موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد التاسع عشر (ج)
مُقدّمة
سنتناول في مقالنا هذا نصيين فيما بين العهدّين. يأتنيا نص العهد الأول الـمُدون بريشة كاتب سفر الحكمة (حك 18: 6- 9)، حيث سيذكرنا بأفعال الله في ليلة خاصة في تاريخ بني إسرائيل. وعلى ضوء هذه الأفعال الّتي تشير لسَّهر الله من الـماضي لزمن يسوع حتى حاضرنا اليّوم. يأتينا تعليم يسوع بحسب لوقا (12: 32- 48) مكرراً على أذان تلاميذه كلمات الله في الليلة الّتي غيرت مجرى حياة شعبه وحياتنا اليّوم. سنتعرف على أهميّة تكرار يسوع الّذي كما سَهِر الله بالماضي على شعبه هكذا أرسل إبنه ساهراً وعريسًا علينا نحن الـمؤمنين به اليّوم داعيًا إيانّا للسَّهر ولإشعال مصابيحنا لأسباب سنتعرف عليها لاحقًا بهذا الـمقال. نهدف أنّ ندرك أهميّه السَّهر الإلهي الّذي أقسم به الرّبّ للآباء وتجدد في يسوع ابنه واليّوم يتجدد لنا في كلمته الـمقدسة.
1. إفتخارنا بعمل الرّبّ (حك 18: 6-9)
في هذا النص الحكميّ الّذي ينتمي لسليمان الـملك والحكيم يسترجع أحداث تدخلات الرّبّ في حياة شعبه وبالأخص يستعيد ليلة (راج خر 14) هامة غيّرت حياة بني إسرائيل وهي ليلة العبور فيعلن في هذه الآيات القليلة قدرة الرّبّ: «تلكَ اللَّيلَةُ [ليلة التحرير من مصر] أخبِرَ بِها آباؤُنا مِن قَبْلُ لِكَي تَطيبَ نُفوسُهم لِعِلمِهمِ اليَقين بِأيَّةِ أَقْسامِ وثقوا. فتَوَقع شَعبُكَ خَلاصَ الأَبْرارَ وهَلاكَ الأَعْداء لأَن ما عاقَبتَ بِه الـمُقاوِمين صارَ لَنا موضوعَ اْفتِخار بِدَعوَتكَ لَنا. فإِنَّ بَني الصَّالِحينَ القِدِّيًسين كانوا يَذبَحونَ خُفيَةً وأَجمَعوا على إِقامَةِ هذه الشَّريعَةِ الإِلهِيَّة أن يَشترِكَ القِدِّيسون في الخَيراتِ والمَخاطِرِ على السَّواء وكانوا مُنذُ ذَلك الحين يُنشِدونَ أَناشيدَ الآباء» (حك 18: 6- 9). من الغريب أنّ يسترجع الكاتب أحداث مضت ولكن في هذا الوقت الّذي أطاع الشعب الرّبّ الإله وشد أوساطه وإستعد للرحيل من أرض الهوان ليحيا كشعب حرّ ذو كرامة كباقي الشعوب بعد الإحتفال بعيد العبور أي التحرير من العبوديّة للحريّة. وهنا يتذكر قسّم الله للأباء وعهده معهم. فالآباء كإبراهيم (راج تك 15: 13- 14)، ويعقوب (راج تك 46: 4) وأيضًأ مع موسى (راج خر 11: 4- 7: 12: 21- 22). هذا القسّم الإلهي الّذي تحقق بملء في ليلة عبور بني إسرائيل بيد الله القديرة، لازال حتى الآن يعمل في حياتنا كابناء وكمؤمنين بأمانة الله الّذي يحقق وعده بحسب إرادته لصالحنا ولخيرنا. هذا ما ينوه من جديد عنه يسوع بذات الكلمات الّتي هيأ بها الله شعبه بسفر الخروج بالـماضي، فما لدينا إلّا أنّ نُعظم الرّبّ ونعل إفتخارنا بإلهنا الأمين في قسمه ووعده.
2. مسئولية القطيع الصغير (لو 12: 32- 35)
بناء على كلمات كاتب سفر الحكمة، تأتينا كلمات يسوع الإفتتاحيّة للنص بحسب لوقا برسالة قويّة ومشجعة لطاعة الرّبّ القائل لنا: «لا تَخَفْ أَيُّها القَطيعُ الصَّغير، فقد حَسُنَ لدى أَبيكم أَن يُنعِمَ عَليكُم بِالـمَلَكوت. بيعوا أَموالَكم وتَصَدَّقوا بِها واجعَلوا لَكُم أَكْياساً لا تَبْلى، وكَنزاً في السَّمواتِ لا يَنفَد، حَيثُ لا سارِقٌ يَدنو ولا سوسٌ يُفسِد. فحَيثُ يَكونُ كَنزُكُم يَكونَ قَلبُكم» (لو 12: 32-34). تحمل أفعال الأمر بالتخلي عما هو أرضي والإتحاد بما هو لله أبينا السّماويّ بملكوته الّذي لا فناء له. والأهم هي التشجع ولا للخوف أي أننا مدعوين بقوة أنّ لا نستسلم أمام أي أحداث لأنّ الله الّذي أقسّم بالـماضي هو أمين في حاضرنا ليؤمن لنا الجوهري كابنائه.
