادة الله للعبادة. أمَّا عبارة "لزُّروع" فتشير الى حقول " الحِنطَةِ". والحنطة تدل على الحبوب التي كانت تزرع بكثرة في فلسطين وهي حبوب من النوع العادي ذي السنبلة الواحدة على الأغلب (خروج 22: 34) وترجع ممارسة زراعتها إلى عصور مبكرة من التاريخ، وكان خبز العبرانيين يُصنع عادة من دقيق الحنطة (خروج 2: 29). وكانوا يشوون سنابل الحنطة ويفركونها ويأكلون القمح المشوي (راعوت 14: 2).  أمَّا عبارة " فأَخَذَ تَلاميذُه يَقلَعونَ السُّنبُلَ وهم سائرون" فتشير الى تلاميذ يسوع وهم يسيرون في حقول القمح يعملون ما يحلُّ فعله في يوم آخر حسب ما ورد في الشريعة "إِذا دَخَلتَ السُّنبُلَ القائِمَ الَّذي لِقَريبِكَ، فاقطِفْ بِيَدِكَ فَريكًا، ولا تُلْقِ مِنجَلاً على سُنبُلِ قَريبِكَ" (تثنية الاشتراع 23: 26)، ولكن الفِرِّيسيِّين عدّوا ذلك حصاداً، وهو عمل لا يحلُّ فعله في السبت مستندين الى الشريعة " في سِتَّةِ الأَم تَعمَل، وفي اليَومِ السَّابِعِ تَستَريح" (خروج 34: 21). ويُعلق القديس أمبروسيوس "يقود الرب يسوع تلاميذه في يوم السبت بين الزرع ليدرِّبهم على الأعمال المثمرة. فما معنى السبت والحصاد والسنابل؟ الحقل هو العالم الحاضر كله الذي زرعه البشر، والحصاد هو حصاد الروح القدس الوفير، وسنابل الحقل هي ثمار الكنيسة التي بدأتها خدمة الرسل".  أمَّا عبارة " تَلاميذُه " فتشير الى تلاميذه الخمسة وهم بطرس واندراوس أخيه، ويعقوب ويوحنا أخيه (مرقس 1: 16-19) ولاوي ابن حلفى، وهو متى الإنجيلي (مرقس 2: 13-14).  أمَّا عبارة "يَقلَعونَ السُّنبُلَ " فتشير الى الحنطة او الشعير وكان قطف الجائع لتلك السنابل من حقل غيره وفركها باليدين (لوقا 1: 6) واكلها امر مقبول العمل به لسد الجوع كما جاء في شريعة موسى " وإِذا دَخَلتَ السُّنبُلَ القائِمَ الَّذي لِقَريبِكَ، فاقطِفْ بِيَدِكَ فَريكًا، ولا تُلْقِ مِنجَلاً على سُنبُلِ قَريبِكَ" (تثنية الاشتراع 23: 25). لذلك لم يتَّهم الفريسيون التلاميذ بالسرقة بل لإتيانهم ذلك العمل يوم السبت.  أمَّا عبارة " وهم سائرون " فتشير الى السير على الطريق الجانبي ليس تعديا على ملك الغير، والاكل من الحبوب على أطراف الحقل لا يعتبر سرقة، فقد جاء في الشريعة "وإِذا حَصَدتُم حَصيدَ أَرضِكم، فلا تَذهَبْ في الحِصادِ إِلى أَطرافِ حَقلِكَ، ولُقاطَ حَصيدِكَ لا تَلقُطْ.  ولا تَعُدْ إِلى فَضَلاتِ كَرمِكَ، ولُقاطَ كَرمِكَ لا تَلْقُطْ، بلِ اَترُكْ ذلِكَ لِلمِسْكينِ والنَّزيل، أَنا الرَّبُّ إِلهُكم" (الاحبار 19: 9-10).   ولعل التلاميذ كانوا راجعين يومئذ من الاحتفال بعيد الفصح في اورشليم (يوحنا 5: 1)، لان السنابل لا يؤكل حبَّها الاَ بعد نحو أسبوع او اسبوعين بعد الفصح.  

 

24 فقالَ له الفِرِّيسيُّونَ: ((أُنظُرْ! لِماذا يَفعَلونَ في السَّبتِ ما لا يَحِلّ؟))

 

عبارة " الفِرِّيسيُّونَ" في الأصل اليوناني   Φαρισαῖοι مشتقة من اللغة الآرامية הַפְּרוּשִׁים (معناها المعتزلة) تشير الى مذهب ديني يدعو الى التشدًّد للحفاظ على شريعة موسى وسُنة الاقدمين في أمور الطهارة ومراعاة السبت وأداء العشر...وكان كثير من الكتبة، أي علماء الكتاب المقدس، ينتمون إليهم. وقد أخذ يسوع عليهم رياءهم وكبرياءهم وتعلقهم بالألفاظ دون المعاني وقساوتهم على الشعب؛ ووقع بينهم وبين يسوع جدال كثير في أمور السبت (متى 12: 1-14) وانذرهم بالهلاك (متى 23). أمَّا عبارة " لِماذا يَفعَلونَ في السَّبتِ ما لا يَحِلّ؟" فتشير الى شكوى ليسوع عن عمل تلاميذه بسبب قطف السنابل وهو امر مقبول به (تثنية الاشتراع 23: 25) لكنهم اعتبروه ممارسة حصاد لا يسمح به يوم السبت. وكانت الشريعة تنهي عن الحصاد في يوم السبت (خروج 34: 12). وكان الهدف من ذلك القانون منع الفلاحين من الطمع وتجاهل الله في يوم السبت، كما انه كان يحمي العمال من إرهاقهم بالعمل.  لكن الفريسيون المتمسكون بحرفية الشريعة قد ثقّلوا السبت بكثير من الواجبات المفصَّلة التي لم تكن في الشريعة الموسوية ومنها: فرك السنابل بالأيدي"، واعتبروا القانون امرا مطلقا. أمَّا عبارة " ما لا يَحِلّ؟"  فتشير الى اصدار حكم الفِرِّيسيِّين ضد تلاميذ يسوع لان فّسّروا قطف السنابل يوم السبت بمنزلة الحصاد وفركها بين اليدين بمنزلة الدرس فحسبوها من المحرمات في ذلك اليوم. إنها أنها التمسك بالشكليات، إنها حرفية قاتلة!  هل نحن نُسبِّب آلاما للآخرين بانتقاداتنا اللاذعة؟  تشير الآية الى توبيخ لتلاميذ يسوع لا على السرقة، ولا على الأكل، بل على العمل المُحرَّم وهو قلع السنبل الذي يعادل عمل الحصاد، وبالتالي فهو محرّم يوم السبت " في سِتَّةِ ايام تَعمَل، وفي اليَومِ السَّابِعِ تَستَريح، وحَتَّى في أَوانِ الحَرْثِ والحِصادِ تَستَريح " (خروج 34: 21).  لقد اشتكى اليهود التلاميذ للمسيح بسبب حريتهم، لكن ما أحلى أن نجد أن المسيح يدافع عنهم " فمَن يَتَّهِمُ الَّذينَ اختارَهمُ الله؟ اللهُ هوَ الَّذي يُبَرِّرهم " (رومة 8: 33).

 

25 فقالَ لهم: ((أَمَا قَرأتُم قَطُّ ما فَعَلَ داوُد، حينَ احتاجَ فجاعَ هو والَّذينَ معَه؟

 

تشير عبارة "َمَا قَرأتُم قَطُّ" الى تعجب المسيح ممن يقرأون ولا يفهمون الحادثة الواردة في سفر صموئيل: "أَجابَ الكاهِنُ وقالَ لِداوُد: " لَيسَ تَحتَ يَدي خُبزٌ عادِيّ. ولَيسَ عِنْدي إِلاَّ خُبزٌ مُقَدَّس، على أَن يَكونَ الرِّجالُ قد صانوا أَنفُسَهم مِنَ المَرأة. فسَلَّمَ إِلَيه الكاهِنُ مِنَ الخُبزِ المُقَدَّس، لأَنَّه لم يَكُنْ هُنالِكَ خُبزٌ، ما عَدا الخُبزَ المُقَدَّسَ المَرْفوعَ مِن أَمامِ الرَّبِّ لِيوضَعَ خُبزٌ سُخنٌ في يَومِ رَفعِه" (1 صموئيل 21: 5-8).  ومن هذا المطلق، الله هو اول من يبادر الى الدفاع عن الانسان في ضيقه وحاجاته الضرورية. أمَّا عبارة " ما فَعَلَ داوُد، حينَ احتاجَ فجاعَ هو والَّذينَ معَه؟" فتشير الى استخدام يسوع مثال الملك داود مُبيِّناً مدى سخافة اتهامات الفِرِّيسيِّين. والنقطة الأساسية في ذلك هي انه حيث توجد حالة ضرورية فشروط الناموس الطقسي يجوز تجاوزه.  ولم يتجاسر الفريسيون على انتقاد ما فعله داود لأنه يعتبرونه زكيا طاهرا من أفضل رجالا لله يستحق ان يُقتدى بأعماله. نتعلم من جواب المسيح للفريسيين ان أفضل طريق لدفع شبهات المعترضين في الدين ان يُجابوا بنصوص الكتاب المقدس.

