موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٢ أغسطس / آب ٢٠٢٥

"سلام أم إنقسام!" بين كاتبي نبؤة ارميا والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (ار 38: 4- 10؛ لو 12: 49- 53)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (ار 38: 4- 10؛ لو 12: 49- 53)

 

الأحد العشرون (ج)

 

مُقدّمة

 

سنتناول في مقالنا اليّوم الكلمات الإلهيّة الّتي تدور حول مضمون الــ "سلام أم إنقسام!". من خلال نص العهد الأوّل الّذي نقرأ فيه جزء هام من حياة النبي الشاب ارميا (38: 4- 10)، حيث نرى النبي مرفوضًا بل مُدانًا بسبب الكلمة الإلهيّة الّتي يعلنها مما يصير علامة إنقسام ويُتهم بأنّه رجل كوارث أي ليس برجل سلامّ يُمثّل مصير ارميا كمصير الأنبياء السابقين له، فندرك أنّ مَن يحمل كلمة الله يشارك أيضًا في مصيرها سواء قبولها أو رفضها. ترتبط حياة النبي برسالته النبويّة. من هذا المنظور، يُمكننا قراءة مُتوازيّة لهذا النص حيث سنتوقف أمام مقطع من العهد الثاني بحسب لوقا (12: 49- 54) حيث تترك كلمات يسوع صدى في تعلّيمه لنا اليّوم حيث يعتمد مصير التلاميذ على معنى رسالة يسوع ذاته من خلال الرسالة الناريّة الّتي يحملها ابن الله لتطهير العالم. مدعوين من خلال هذا الـمقال التحرر من كلّ الإنقسامات والإصغاء لكلمة الله لأنّها تحررنا.

 

 

1. النبي الـمُتألم (ار 38: 4- 10)

 

يروي كاتب نبؤة ارميا رسالة نبويّة في هذا الـمقطع حول آلام النبيّ الشّاب ارميا منذ بدء آيات الإصحاح السادس والثلاثون. حيث يشير الكاتب بأنّ سبب آلام النبي هو إعلانه لكلمة الرّبّ حقيقة. فقد إعتمد النبيّ، بسبب آلامه، على توصيله الرسالة لمعاصريه بواسطة تلميذه باروك في توصيل رسالة الرّبّ النبويّة. إلاّ إنّ الملك وحاشيته لم يقبلوا كلام الرّبّ وبالتالي قاموا بالقاء النبي في الجبّ المليء بالوحل عقابًا لأنه حمل رسالة دينونة وليس خلاص.

 

حينما سمع حاشية الـملك كلام الرّبّ على لسان ارميا وباروك قرروا الإنتقام منه ظلمًا، قائلين: «ليُقتَلْ هذا الرَّجُل، فإِنَّه إِنَّما يُرْخي أَيدي رِجالِ القِتالِ الباقينَ في هذه المَدينةِ وأَيدي كُلِّ الشَّعب، حينَ يُكَلِّمُهم بهذا الكَلام، لِأَنَّ هذا الرَّجُلَ لا يَطلُبُ لِهذا الشَّعبِ سَلاماً، بل بَلْوًى» (ار 38: 4). لقد تمّ إتهام ارميا النبي كرجل الكوارث والمصائب لأنّه كشف حقيقتهم وإنقساماتهم إذ أعلن إدانة الرّبّ لهم. ومع الـملك صدقيا لم يفعل شيئًا بل سلّمه لرجاله الّذين بحسب النص اخذوا النبي: «فأَخَذوا إِرمِيا وأَلقَوه في جُبِّ مَلكِيَّا ابنِ المَلِكِ الَّذي في دارِ الحَرَس، ودَلَّوا اِرمِيا بِحِبال. ولم يَكُنْ في الجُبِّ ماء، بل وَحْلٌ فغاصَ ارمِيا في الوَحْل» (ار 38: 6).

