موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
تَضَعُنا الحياةُ دائِماً بَيْنَ مَجموعَةٍ مِنَ الخَيارات، يَكادُ لا يَمضي يَومٌ إِلا وَنَجِدُ أَنفُسَنا أَمامَ مَوقِفٍ لِاتخاذِ قَرارٍ - كانَ هذا القَرارُ لِأَمرٍ صَغيرٍ عابر، أمْ كانَ مَصيرياً يَتَرَتَّبُ عَليهِ تَغيرَ وِجهَةِ الحياة، قَدْ تَكونُ إِحدى مَشاكلَ أو دعني أَقُول مِحنَةُ إِنسانِ هذا العَصر هي أَنْ يَجِدَ نَفَسَهُ في مَوقِفٍ عَليهِ أن يَتَّخِذَ قراراً، فَهوَ يَخافُ مِن القرارات، فالقرارُ يَعني الحُريّة وهذه الحرية لا يُمكِن أَنْ تَنفَصِل عَنْ مَسؤوليتها المُتَرتِّبة عليها، لذلك سَنَهرُب في أَولِ فُرصةٍ تُتاحُ لنا مِن حُرِّيتنا المزعومة.
في هذا اليَوم مِنْ حَياةِ السَّيِّدِ المسيح العَظيمِ كَحُزنِهِ، يَمتَلئ بِمَشاهدِ التَخيير والاختيار، نَجدُ بيلاطُسَ أَمامَ خَيارَين، إما الانتصارُ لِلحَقّ أو الحِفاظُ على السُّلطَةِ، نَجِدْ القَيروانيّ ذاك القديس الليبيّ القادِم مِنْ افريقيا، مَعْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الاختيار بَيْنَ حَمْلِ الصَّليب أَمْ تَركِهِ فَقَدْ أُكرِهَ على حَملِهِ، لكنَّهُ وَجَدَ نَفَسَهُ أمامَ خَيارَين أَيضاً، إِمّا حَمل الصَّليبِ مُرغَماً وَمُستاءً، شاتِماً سوءَ حَظِّهِ، أو حَملِهِ راضِياً ومُفتَخِراً بِمُساعَدَةِ مَظلومٍ في تَحَمُلِ آلآمِ الظُّلم الواقِعِ عَلَيه، وأَعظَمُ هذهِ الأَمثِلةِ وأَكثَرُها غَرابَةً هي القرارُ الذي كان على اليَهودِ اتِخاذَهُ، بَينَ يَسوعَ الناصِريّ أو برأبا، يَختَلِفُ طَرحَ هذا المَوقِفِ بَينَ الأناجيل الإزائية:
فَلوقا يَقولُ أَنَّ اليَهودَ هُمْ مَنْ طَلَبوا إطلاقَ بَرأَبّا، دونَ أَنْ يُعرَضَ هذا الخَيارُ عَلَيهِم مِنْ قِبَل بيلاطُس. "فصاحوا بأجمعهم: أعدم هذا وأطلق لنا برأبا!" (لوقا 23: 17).
أمّا مُرقُس يَقُصُّ عَلينا المَشهَدَ كالتّالي: أَنَّهُم اختاروا بَرأَبّا كَطليقٍ عِوضاً عَنْ المسيح، بَعد تَخييرهِم مِنْ قِبَل بيلاطُس، ظاناً أَنَّهُ مِن المُستَحيل أَنْ يَختاروا لِصّاً وقاتِلاً، بَدَلاً عَن هذا الرَّجُلِ البريء. "فصعد الجمع وأخذوا يطلبون ما كان من عادته أن يمنحهم. فأجابهم بيلاطس: أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟. لأنه كان يعلم أن عظماء الكهنة من حسدهم أسلموه. فأثار عظماء الكهنة الجمع لكي يطلق لهم بالأحرى برأبا" (مرقس 15: 8-11).
