موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٨ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٥

عُرسُ قانا الجَليَل وآيَة المسيح الأولَى

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد الثَّاني مِن السَّنة: عُرسُ قانا الجَليَل وآيَة المسيح الأولَى (يوحنا 2: 1-11)

الأحَد الثَّاني مِن السَّنة: عُرسُ قانا الجَليَل وآيَة المسيح الأولَى (يوحنا 2: 1-11)

 

النص الإنجيلي (يوحنا 2: 1-11)

 

1 وفي اليَومِ الثَّالِث، كانَ في قانا الجَليلِ عُرسٌ وكانَت أُمُّ يَسوعَ هُناك. 2 فدُعِيَ يسوعُ أَيضاً وتلاميذُه إِلى العُرس. 3 ونَفَذَتِ الخَمْر، فقالَت لِيَسوعَ أُمُّه: ((لَيسَ عِندَهم خَمْر)). 4 فقالَ لها يسوع: ((ما لي وما لَكِ، أَيَّتُها المَرأَة؟ لَم تَأتِ ساعتي بَعْد)). 5 فقالَت أُمُّه لِلخَدَم: ((مَهما قالَ لَكم فافعَلوه)). 6 وكانَ هُناكَ سِتَّةُ أَجْرانٍ مِن حَجَر لِما تَقْتَضيه الطَّهارةُ عِندَ اليَهود، يَسَعُ كُلُّ واحِدٍ مِنها مِقدارَ مِكيالَينِ أَو ثَلاثَة. 7 فَقالَ يسوعُ لِلخَدَم: ((اِمْلأُوا الأَجرانَ ماءً)). فمَلأُوها إِلى أَعْلاها. 8 فقالَ لَهم: ((اِغرِفوا الآنَ وناوِلوا وَكيلَ المائِدَة)). فناوَلوه، 9 فلَمَّا ذاقَ الماءَ الَّذي صارَ خَمْراً، وكانَ لا يَدري مِن أَينَ أَتَت، في حينِ أَنَّ الخَدَمَ الَّذينَ غَرَفوا الماءَ كانوا يَدْرُون، دَعا العَريسَ 10 وقالَ له: ((كُلُّ أمرئ يُقَدِّمُ الخَمرَةَ الجَيِّدَةَ أَوَّلاً، فإِذا سَكِرَ النَّاس، قَدَّمَ ما كانَ دونَها في الجُودَة. أَمَّا أَنتَ فحَفِظتَ الخَمرَةَ الجَيِّدَةَ إِلى الآن)). 11 هذِه أُولى آياتِ يسوع أَتى بها في قانا الجَليل، فأَظهَرَ مَجدَه فَآمَنَ بِه تَلاميذُه 12 ونَزَلَ بَعدَ ذلكَ إِلى كَفَرناحوم هو وأُمُّه وإِخوَتُه وتَلاميذُه، فأَقاموا فيها بِضعَةَ أَيَّام.

 

 

مُقدِّمة

 

يَصِفُ يوحنّا الإنجيليُّ معجزةَ الخَمرِ في عُرسِ قانا الجليل (يوحنّا 2: 1-11) كآيةٍ أُولى أتى بها يسوعُ لإظهارِ مَجدِه الإلهيِّ كي يُؤمنَ به تلاميذُه (يوحنا 2: 11)؛ والإيمانُ بيسوعَ هو غايةُ إنجيلِ يوحنّا: "أتى يسوعُ أمامَ التلاميذِ بآياتٍ أُخرى كثيرةٍ لم تُكتَبْ في هذا الكتاب، وإنما كُتِبَت هذه لتُؤمِنوا بأنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولتكونَ لكم إذا آمنتم الحياةُ باسمِه" (يوحنّا 20: 30-31). فغايةُ إنجيل اليوم هي ظهورُ المسيحِ، وحَملُ الناسِ على الإيمانِ بشخصِه، كابنِ الله الذي حوَّلَ ماءَ التطهيرِ إلى خمرِ العهدِ الجديدِ الذي يحملُ سرَّ الخلاص. فالمسيحُ أتى ليُحوِّلَ حياتَنا إلى فَرَحٍ وحياةٍ.  ومن هنا تكمُنُ أهميةُ البحثِ في وقائعِ النصِّ الإنجيليِّ وتطبيقاتِه.