 

عُوقب النبي وهو رجل الكلمة الإلهيّة من معاصريه لأنه لا يعلن ما يريدونه من خلاص بل يكشف إنقسامهم وخيانتهم، تكشف كلماته دسائسهم ووضعهم الـمُخجل والّذي بلا أمانة تجاه الرّبّ إلههم. ما يُمكننا أنّ نراه بوضوح في هذا المقطع إنّ النبي، إذ يحمل كلمة الله التي تُفسر التاريخ وتُشير إلى المنطق الّذي نتعامل به مع المواقف الّتي نمر بها، يُولّد الإنقسام. هذا الإنقسامٌ لا يظهر فقط بين الناس، بل حتى في قلوب الأفراد، كما يتبين من سلوك الملك صدقيا. ولذلك، صار مصيره الإلقاء في الجبّ بل غائصًا في الوحل بسبب رفضهم لكلمة الله. إذن لا مفرّ من أنّ تُسبب الكلمة إنقسامات حتى في أعمق العلاقات الإنسانية وأكثرها تأثيرًا. وهذا ما سنراه بوضوح في تفسيرنا لكلمات يسوع التاليّة بحسب لوقا، الّذي جاء ليكشف الإنقسام الباطني والخارجي أيضًا (راج لو 12: 52-53).

 

 

2. لماذا جاء يسوع؟ (لو 12: 49- 53)

 

يتساءل الإنجيليّ في هذا الـمقطع عن سببب مجئ يسوع لعالمنا؟ وسيساعدنا من خلال كلمات يسوع ذاته الكشف عن الإجابة علانيّة أمام تلاميذه قائلاً: «جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت! وعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً» (لو 12: 49- 50). يشير لوقا الإنجيليّ في هاتين الآيتين إلى مُصطلحان رئيسيان وهما النّار والمعموديّة.

 

في الواقع، يتألفن هاتين الآيتين من جملتين متوازيتيّن بهذا الشكل المتوازيّ:

 

جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!

 

وعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً

 

 تبدأ كل آية بمصطلح خاص الأولى مصطلح "النَّار" والثانية مصطلح "المعموديّة" مما يساعدنا على متابعة التوازي الكتابي حيث كلّ مصطلح يُنير الآخر. وإذا تسألنا ما الّذي يُشير إليه يسوع عندما يتحدث عن النّار؟ في الكتاب المقدس، لهذا العنصر معان عديدة. أولًا، تُستخدم النّار للتطهير وغالبًا ما تُشير إلى الدينونة. كما يُمكن أنّ تُشير النّار إلى العقاب الإلهيّ. على سبيل الـمثال يروي كاتب سفر التكوين مصير مدينتي سدوم وعمورة (راج تك 19: 24ت). وأخيراً نتذكر قول تلميذيّ الرّبّ يعقوب ويوحنا ليسوع قائلين: «يا رَّبّ، أتريد أنّ نُنزل نارًا من السماء فنُفنيهم؟» (لو 9: 54). وهناك نصوص عديدة في الكتاب المقدس يظهر فيها معنى النّار كعقاب ودينونة.

 

ولكن هناك أيضًا نوع آخر من النّار، وهي الّتي يلقيها بيننا يسوع اليّوم، وهي النّار الّتي تشتعل في قلب الشاب ارميا حينما أشار بقوله عن الرّبّ: «لا أَذكره ولا أَعودُ أَتَكلَمُ بِاسمِه لكِنَّه كانَ في قَلْبي كنارٍ مُحرِقَة قد حُبِسَت في عِظامي فأَجهَدَني اِحتِمالُها ولَم أَقْوَ على ذلك» (ار 20: 9). هذه ليست نارًا للعقاب أو للدينونة، بل هي صورة تُشير إلى شيء لا يُقهر. فالنبي عاجز عن كبح كلمة الله الّتي يحملها في داخله. في مقطع آخر من ذات النبؤة، ورد أنّ كلمة الرّبّ كالنّار على لسان الرّبّ القائل: «أَلَيسَت كَلِمَتي كالنَّار، يَقولُ الرَّبّ وكالمِطرَقَةِ الَّتي تُحَطِّمُ الصَّخْر؟»  (ار 23: 29). ويتحدث كاتب سفر سيراخ عن مجيء إيليا بالإشارة إلى النّار قائلاً: «وقامَ إيليَّا النَّبِيُّ كالنَّار وتَوقَّدَ كَلامُه كالمِشعَل» (سي 48: 1). وأخيرًا، لا يسعنا أنّ ننسى نارًا أخرى ذات أهميّة كتابيّة وهي النّار الّتي كشف الله من خلالها عن ذاته لموسى في العليقة المشتعلة (راج خر 3: 2). إنّها النّار الـّتي تشتعل دون أنّ تُفني. إنّها صورة مؤثرة تُشير إلى واقع كالنّار التي تُعتبر عادةً مُدمرة، لكنها في الواقع تشتعل دون أنّ تُدمر شيئًا أو أحداً. في مقطعنا بحسب إنجيل لوقا، يمكن إستجلاء معنى النّار الّتي يتحدث يسوع عنها وإنّه جاء خصيصًا ليُنزلها على الأرض من خلال الإشارة إلى هذه الخلفية الكتابية بالعهد الأوّل وهي بالأحرى النّار الـمُطهرة.