لكنْ ما أوقفني فاغِراً الفاهَ، استِغراباً واندِهاشاً، هوَ ما انفَرَدَ بِهِ مَتّى مِنْ مَعلومَةٍ قَد تَكونُ تَحولاً فاصِلاً في تَأمُلي اليوم، وَهذهِ المَعلومة هي الاسم الأَوّل لبرأبَا هذا، "فبينما هم مجتمعون، قال لهم بيلاطس: من تريدون أن أطلق لكم ؟ أيسوع برأبا أم يسوع الذي يقال له المسيح؟" (متى 27: 17).
قَدْ يَكونُ هذا الاسم لَيسَ بالغَريبِ على أَنْ نَجِدْهُ مُنتَشِراً في ذلك الزَّمن، لكنْ اقتِرانُهُ بِكَلِمَةِ بَرأبّا مِنْ بَعدِهِ يُعطيهِ مَعناً قَد يُكتَبُ بِهِ كُتباً في التَّفسير والتَّأمُلِ والشَرح، ففي مَعرِفَةِ مَعنى برأبّا يَتَّضِح ما أقصِدْهُ مِن هذا.
نَعلَمُ أَولاً أَنَّ اسمُ يَسوعَ مُشتَّقٌ مِنْ "يَهوه شوع" أَيّ اللهُ يُخَلِّص، أَما بَرأبَّا فَبَعدَ البَحث وَجَدتُ أنَّها تَعني "ابن الآب"، قَد نَتَأَمّلُ بِمَنظورَين في هذا المشهد:
- تأملٌ ظاهريّ تاريخي نَصِلُ بِهِ أَنَّهُ قَدْ يَكونُ بَرأَبّا هو لَقبٌ وَليسَ اسم، كَثيرٌ مِنَ الرِجالِ في عَهدِ المسيحِ وَما سَبَقَهُ وما تَلاهُ أيضاً، إدَّعوا أَنَّهُم المسيحُ المنتظر، مُستَغِلّينَ لَهفَةَ الشَّعبِ اليَهوديّ لِمَجيءِ المَسيحِ لِيُخَلِّصَهُم مِنْ عُبودِيَتِهِم وَمِنْ جَلائِهِم في وَطَنِهِم، وَهذا البَرأَبّا قَدْ قَدْ يَكون أُسلِمَ إِلى أَيدي الرّومان لِنَفسِ السَّبب الذي أُسلِمَ بِهِ المَسيح، أَيّ أَنَّهُ ادعى أَنَّهُ "يسوع برأبا" أيّ أنَّه يَسوعَ المسيحَ المُخلِّص ابنُ الله"، وإنْ كان هذا الظَنُّ حقيقياً تُرى لِماذا اختاروا يسوع برأبا بَدَلَ يَسوعَ الناصريّ؟!
- وتَأمُّلٌ أَعمق قَليلاً في حَياتِنا وحاضِرِنا، كَمْ مِنْ شَيءٍ في هذا الوجود، يَدّعي أَنَّهُ يَحمِلُ الخلاصَ لِلعالَم، كُلُّ الأَفكارِ والفَلسَفاتِ والأيدولوجيّات تَدَّعى أَنَّها هي المُخَلِّصُ الوَحيدُ لِهَذا العالَمَ، كُلٌّ يَدَّعي بِأنَّ ما يَحمِلهُ مِنْ تَعاليم هي البابُ الوَحيدُ المُنفِذُ إِلى طريقِ الحياة.
العالَمُ اليَومَ يَختارُ يَسوعاً آخرَ غيرَ الذي نَعرِفهُ، يَسوعاً يُشبِهُ يَسوعَ بَرأَبّا الذي كانَ لِصّاً قاتِلاً مُثيراً لِلشَّغَبِ على نَحوٍ سيّء، بَدَلاً مِنْ يَسوعَ النَّاصِريّ الذي لَمْ يَحمِل سَيفاً لَكنَّ تُهمَتُهُ الوَحيدَةُ هي أَنَّه أّحّبَّ أَعداءَهُ حتى الموت.
هُم اختاروا يَسوعَهُم، وأَنتَ أَيُّ يَسوعٍ سَتَختار؟