موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٩ مايو / أيار ٢٠٢٥

الاستقلال حين يصبح مشروع تعليم وثقافة

مالك العثامنة

مالك العثامنة

مالك العثامنة :

 

في كل عام، تطل ذكرى الاستقلال، فتفتح أمامنا بابًا للتأمل لا يقل أهمية عن أبواب الاحتفال.

 

 هي ليست فقط محطة زمنية في الذاكرة الوطنية، بل فرصة لإعادة طرح السؤال الجوهري: ما الذي يعنيه أن تكون دولة مستقلة في القرن الحادي والعشرين؟

 

الاستقلال، بمفهومه العميق، لا يقتصر على مغادرة المستعمر ، بل يبدأ حين نتحرر من استعمار أخطر: الجهل والتبعية الفكرية والانغلاق الثقافي، ولأن بناء الدولة الحديثة لا يتحقق إلا ببناء الإنسان، فإن بوابته الكبرى تبدأ من التعليم، وتُستكمل بالثقافة.

 

التعليم هو القاطرة التي تجرّ خلفها كل عناصر التقدم، لا يمكن لأي أمة أن تستقل فعلا، إن لم تحرر عقل أبنائها من جمود التلقين إلى فضاء الإبداع، فالمدارس يجب أن تكون منصات لتوليد الأسئلة، لا قاعات لحفظ الإجابات الجاهزة، كما الجامعات التي يجب أن تعود إلى دورها الطبيعي كحاضنات للبحث والمعرفة، لا مجرد ممرات إلى الشهادات وسوق العمل.

 

المعلم، الذي لطالما كان عماد المجتمعات المتقدمة، لا بد أن يُستعاد كرمز وطني، يُمكّن لا يُرهق، ويُكافأ لا يُهمّش، فبدونه لا يمكن بناء جيل مستقل التفكير، مسؤول، وواعٍ لقضاياه، سواء كانت محلية أو إنسانية.

 

ولا بد أن يرتبط الإصلاح التعليمي برؤية وطنية تدمج بين مهارات العصر وقيم المجتمع، فالتعليم الذي لا ينتج وعيًا بالعدالة والحرية والانتماء، ليس إلا قشرة من التقدم تغيب عنها الروح، ويجب ألّا يكون التعليم متاحًا فقط، بل أن يكون عادلًا في جودته، وموصلًا لفرص متكافئة لجميع فئات المجتمع.

 

أما الثقافة، فهي ليست ترفًا ولا نشاطًا موسميًا يُستدعى في المناسبات، بل هي العمق الذي يمنح للاستقلال جذوره في الوعي، وحين تكون الثقافة قائمة على النقد والتعدد والانفتاح، فهي تسهم في ترسيخ دولة العقل لا دولة الشعار، والثقافة الجادة هي التي تطرح الأسئلة، تكسر القوالب، وتُخرج المجتمع من وهم الاكتفاء إلى فضاء التجدد.

 

ولعل أخطر ما يهدد الثقافة الوطنية هو اختزالها في المهرجانات والاحتفاليات الشكلية، دون مشروع فكري متماسك، ومن هنا فلا بد أن تُعاد صياغة العلاقة بين الثقافة والمواطنة، لتكون الثقافة أداة تفعيل للمجتمع، لا تزيين له، فالثقافة الحيّة لا تتشكل من فوق، بل تحتاج إلى تمكين الفاعلين الثقافيين، وحمايتهم من الإقصاء أو الاحتواء، وإطلاقهم في فضاءات الإبداع بلا حدود.

 

وفي ظل عالم سريع التحول، لم تعد أدوات الأمس تصلح لتحديات اليوم، فالرقابة على الفكر، وتدجين الثقافة، وتوجيه التعليم بوسائل تقليدية، لم تعد تؤتي ثمارها. فالمجتمع اليوم أكثر وعيًا، وأكثر اتصالا بالعالم، وأكثر تطلعا للكرامة المعرفية.

 

ولأن الاستقلال ليس مجرد ذكرى، بل مسؤولية، فإن تحويل هذه المناسبة إلى نقطة انطلاق سنوية لمشروع وطني هو ما يليق بها. وليكن عنوان هذا العام "الاستقلال يبدأ من التعليم والثقافة". فبناء الإنسان، وعيا ومعرفة، هو وحده ما يضمن بقاء الدولة قوية، متوازنة، وعادلة.

 

عندها، يصبح الاحتفال بالاستقلال فعلا وطنيًا منتجًا.

 

(الغد الأردنية)