 

26 كَيفَ دخَلَ بَيتَ اللهِ على عَهدِ عَظيمِ الكَهَنَةِ أَبْياتار، فأَكَلَ الخُبزَ المُقدَّس، وأَعطى مِنه لِلَّذينَ معَه، وأَكْلُه لا يَحِلُّ إِلاَّ لِلكَهَنَة)).

 

تشير عبارة " كَيفَ دخَلَ بَيتَ اللهِ " الى داود الذي دخل في أيام أَبْياتار خيمة الشهادة ونعته عظيم الكهنة لأنه صار عظيم الكهنة بعد ابيه واشتهر بهذا اللقب عند اليهود في عصر المسيح ولعل خدم مع ابيه في خيمة الشهادة كما فعل ابنا عالي الكاهن.  أمَّا عبارة " عَظيمِ الكَهَنَةِ أَبْياتار " فتشير الى أَحيمَلِكَ الكاهِن ابو أَبْياتار (2 صموئيل 8: 7) لكن ورد ذكر أَبْياتار، لأنه أشهر من أَحيمَلِكَ كعظيم كهنة على عهد داود.   وان أَبْياتار كان واحد من مجموعة الكهنة الذين كانوا يخدمون في نُوب (شرقي اورشليم) في أيام َ أحيمَلِكَ رئيس الكهنة وقد ذبح معظمهم بأمر شاول بعد ان اعطى لداود الخبز المقدس (1صموئيل 22: 19).  ويرى بعض الدارسين أن أبياثار هو ابن أَحيمَلِكَ الكاهِن وكانا معًا حين التقى بهما داود النبي، وأن الأب قتله شاول فهرب أبياثار إلى داود وصار رفيقًا له في فترة هروبه، ولما استقر الأمر صار رئيس كهنة ونال شهرة أكثر مما لأبيه. أمَّا عبارة "الخُبزَ المُقدَّس " الى خبز التقدمة، فكانت الارغفة توضع على المائدة في الهيكل كل سبت، وعندما كانت تخرج من هناك كان يأكلها الكاهن وعائلته كما ورد في سفر الاحبار " خُذْ سَميذاً وآخبِزْه آثنَي عَشَرَ رَغيفاً، يَكونُ كُلُّ رَغيفٍ عُشريَن. واَجعَلْها صَفَّين، كُلُّ صَفٍّ سِتَّةٌ مُنَضَّدةٌ على المائِدَةِ الطَّاهِرةِ أَمامَ الرَّبّ. وضَعْ على كُلِّ صَفٍّ بَخوراً خالِصاً، فيَكونُ لِلخُبزِ تَذْكاراً، ذَبيحةً بِالنَّارِ لِلرَّبّ. في كُلِّ يَومِ سَبْت، تُصَفُّ أَرغِفَةُ السَّميذِ أَمامَ الرَّبِّ دائِماً، وهي مِن عِندِ بَني إِسْرائيل: عَهدٌ أَبَدِيّ. فتَكونُ لِهارونَ وبَنيه، يأكُلوَنها في مَوضِعٍ مُقَدَّس، لأَنَّها قُدْسُ أَقْداسٍ لَه مِن الذَّبائحِ بِالنَّارِ لِلرَّبّ: فَريضَةٌ أَبَدِيَّة (الاحبار 24: 5-9).  أمَّا عبارة " وأَعطى مِنه لِلَّذينَ معَه، وأَكْلُه لا يَحِلُّ إِلاَّ لِلكَهَنَة " فتشير الى ما ورد في الكتاب المقدس" أَجابَ الكاهِنُ وقالَ لِداوُد: " لَيسَ تَحتَ يَدي خُبزٌ عادِيّ. ولَيسَ عِنْدي إِلاَّ خُبزٌ مُقَدَّس، فسَلَّمَ إِلَيه الكاهِنُ مِنَ الخُبزِ المُقَدَّس، لأَنَّه لم يَكُنْ هُنالِكَ خُبزٌ، ما عَدا الخُبزَ المُقَدَّسَ المَرْفوعَ مِن أَمامِ الرَّبِّ لِيوضَعَ خُبزٌ سُخنٌ في يَومِ رَفعِه (1 صموئيل 21: 5-8). 

 

27 وقالَ لهم: ((إِن السَّبتَ جُعِلَ لِلإِنسان، وما جُعِلَ الإِنسانُ لِلسَّبت.

 

تشير عبارة " وقالَ لهم" الى تتمة لحادثة حقل القمح وقد أضاف مرقس هنا قول يسوع لعلاقته بالموضوع. أمَّا عبارة "إِن السَّبتَ جُعِلَ لِلإِنسان، وما جُعِلَ الإِنسانُ لِلسَّبت" فتشير الى قول انفرد فيه انجيل مرقس، ويدلُّ على بقاء يوم الراحة وواجب حفظه ما دام الانسان على الأرض، وهو رمز الى الراحة الأبدية (عبرانيين 4: 9). أمَّا عبارة "إِن السَّبتَ جُعِلَ لِلإِنسان" فتشير الى خلق الله السبت لأجل فائدة الانسان، لذلك الانسان هو الذي يقرر كيف يُمكن استعماله على أحسن وجه.  والإنسان يستعيد قواه الجسدية والروحية عندما يصرف وقتا في الراحة وتركيز أفكاره على الله.  ان حياة الانسان هو أغلى من أوامر العبادة وأحكامها.  مطلوب الحفاظ على قانون الطبيعة البدائي (يجب ان يأكل الجائع) قبل المحافظة على قانون ممارسة الشعائر الدينية الصارمة. ان حياة الانسان في نظر الله هي أثمن من الاحكام الشرعية. وهذه الفكرة موجودة في الدين اليهودي في ذلك الزمان، فإن واجب مراعاة السبت يسقط إذا نتج عن هذه المراعاة ضرر جسيم للإنسان (1 ملوك 2: 39-41).   أمَّا عبارة " ما جُعِلَ الإِنسانُ لِلسَّبت" فتشير الى خلق الله السبت لنفع الانسان وتقديسه، إذ خلق الله الانسان أولا ثم عيّن السبت لخيره (التكوين 2: 1-2). ومن هذا المنطلق، لا يجوز تفسير الوصية الآمرة بحفظ السبت بما يحرم الانسان خيره الحقيقي.  ولكن الفريسيون جعلوا تقديس السبت غاية لا وسيلة وهذا مناف لإرادة الله. وبهذا أصبحت شريعة السبت عند الفِرِّيسيِّين اهم من الداعي إليها.  لم تقم الشريعة من اجل الشريعة، إنما لصالح الانسان. وفي الواقع سُن القانون لمصلحة الإنسان، وليس مصلحة الانسان من اجل القانون. فالقصد الحقيقي من شريعة الله هو تعزيز المحبة لله وللأخرين لان روح الشريعة أهم من الحرف. "لِأَنَّ الْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي" (2 قورنتس 3:6). فتمسك اليهود بالحرف فماتوا في خطيئتهم، أعمت الخطيئة عيونهم ففضلوا المكوث في الظلمة على أن يعاينوا نور العالم.

 

28 فَابنُ الإِنسانِ سَيِّدُ السَّبتِ أَيضاً)).

