موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في مِثلِ هذا اليَومِ يَبدأُ فَصلٌ جَديدٌ مِنْ حياةِ السَّيِّد المسيحِ لَهُ المَجد، فَصلٌ جَديدٌ مِنْ هذهِ البِشارة، مع أَنَّ البِشارة تُرفَقُ بِالسّارةِ دائمًا، لكنَّها في هذا الفَصل بِالذّات، قَد تَبدو كَلحنِ نَشازٍ في مَعزوفةٍ عَظيمة، بَعدَ أَنْ كُنّا نَقرأُ قَبلَ بِضعِ فُصولٍ قَليلَةٍ أَنَّ المَسيحَ دَخَلَ أورَشَليمَ كَمَلِكٍ. -مَلِكٌ على القُلوبِ- اُعلِنَ مَلِكً مِنَ الشَّعبِ، لا بِفَرضِ سِلاحٍ.
نَراهُ اليَومَ يُخانُ مِنْ مَنْ سَمِعَهُ ورآهُ وَلَمِسَهُ "ذاكَ الذي كانَ مُنذُ البَدءِ، ذاكَ الذي سَمِعْناهُ، ذاكَ الذي رأَيناهُ بِعَينَينا، ذاكَ الذي تَأمَلناهُ وَلَمِسَتهُ يَدانا" (1 يوحنا 1: 1). سَمِعَ مِنَ التَّعاليمِ ما لَمْ يَجرؤ أَحَدٌ على تَعلِيمِهِ مِنْ قَبل، رأى مِنَ المُعجِزاتِ ما لَمْ يَدَّعى آخَرَ بِقُدرَتِهِ على فِعلِها، وَلَمَس بِيدِهِ جَسداً اختارَهُ اللهُ لِيكونَ عَرشاً مُتواضِعاً يَحتَويه، عاشَ واختَبَرَ حُضوراً وَسُلطاناً لَمْ يُرى مِثلُهُ في التّاريخ. "لأنَّهُ كانَ يُعَلِّمُهُم كَمَنْ لَهُ سُلطان" (متى 7: 29).
تَفاسيرٌ وَنَظَريّاتٌ وتَحليلاتٌ كَثيرةٌ أَخَذَتْ في فَحصِ دَوافِعِ هذا المِسكين الشَّقيّ، وكُلُّ هذهِ الأُطروحات قَد تُبنى بِشَكلٍ مُباشرٍ أو غَيرَ مُباشرٍ على الكِتابِ المُقَدَّس:
- منهُم مَنْ قالوا حُبُهُ لِلمال: مُستَنِدينَ على تَعليقِ الإنجيليّ يوحنّا في حادِثَةِ دَهنِ مَريمُ أُختِ أليعازرَ لِقَدَميّ يسوعَ، بِذاكَ الطيبِ المَصنوعِ مِنَ الناردين الغالي، فاعترضَ يَهوذا قائِلاً أَنَّهُ مِنَ الأَولى أنْ يُدفَعَ ثَمنُ هذا الطيبِ لِلفُقراءِ، لكن يُوحنا يُعَلِّقُ على قَولِ يَهوذا ب"ولَمْ يَقُل هذا لِاهتِمامِهِ بِالفُقراء، بَلْ لِأَنَّهُ كانَ سارِقا وكان صُندوقِ الدَّراهِمِ عِندَهُ، فَيَختَلِس ما يُلقى فِيهِ" (يوحنا 12: 6).
- وغَيرُهُم قالوا أَنَّهُ أراد أن يُرغِمَ المسيحَ على إِظهارِ لاهوتِهِ أَمامَ العالَمِ بِأَسرهِ: مُستَخدِمينَ قَولَ يهوذا آخرَ "يا رَبّ، ما الأَمرُ حتى إِنَّكَ تُظهِرُ نَفسَكَ لَنا ولا تُظهِرُها لِلعالَمِ؟" (يوحنا 14: 22)، مُعتَقِداً أَنَّهُ لا حَلَّ إلا بِمواجَهَةِ المعلِّمِ بالشَّرِ ليُظهِرَ هذا الإِلهُ سُلطانَهُ وجَبَروتَهُ بِكَمالِهِما.
- وآخرينَ قالوا قَد خابَ أَمَلَهُ في مُعَلِّمِهِ كَما خابَتْ ظُنون كُلُّ مَنْ كانَ يَحلُمُ بِمَلكٍ يُقصي الرومانَ وَيَكسِرَ غُرورَهُم ويُحَطِّمَ مُلكُهُم، فَخَسِرَ إيمانَهُ بِهِ، فاعتَقَدَ أَنَّه أضاع سنيناً مِنْ عُمرِهِ مَعْ مُعَلِّمٍ كاذبٍ أو مَجنون.
لكنْ السُّؤالُ الأَهّم في هذهِ اللَّحظةِ: ما هيَ دَوافِعي أنا اليومَ لأَن أشتَركَ في لُقمَةِ وقُبلَةِ الخيانة؟! ما الذي يَمنَعُني مِنَ الاشتِراكِ في مائِدَةِ الرَبِّ كِتلميذٍ يَجلِسُ عِنْدَ قَدَميّ مُعَلِّمِهِ لِيَأكُلَ مِنْ شَهدِ تَعاليمِهِ، ما الذي يَحولُني دونَ أَنْ أَشتَرِكَ في جَسَدِ الرَبّ وأنا مُزمِعٌ أَنْ أتَناوَلُها باستحقاق؟. فَفي كُلِّ مَرَةٍ أتَناوَلُ فيها جَسَدَ الرَبِّ دونَ استِحقاق، يَتَمَثَّلُ بي يَهوذا وَلُقمَتُهُ الخائِنة في ذاكَ العَشاءِ قَبلَ تَسليمه للرب.
يَجِبُ عَلَينا في هذا الزَّمن، أَنْ نَقصُدَ تَطهيرَ جِراحاتِ خِيانَةِ المسيح في أَبناءِهِ وإخوَتِنا، في هذا الوقت يَظهَرُ مَنْ هو يَهوذا الذي يَأِسَ مِنْ رَحمَةِ الله، ومَنْ هو بُطرس الذي أَخطأَ -نَعَمْ-، لكِنَّهُ ارتَمى في حِضنِ رَحمَةِ المسيح، لِأَنَّه تَقَبَّل ضُعفَهُ البشريّ، واستَغَلّ بإيمانٍ ضُعفَ اللهِ اتجاهَ ابناءِهِ التائِبين.
هذا هو زَمنُ التَّوبَةِ وزَمنُ الرُّجوعِ إِلى اللهِ وزَمنُ مُرافَقَةِ يَسوعَ إِلى الجُّلجُثة لِنَحيا مَعَهُ المَجدَ الأبديّ. إِنَّهُ خَميسُ الأَسرار، فَليَكُن هذا خَميسُ أسرارِكَ أَنتَ بِتَحولِ مَسارِ حَياتِكَ باتجاهِ المسيحِ المَصلوب.