يُخبرنا لوقا الإنجيليّ اليّوم على لسان يسوع بتعليمه الجديد وهو العيش في تاريخنا البشريّ بقلب الـمؤمنيّن وبدون خوف بل بمسئولية (راج لو 21: 41- 48). يُجيب يسوع على سؤال بطرس القائل: «يا ربّ، أَلَنا تَضرِبُ هذا الـمَثل أَم لِلنَّاسِ جَميعاً؟» (لو 12: 41)، داعيًا إيانّا كتلاميذ احباء لتحمل المسئولية. فنحن التلاميذ اليّوم لا ننتظر مجرد كشف لأمر ما، بل علينا أنّ نمارس هذا انتظار في مسيرتنا كقطيع الرّبّ الصغير عبر التاريخ بمسئولية. ولا ينبغي أنّ يُضعف تأخر مجيء السيّد الرّبّ إلتزامنا بالإنتظار بصبر وإيمان به. لهذه الكلمة معنى مزدوج، فقد تُشير إلى مَن يؤدون دور الخدمة في القطيع الصغير، كما يُمكن أن تُشير إلى دورنا كتلاميذ ليسوع تجاه البشريّة والـمدعويّن لمشاركتنا مسيرة التاريخ. لذا، علينا كتلاميذ ليسوع أنّ نحيا في التاريخ بأمانة وحكمة. لنظل أمناء للإنجيل الذي تلقّيناه من رّبّنا، مدركين برّوح التميّيز، في ضوئه، بحكمة وفطنة، أحداث التاريخ البشريّ كما تظهر. يرتبط هذا المقطع أيضًا بالطوبى الّتي أعلنها يسوع قائلاً: «طوبى لِذلِكَ الخادِمِ الَّذي إِذا جاءَ سَيِّدُه وَجَدَه مُنصَرِفاً إِلى عَمَلِه هذا» (لو 12: 43).
يختتم النصّ بتذكيرٍ إضافيّ بمسئوليتنا كقطيع صغير، مُرسّخًا إيانّا بيقيّن يسكن قلوبنا. يجب أنّ نعلم كتلاميذ يسوع أنّ أساس يقظتنا ومسئوليتنا هو إدراكنا لنيل هبةً عظيمةً مجانًا وهي "الملكوت". فنحن لا نسير في التاريخ بيقظة ومسئولية لننال مكافأةً في نهاية حياتنا، بل لأنّنا بالفعل كمُتلقّين لهبات مجانية منذ البداية. لأن حياتنا المسيحيّة مَدعوةٌ، بشكلٍ خاصّ، لأن تكون شاهدةً في العالم وفي الكنيسة على هذه السمات التي تُميّز وجودنا في التاريخ كتلاميذٍ ليسوع الّتي تتسمّ بالأمانة، وبالحكمة، وبإدراكنا لنوال البنوة لله، بدون إستحقاق، هبات إلهيّة لا تُحصى. كثيراً ما نتوقع أنّ يسوع يأمرنا بالسَّهر للخدمة و... إلخ إلّا إنه يدهشنا حينما نجده هو الساهر علينا كما سنرى لاحقًا.
3. السَّهَرُ الإلهيّ (لو 12: 35- 48)
ليوم نُلقى بأرض مصر حيث يردد يسوع ذات الكلمات الإلهيّة لبني إسرائيل بليلة العبور قائلاً: «لِتَكُنْ أَوساطُكُم مَشدودة، ولْتَكُنْ سُرُجُكُم مُوقَدَة» (لو 12: 35). بالـماضي توجب على الشعب مغادرة أرض العبودية بسرعة في جنح الليل مما يشير إلى قبول الدخول في ديناميكيّة لا تقبل التأخير أو التوقف. اليّوم، مدعويّن لإتخاذ قرار إنّ كنا نريد حقًا الخلاص، إذا رغبنا في خوض مسيرة الحريّة الشاقة وإنّ خطت أقدامنا فما علينا إلّا بالطاعة من خلال شّد أوساطنا وإشعال مصابيحنا، كما يفعل العمال قبل رفع الأثقال. هذا الإستعداد يساعدنا بالإستعداد وبدعم إخوتنا الـمكافحين حتى يسلكوا درب الرحمة والحبّ. هذا الحزام الّذي يشدّ أوساطنا ليذكرنا بأنّ كلّ عمل مُثمر هو هبة من الله. يشجعنا هذا الرمز من العهد القديم على خوض رحلات مجهولة بإخلاص متجدد للحبّ الّذي اختارنا والّذي نرغب في خدمته. اليّوم، مدعوين للتجربة ولـمحاولة العيش في انتظار الرّبّ الّذي سيأتي برمزيّة العريس العائد من العرس والّذي يرغب في مشاركتنا فرحته وآماله في المستقبل. طموح هذا العريس العائد هي طموح زوج للبشريّة ليحررها ويعتقها من كل آلامها وأتعابها! مدعويّن لإشعال مصابيحنا في صلاتنا كعروس محبوبة، علينا بالسَّهر لنشع نورًا لكلّ من حولنا. تدعونا كلمات يسوع، في تعليمه هذا بالّا نخشى فرح ربنا العظيم، فهو لا يسلبنا شيئًا، لأن الحبّ هو بذل الّذات ومشاركتها مع الأحباء.
