موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يبدأ موسم عيد الفصح مع عطلة نهاية الاسبوع الذي يشهد الكرنفال حيث يكون امام الذين يتهيأون للصيام فرصة أخيرة، قبل عيد الفصح، لتناول مع طاب لهم من الأطباق الغنية والحلويات. معظم الأسر تلتزم بالصيام، بما في ذلك الأطفال الذين يمتنعون عن أكل اللحم يوم الاربعاء والجمعة، ويقومون بأداء التضحيات "الصغيرة" أو ما يقال لها بالدارج "الإماتة". مع وصول المجموعات الاولى من حجاج عيد الفصح إلى القدس، وخصوصاً من قبرص واليونان، وقبل حرب عام 1967، من لبنان وسوريا ومصر والعراق وغيرها من الدول العربية المجاورة، فإن اجواء عيد الفصح تبدأ في الظهور، وخاصة في منطقة حارة النصارى. هناك تقام بسطات بيع الهدايا التذكارية في كل زاوية في الشوارع والأزقة المؤدية الى كنيسة القيامة. والشموع من جميع الأحجام والتصاميم تعرض للبيع والأطفال المحليين يوظفون الكلمات والعبارات الاجنبية التي تعلموها حديثاً لجذب الحجاج لشراء الهدايا التذكارية. في تلك الايام كان عدد السكان المسيحيين في القدس كبيراً وكان للعيد بهجته الكبيرة. تعتبر حارة النصارى من حارات القدس الشهيرة والتي لا بدّ لكل زائر القدس أن يمر في شوارعها للتعرف على تراثها التاريخي ومنازلها وزواريبها. وشباب حارة النصارى مشهود لهم بالنخوة والشهامة وحب المساعدة ولكن مثل سائر شباب القدس فإن الهجرة أدت إلى افراغ هذه الحارة العريقة من الكثيرين من ذوي الطاقات الكبيرة. وفي موسم عيد الفصح كانت حارة النصارى تمتلىء بالحجاج القادمين من الدول العربية وقبرص واليونان، وغالبيتهم من الكبار في السن الذين يقومون بشراء الهدايا التذكارية والشموع المميزة التي يجري إعدادها لإحتفالات سبت النور التي يلعب فيها شباب حارة النصارى دوراً رائداً. وحيث ان الفنادق لم تكن تستوعب كل هؤلاء الحجاج فقد لجأت الكنائس الى عقد اتفاقيات مع السكان المحليين لتأجير غرف للحجاج، ولكن في اغلب الاوقات لم يكن السكان المسيحيون يأخذون اموالا لقاء تاجير الغرف مما كان يترك انطباعاً طيباً لدى الحجاج عن سكان القدس. وفي يوم الاحد الذي يسبق أربعاء الرماد، حيث يبدأ الصوم الكبير، كانت والدتي، مثل سائر امهات ونساء القدس، تقوم بإعداد السمبوسك (فطير محشو باللحم) والمطبق (فطير من الحلويات المحشو إما بالجوز أو الجبنة الحلوة)، وطبعاً كان ذلك يتوافق مع عيد المسخرة حيث كنا نقوم بإحياء حفلات المسخرة في المنزل والحي، حيث الزيارت لمجموعات المسخرة الى المنزل والأحياء الاخرى. وأذكر ذات مرة ان جاء قريبان لنا يرتديان زي النساء ولم يتعرف عليهما احد، وقد ذهبا الى محل جعفر للحلويات في سوق خان الزيت واشتريا الكنافة وعادا ولم يكتشفهما أحد مع العلم ان تجار سوق خان الزيت يمضون الكثير من اوقاتهم امام محلاتهم وهم يحدقون بالمارة، وهي عادة سيئة لم يمحوها الزمن!. يبدأ أسبوع الفصح مع أحد الشعانين. وتتخصص بعض العائلات في حارة النصارى في إعداد فروع النخيل بتصاميم مثل الشجرة مع وجود جيوب لحمل الزهور. وتشتري العائلات المحلية شجر النخل، لاسيما تلك المخصصة للأطفال الصغار، وتزين بالورود والشرائط الملونة استعدادا لإحتفالات أحد الشعانين، والتي هي حقا حدث مجتمعي مثلما هي ديني. يشارك افراد المجتمع بعد ظهر يوم أحد الشعانين في المسيرة التقليدية، برئاسة بطريرك اللاتين، من بيت عنيا، وهي قرية تقع على المنحدرات الشرقية لجبل الزيتون، إلى كنيسة القديسة حنة التي تبعد خطوات فقط من باب الاسباط في داخل المدينة القديمة. يحمل الجميع فروع النخيل التي ترمز إلى النصر، وفي نهاية المسيرة، يقوم المشاركون بهز فروع النخيل بينما