 

تشير عبارة "ابنُ الإِنسانِ" الى يسوع (متى 8: 20) وقد ورد هذا اللقب 80 مرة في الاناجيل يطلقه يسوع على ذاته. وأصله يعود لسفر دانيال الذي في القرن الثاني قبل الميلاد.  فبعد أن يصف سفر دانيال ممالك العالم يصف مجيء ابن الإنسان "فإِذا بِمِثلِ آبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء فبَلَغَ إِلى قَديمِ الأَيَّام وقُرِّبَ إِلى أَمامِه 14. وأُوتِيَ سُلْطاناً ومَجداً ومُلكاً فجَميعُ الشُّعوبِ والأُمَمِ والأَلسِنَةِ يَعبُدونَه وسُلْطانُه سُلْطانٌ أَبَدِيّ لا يَزول ومُلكُه لا يَنقَرِض" (دانيال 12: 13-14). فابن الإنسان له من السلطان والقدرة ما يتميز المسيح ذاته والذي كان اليهود في انتظاره.  فانه إذا كان مخلص البشر حق له السلطان على كل ما يختص بالإنسان. ويؤكد يسوع هنا سلطانه حتى على إنشاء السبت. أمَّا عبارة "فَابنُ الإِنسانِ سَيِّدُ السَّبتِ أَيضاً" فتشير الى سلطة يسوع على الشريعة ولا سيما شريعة السبت، مُستنداً الى العهد القديم، وعلى وجه الأخص الى قول هوشع النبي "فإِنَّما أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحة مَعرِفَةَ اللهِ أَكثَرَ مِنَ المُحرَقات" (هوشع 6: 6). في هذا النص لا يتنكر المبدأ الذبائح الطقسية، بل يتنكر التمسك بالطقوس التقليدية الخاصة بالحياة الدينية حتى إنها تحمل الانسان على إهمال وصية الرحمة وهي وصية رئيسية.  ولان تقديس الانسان يوم الراحة نفع له في الدنيا والآخرة عُيِّن ابن الانسان سيد السبت ليُثيب اللذين يقدِّسونه ويهب لهم البركات ويعاقب كل من يدنِّسه، وعلى ذلك صحّ ان يُسمَّى يوم الراحة بيوم الرب. أمَّا عبارة "سَيِّدُ السَّبتِ" فتشير الى السبت الذي هو في سلطان المسيح ليجعله وفق الغاية التي وضع لها، وهي مجد الله وخير الانسان مُبيِّنا ما يحلُّ وما لا يحل ُّ. وسلطانه على السبت سند لإبدال اليوم السابع باليوم الأول. والمسيح اراد تلاميذه ان يعلمِّوا كلما اوصاهم به، وهم علموا المؤمنين ان يحفظوا يوم الاحد سبتا للرب. إنه رب السبت وواضع الناموس العامل لحسابنا لأجل راحتنا، وليس لتنفيذ حرفيات الناموس.

 

1 وَدَخَلَ ثانيَةً بَعضَ المَجامِع وكانَ فيه رَجُلٌ يَدُه شَلاَّء.

 

عبارة "ودَخَلَ ثانيَةً بَعضَ المَجامِع" في الأصل اليوناني εἰσῆλθεν πάλιν εἰς τὴν συναγωγήν. (معناها دخل من جديد الى المجمع) تشير الى عادة يسوع المألوفة في حضوره اجتماع الصلاة كل يوم سبت في مجمع كفرناحوم (مرقس 1: 21)، كما صنع بولس الرسول فيما بعد (أعمال الرسل 13: 14-41) دليل على ان الانجيل يستند الى مواعد العهد القديم. أمَّا عبارة "يَدُه شَلاَّء" في الأصل اليوناني ἐξηραμμένην ἔχων τὴν χεῖρα (معناها له يد يابسة) فتشير الى   يد مشلولة لا حياة فيها كما كان الحال في يد الملك يارُبْعام كما ورد الكتاب المقدس " مَدَّ يارُبْعام يَدَه مِن على المَذبحِ قائلاً: ((أَمسِكوه)). فيَبِسَت يَدُه الَّتي مَدَّها نحوَه، ولم يَستَطع أَن يَرُدَّها اليه " (1 ملوك 13: 4).  

 

2 وكانوا يُراقِبونَه لِيَرَوا هَل يَشفيهِ في السَّبْت ومُرادُهم أَن يَشكوه.

 

تشير عبارة "يُراقِبونَه لِيَرَوا هَل يَشفيهِ في السَّبْت" الى إمكانية الحكم على موقف يسوع من الرجل الاشل اليد لأنه بحسب الربانيين لا يجوز تسكين ألم مريض في السبت الاّ إذا كان في خطر الموت. وقد اعتبر الفريسيون الشفاء، حتى الشفاء العجائبي، عمل طبِّي، لذلك فهو محرَّم يوم السبت كما حدث مع شفاء المرأة المُنحَنِيَة الظهر " فاسْتاءَ رئيسُ المَجمَع، لِأَنَّ يسوعَ أَجْرى الشِّفاءَ في السَّبْت، فقالَ لِلجَمع: ((هُناكَ سِتَّةُ أَيَّامٍ يَجِبُ العَمَلُ فيها، فتَعالوا واستَشفوا خِلالَها، لا يَومَ السَّبْت (متى 13: 14).  أمَّا عبارة " مُرادُهم أَن يَشكوه" فتشير الى قصد اتهام يسوع بسبب شفائه لِلرَّجُلِ ذي اليَدِ الشَّلاَّء باسم الشريعة ليحكموا عليه. ومما يدعو للسخرية ان الفِرِّيسيِّين كانوا يتهمون يسوع بخالفة السبت بسبب شفائه الرجل الاشل اليد، بينما كانوا هم يدبِّرون مؤامرة قتله. ويضيف لوقا الإنجيلي ان يسوع " عَلِمَ أَفكارَهم "(لوقا 6: 8)، يسوع يعرف خفايا القلب البشري (يوحنا 1: 48)

 

3 فقالَ لِلرَّجُلِ ذي اليَدِ الشَّلاَّء: ((قُمْ في وَسْطِ الجمَاعة)).

 

تشير عبارة "قُمْ في وَسْطِ الجمَاعة" الى طلب يسوع من الرَّجُلِ ذي اليَدِ الشَّلاَّء ان يقف في وسط الجماعة لكي يراه جميعا بالتساوي في وقت شفائه ليكونوا شهود على ذلك من ناحية، وليظهر للجميع أنه لا يهاب مقاوميه، ولا يخشى مقاومتهم من ناحية أخرى.

 

 4 ثُمَّ قالَ لهم: أَعَمَلُ الخَيرِ يَحِلُّ في السَّبتِ أَم عَمَلُ الشَّرّ؟ أَتَخليصُ نَفْسٍ أَم قَتْلُها؟)) فظَلُّوا صامِتين.

 