 

يوحي كشف يسوع بأنّ النّار لا تُعتبر هنا بمثابة عقاب أو دينونة بل هي النّار حقيقةً إيجابية كتلك الّتي إحترقت في عظام النبي ارميا، كما نوهنا قبلاً هي ذاتها الّتي جاء يسوع ليلقيها على أرضنا البشريّة وهي بمثابة نار الكلمة الإلهيّة الّتي تُطهرنا دون أنّ تفنينا.

 

تشير عبارة يسوع "لقد جئت" إلى جوهريّة رسالته وإعلان سبب تجسده وهو إلقاء هذه النّار بالتحديد. و"النَّار" الّتي أراد يسوع لينزلها على عالمنا ليست عقابًا إلهيًا لنا كبشريّة خاطئة، بل هي نار كلمة الله ونار الرّوح القدس اللذان يُغيّران أرضنا وعالمنا البشريّ ويُجدّدانهم. النّار هي بمثابة كشف وجه الله الّذي يتم من خلال حضور وتعليّم يسوع. فهذا الكشف بمثابة نار العليقة الـمُشتعلة في جبل سيناء، فهي تحترق دون أنّ نُفني.

 

أما بالنسبة للمُصطلح الأساسي الثاني بالنص هو لفظ "المعموديّة". وبسبب هذه الحقيقة، يُصرّح يسوع بأنه سيُعاني حتى يتمّ ذلك. في الكتاب المقدس، قد تُشير المعموديّة أيضًا إلى الموت (راج مر 10: 38). هنا يُشير يسوع إلى نهايّة حياته الأرضيّة والّتي ستكون حياة مُتسمة ببذل ذاته حتى النهاية. في هذا النص، يكشف لنا يسوع أيضًا عن رغباته ومخاوفه كاشفًا عن الـموت، مُقارنًا بالـمعموديّة الّتي قد تجذبه إليها الخطة الإلهيّة.

 

 

3. النّار هي حياة (لو 12: 51أ)

 

إذا ربطنا، كما يُشير نص لوقا نفسه، بين مصطلحي "النّار" و"المعموديّة"، فسنرى كيف يُنير أحدهما الآخر، ويُتيح لنا فهم الآيات التالية من هذا النص بشكل أفضل. في الواقع إنّ النّار الّتي جاء يسوع ليُلقيها على الأرض، والّتي رغب في أنّ يراها مُشتعلة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بخطته الخلاصيّة. يسوع هو كلمة الله لبشريّتنا. كلمةٌ تُنطق في تعليمه وفي حياته البشريّة الّتي تكللت بتقديم ذاته طواعيّة. بهذا المعنى، فإنّ النّار الّتي جاء ليُلقيها يسوع على الأرض هي حياته الّتي تُصبح بذرة إنسانية جديدة. من خلال هذا الـمقطع، يُمكننا استعادة معنى النّار كدينونة حيث إنّ حياة يسوع هي دينونة لوجودنا كنساء ورجال بكلّ العصور. بهذا المعنى، فإن النّار الّتي جاء يسوع ليُلقيها على الأرض هي أيضًا دينونة إلهيّة على البشريّة، دينونة مبنية على شريعة الحبّ. من هذا المنظور يُكرر يسوع مجددًا تعبير «أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئتُ» (لو 12: 51أ)، ليدللّ على العلاقة بين ما قاله وجوهر رسالته الخلاصيّة حيث لا يتعلق الأمر بطبيعة رسالته بل بنتائجها. فالنّار الّتي ألقاها يسوع تجسدت في حبه للبشريّة في حياته الّتي بذلها لأجلنا.