يدخل البطريرك ساحة الكنيسة. أما الصوت المنتج فيذكر بتلك الفروع التي هزتها الحشود التي تجمعت حول السيد المسيح لدى دخوله القدس. بعد المسيرة، تقام مناسبة اخرى تتمثل باستعراض كشفي كبير حول اسوار المدينة القديمة حيث تسير فرق الكشافة في بزاتها الملونة والأعلام والإيقاعات الشعبية والوطنية. وفي خميس "الغسل"، اي يوم العشاء السري والذي خلاله غسل فيه السيّد المسيح ارجل تلاميذه هناك ساعة السجود المسائية في كنيسة الجثمانية. وكان هناك وما يزال تقليد صنع الكعك والمعمول في منازل أهل القدس في يوم خميس الغسل. وكانت والدتي تعجن السميد قبل يوم واحد وتتركه ليتخمر، وفي اليوم التالي تهيىء الطاولات والصواني استعداداً لقدوم عماتي وخالاتي واولادهم الى بيتنا لمشاركتنا في "التنقيش". وكنا نجلس جميعا حول الطاولة ونقوم بتنقيش الكعك والمعمول والفرح يغمرنا. وتحتاج صناعة الكعك والمعمول الى مهارة في المعايير والتنقيش والخبز ايضا ولم اتذوق حتى الآن شيىء افضل. وكانت نساء الحي يتنافسن في هذا المجال ولكنني استطيع ان اقول بكل نزاهة ان كعك ومعمول والدتي كان الافضل. وتبدا حفلة "التنقيش" عادة في نحو الساعة الواحدة بعد الظهر وتستمر حتى ساعات المساء. في يوم الجمعة العظيمة، يقوم المسيحيون في القدس بالإضافة الى الآلاف من الحجاج من جميع أنحاء العالم بالتعبير عن الحداد والحزن وهم يسيرون على طريق الآلام. وتعبر المسيرة خلال أربعة عشر محطة تنتهي في الجلجلة ترافقها طوال الوقت جوقة الرعية الفرنسيسكانية والكشافة الذي يحفظون النظام. وفي المساء تقام جنازات المسيح في كنيسة القيامة وكافة الكنائس ولكن اكثرها حرارة وتعبيراً كان وما يزال في كنيسة الروم الكاثوليك الملكيين في باب الخليل. سبت النور يوم سبت الفصح (عند الاورثوذكس الشرقيين) هو "سبت النور"، عندما يجري الإحتفال بقيامة المسيح في حفل "النار المقدسة" الذي يقام في كنيسة القيامة. كان الآلاف من الحجاج، ومعظمهم من القبارصة واليونانيين والأقباط والسريان والارمن، ينامون ليلاً بالقرب من القبر المقدس ليكونوا من بين الأوائل الذين يحصلون على النار المقدسة. يبدأ السكان المحليون في الانضمام إليهم في الصباح الباكر، بينما ساحة الكنيسة واسطحها تكون مكتظة بالحشود، والجميع يحملون كل رزم الشموع والفوانيس الزجاجية. عند الظهر، يتوجه بطريرك الكنيسة الارثوذكسية اليونانية مع حاشيته من مقر إقامته إلى كنيسة القيامة عن طريق الدرج المؤدي من السقف داخل الكنيسة. وفي الوقت نفسه، يتجمع الشباب المسيحي في واحدة من ساحات الحي المسيحي ويسيرون عبر الأزقة الضيقة إلى الكنيسة. وفي طريقهم، يقومون بالتناوب بحمل واحد منهم على اكتافهم حيث يقودهم في ترديد الشعارات. ومن بين هذه الشعارات يمكن للمرء أن يسمع: "يا عدرا (العذراء مريم) عليك السلام من المسيحيين والمسلمين على حد سواء"، و" يا مار جريس -القديس جورج- صلينا واحنا النصارى والشمع بايدينا، وعندما يدخل الشباب الكنيسة يطوفون حول القبر المقدس وهم يرددون "هذا هو قبر ربنا - ربنا يسوع المسيح - المسيح جمعنا - وبدمه الثمين افتدانا، ونحن اليوم فراحى (فرحانين). "وبعد الطواف حول القبر المقدس ثلاث مرات ينتظرون الموكب الرسمي برئاسة البطريرك، وبمشاركة أعضاء من العائلات القديمة الأرثوذكسية العربية الذين يحملون الرايات والأعلام المطرزة يجد الموكب طريقه من الكنيسة الكاثوليكية، شرق القبر المقدس، إلى حول قبة القبر المقدس. وفي نهاية المسيرة يدخل البطريرك الى كنيسة القبر. وتصمت الحشود التي كانت حتى الآن قد أظهرت الإثارة، تحسباً لظهور النار المقدسة. ويبقى البطريرك لمدة ساعة أو نحو ذلك