ويكرر يسوع تطويب الساهر والـمنتظر له فهو العريس العائد قائلاً: «طوبى لأُولِئكَ الخَدَم الَّذينَ إِذا جاءَ سَيِّدُهم وَجَدَهم ساهِرين. الحَقَّ. أَقولُ لكم إِنَّه يَشُدُّ وَسَطَه ويُجلِسُهُم لِلطَّعام، ويَدورُ علَيهم يَخدُمُهم وإِذا جاءَ في الهَزيعِ الثَّاني أَوِ الثَّالِث، ووَجدَهم على هذِه الحال فَطوبى لَهم» (لو 12: 37- 38). قد تُزعجنا كلمة "خدم" ، لكن بحسب الكتاب المقدس، من الأفضل ترجمتها بكلمة "وكلاء"، أولئك الّذين عهد إليهم الرّبّ بتدبير بيته، أي إدارة عالمنا البشري. نحن الأحباء للرّبّ والساهريّن لإنتظاره فقط بالتغذيّة الّتي نتلقاها على مائدة الرّبّ الّذي يخدمنا هو فيها يمكننا أنّ نكون بدورنا هبة للعالم وصناع سلامه وقنوات لرحمته متى فتحنا له: «كرِجالٍ يَنتَظِرونَ رُجوعَ سَيِّدِهم مِنَ العُرس، حتَّى إِذا جاءَ وقَرَعَ البابَ يَفتَحونَ لَه مِن وَقتِهِم» (لو 12: 36). وهذا الإنعكاس، حينما نستعد بشد أوساطنا وإشعال مصابيحنا يأتي هو ويفاجئنا إذ يسهر علينا ويبدأ بخدمتنا بشد وسطه بمريلة الخدمة ليخدمنا نحن الخدام والّمدعوين لخدمته بالسَّهر على عالمنا لإنتظاره حتى نلتقي به كعريس نفوسنا وقلوبنا.
الخلّاصة
في مقالنا اليّوم "السَّهرُ الإلهيّ" حيث توقفنا أمام كلمات كاتب سفر الحكمة (18: 6- 9) بالعهد الأوّل، الّذي إستعاد قدرة يميّن الرّبّ في ليلة العبور وتذكر أمانته بتحرير شعبه للأباء بالماضي. وهنا تأكدنا من أنّ السهر الإلهيّ بدأ في الـماضي من خلال علاقة الله بالأباء. ولك ينتهي إذ ظهر تجديده في كلمات يسوع بالعهد الثاني بحسب إنجيل لوقا (12: 32- 48)، حيث منح رسالة تعزية وتشجيع لنا جميعًا نحن بقوله "لا تخف أيّها القطيع الصغير" تأتي كلمات يسوع كصدى لسَّهَرِه ولأمانته لنا في علاقته بي وبك. فهو يدعونا بالّا نترك ذاوتنا كفريسة للأحداث السلبيّة اليّوميّة بل بطاعته فهو بمثابة عريس كلّ نفس بشريّة وسيعود ليخدمنا وما علينا إلّا أنّ نقبل دعوته لنا بشد أوساطنا وإشعال مصابيحنا لنكون مهيئين في حالة إنتظار لمجيئه حاملاً فيض الخير في الملكوت مانحًا إيانا فيض حبه الخلاصي لـمن ينتظره إذ سهرنا لا يقارن بشئ تجاه سهره المتواصل. وكعادتنا يترك يسوع حريّة إتخاذ القرار بطاعته وبدون إجبار إذا أرادنا تبعيته والإستعداد لإنتظاره بمصابيح مشتعلة في عالمنا لنضيء ونهيئ لـمجيئه الـمبارك. دًمتم في إنتظار ومسيرة حية بمصابيح مستنيرة بنور كلمته.