موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في الأزمات، أيان كانت مسبباتها وتداعياتها، الأمر سيّان فهي إلى زوال مهما طالت. العبرة دائما في القدرة على ثلاثة أمور: تفاديها، إدارتها، والتعامل الإيجابي مع نتائجها. إن خيرا كان عظّمناه، وإن غير ذلك، تعاهدنا على الاستفادة من الدروس والعبر وتصويب المسار أو تغييره كليا، إن لزم الأمر. فالمضي قدما على مسار تصادمي، أو إلى هاوية، لا يعني سوى الانتحار، والانتحار حرام، والنزعات والسلوك الانتحاري غير لائق بالنفوس الحرة.
سخر أحد عباقرة البشرية يوما ما من إعادة تجريب المجرب وانتظار نتائج مغايرة! آينشتاين لم يسلم ممن أراد مزاحمته ومنازعته مكانته. فكم من «العباقرة» الذين يصرون على إعادة استخدام الأسطوانة المشروخة ذاتها في الأزمات كافة، ربما على مدى قرون!
السياسة دائبة الحركة. لا ثوابت فيها إلا ما يرقى إلى الروح والعقائد الخاصة بالوجود وعلاقة الخالق سبحانه بمخلوقاته. من غير المعقول الحكم على أزمات اليوم بأدوات الماضي، خاصة تلك التي أدت إلى توالدها توالد الانشطار أو الاجترار!
تقتضي «نسبية» آينشتاين وجاذبية تفاحتي إسحق نيوتن وستيف جوبز -الأمريكي سوري الأصل- تقتضي فهم قوانين الحركة واحتمالات التصادم وعواقبه، فلا أقل من أخذ كل موقعه والتزام كل بمسربه. لا يكون مصير العباقرة القائلين إن «كله ماشي» إلى الكوارث العدمية أو عدمية العبث، فلا بعث لماضٍ تليد ما لم يكن قادرا على استشراف المستقبل البعيد أو أقله القريب فالمتوسط.
من الكارثة في بعض ما نقرأ ونسمع ونشاهد أن يتزاحم المقبلون أو المدبرون، الهجوميون أو الانهزاميون، ولا ننسى الانتهازيين والانتحاريين، من الكارثة أن يتبادل كل فريق الأدوار والمسارات أيضا، فيصير «المشي» صداما أو زحاما يعطّل المسير! من غير المعقول أن يدلي أكاديمي بدلوه كما السياسي، أو الشاعر، أو الواعظ، أو مشجع في نادٍ رياضي، أو مجرد متفرج عابر للحدود العنكبوتية، فينظّر عن «بيوت العنكبوت» أيها أكثر وَهْنا، وعلاقة خيوطها بموقع ذلك البيت أو ذاك، من خطوط العرض والطول! منطق الاقتصاد والسياسة والقوة والحركة واحد ما تغيّر مع قيام نظم وامبراطوريات وأحلاف وسقوطها.
الطامة الكبرى عندما ترى من نظّر لانتصار نظم وتنظيمات جلبت الدمار على بلادها على مدى نصف قرن ونيّف، تراه على بعض الشاشات والمنصات، يعمل على توعية الجماهير الغفيرة كيف تربح حروبا وقد خسرت أنفسها بازدرائها قوانين الأشياء غير القابلة للتأويل، وموجبات النجاح غير القابلة للتصرف.
الإمعان في تكرار أخطاء الماضي لن يؤدي إلا إلى المزيد من الخسائر والتعطيل وتشتيت الانتباه وتبديد الطاقات. إدارة أي أزمة يبدأ كما في علاج الأمراض بحسن التشخيص، وتوظيف وتحفيز الجسم كله على مواجهة كل ما هو دخيل، وكل ما هو مؤذٍ وكل ما هو غير نافع.
القول إن الحرب أو الأزمة تعني الجميع، لا يمنح الحق للكل في «التنظير من وسع» والدفع باتجاه احتمال المختصين لفضفضة وثرثرة على منوال «كله ماشي» وكل يدلي بدلوه! الناس أحرار فيما تقول لكن العبرة بما يقال في خضم الأزمات والمحن، وإلى أين المسير، بصرف النظر أحيانا عن القائل إن كان متخصصا أم متطفلا أم مدّعيا. ثمة «كلمة حق يراد بها باطل» فما بالك بالصوت والصورة وما تفعله الخوارزميات بالسرديات!
حتى لا تهيم الناس وتتيه في الملمات، نذكر بعرفان ووقار من تراثنا الجميل الروحي، ما يندرج تحت إطار ليس فقط رضى الوالدين، بل ربما آداب السياسة وأصولها، سيما فيما يخص التعامل مع القادة، بعيدا عن هيلمان المَسيرات "المُسيّرات"!
علّمنا الكبار كيف يكون المشي في ركاب الوالدين وكنفهما. المشي من أربع جهات، لكل معناها. والمشي سريعا أو هونا له أوانه ووتيرته. لا يتقدّم أحدٌ الكبيرَ إلا فداء له. ولا يتأخر عنه إلا توقيرا له. ولا تكون ميمنة ولا ميسرة إلا إكراما واحتضانا، احتضان العون والمدد، فزعة وعزوة.
لم تكن الأزمة الراهنة والحرب القائمة الأولى ولن تكون الأخيرة ما دام في الأرض مصالح، وصالح وطالح. ارجع النظر إلى ما مضى وكيف كانت النجاة في الحروب والأزمات السابقة، ترى من صدق أهله وصدّ عنهم الأذى. العبرة في الطريق القويم والنهج السليم. فالكثرة والجَلَبة والصوت العالي لا يعني الحق بالضرورة أو الغلبة أبدا، فكم ممن ضللوا أتباعهم بشعارات ثبت كذبها أو فشلها، قد ألقوا بهم إلى الهاوية بعد الصعود بهم إليها!
(الدستور الأردنية)