 

 

أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل يوحنا (يوحنا 2: 1-11)


1 وفي اليَومِ الثَّالِث، كانَ في قانا الجَليلِ عُرسٌ وكانَت أُمُّ يَسوعَ هُناك.

 

تُشيرُ عبارةُ "اليَومِ الثَّالِثِ" إلى الأيّامِ الثلاثةِ بعدَ لِقاءِ يسوعَ مع نَثَنائيلَ، وهو مِن قانا الجليلِ (يوحنّا 1: 51)، ودَعوةِ فيلبّسَ (يوحنّا 1: 43-51)، ودَعوةِ واختيارِ التلاميذِ الأوّلينَ (يوحنّا 1: 35-51)، وهو اليومُ السّادسُ من الأيّامِ التي تَمَّتْ فيها الحوادثُ الأولى، خاصّةً تأديةُ يوحنّا شهادتَه أمامَ اللّجنةِ اليهوديّةِ (يوحنّا 1: 19). وهكذا يَفتتحُ يسوعُ إنجيلَه في اليومِ السّابعِ بعدَ عِمادِ يسوعَ في بيتِ عنيا عبرَ الأردنِّ (يوحنّا 1: 28) على غِرارِ سِفرِ التّكوينِ بأوّلِ تجلٍّ لمَجدِه من خلالِ معجزةِ عُرسِ قانا الجليلِ (يوحنّا 2: 11). بدأَ يسوعُ عَمَلَه خلالَ أسبوعٍ، للدّلالةِ على الخَلقِيَّةِ الجديدةِ، وينتهي هذا الأسبوعُ بكشفِ كِيانِه العَميقِ وإيمانِ التلاميذِ في قلبِ عُرسٍ يُعلِنُ مَجيءَ الملكوتِ. وهذا الأسبوعُ يَعودُ بنا إلى أسبوعِ الخَلقِ الأوّلِ: لقد بدأَ اللهُ يَخلُقُ، بواسطةِ الكلمةِ المُتجَسِّدِ، شعبًا جديدًا يُعلِنُ كلمتَه. أمّا  عبارة "الثّالِثُ" فتشير إلى الرّقمَ ثلاثةَ الذي يَأخُذ أهمّيّةً كبيرةً في العهدِ القديمِ، فهو يَرتبطُ دومًا بعددِ أيّامِ المِحنةِ التي يَليها الخلاصُ: إخوةُ يوسفَ يَتحرّرونَ في اليومِ الثّالثِ (التّكوين 41: 18)، إسرائيلُ يَسيرُ ثلاثةَ أيّامٍ نحوَ الحُرّيّةِ (الخروج 15: 22)، ويَبقى يونانُ ثلاثةَ أيّامٍ في بَطنِ الحوتِ (يونان 2: 1)، ويَنتظرُ الشّعبُ لمدّةِ ثلاثةِ أيّامٍ تَجلّيَ الرّبِّ على الجبلِ قبلَ إعطائِهم الوَصايا العَشرَ، التي هي أساسُ عَهدِهم معَ اللهِ وعَلاقتِهم به (الخروج 19: 10-16). أمّا في الدّيانةِ المسيحيّةِ، فيَدُلُّ "اليَومُ الثّالِثُ" على قِيامةِ الرّبِّ، حيثُ "قامَ الرّبُّ في اليومِ الثّالِثِ كما في الكُتُبِ"، وأَعلَنَ مَجدَ ألوهيّتِه كابنِ اللهِ المُنتَصِرِ. والقيامةُ هي سِرُّ فَرَحِنا وقِمّةُ تجلّي يسوعَ على الأرضِ وانتصارُه على الموتِ. ويُعلِّقُ القدّيسُ كيرلسُ الكبيرُ قائلًا: "إنَّ اليومَ الثّالثَ لا يَخلُو من مَعنى رَمزيٍّ، فالعددُ الثُّلاثيُّ يُشيرُ إلينا بالبِدايةِ والوَسَطِ والنِّهايةِ. فقد جاءَ يسوعُ المسيحُ نَفسُه إلى كنيستِه في المرحلةِ الثّالثةِ ليُقيمَ عُرسَه معها. المرحلةُ الأولى هي عَصرُ الآباءِ ما قبلَ النّاموسِ، والثّانيةُ هي عَصرُ الأنبياءِ في ظِلِّ النّاموسِ، والثّالثُ هو عَهدُ النِّعمةِ، حيثُ أشرقَ النّورُ الحقيقيُّ على العالَمِ ليُبَدِّدَ ظُلمتَه. يُحتَفَلُ بالزّفافِ في اليومِ الثّالثِ، أي في العَصرِ الأخيرِ من العالَمِ". أمّا عبارةُ "قانا الجليلِ" فتُشيرُ إلى كَفرِ قانا (كفر كنّا)، التي تَبعُدُ نحوَ 9 كيلومتراتٍ شمالَ الشّرقِ من النّاصرةِ، وعلى بُعدِ 18 كيلومترًا غربَ بُحيرةِ طَبريّا. وقد وَرَدَ اسمُ قانا الجليلِ في إنجيلِ يوحنّا أربعَ مرّاتٍ (يوحنّا 2: 1، 11؛ 4: 46؛ 21: 2)، وفيها تَمَّتْ أيضًا الآيةُ الثّانيةُ، وهي شِفاءُ ابنِ خادِمِ المَلِكِ (يوحنّا 4: 46-54). وأضافَ يوحنّا الإنجيليُّ "الجليلَ" تَمييزًا لها عن قانا التابعةِ لسبطِ أشيرَ في شَرقيّ صورَ (يشوع 19: 28)، وعن قانا التابعةِ لسبطِ إفرايمَ في مِنطقةِ السّامِرةِ (يشوع 16: 8). ويُعلِّقُ القدّيسُ كيرلسُ الكبيرُ قائلًا: "إنَّ الاحتفالَ لم يَتمَّ في أُورُشليمَ بل خارجَ اليهوديّةِ (يوحنّا 3)، في قانا، إحدى قُرى جليلِ الأُمَمِ. ومنَ الواضحِ جدًا أنَّ مَجمَعَ اليهودِ رَفَضَ العَريسَ السّماويَّ، ولكنَّ كنيستَ الأُمَمِ قَبلَته بقلبٍ مُتهلِّلٍ". وقد بُنِيَت كنيسةٌ في العَهدِ الصّليبيِّ في قانا الجليلِ في مَوضِعِ العُرسِ، وآثارُها باقيةٌ حتى الآن. والبعضُ يَعتَقِدُ أنَّ قانا هي القَريةُ اللّبنانيّةُ جنوبَ بيروتَ في قضاءِ صورَ. أمّا عبارةُ "عُرسٌ" في الأصلِ اليونانيِّ γάμος، وبالآراميّةِ חֲתֻנָּה، ومعناها "المَشرُوبُ"، فتُشيرُ إلى الزِّفافِ والتَّزويجِ، إذ دَرَجَت عادةُ تقديمِ الخَمرِ للمَدعُوّينَ. والاحتفالاتُ بالعُرسِ تَدومُ مُدّةَ أسبوعٍ (متّى 22: 1-10). الْعُرْسُ مُناسَبَةٌ اجْتِماعِيَّةٌ تَعْكِسُ فَرَحَ الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ في المُجْتَمَعِ اليَهُودِيِّ آنَذاكَ. أوجَدَ اللهُ الزّواجَ سُنّةً، حيثُ يَترُكُ الرّجلُ أباهُ وأمَّه ويَلتَصِقُ بامرأتِه ويَكونانِ جَسدًا واحِدًا (التّكوين 2: 20-24). ويَأخذُ العُرسُ دومًا رمزيّةَ العَهدِ الذي أَقامَه اللهُ بينهُ وبينَ إسرائيلَ (إرميا 51: 1)، وقد شَبَّهَ الكتابُ المُقدّسُ عَلاقةَ اللهِ معَ شَعبِه (إشَعْياء 54: 5)، ثم عَلاقةَ المسيحِ مع كنيستِه، بالعُرسِ وبعَلاقةِ العَريسِ بالعَروسِ (متّى 9: 15)، ومَلَكوتُ السّماواتِ يُشبِهُ العُرسَ (متّى 22: 2-14). هذا العُرسُ هو بِمَثابةِ العُرسِ الأبَدِيِّ الّذي تَكَلَّمَ عنهُ إشَعْياء (62: 1-5). وهكذا بدأَ يسوعُ خِدمتَه العلنيّةَ في عُرسِ قانا الجليلِ، وفي نهايةِ خِدمتِه عندَ نهايةِ العالَمِ نَجدُ "عُرسَ الحَمَلِ" (رؤيا 7: 19-9). وقد أيّدَ المسيحُ سُنّةَ الزّواجِ من خلالِ وجودِه على الأرضِ (متّى 19: 5-6)، فالمسيحُ هو عَريسُنا. أمّا عبارةُ "أُمُّ يَسوعَ" فتُشيرُ إلى مَريمَ العذراءِ التي يُسمّيها يوحنّا الإنجيليُّ باسمِ ابنِها البِكرِ (لوقا 2: 7)، كما هي العادةُ في شَرقِنا. ولكنْ أهمّيّةُ هذا اللّقبِ ليوحنّا الإنجيليِّ لا تَكمُنُ في شَخصِها التّاريخيِّ فَحسب، بل تَتخطّاهُ إلى ناحِيةِ الدَّورِ الذي لَعِبَتْه في مَخطَّطِ الخَلاصِ الإلهيِّ، فهي التي قَبِلَت كَلِمةَ اللهِ وحَمَلَته وأعطَته للعالَمِ، وهي قادِرةٌ أن تَطلُبَ من ابنِها ورَبِّها أن يُتَمِّمَ النّقصَ البشريَّ بخَمرِ الفَرَحِ الإلهيِّ دومًا. فلا عَجَبَ أنَّ يوحنّا لم يَذكُر اسمَ مَريمَ، كما أنّه لم يَذكُر اسمَه ولا اسمَ أخيهِ يعقوبَ. أمّا عبارةُ "هُناكَ" فتُشيرُ إلى مَريمَ التي سَبَقَت ابنَها يسوعَ إلى العُرسِ في قانا، وذلك لكي تُساعِدَ أهلَ العَريسِ. قد تكونُ مَريمُ هُناكَ ليس كأحدِ المَدعُوّينَ، وإنّما كأحدِ أفرادِ الأُسرَةِ، أو لأنَّ أَصحابَ العُرسِ مِنَ المُقرَّبينَ لمَريمَ. مَن كانَ قريبًا مِنَ اللهِ كانَ قريبًا مِنَ النّاسِ. وهلْ أقرَبُ إلى اللهِ مِن مَريمَ؟ فهي قَريبةٌ جِدًّا مِنّا.

