موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١١ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٤

"ملامح التلميذ/ة" بين كاتبّي نبؤة اشعيا والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (اش 50: 5- 9؛ مر 8: 27- 35)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (اش 50: 5- 9؛ مر 8: 27- 35)

 

الأحد الرابع والعشرون بالزمن العادي (ب)

 

مُقدّمة

 

نتابع في هذا الأسبوع مقال يُحاور وجهنا كمسيحيين، نرغب كلّ يّوم في الإتحاد وإعلان تبعيتنا وإنتمائنا للرّبّ. من خلال قراءتنا لنص اشعيا (50: 5- 9) بالعهد الأوّل سنسمع صوت تلميذ يعاني الألم وذلك حبًا وثقة بدعوة السيّد الرّبّ له. ومن خلال هذه الثقة يعلمنا، كتلاميذ الرّبّ، كيف نعبر الألم من خلال هذه الثقة الفائقة الطبيعة والّتي لا تعتمد على طاعته للسيّد الرّبّ بقدر اليقيّن الّذي يغمر قلب هذا التلميذ. وعلى مثال هذا العبد المتألم، الّذي سيعكس ملامح جديدة لنا كمؤمنين، سنسمع صوت يسوع وهو المعلم الإلهي، بحسب مرقس (8: 27- 35) في حواره مع تلاميذه كاشفًا عن ملامح جديدة وواضحة لـمَن يرغب بارادته أنّ يتبعه. نهدف من خلال هذا المقال أن نتعرف على وجه التلميذ الّذي يحمل ملامح كتابيّة مما يساعدنا أنّ نكتسب ملامح تلاميذ السيّد الّذي سار في شوارع إسرائيل، ويسير في شوارعنا ليُعلّمنا أنّ نعبر الألم معه ولا نهرب الصلّيب بل حبًا به يمكننا أنّ نعيش بحسب فكره الإلهي وليس بحسب فكرنا البشريّ.

 

 

1. دعوة للتلمذة (اش 50: 5- 9)

 

مما يُميز النبؤة الإشعيائيّة هي أناشيد عبد الرّبّ الأربع في الجزء الثاني من النبؤة (40- 55). وفي هذا النشيد الثالث يضع النبي بين أيدينا، دعوة التلميذ إذ يكشف عنها على لسان عبد الرّبّ الّذي هو بمثابة تلميذ الرّبّ. وهنا لفظ "عبد" هو لفظ لا يقلل من قيمته بل على العكس، هو لفظ شرفي. فقد دعا الرّبّ كبار الشخصيات الكتابيّة بهذا اللفظ، على سبيل المثال: إبراهيم، داود، ... إلخ. في النص النبوي، يكشف عبد الرّبّ، عن مصدر رسالته من خلال الأفعال الإلهيّة، الّتي تعود إلى السيّد الرّبّ قائلاً: «آتاني السَّيِّدُ الرَّبُّ لِسانَ تِلْميذ يَبعَثُ كَلِمَةً لِأَعرِفَ أَن أَسنُدَ الـمُعْيي. يُنَبِّهُ أُذُني صَباحاً فصَباحاً لِأَسمعَ كتِلْميذالسَّيِّدُ الرَّبُّ فَتَحَ أُذُني فلمِ أَعصِ ولا رَجَعتُ إِلى الوَراء» (اش 50: 4- 5). فكل أفعال الرّبّ هي الّتي حفزّت التلميذ ليتأهل في رسالته لأنه ترك ذاته يتعلم في مدرسة معلمه وهو السيّد الرّبّ مباشرة وليس أحد الربانيّين ولمّ يتعلم بالمدرسة النبويّة. مصدر تعليم وتلمذة عبدُ الرّبّ هو السيّد الرّبّ الّذي ينتمي له.

 

يعلن عبدُ الرّبّ، بعد أنّ كشف إنتمائه لمعلمه الإلهي، تأتي كلماته، في مرحلة تاليّة، عن تفاصيل رسالته الّتي يكشف قدّر المعاناة والألم الّذي تلقاه حتّى يُتمم رسالته مُعلنًا: «أَسلمتُ ظَهْري لِلضَّارِبين وخَدِّي لِلنَّاتِفين ولم أَستُرْ وَجْهي عنِ الإِهاناتِ والبُصاق السَّيِّدُ الرَّبُّ يَنصُرُني لِذلك لم أَخجَلْ مِنَ الإِهانة ولذلك جَعَلتُ وَجْهي كالصَّوَّان وأَنِا عالِمٌ بِأَنِّي لا أَخْزى. مُبرري قَريبٌ فمَنِ الَّذي يُخاصِمُني؟ فلنمثُلْ مَعاً مَن صاحِبُ دَعْوى عَليَّ؟ فليَتَقَدَّمْ إِلَيَّ. ها إِنَّ السَّيِّدَ الرَّبَّ يَنصُرُني فمَنِ الَّذي يُجَرِّمُني؟» (اش 50: 6- 9). هذه الكلمات تكشف عن قناعته بالدعوة الّتي وجهها له السيّد الرّبّ، لدرجة إنّه تحمل الألم لثقته بمعلمه السيّد الرّبّ. أمام الألم والإهانة، التلميذ الحقيقي لمّ يتراجع فترك ثقته فيمَن دعاه وفي معلمه الإلهي. عبدُ الرّبّ، هو صورة التلميذ الحقيقي، الّذي يتعلم ويثق وأمام الألم يعاني ولكن ثقته بأنّه لن يُخزى. مهدت مُناقشتنا لهذا النص النبوي للتعمق في كلمات يسوع بحسب مرقس الّذي يكشف عن حدث مُعاش يُسلم فيه يسوع بعض الملامح الّتي تخص التلميذ من خلال ثلاث مشاهد إنجيليّة يحتويها هذا اللقاء بين المعلم والجمع وتلاميذه.

 

 

2. علاقة المعلم بالتلميذ (مر 8: 27-35)

 

بناء على ما ناقشناه بالنص النبوي (اش 50: 4- 9)، يمكننا أن نقرأ نص العهد الثاني بحسب الإنجيلي مرقس (8: 27- 35). حيث نكتشف، بهذا المقال، هويّة التلميذ الحقيقي ونتسأل عن حقيقة هويتنا كتلاميذ. هذه الهويّة بالطبع مجرد محاولة سرديّة من جانب الإنجيلي، إلّا إنها تعلن الجديد. السرد المرقسيّ يكشف عن ثلاث مشاهد: المشهد الأوّل: هو إستفسار يسوع البسيط عن هويته وإعتراف بطرس التلميذ بمسيّانيّة الرّبّ (مر 8: 27- 30). المشهد الثاني: إعلان يسوع المعلم عن آلامه وموته وقيامته (مر 8: 31- 33). المشهد الثالث: نقرأ ردّ فعل بطرس التلميذ وتعلّيم يسوع المعلم عن التبعيّة (مر 8: 34- 37). سنتعمق من خلال المشاهد الثلاث بالتعّرف على ملامح تلميذ/ة الرّبّ الّتي تساعدنا كمؤمنين على تعمقّ علاقتنا بالمعلم، في إيماننا المسيحي اليّوم، بناء على هويّة تلميذ عبد الرّبّ بالعهد الأوّل بنبؤة اشعيا.

 

2.1. المشهد الأوّل: تساؤل المعلم (مر 8:  27-30)

 

 بحسب وصف مرقس، نرى يسوع كإنسان ذو قناعات لا تتزعزع. يسير المعلم في طريق حاسم في حياته، ويتعامل مع الإخفاقات والصراعات الأوّليّة، وعلامات تلك الصعوبات هي ذاتها الّتي ستؤدي به إلى الموت. في هذا الموقف بالتحديد المعلم لن يهرب أو يختبأ بل يواجه تلاميذه متحاوراً معهم من خلال تساؤل. فهو يريد أنّ يعرف ما يقال عنه كإنسان، وما يعتقده المقربيّن منه والتابعيّن له فيروي مرقس: «فسألَ [يسوع] في الطَّريقِ تَلاميذَه: "مَن أَنا في قَولِ النَّاس؟" [...]  "ومَن أَنا، في قولِكم أَنتُم؟" فأَجابَ بُطرس: "أَنتَ المسيح". فنَهاهُم أَن يُخبِروا أَحَداً بِأَمرِه» (مر 8: 27- 30). في هذا المشهد الأوّل من هذا النص، يخبر التلاميذ يسوع عن رأي الناس فيه قائلين: يوحنّا المعمدان، أو إيليا، أو أحد الأنبياء، ... إلخ، كل الأشياء الصحيحة الّتي تعترف بالشخصية النبويّة، تنكشف هويّة عبدُ الرّبّ في شخص يسوع الابن الإلهي. ثمّ يروي مرقس جواب التلميذ بطرس: "أنت المسيح!". بهذا الإعتراف نتلّمس الخطوة الكبيرة الّتي تنطلق نحو الأمام. يعلن بطرس في إجابته ليسوع، بالنسبة لنا أنت لست مجرد إحياء لشخصية من الماضي كما يظن الناس، ولكن كأنّه يقول أنت الذي أعطى الجواب لتوقعاتنا العميقة، أنت هو المسيح الّذي ننتظره. هذه هي الخطوة الأولى: المسيحيّ هو الّذي يكتشف في شخص يسوع ليس مجرد إحياء لنماذج من الماضي، بل تتجسد فيه الإجابة على كلّ توقعاته. مثل التلميذ الّذي رأى فيه كلمة الله غير المنشورة بعد. هذا المشهد الأوّل بالنص يؤهلنا لـمشهدٍ ثانٍ لاحق.