 تشير عبارة "أَعَمَلُ الخَيرِ يَحِلُّ في السَّبتِ أَم عَمَلُ الشَّرّ؟ الى سؤال يسوع الذي يخيّر الفرّيسيين بين اتّباع الشريعة، ما هو مكتوب ممّا يصحّ ولا يصحّ، وبين متطلّبات الحياة العمليّة. يسوع يشير الى مبدأ كان من المُسلم به من قبل الرّبانيين الذي يُجيز به مخالفة شريعة السبت لإغاثة إنسان في خطر الموت او إذا كانت حياة الانسان مهددة بالخطر. وفي انجيل متى اتخذ يسوع براهينه من تصرّف القرويين ليُبرهْن كيف يحل فعل الخير في السبت فانهم إذا ما أرادوا ان ينقذوا خروفا لم يتردَّدوا في مخالفة تعليم الربانيين. فقال " مَن مِنكُم، إِذا لم يَكُنْ لَه إِلاَّ خَروفٌ واحدٌ ووقَعَ في حُفرَةٍ يومَ السَّبْت، لا يُمسِكُه فيُخرِجُه؟  وكمِ الإِنسانُ أَفضَلُ مِنَ الخَروف!" (متى 12: 11-12) فانهم إذا ما أرادوا ان ينقذوا خروفا لم يتردَّدوا في مخالفة تعليم الربانيين. فانهم يفهمون لماذا يشفى يسوع إنسانا خلافا للمعتقد الرسمي. أمَّا لوقا فيتكلم في إنجيله على "ابن او ثور فيقول على لسان يسوع: "مَن مِنكُم يَقَعُ ابنُه أّو ثَورُه في بِئرٍ فلا يُخرِجُه مِنها لِوَقتِه يَومَ السَّبت؟ "(لوقا 14: 5). يبدو لوقا أقل علما بالعادات الفلسطينية من متى الإنجيلي، وهو يتكلم على "بئر" كالذي في البلاد التي يعرفها، لا على "حفرة" وهو يذكر "أبنا" او ثورا" ووقعا فيه. فالحكمة الشعبية تغلبت على التعليم الرسمي، وخلاص الانسان تفوق على كل الشرائع مهما كان الاحترام للآباء كبيراً. أمَّا عبارة "أَتَخليصُ نَفْسٍ أَم قَتْلُها؟" فتشير الى تعميم مبدأ الشفاء في السبت على كل عمل صالح يقام به يوم السبت، لان الامتناع عن الشفاء يساوي القتل، والامتناع عن عمل الخير يساوي عمل الشر. وفي كلتا الحالتين، نرى ان موقف يسوع من السبت يميل الى جعل السبت في خدمة الخير والحياة. ويُميِّز يسوع هنا بين العمل الذي يقوم به من عمل الخير وهو شفاء مريض عاجز وعمل خصومه الفِرِّيسيِّين الذين يراقبونه بسوء نية بقصد عمل الشر وقتله كما اوضح يوحنا الإنجيلي “اشْتَدَّ سَعْيُ اليَهودِ لِقَتلِه، لأَنَّه لم يَقتَصِرْ على استِباحَةِ حُرمَةِ السَّبْت، بل قالَ إِنَّ اللهَ أَبوهُ، فَساوى نَفْسَه بِالله" (يوحنا 5: 18). وفي الواقع، يعمل يسوع من أجل الحياة، من أجل خلاص النفوس وسعادة الانسان. وهو لم يقوّض السبت بل أعطاه معنى نبويا: يجب ان يكون هذا اليوم يوم حرية، حياة، عيد، يوم الرب لعمل في الخير والصالحات. اليوم الذي "نخلص فيه حياة". أمَّا عبارة "فظَلُّوا صامِتين" فتشير الى امتناع الفِرِّيسيِّين عن الإجابة على سؤال يسوع لسبب قساوة قلوبهم وتعصُّبهم الذميم والتمادي في الضلال، وخوفا من مراجعة مواقفهم واثقين بأنفسهم أنهم وحدهم يملكون زمام الحقيقية.  فالجواب هو ان السبت يجب ان يكرَّس لا الى الراحة وعدم الحركة فحسب، بل لأعمال المحبة والرحمة كما صرّح يسوع المسيح " أَخذَ اليَهودُ يَضطَهِدونَ يسوع لأَنَّه كانَ يَفعَلُ ذلكَ يَومَ السَّبْت. فقالَ لَهم: إِنَّ أَبي ما يَزالُ يَعمَل، وأَنا أَعملُ أَيضاً " (يوحنا 5: 16-17). هل نحاول ان نفهم روح الشريعة بحسب مفهوم يسوع؟

 

5 فأَجالَ طَرْفَه فيهِم مُغضَباً مُغتَمّاً لِقَساوةِ قُلوبِهم، ثُمَّ قالَ لِلرَّجُل: ((اُمدُدْ يَدَك)). فمَدَّها فعادَت يَدُه صَحيحَة.

 

تشير عبارة "أَجالَ طَرْفَه فيهِم" الى عبارة مألوفة لدى إنجيل مرقس التي تُبيّن حالة يسوع من الغضب والاغتمام (مرقس 3: 34 و5: 32 و10: 23 و11: 11). أمَّا عبارة "مُغضَباً مُغتَمّاً لِقَساوةِ قُلوبِهم" الى غضب مصحوب بحزن على انغلاق قلوب الفِرِّيسيِّين وقساوتها، والغضب ليس خطأ في ذاته، بل الامر يتوقف على ما يدفعنا للغضب. فنوع الغضب الجائز هو الغضب على الخطيئة إذا كان مصحوبا بالحزن والشفقة على الخاطئ. والمسيح لم يرد بغضبه أذى الفِرِّيسيِّين ولا الانتقام منهم أغضبه قَساوةِ قُلوبِهم وعبَّر عن غضبه بتصحيح المشكلة، بشفاء يد الرجل. الغضب في الحزن يسمو به، والحزن في الغضب يقدسه ويجعله فضيلة سامية. قال بولس الرسول "اِغْضَبُوا وَلَا تُخْطِئُوا" (أفسس 4:26). فالغضب في محله فضيلة لا رذيلة.  انفرد مرقس بين الاناجيل الإزائية بذكر غضب يسوع في هذه الحادثة.  هل نستخدم غضبنا في إيجاد حلول بنَّاة ام لنزيد تعقيد المشكلة؟ أمَّا عبارة "اُمدُدْ يَدَك " فتشير الى عضو هام وفعّال في جسم الانسان. ويوضِّح لوقا الإنجيلي انه "رَجُلٌ يَدُه اليُمنى شَلاَّء " (لوقا 6: 6) واليد اليمنى تدل على العمل في العالم الشرقي. أمَّا عبارة "قَساوةِ قُلوبِهم" فتشير الى الغلاظة بعدم تأثر الفِرِّيسيُّينَ من البراهين القاطعة على صحة كلامه وقصده قتله وعدم انتباههم لدعوة المحبة وإنذارات الدينونة. أمَّا عبارة "فعادَت يَدُه صَحيحَة" فتشير الى يسوع الذي أراد ان يعمل الخير جاعلا تمجيد الله في خلاص الانسان. يسوع يُعرّض حياته للخطر من أجل "خير" يقوم به.

 

6 فخَرَجَ الفِرِّيسيُّونَ وتآمَروا علَيه لِوَقْتِهم معَ الهِيرودُسِيِّينَ لِيُهلِكوه.

 

تشير عبارة "فخَرَجَ الفِرِّيسيُّونَ" الى بقاء الفِرِّيسيِّين متمسكين بشريعة السبت الشكلية التي كانت تمنع كل شكل من اشكال العمل. امَّا عبارة "تآمَروا علَيه" في الأصل اليوناني συμβούλιον ἐδίδουν καταὐτοῦ (معناها راح يعقدون مجلسا ضده) فتشير الى اجتماع سرِّي خاص للتآمر بين الفِرِّيسيِّين والهيرودسيين ضد يسوع.   كانت المقاومة التي أثارها هذا الحادث مُرَّة لدرجة ان الفِرِّيسيِّين، وهم وطنيون متحمسون، كانوا على استعداد للاتفاق مع الهِيرودُسِيِّينَ، اعدائهم الذين كانوا يُعتبرون كخائنين، لبذل مجهود مشترك لقتل يسوع. وانفرد مرقس هنا بين الاناجيل الإزائية بذكر موافقة الهيرودسيين مع الفِرِّيسيِّين في المؤامرة على يسوع. أمَّا عبارة "لِوَقْتِهم" في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال) فتشير الى تعبير مرقس الإنجيلي الذي تكرر 41 مرة.  ويعطيه مرقس الإنجيلي أهمية كبرى حيث خرج الفريسيون في الحال مبيِّنا فوريّة عمل الفِرِّيسيِّين مع الهِيرودُسِيِّينَ. أمَّا عبارة "الهِيرودُسِيِّينَ" فتشير الى حزب ديني سياسي من الصدوقيين الذين اجازوا دفع الجزية لقيصر إرضاء للرومانيين، وهم من أصدقاء او أنصار هيرودس انتيباس، أمير ربع الجيل (من السنة 4 ق.م. الى السنة 39 ب. م.)، لم يكن ممكنا بدون تأييده ان تُرفع دعوى على يسوع. وهو الذي ألقى يوحنا المعمدان في السجن (مرقس 6: 7)، وكان يُعادي يسوع (مرقس 8: 15، لوقا 13: 31).  وبقي الهِيرودُسِيّونَ الى جانب الفِرِّيسيِّين يراقبون يسوع ليصطادوه بأسئلتهم (مرقس 12: 13) ويتامروا على قتله كما ظهر من ردود اليهود "اشْتَدَّ سَعْيُ اليَهودِ لِقَتلِه، لأَنَّه لم يَقتَصِرْ على استِباحَةِ حُرمَةِ السَّبْت، بل قالَ إِنَّ اللهَ أَبوهُ، فَساوى نَفْسَه بِالله" (يوحنا 5: 18). أمَّا عبارة "لِيُهلِكوه" في الأصل اليوناني ἀπολέσωσιν (معناها ليروا كيف يقتلونه) فتشير الى إنباء بالآلام والى جسامة الصراع وأهمية اقوال يسوع.  ومع ان الفِرِّيسيِّين والهيرودسيين كانوا أعداء، الا انهم اتحدوا ضد يسوع لأنه تحدى كبرياءهم وكشف دوافعهم غير الشريفة وأضعف سلطان شهرتهم. وبعد هذه البراهين والتفسيرات حول شريعة السبت وتأكيدها بالمعجزة تملك أعداء يسوع الفِرِّيسيِّين والهِيرودُسِيِّينَ رغبة وحشية في الانتقام. ومن السخرية ان يدفعهم هذا الحقد والكراهية، مع حماستهم للشريعة، الى تدبير مؤامرة قتل واضح تماما أنها ضد الشريعة.