 

2 فدُعِيَ يسوعُ أَيضاً وتلاميذُه إلى العُرس

 

تشيرُ عِبَارَةُ "دُعِيَ يَسُوعُ" إِلَى اشْتِرَاكِ يَسُوعَ فِي أَفْرَاحِ قَانَا الْجَلِيلِ مِنْ أَجْلِ إِظْهَارِ مَجْدِهِ، وَتَقْوِيَةِ إِيمَانِ تَلَامِيذِهِ، وَتَلْبِيَةٍ لِصَدَاقَةِ أَهْلِ الْعُرْسِ، وَتَقْدِيسِ الزَّوَاجِ الْمَسِيحِيِّ بِحُضُورِهِ، وَرَفْعِهِ مِنْ دَرَجَةِ عَقْدٍ طَبِيعِيٍّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إِلَى مَقَامِ سِرٍّ إِلَهِيٍّ يُمْنَحُ النِّعْمَةَ لَهُمَا كَيْ يَعِيشَا عِيشَةً مُقَدَّسَةً، وَيَتَحَمَّلَا بِصَبْرٍ وَمَوَدَّةٍ مُتَبَادَلَةٍ أَعْبَاءَ الْحَيَاةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَيُرَبِّيَا أَوْلَادَهُمَا تَرْبِيَةً صَالِحَةً. بَدَأَ يَسُوعُ رِسَالَتَهُ فِي عَقْدِ زَوَاجٍ، بَدَأَهَا يَوْمَ تَوَثَّقَتْ عُرَى الْمَحَبَّةِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ مُتَحَابَّيْنِ، بَدَأَهَا يَوْمَ ارْتَبَطَ قَلْبَانِ بِخَاتَمِ الزَّوَاجِ بِعَهْدٍ. بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ يَسُوعَ كَانَ لَهُ مُهِمَّةُ خَلَاصِ الْعَالَمِ، وَهِيَ أَعْظَمُ رِسَالَةٍ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ شَارَكَ فِي احْتِفَالَاتِ الْعُرْسِ لِأَنَّهَا تَضُمُّ النَّاسَ. وَقَدْ جَاءَ يَسُوعُ لِيَكُونَ مَعَ النَّاسِ. حُضُورُ يَسُوعَ وَسَطَ النَّاسِ يُحَوِّلُ حَيَاتَهُمْ إِلَى عُرْسٍ (مَرْقُسَ 2: 18-20). هَلْ نَجْعَلُ يَسُوعَ حَاضِرًا فِي أَعْرَاسِنَا؟ وَهَلْ نَعْتَبِرُ نَحْنُ الْمُنَاسَبَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةَ جُزْءًا مِنْ رِسَالَتِنَا وَنَشْتَرِكَ فِيهَا؟ أَمَّا عِبَارَةُ "تَلَامِيذِهِ" فَتَشِيرُ إِلَى سِتَّةٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ: أَنْدَرَاوُسُ، وَبُطْرُسُ، وَفِيلِبُّسُ، وَنَثَنَائِيلُ، وَيُوحَنَّا الْبَشِيرُ، وَأَخُوهُ يَعْقُوبُ (يُوحَنَّا ١: ٣٥-٥١). أَمَّا بَقِيَّةُ التَّلَامِيذِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، فَلَمْ يَكُونُوا قَدْ تَتَلْمَذُوا بَعْدُ لِيَسُوعَ. إِنَّ السَّيِّدَ الْمَسِيحَ هُوَ الْعَرِيسُ السَّمَاوِيُّ، وَتَلَامِيذُهُ بَاكُورَةُ كَنِيسَةِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، فَهُمْ الْعَرُوسُ الرُّوحِيَّةُ. أَمَّا عِبَارَةُ " العُرس " فتُشيرُ الْوَلِيمَةِ السَّمَاوِيَّةِ (إِشَعْيَاءَ 6: 10-25). إِنَّهَا وَاحِدَةٌ مِنْ أَسْعَدِ اللَّحَظَاتِ فِي حَيَاةِ قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ مِثْلَ قَرْيَةِ قَانَا، حَيْثُ كَانَتْ لَحْظَةً فَرِيدَةً لِلْجَمِيعِ أَنْ يَجْتَمِعُوا مَعًا، لِيَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا فِي أَجْوَاءٍ مِنَ الْفَرَحِ وَالشَّرِكَةِ.

 

3 ونَفَذَتِ الخَمْر، فقالَت لِيَسوعَ أُمُّه: لَيسَ عِندَهم خَمْر

 