في الصلاة والتأمل ومن ثم في حوالى الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر، يظهر النور وسرعان ما ينتقل من رزمة واحدة من الشموع إلى الرزم الاخرى. ثم تجري انارة الفوانيس الزجاجية بالنار المقدسة ويقوم العديد من المؤمنين بتمرير أيديهم فوق لهيب الشموع ثم يرسمون اشارة الصليب ويسترسلون في الدعاء. وينتشر النور على الفور الى محيط الكنيسة والمكان كله، الداخل والخارج، يكون بمثابة كتلة من النار المقدسة. وفي هذه الاثناء تُسمع الزغاريد البهيجة، ويبدأ رنين الأجراس وتكون النار المقدسة قد بدأت تشق طريقها إلى أماكن أبعد، في البلاد وخارجها. وفي هذه الاثناء تكون فرق تنتظر النورعلى سطح الكنيسة وتبدأ بعزف الالحان الوطنية والحماسية بينما افرادها يتحركون داخل الازقة الضيقة في حارة النصارى. ثم يلتقون مع مجموعة كبيرة من الشبان الذين يحملون الشموع والفوانيس وهم يرددون الهتافات التي تتداخل مع عزف الفرق الموسيقية. الجو هو واحد من اجواء الفرح بين الجمهور ويبدأ المسيحيون المحليون بإلقاء التحية التقليدية فى عيد الفصح: "المسيح قام" والرد: "حقا قام". ويعتبر العديد من المراقبين الاورثوذكس أن "اعجوبة" النور هي أطول معجزة سنوية مشهود على صدقيتها في العالم المسيحي. وقد تم توثيقها على منذ عام 1106 ويجري بث الاحتفال باعجوبة النور على الهواء مباشرة في اليونان، وروسيا، وجورجيا، وقبرص، ولبنان ومصر وبلدان أرثوذكسية أخرى. ولكن تاريخ سبت النور مثقل بالدماء ايضاً، حيث قتل المئات في عدة مناسبات قبل مئات الاعوام إما بسبب عدم ظهور النور في احدى المناسبات او بسبب التدافع. وعلاوة على ذلك، تقوم عدة دول بإستقدام النور المقدس من القدس بمن فيها الاردن وسوريا ولبنان عن طريق رحلات جوية خاصة، ويجري استقباله بمرتبة الشرف من قبل قادة الدول في المطارات. بالنسبة للكاثوليك فإن مراسم سبت النور تنطوي على اضاءة النور المقدس في الكنائس. ولا بد من القول أن الكنيسة الكاثوليكية لا تؤمن بـ"اعجوبة النور" وقد حظر البابا غريغوري عام 1238 على الرهبان الفرنسيسكان المشاركة في مراسيم النور، بإعتباره عملا زائفاً. لكن في الوقت نفسه لا تمنع الكنيسة رسمياً رعاياها في فلسطين من المشاركة في مراسيم النور المقدس. ومن ذكريات تلك الايام مشاهدة الحجاج السوريين وهم يغنون ويرقصون في ساحة كنيسة القيامة في فجر عيد الفصح. واذكر انه في عام 1963 صادف عيد الفصح مع اعلان الوحدة السورية المصرية (غير وحدة عام 1958) فانطلقت تظاهرات في القدس تأييداً للوحدة شارك فيها الحجاج المسيحيين السوريين. ومن العادات الجميلة التي اختفت مع السنين كانت قيام اصحاب المحلات التجارية في حارة النصارى بوضع صناديق (صحارات) مملؤة من البيض الملون قبل اسبوعين من عيد الفصح حيث يتنافس الشباب على "طقش" البيض. وفي إحدى المرات قام احد الاشخاص بصنع بيضة من خشب ولوّنها على نحو جميل للغاية ولكن عندما جاء للمنافسة مع شاب آخر ادرك الحاضرون من شكل البيضة انها غير طبيعية ففحصوها وهرب الشاب خوفا من علقة بالبيض الفاسد. وكذلك كان الحجاج المسيحيين العرب يقومون بوشم الصلبان وتاريخ الحج على اياديهم، وكان يقوم بهذه المهمة عدد من اصحاب محلات الوشم. وقبل الاحتلال كان الآلاف من الناس يتوافدون على القدس من سائر انحاء الضفتين الغربية والشرقية لنهر الاردن والدول العربية للاشتراك بإحتفالات الفصح. اليوم القدس هي غيرها قدس الامس، وابوابها مغلقة حتى لابنائها وللمسيحيين من الدول العربية المجاورة الذين حرموا من دخولها منذ 48 عاماً. ولكن ليس من ليلة إلا بعدها صباح مشرق، وهذا هو املنا في هذا الليل الشرقي المظلم!.