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 2: 23-3: 6)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (مرقس 2: 23-3: 6)، يمكن ان نستنتج ان النص يتمحور حول شريعة السبت وموقف يسوع إزاء الفِرِّيسيِّين حول هذه الشريعة.

 

1) شريعة يوم السبت  

 

"السَّبتِ" في الأصل اليوناني σάββατον مشتقة من العبرية שַּׁבָּת (معناها راحة)، وهو اليوم السابع في الأسبوع. ويبدأ عند غروب الشمس يوم الجمعة ويستمر الى الغروب التالي، يترك فيه الإنسان أشغاله المادية حتى يستريح لأن الله استراح فيه من الخليقة: "اَنتَهى اللهُ في اليَومِ السَّابِعِ مِن عَمَلِه الَّذي عَمِلَه، واَستَراحَ في اليَومِ السَّابِعِ من كُلِّ عَمَلِه الَّذي عَمِلَه. وبارَكَ اللهُ اليَومَ السَّابِعَ وقَدَّسَه، لأَنَّه فيه اَستَراحَ مِن كُلِّ عَمَلِه الَّذي عَمِلَه خالِقًا" (تكوين 2: 1 -3). ويعلق القدّيس ألريد دو ريلفو "إنّ اليوم السابع لا يقارن؛ إنّ ما علينا التأمّل به ليس عمليّة خلق هذا أو ذاك من عناصر الطبيعة، بل التأمّل في استراحة الربّ وكمال الخليقة" (مرآة المحبّة). كم هو عظيم هذا اليوم، يوم الراحة هذا وكم هو باهر يوم السبت!

 

 ثم تطور التفكير عن يوم السبت حين أمر الله في طور سيناء في الوصية الرابعة من الوصايا العشر بحفظ السبت، التي هي الوحيدة تختصّ بالطقوس الخارجية: "اليَومُ السَّابِعُ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، فلا تَصنَعْ فيه عَمَلاً أَنتَ وآبنُكَ وآبنتُكَ وخادِمُكَ وخادِمَتُكَ وبَهيمَتُكَ ونَزيلُكَ الَّذي في داخِلِ أَبوابِكَ، لأَنَّ الرَّبَّ في سِتَّةِ الأَمٍ خَلَقَ السَّمَواتِ والأَرضَ والبَحرَ وكُلَّ ما فيها، وفي اليَومِ السَّابعِ استراح، ولِذلك بارَكَ الرَّبُّ يَومَ السَّبتِ وقدَّسَه" (الخروج 20: 8 -11).  ولذلك فإن السبت العبري يوم عينته إرادة الله.

 

ما هي دوافع هذه الراحة؟ تنطلق دوافعه من قانون العهد الذي كان يبرز الجانب الإنساني الاجتماعي لهذه الراحة، التي كانت تتيح للعبيد أن يلتقطوا أنفاسهم (خروج 23: 12، تثنية 5: 12). إلا أن التشريع الكهنوتي يُعطي للراحة الجانب الديني للعبادة، فالإنسان بعمله يقتدي بنشاط الله الخلاق. فراحته في اليوم السابع تحاكي راحة الله القدسية (خروج 31: 13...، تكوين 2: 2 -3). وهكذا قد أعطى الله السبت لبني إسرائيل كعلامة، لكي يعلموا أن الله إنما يُقدِّس شعبه "أَعطَيتُهما أَيضًا سُبوتي لِتَكونَ عَلامةً بَيني وبَينَهم، لِيَعلَموا أَنِّي أَنا الرَّبّ مُقَدِّسُهم"(حزقيال 20: 12).

 

وكيف حافظ اليهود على راحة السبت؟  حافظ اليهود على راحة السبت حسب الشريعة بصورة صارمة جداً: تحريم إشعال النار (خروج 35: 3)، أو جمع الحطب (عدد 15: 32)، أو إعداد الطعام (خروج 16: 23). وحسب شهادة الأنبياء، كان احترام السبت شرطاً يتعلّق به تحقيق الوعود الخاصة بآخر الأزمنة (إرميا 17: 19-27،). ولذا نرى نحميا يتمسَّك بشدّةٍ بحفظ السبت حفظاً كاملاً (نحميا 13: 15-22).  وفي سبيل "تقديس" هذا اليوم (تثنية 5: 12)، كان ينظّم " محفل مقدّس " (الاحبار 23: 3)، وتقدمة ذبائح (عدد 28: 9-10)، وتجديد خبز التقدمة (الاحبار 24: 8، أيام 9: 32). أمَّا خارج أورشليم، فكانت تُبدَّل هذه الطقوس باجتماع في المجمع اليهودي، يُخصَّص للصلاة الجماعية ولقراءة الكتب المقدّسة مع شرحها.  وبقي اليهود يحفظون يوم السبت بمواظبة، حتى تطرفوا في ذلك، فحفظوه حفظاً حرفياً أحياناً، وخلطوه بعبادات الأوثان أحياناً أخرى، فأرسل لهم الله الأنبياء ليرشدوهم إلى حفظ السبت حفظاً روحياً، حسب رغبة الله (2 ملوك 4: 23 وعاموس 8: 5 وهوشع 2: 11 وأشعيا 1: 13).

 

وفي فترة السبي التي قضاها اليهود في بابل نسوا حفظ السبت، حيث بدأ رجال الله يشدّدون على حفظه بعد العودة إلى كنعان، وجاهد نحميا جهاد الأبطال ليعيد إلى يوم السبت مكانته القديمة (نحميا 10: 31 و13: 15 -22). وفي الفترة الواقعة بين عزرا والمسيح زاد اليهود عدداً من القوانين التقليدية التي يجب حفظها في يوم السبت، تاركين الرحمة والحق التي هي الأمور الرئيسية الواجبة فيه.  وفي فترة ما بين العهدين انتشرت مجامع اليهود، فكان اليهود يقضون يوم السبت في دراسة الناموس وفي الراحة من أشغالهم الدنيوية. وقد شدّدوا في حفظ راحة يوم السبت حتى أن الحسيديين قد آثروا أن يتركوا أنفسهم للموت على أن يدنّسوا السبت بحمل السلاح (1 مكابى 32:2-38). ولكنهم عادوا وتجاوزوا عن الحرب في يوم السبت للدفاع عن النفس في حالة الهجوم عليهم (1 مكابين 2: 39 -41).