 

 

4. سلام أم إنقسام! (لو 12: 51ب- 53)

 

يُفاجئنا يسوع بقوله: «أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئتُ لأُحِلَّ السَّلامَ في الأَرْض؟ أَقولُ لَكُم: لا، بَلِ الِانقِسام. فيَكونُ بَعدَ اليَومِ خَمسَةٌ في بَيتٍ واحِدٍ مُنقَسمين، ثَلاثَةٌ مِنهُم على اثنَينِ واثنانِ على ثَلاثَة: سيَنقَسِمُ النَّاسُ فيَكونُ الأَبُ على ابنِه والابنُ على أَبيه، والأُمُّ على إبِنتِها والبِنتُ على أُمِّها، والحَماةُ على كَنَّتِها والكَنَّةُ على حَماتِها» (لو 12: 51ب-53). لم يأتِ يسوع ليُلقي السّلام! كيف لرجل السّلام أنّ يعلن هذا والآن؟ في الواقع، في جميع صفحات الكتاب المقدس، يتكرر لفظ السّلام كهبة الله الـمسيانيّة لشعبه بامتياز.

 

في الكتاب المقدس نعمة "السّلام" مُرادف لـ"ملء الحياة والخلاص". القائم من بين الأموات، عندما يُقدّم نفسه للتلاميذ، سيُعلن لهم السّلام. في هذا النص، لا يُذكر السّلام بهذا المعنى، بل بمعناه الـمُتمثل في الوحدة والوئام. لا يقصد يسوع إنّه جاء ليُثير الإنقسام، بل إنّ كلمته وحياته سبب للسّلام لا محالة. في الواقع، إنّ النّار الّتي جاء ليُلقيها على الأرض، هي جوهر رسالته، هي كلمته النبويّة الّتي تدين كما رأينا بوضوح في كلمات النبي ارميا. ولكنها كلمة تجعل الإنسان ينقسم بداخله وخارجه حتى يُحقق السّلام المسيّاني حقيقة بجياته دون زيف.

 

 

الخلّاصة

 

في هذا المقال، تتبعنا في نصي الكتاب المقدس بحسب النبي ارميا (38: 4-10) الّذي كشف إنقسامات الملك وحاشيته على ضوء إعلانه لكلمة الرّبّ لهم. وبحسب لوقا (12: 49-53)، أصغينا إلى رغبات ومخاوف يسوع الكامنة بقلبه وبكلمته. وهذا أمرٌ مُلفتٌ للنظر، لأننا على الطرّيق نسير معه نحو أورشليم، فالأمر يتعلق أيضًا بفهم رغباتنا ومخاوفنا، مُثبّتين أنظارنا على يسوع. مدعوون نحن أيضًا لنشعر بنار ارميا الّتي إشتعلت بباطنه وظهرت في إعلان كلمة الرّبّ دون خوف ومجاملات فهي الكلمة الّتي لا تُقهر. علينا بالسعي الدوؤب لأن تشتعل هذه النّار في جميع بيوتنا وكنائسنا ومجتمعاتنا وفي كلّ أنحاء الأرض. مدعووّن في الوقت ذاته بألا نخشى الإنقسامات الّتي تُثيرها حتمًا دينونة كلمة الله بل تصير تطهيريّة لتكون حياتنا مطابقة لما نصليه ونقرأه في كلمة الله. وعلينا بالإنتباه لأننا معرضين وبإستمرار لمقاومة لكلّ الإنقسامات النّار والـمعموديّة اللتين شكلتا حياة يسوع بالكامل ليكشف وجه الآب وكلمته. مدعوون للحافظ دائمًا على هذين العنصريّن معًا إذا أردنا ألاّ تفقد كلمة الرّبّ قوتها وثقلها. ونحن بمثابة تلاميذ يسوع اليّوم، علينا مواصلة رسالته، حاملين بباطننا وبحياتنا ذات النّار، نار الكلمة، الّتي تشتعل دون أنّ تُدمرنا، ودون أنّ تفقد قوتها بل مثل يسوع تحررنا من الإنقسامات الباطنية والخارجيّة وتكشف عن خطة الله لنا. دُمتم في مواجهة الإنقسامات البشريّة الّتي لن تكسرنا بل تُمكننا النّار الإلهيّة من مواجهتها وتحررنا منها على ضوء كلمة الرّبّ.