 

2.2. المشهد الثاني: إعلان يسوع سرّ الآمه (مر 8: 31- 33)

 

في هذا المشهد التالي حيث يسوع ينبئ لأوّل مرة بآلامه وموته وقيامته، وهو ما يمكن أنّ نطلق عليه عبور الأزمة. حيث يستمر يسوع في إعلان رسالته الخلّاصيّة مع تلاميذه وعلّانية. عند نقطة التمرد النابعة من بطرس التلميذ، والّذي لوقته يدعو يسوع جانباً ويبدأ بتوبيخه حيث: «إنفَرَدَ بِهِ بُطرُس وجَعَلَ يُعاتِبُه.التَفَتَ فَرأَى تَلاميذَه فزَجَرَ بُطرسَ قال: "إِنسَحِبْ! وَرائي! يا شَيطان، لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر"» (مر 7: 32- 33). يُنبه يسوع بشدة تلميذه الّذي ينحرف عن المخطط والفكر الإلهي. بطرس الّذي إعترف منذ قليل بمسيّانيّة يسوع، يقع فخ تجربة الشرير، ويرغب أنّ يُحيد يسوع عن مخطط الآب وهو تقديم ذاته وإتمام رسالته الخلّاصيّة. بطرس هو التلميذ الّذي يمثل كلّا منا اليّوم، والمدعو بأنّ يتوب عن فكره البشريّ ويفكر بفكر الله ويندمج في مخططه الإلهي وليس العكس. التلميذ/ة الحقيقي/ة هو الّذي يأخذ معيار حياته مخطط وفكر الله وليس العالم. التلميذ/ة هو الّذي يسعي لإكتشاف شخص يسوع باعتباره الكلمة الّتي تستجيب لكلّ توقعاته، ولكن عليه أيضًا أنّ يواجه حقيقة إنّ مثل هذه الكلمة لا يمكن إختزالها في توقعاته الخاصة. التلميذ/ة المسيحيّ/ة هو الّذي يُميز ما يجب أنّ يقوم به في مرحلة معينة حيث لا يتعارض مع فصح يسوع أي أنّ يعبر الألم دون الهروب منه. وهو الّذي يستامي ويدخل في منطق الله مُدركًا إنه ليس كمنطقنا البشري. يسمح المؤمن لنفسه بأنّ يقبل الوقوع في أزمة ما حيث يؤمن بأنّه، من خلالها يتمكن من اللقاء بالرّبّ الّذي يسبقه دائمًا دون أنّ يهرب منها. وهنا على مثال عبد الرّبّ يحتضن يسوع مخطط الآب له.

 

2.3. المشهد الثالث: ملامح التلميذ الحقيقي (مر 8: 34- 35)

 

في مواجهة ردّ فعل بطرس، يتوجه يسوع إلى كل التلاميذ والجموع معًا، الّذين نحن اليّوم، مُعلنًا متطلبات تبعيّة المعلّم قائلاً: «مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صَليبَه ويَتبعْنيلِأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذِي يَفقِدُ حَياتَه في سبيلي وسبيلِ البِشارَة فإِنَّه يُخَلِّصُها» (مر 7: 34- 35). من خلال هذا الإنعكاس بالفقدان في سبيل الخلاص، يكشف يسوع عن ملامح التلميذ الحقيقي حيث يعلمنا حقيقة أنّ نكون تلاميذه. يعني يسوع، في نهاية النص، بأنّ نكون رجالًا ونساءً يتمتعون بحياة حقيقية كتلاميذ، وليسوا أُناس مُتدينين فقط. يكشف لنا يسوع جوهر سرّ حياته بعبور الألم ليصل للقيامة. الإنقلاب لمنطقنا البشري الّذي قد لا نفهمه، بأنّ الحياة تُفقد بمحاولتنا الإحتفاظ بها، بينما نربحها متى قررنا تكريسها من أجل الآخرين. هنا يسمح التلميذ/ة الحقيقيّة ليسوع بأنّ يُبشر نفسه تاركًا لقيامة المسيح إمكانية تغيير حياته وليس ببرنامجه الشخصي.

 

 

الخلّاصة

 

يكشفا نصي مقالنا اليّوم سواء بنص اشعيا (50: 4- 7) الّذي يكشف عن ملامح خاصة بنا كتلاميذ، نحن الّذين نرغب في تبعيّة الرّبّ عن قُرب. من خلال دعوة التلميذ وهو "عبد الرّبّ"، الّذي لمّ يرفض أو يهرب أمام الألم، بل يقرر عبوره بسبب ثقته في مّن دعاه وهو السيّد الرّبّ. هكذا يصف إنجيل مرقس (8: 27- 35) ملامح وجه تلميذ/ة يسوع، ذلك الوجه الّذي ينكشف لنا في كل مرة قررنا فيها تبعيّة المعلم والّتي تدعونا للتخليّ عن منطقنا والسعيّ بجديّة للدخول في المنطق الإلهي حتى وإنّ كان مُحملاً بالألم.وهذا يكشف بأن الإرادة في قبول الزهد وتحمل الصلّيب أي الألم البشري بداية تعطي ملامح حقة للتلاميذ/ة الّذي يرغب في تبعيّة يسوع حبًا في الآب وثقة في المعلم الّذي يدعوه. دُمتم في مسيرة تبعيّة للرّبّ تاركين حياتكم لتتجمل بملامح التلميذ/ة الحقيقيين.