 

في فترة العهد الجديد، حفظ الآسينيُّون يوم السبت أشدّ حفظ وأكمله، بينما علماء الفِرِّيسيِّين، أخذوا يُصيغون بشأنه الكثير من الفتاوى مغالية في دقتها. وعندما جاء المسيح كان موضوع حفظ السبت هو مادة النزاع الأولى بين المسيح وبين شيوخ اليهود. فقد أرادوا حفظ اليوم حرفياً كعبيد للسبت، بينما علم المسيح أن السبت إنما جعل لأجل الإنسان (مرقس 2: 27). ولم يُلغِ ِ يسوع شريعة السبت بل كان يتردّد في هذا اليوم على المجمع، وينتهزها فرصة ليبشر بالإنجيل (لوقا 4: 16). إلا أنه يؤاخذ علماء الفِرِّيسيِّين على تشدّدهم الشكلي "إِن السَّبتَ جُعِلَ لِلإِنسان، وما جُعِلَ الإِنسانُ لِلسَّبت (مرقس 2: 27) مُبيّنا ان واجب المحبة هو مقدَّم على التمسك مادياً براحة السبت (متى 12: 5، لوقا 13: 10-16). فضلاً عن ذلك، قرر يسوع لنفسه سلطاناً على السبت: " إن َابنُ الإِنسانِ سَيِّدُ السَّبتِ" (مرقس 2: 28). وهذا أحد المآخذ التي يأخذها علماء اليهود عليه (يوحنا 5: 9) ولكنه، وهو يعمل الخير في يوم السبت، ألا يقتدي بأبيه، الذي، وإن دخل إلى راحته في نهاية الخلق، لا يزال يسوس العالم وينعش حياة البشر؟ "إنّ أبي ما يَزالُ يَعمَل، وأنا أعمَلُ أيضًا" (يوحنا 5: 17). ويعلق العلامة أوريجانوس " نحن نرى الله دائمًا في عمل. فلا يوجد سبت يتوقَّفُ فيه الله عن العمل، ولا يوجد يوم لا "يُطلِعُ شَمسَهُ على الأشرارِ والأخيار، ويُنزِلُ المطرَ على الأبرارِ والفُجّار" (مت 5: 45)، ولا وجود ليومٍ لا "يُنبِتُ العُشبَ في الجبال، والزّرعَ لِمَنفعَةِ الإنسان" (مز147: 8)، وليس هناك يوم لا "يُميتُ ويُحيي" (1صمويل 2: 6) "(عظات حول سفر العدد، 22).

 

2) مجادلات حول شريعة السبت  

 

أ. مجادلات مع المسيح وتفسيره شريعة يوم السبت

 

يكثر في الانجيل مجادلات يسوع مع قادة اليهود حول السبت (متى 12: 9-14ولوقا 13: 10-17، و14: 1-6 ويوحنا 5: 1-18 و7: 19-24)، ولقد كان لدى الفِرِّيسيِّين تسعة وثلاثين نوعا من الاعمال التي يُحرم القيام بها في يوم السبت، وذلك بناء على تفسيراتهم للشريعة والعوائد اليهودية على ممر الأجيال التي جمعت في كتاب التلمود. وكان الحصاد أحد هذه الاعمال المُحرَّمة، وعندما قطف التلاميذ سنابل القمح وفركوها بين أيديهم، كان ذلك نوعا من الحصاد في رأي الفِرِّيسيِّين، لكن التلاميذ قطفوا القمح لأنهم جاعوا، وليس لأنهم ارادوا ان يحصدوا القمح لربح.  فلم يكن يسوع ولا تلاميذه يعملون يوم السبت.

 

ولم يرد الفريسيون ان يروا أبعد من حرفيات الشريعة، بل كانوا مُصمِّمين على اتهام يسوع بارتكاب الخطأ.  لأنهم اتخذوا موقفا عدائيا ًمن يسوع، فقد حسدوه على شعبيته ومعجزاته وسلطانه في الكلام. وكان اهتمامهم بمكانتهم في المجتمع، وفرصتهم للكسب الشخصي من الأهمية بحيث فقدوا رؤيتهم كقادة دينيين. فكان يجب ان يتعرفوا على المسيح، ولكنهم ابوا الاعتراف به لأنهم لم يشاؤوا ان يتخلوا عن مراكزهم وسلطانهم، وعندما كشف يسوع مواقفهم الحقيقية، صار عدوا لهم عوضا عن ان يكون المسيح الذي انتظروه، وبدأوا يبحثون عن الوسائل ليصطادوه ليهلكوه.  وحاول يسوع ان يدافع عن تلاميذه مستعملا خمسة براهين مختلفة لتفسير شريعة يوم السبت

 

البرهان الأول: داود

 

رجع يسوع الى جذور الدين اليهودي، فأعاد الى السبت معناه الأصلي. المجال الروحي الذي يتم فيه عمل الله في تاريخ الانسان. فابتدأ يسوع بتأنيب الفريسيين لأنهم لم يتذكروا ما فعله داود نبيُّهم وملكهم الذي خالف شريعة الهيكل في استسلامه لشريعة الرحمة، إذ أكل خبز التقدمة هو ورفاقه يوم السبت (الاحبار 24: 8). وخبز التقدمة يتكوَّن من اثني عشر رغيفا الموضوعة على المائدة في المقدس أي القسم المتوسط من خيمة الشهادة، وكان الكهنة يأتون بخبز جديد كل يوم سبت ويضعونه على تلك المائدة ويأخذون الخبز ويأكلونه (الاحبار 24: 5-9) ولا يجوز لاحد غير الكهنة ان يأكل هذا الخبز (خروج 25: 30). ان الرب لم يعاقب داود، لان حاجته الى الخبز كانت أهم من الحرفيات الطقسية، والمحافظة على الحياة في نظر الله أثمن من القوانين الطقسية (1 صموئيل 21: 1-6).  فالضرورة اباحت المحظورات لداود، فإذاً الاعمال الضرورية مباحة يوم الراحة، ومن اباحها في يوم الراحة لا يخالف الوصية الرابعة. فإن كان الرب لم يبكت داود على ذلك، فقد جاز لابن داود الأعظم أن يسمح لتابعيه أن يقطفوا فريكاً ويأكلوه في السبت. وهنا يجب ان نؤكد ان يسوع لم يكن يشجع عصيان شرائع الله، بالحري كان يؤكد ضرورة التميز والعطف عند تنفيذ الشرائع.  وقد علم كل من داود ويسوع ان القصد الحقيقي من شريعة الله هو تعزيز المحبة لله وللأخرين، فلا تحفظ أي شريعة حفظا أعمى دون النظر بدقة أسبابها، لان روح الشريعة أهم من حرفها.

 

البرهان الثاني: الكهنة

 

استشهد يسوع أيضا بالكهنة الموكلين بخدمة العبادة بقوله: أَوَما قَرأتُم في الشَّريعَةِ أَنَّ الكَهَنَةَ في السَّبتِ يَستَبيحونَ حُرمَةَ السَّبْتِ في الهَيكَلِ ولا ذَنْبَ علَيهم؟  فأَقولُ لكم إِنَّ هَهُنا أَعظَمَ مِنَ الهَيكَل (متى 12: 5-6). إذ يقومون بأكثر من عمل يوم السبت ليهيئوا الذبيحة: ذبح البهائم المقدّمة في ذلك اليوم وسلخها وتقطيعها واحراقها علما ان هذا الامر كان محرَّما لكنه جاز لأنهم خدموا به الله.  فالعمل الذي تقتضيه الخدمة التي امر بها الله في العبادة لإقامة الطقوس والشعائر الدينية (متى 12: 5) يحلُّ في يوم السبت مع ان الوصايا العشر تحرم العمل في يوم السبت (خروج 20: 8-11). لانَّ الهدف من السبت كان الراحة وعبادة الله، فقد كان مسموحا للكهنة ان يقدّموا الذبائح وان يؤدُّوا خدمات العبادة، كان هذا العمل في السبت خدمة وعبادة الله.  

 

فاذا جاز عمل الكهنة يوم السبت وهو مخالف لحرف الشريعة لقداسة خدمتهم في الهيكل جاز بالأولى عمل تلاميذه لحضور المسيح معهم وقداسة خدمتهم إياه، لأنه هو لأنه أعظم من الهيكل بل هو هيكل الله الحي الحقيقي على الأرض، "فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللَّاهُوتِ جَسَدِيّاً" (كولسي 9: 2)، وفيه تُقدَّم العبادة الحقيقية لله، لأنه الوسيط بين الله والناس (1 طيموتاوس 2:5)، وبه حضر الله لشعبه ولم يكن هيكل سليمان سوى رمز اليه (يوحنا 2: 19).  فالمسيح هو الهيكل الحقيقي، وقد حلَّ على الأرض وهؤلاء التلاميذ يخدمونه ويتبعونه، فما الخطأ في أن يعملوا هذا العمل البسيط ليستمروا في خدمتهم لرب الهيكل يوم السبت.

 

 

البرهان الثالث: النبي هوشع

 

أشار يسوع الى سلطته على الشريعة ولا سيما شريعة السبت، (متى 12: 7) مستنداً الى العهد القديم، (ا صموئيل 15: 22-23، مزمور 40: 6-8، أشعيا 1: 11-17، ارميا 7: 21-23) وعلى وجه الأخص الى هوشع النبي "فإِنَّما أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحة مَعرِفَةَ اللهِ أَكثَرَ مِنَ المُحرَقات" (هوشع 6: 6). ويقول يسوع للفرِّيسيين " َلو فَهِمتُم مَعنى هذهِ الآية: إِنَّما أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحة، لَما حَكَمتُم على مَن لا ذَنْبَ علَيهِم"(متى 12: 7). هذا هو مبدأ الرحمة الذي يصلح لكل زمان.

 

واقتبس يسوع مبدا الرحمة قول هوشع النبي ليعلن ان الله يفضِّل اعمال الرحمة على كل الاعمال الطقسية مهما عظم شانها. وكون السبت وضع لأجل الإنسان فلا يصحُّ أن يكون سببًا في جوع التلاميذ. فالله يريد رحمة لا ذبيحة. ومن هذا المنطلق لام الفِرِّيسيِّون تلاميذ المسيح بسبب اكلهم وهم في حاجة الى الطعام لأنهم خالفوا شريعة السبت الطقسية مخالفة لشريعة أعظم منها وهي شريعة الرحمة.

 

 وفي هذا النص لا يتنكر المبدأ الذبائح الطقسية، بل التمسك المتزمت بالطقوس التقليدية الخاصة بالحياة الدينية الى درجة إهمال وصية الرحمة وهي وصية رئيسية.  فكلمة هوشع النبي يدعو الى التجديد الروحي بقدر ما يحملهم هذا التجديد على الاعتراف بان يسوع هو المسيح الذي يذكرنا بسلم الالويات الحقيقي: موقف قلوبنا من نحو الله يأتي في المكان الأول، فبذلك فقط نقدر ان نطيعه ونحفظ الشرائع والفرائض الدينية.  ومن هذا المنطلق ليس مقياس السبت في العبادة وما فيها من مراسيم، بل الرحمة والشفقة هما اللتان تضيفان على التزام الانسان في عمل الله قِوامه.  ان تطبيق الاخلاق أكثر أهمية من الطقوس.

 

 

البرهان الرابع: ابنُ الإِنسانِ سَيِّدُ السَّبتِ

 

والتجأ يسوع الى برهانٍ آخرٍ مُعلنا للفريسيين أنه "ابنُ الإِنسانِ سَيِّدُ السَّبتِ " (مرقس 2: 28)، إذ هو الذي خلق السبت ومشرّعه والخالق أعظم من الخليقة، وبذلك كان في يديه السلطان والحكم على تقاليد الفِرِّيسيِّين وشرائعهم وتغييرها في موضوع السبت، لأنه خالق السبت. والخالق أكبر من الخليقة. وفي هذا النقاش حول السبت، أثبت يسوع انه أعظم من السبت، لأنه ابن الانسان (متى 12: 8). واكد كلامه بمعجزة شفاء رَجُلٌ يَدُه شَلاَّء. ان المسيح لا ينقض ناموس السبت لكنه بصفته ابن الانسان، يعلن حقه في إخضاع السبت لخير الانسان.   فالسبت وُضع لخدمة الإنسان ومنفعته. فقد جعل السبت للإنسان لا الانسان لأجل السبت. والمسيح سيد السبت يكرمه ويثبّته، وفي الوقت ذاته يُحرره من القيود التي قيّده بها الفريسيون. فلو كان المسيح مجرد بشر، لما حقَّ له أن يسمِّي ذاته سيد السبت. لذلك يحق للإنسان ان يجري عملا في السبت لحفظ حياته لا هلاكه.

 

ان المسيح لا ينقض ناموس السبت لكنه بصفته ابن الانسان، يعلن حقه في إخضاع السبت لخير الانسان.  ولم يجرد المسيح يوم السبت من قيمته كيوم للعبادة، فقد ذهب دوماً إلى المجامع للصلاة في يوم السبت (لوقا 4: 16) ولكنه أضاف اليه اعمال الرحمة فكان يتحنن ويعمل المعجزات في يوم السبت لأنه رب السبت (مرقس 2: 28).   ويعلق القدّيس الاسقف هيلاريون "في يوم السبت، كان يُطلب من الجميع، بدون استثناء، ألاّ يقوموا بأيّ عمل وبأن يستريحوا بدون القيام بأيّ نشاط.  لكن يسوع أعلن "إِنَّ أَبي ما يَزالُ يَعمَل، وأَنا أَعملُ أَيضاً" (يوحنا 5: 17) فكيف يخالف يسوع قاعدة السبت؟" (دراسة عن المزمور 91).  ولكن في رؤية الفِرِّيسيِّين نجد ان شريعة السبت هي أهم من سيد السبت، الداعي إليها.  دع الفريسيون لخدمة السبت، ويسوع دعا لخدمة الإنسان. والفارق كبير بين "خدمة السبت" وبين "خادمة الإنسان".

 

البرهان الخامس: شفاء في السبت

 

فيما اعطى الفريسيون لشرائعهم أولوية على احتياجات الإنسان وان حماية نواميسهم أهم لديهم من تحرير الانسان وشفائه. كانت قواعد السبت تقول انه يمكن ابراء الناس في يوم السبت متى كانت حياتهم معرضة للخطر.  لكن يسوع أراد ان يكون يوم السبت يوم خدمة وعمل الرحمة فقام يسوع في يوم السبت، بمعجزة شفاء الرجل الذي يده شلاء (مرقس 3: 1-6)، ولم يكن هناك خطر الموت، وهي احدى سبع معجزات التي صنعها المسيح في السبت (مرقس 1: 21؛ 1: 29، يوحنا 5: 9؛ ولوقا 13: 14؛ 14: 2) ليعلن ان عمل الرحمة في يوم الجائز ومُرضٍ لله من ناحية، ومن ناحية أخرى، ليعلن للشعب ان الله هو إله الشعب وليس إله القواعد، وأفضل وقت للوصول للإنسان هو عندما يكون في حاجة الى عون.  

 

والشفاء يوم السبت هو علامة يوم الخليقة الجديدة، ويعلق القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني أنّ الفكر المسيحي قد أقام عفويًّا الصلة بين القيامة التي وقعت في "اليوم الأوّل بعد السبت" واليوم الأوّل في الأسبوع الكوني (التكوين 1: 1)، وهو في سفر التكوين، اليوم الذي تمّ فيه خلق النور (تكوين 1: 3-5). مثل هذه العلاقة تهيب بالمؤمنين إلى فهم القيامة منطلقًا لخليقة جديدة، يكون المسيح الممجّد هو بكورتها، بما أنّه هو نفسه "بكر كلّ خليقة" (قولسي 1: 15) "والبكر بين الرَّاقدين" (قولسي 1: 18)" (الرسالة الرسوليّة: يوم الربّ (Dies Domini)، الأعداد 24 و25).

 

نستنتج مما سبق ان يسوع لم يلغِ يسوع شريعة السبت، بل يفسرها من الداخل موليا إياها روحا جديد. واستعمل سلطانه كسيد السبت ونقله من اليوم السابع في الأسبوع، إلى اليوم الأول الذي هو يوم الأحد، فسُمِّي يوم الأحد يوم الرب. والمقصود هو تخصيص يوم الرب لأعمال الضرورة والرحمة والعبادة.   لذلك يدعونا يسوع من خلال هذه البراهين الى قيمة عملنا في الروح الذي نضعه فيه. ليس المهم المحافظة على شريعة السبت بقدر ما هو الروح الذي نضعه في المحافظة على هذه الشريعة.  وهكذا أوضح المسيح شريعة يوم الراحة عند المسيحيين مبيّنا ثلاثة أنواع من الاعمال مسموح بها: النوع الأول الاعمال الضرورية والنوع الثاني: اعمال الرحمة، والنوع الثالث اعمال العبادة (متى 12: 1-8).

 

في هذا الاتجاه استطاع المسيحيون الأوائل ان يستبدلوا السبت بالأحد-اول يوم من الأسبوع.   

 

ب. السبت في الجماعة المسيحية الأولى

 

قدّس المسيحيون الأولون يوم السبت، ولكن اليوم الأول من الأسبوع أي (الأحد) حلّ تدريجياً محل اليوم السابع؛

السبت هو اليوم السابع من الأسبوع حسب الشريعة اليهودية ولكن السبت المسيحي هو اليوم الأول من الأسبوع وصار بدلا من السابع بعد قيامة المسيح أكراما لتلك القيامة.

 

وكان المسيحيون الأولون يجتمعون فيه للصلاة، فقد جعلت قيامة ربنا قيمة خاصة لهذا اليوم الأول من الأسبوع. وبتأثير قول يسوع "إِن السَّبتَ جُعِلَ لِلإِنسان، وما جُعِلَ الإِنسانُ لِلسَّبت" تغيَّر يوم السبت الى يوم آخر من أيام الأسبوع وصار ملكا لجميع الشعوب.

 

وفي قرار المجمع المسيحي الأول لم يفرض قادة الكنيسة الأولى حفظ يوم السبت اليهودي على أحد (أعمال الرسل 15: 28)، ولم تعد هناك إلزامية حفظ يوم السبت اليهودي. وهناك الأدلة الكتابية على حفظ الأحد بدل السبت كما ورد في اعمال الرسل "اجتَمَعْنا يَومَ الأَحَدِ لِكَسْرِ الخُبز" (اعمال الرسل 20: 7). ويخبرنا تاريخ الكنيسة أنها حفظت اليوم الأول من الأسبوع بناء على أوامر الرسل. وقد كتب أغناطيوس "داعياً بحفظ يوم الأحد كيوم الرب الذي به قيامة الحياة لنا"، وقال الشهيد يوستينس النابلسي: نجتمع سويّة يوم الأحد لأنه اليوم الأول الذي فيه غيّر الله الظلمة إلى نور، والعدم إلى وجود. وفي هذا اليوم قام مخلصنا يسوع المسيح من الأموات"، وشهد أثناسيوس الإسكندري: إن الله قد غيّر يوم السبت إلى يوم الرب “؛ وقال يوسابيوس مؤرخ الكنيسة": "والكلمة (المسيح) بالعهد الذي قطعه معنا غيّر وليمة السبت إلى نور الصباح وأعطانا المخلّص يوم الرب رمز الراحة الحقيقية. ففي هذا اليوم يجب أن نسلك بموجب الشريعة الروحية، وكل ما يمكننا أن نعمله يوم السبت فقد نُقل إلى يوم الرب، وقد أُعلن لنا أنه يجب أن نجتمع في مثل هذا اليوم".

 

وكان بعض المسيحيين الأولين يحفظون كلاً من السبت اليهودي ويوم الرب المسيحي واستمر هذا مدة أربعة قرون، ثم انتهى أمره بعد أن منعه مجمع لاودكية الكنسي في عام 364 م. واعتمدوا في ذلك على اجتماع المسيح بتلاميذه في اليوم الأول من الأسبوع دوماً. يعلق التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة “فاليوم السابع يُتِمُّ الخلق الأوّل. أمّا اليوم الثامن فهو يَفتتحُ الخلق الجديد. وهكذا، فعَمَل الخلق يرقى إلى عملٍ أعظمٍ هو الفداء. الخلق الأوّل يجدُ معناه وقمَّته في الخلق الجديد في الرّب يسوع المسيح الذي يفوقُ ألَقُه ألَقَ الخلق الأوّل(345-249) 

 

ونقل المسيحيون إلى اليوم الأول من الأسبوع أفضل ما في السبت اليهودي، وتخلصوا من كل الأخطاء التي ألصقها به اليهود. ويعلق برنابا   "عن موضوع السبت، كُتِبَ: "رَأسُ الشَّهرِ والسَّبتُ والدَّعوةُ إِلى الحَفلِ لا أُطيقُها" (أشعيا 1: 13). تأمّلوا في هذه الكلمة: "لا أريد السبوت الحاليّة، لكن أريد الّذي صنعته يوم ثامن، لذلك نحتفل بفرح باليوم الثامن، الذي قام فيه يسوع من بين الأموات، وظهر، ثم صعد إلى السماوات" اليوم الذي سيكون فجر عالم جديد" (الرسالة المنسوبة إلى برنابا الفقرتان 15 و16).

 

 غير أن غاية المسيحي من حفظ الأحد تختلف عن غاية اليهودي من حفظ السبت، لانَّ المسيحي ينظر إلى يوم الأحد واثقاً بالفادي الذي قام فيه منتصراً من الأموات ليتمم له عمل الفداء. ويعلق التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة "تمشّيًا مع تقليد رسولي تحتفل الكنيسة بقيامة الرب في كلّ يوم ثامن، وهو يسمّى بحقّ يوم الربّ (يوم الأحد). يوم قيامة المسيح هو في آنٍ معًا "أوّل يوم من الأسبوع" (يوحنا 20: 1)، تذكار اليوم الأوّل من الخليقة، و"اليوم الثامن" حيث افتتح المسيح، بعد استراحة السبت العظيم، اليوم "الذي صنعه الربّ"(الفقرتان 1166 و1167). لقد أُعطِي لنا يوم اليوم للصلاة والراحة. "هذا هو اليَومُ الَّذي صَنَعَه الرَّبُّ فلنبتَهِجْ ونَفرَحْ فيه" (مزمور 117: 24) ولنمجّد الذي قام من الموت في ذلك اليوم بان نعيش بحسب يوم الاحد " ويعلق البابا بِندِكتُس السادس عشر "أن نعيش بحسب الأحد" يعني أن نعيش واعين للحريّة التي جلبها المسيح لنا وأن نواصل حياتنا باعتبارها تقدمة ذواتنا لله، لكي يتجلّى انتصاره بالملء للبشر أجمعين من خلال سلوك متجدّد بعمق" (الإرشاد الرسولي: "سرّ المحبّة"، الفقرة 72).

 

 خلاصة

 

يصف مرقس في النص الأول من الانجيل (مرقس 2: 23-28) نزاع يسوع مع الفِرِّيسيِّين حول السبت في مشهد سنابل القمح. حيث حاول الفريسيون ان مجادلة يسوع فيما يحلُّ في يوم السبت، وما لا يحلُّ. فأتهموا تلاميذه بانتهاك حرمة يوم السبت بمنعهم من اعمال قلع السُّنبُلَ باعتباره من اعمال الحصاد متجاهلين نص الشريعة في سفر تثنية الاشتراع، التي تُجيز قلع السنابل يوم السبت على ألا يستخدم الانسان منجلا.  وكذلك يتجاهلون فتوى التوراة في إجازة أكل خبز التقدمة لداود ومن معه، يوم هربوا من وجه شاول الى بيت الرب في نُوب، وخبز التقدمة لا يحل الاَّ للكهنة. وتجاهلوا أخيرا انهم امام حضر المسيح، رب السبت، وسيد كل شريعة. فالشريعة، على ما بيّن لهم المسيح إنما وُجدت للإنسان لتحريره ومساعدته للوصول الى الله لا لتقييده.

 

 وفي النص الثاني من الانجيل مرقس (مرقس 3: 1-6) أيد يسوع سلطان كلمته بسلطان معجزة رَجُلٌ يَدُه شَلاَّء يوم السبت معلنا ان عمل الرحمة في يوم الجائز ومُرضٍ لله. فخرج الفريسيون من المجمع وكلهم تصميم على قتل يسوع لأنه انتهك حرمة السبت.

 

وكانت خلاصة جواب يسوع للفريسيين امرين: الأول انه تجوز الاعمال الضرورية في يوم الراحة اي يوم الرب. والثاني انه يجوز في ذلك اليوم عمل ما امر به هو او ما سمح به او كان في سبيل خدمته. ويعلمنا يسوع ان نقدس يوم الرب وذلك بان يكون يوم راحة لعبادة الله من ناحية ومشاركة الآخرين فيما أتانا الله من مال او طعام او متاع او خدمة.

 

دعاء

 

أيها ألاب السماوي، يا من ارسلت ابنك يسوع الى ارضنا لكي يحطِّم قيودنا، ويُحرِّرنا من حدودنا، ويفدينا في يوم قيامته المجيدة، اجعلنا ندرك اهمية هذا اليوم الذي كان بدء الخليقة الجديدة وخلاص العالم، فنبتهج مع السماء والأرض ونباركه ونقدسه بالعبادة والاعمال الرحمة والمحبة كما علمنا ابنك وربنا يسوع المسيح. آمين.