تشيرُ عِبَارَةُ "نَفَذَتِ الخَمْرُ" إِلَى نَقْصِ الخَمْرِ عَلَى مُسْتَوَى الضِّيَافَةِ. يَحْتَمِلُ أَنَّ الضُّيُوفَ كَانُوا أَكْثَرَ مِمَّا تَوَقَّعُوا حُضُورَهُمْ، أَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا أَكْثَرَ مِنَ الْمُدَّةِ الْمُتَوَقَّعَةِ، حَيْثُ إِنَّ احْتِفَالَاتِ الزَّوَاجِ تَتِمُّ عَلَى مَدَى أُسْبُوعٍ بِأَكْمَلِهِ (التَّكْوِينُ 29: 27؛ الْقُضَاةُ 14: 15)، وَكَانَتِ الْمَآدِبُ تُقَدَّمُ لِضُيُوفٍ كَثِيرِينَ، أَوْ لِأَنَّهُ مِنَ الْبِدَايَةِ مَا احْتَاطَ أَصْحَابُ الْعُرْسِ عَلَى كَمِّيَّةٍ وَافِيَةٍ مِنَ الخَمْرِ. وَلِأَنَّ نَفَاذَ الخَمْرِ يُعْتَبَرُ وَرْطَةً كُبْرَى، عَرَفَتْ مَرْيَمُ بِنَقْصِ الخَمْرِ وَأَخْبَرَتِ ابْنَهَا، وَكَأَنَّهَا تَنْتَظِرُ مِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا. أَمَّا فِي مَفْهُومِ الْمَلَكُوتِ، فَالْخَمْرُ ضَرُورِيٌّ مِنْ أَجْلِ الْعِيدِ، كَمَا جَاءَ فِي نُبُوءَةِ إِشَعْيَاءَ: " نَاحَ النَّبِيذُ وَذَبُلَ الْكَرْمُ وَتَنَهَّدَ جَمِيعُ فَرِحِي الْقُلُوبِ" (إِشَعْيَاءَ 24: 7). إِنَّهُ يُشِيرُ إِلَى الْفَرَحِ، وَالشَّعْبُ الْيَهُودِيُّ بِسَبَبِ خَطَايَاهُ مَا عَادَ لَهُمْ فَرَحٌ (يُوئِيلَ 1: 5). أَمَّا عِبَارَةُ "لَيْسَ عِنْدَهُمْ خَمْرٌ" فَتُشِيرُ إِلَى تَدَخُّلِ مَرْيَمَ، الذي يُظْهِرُ دَوْرَها كَوَسِيطَةٍ ومُؤْمِنَةٍ بِقُدْرَةِ ابْنِها. تَيَقُّظًا وَتَدَارُكِ الْأَمْرِ قَبْلَ اسْتِفْحَالِهِ، َطَلَبَتْ مَرْيَمُ عَنْ طَرِيقِ التَّلْمِيحِ وَلَيْسَ التَّصْرِيحِ مِنْ يَسُوعَ إِيجَادَ حَلٍّ. وَمِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ، يَكُونُ الطَّلَبُ بِصُورَةِ الْخَبَرِ، وَهَكَذَا حَثَّتْ مَرْيَمُ ابْنَهَا لِلرَّحْمَةِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى دَوْرِهَا الْمُنْفَتِحِ عَلَى الْآخَرِ فِي حَاجَاتِهِ، لِإِيجَادِ حُلُولٍ لِلْمُشْكِلَةِ.إِنَّهَا تُعَبِّرُ عَنْ ثِقَتِهَا وَإِيمَانِهَا بِابْنِهَا يَسُوعَ، أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا، فَيُزِيلَ الْقَلَقَ وَالِارْتِبَاكَ لِأَصْحَابِ الْعُرْسِ. إِذْ عَلِمَتْ أَنَّ إِيلِيَّا النَّبِيَّ صَنَعَ مُعْجِزَةَ تَكْثِيرِ الدَّقِيقِ وَالزَّيْتِ فِي وَقْتِ الضِّيقِ (1 مُلُوكَ 17: 14)، أَفَلَا يَسْتَطِيعُ ابْنُهَا أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَهُ؟ وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الْكَبِيرُ: "قَدَّمَتِ الطَّلَبَ بِرُوحِ التَّوَاضُعِ دُونَ أَنْ تَضَعَ الْحَلَّ، كَمَا لَوْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنِ ابْنِهَا حِكْمَةً أَوْ حُبًّا لِلْآخَرِينَ". وَهُنَا نَرَى دَوْرَ الشَّفَاعَةِ، فَهِيَ تَطْلُبُ الْمُسْتَحِيلَ مِنِ ابْنِهَا، فَيُعْطِيهَا. تَذْهَبُ إِلَى يسوع، مَصْدَرِ الْحَيَاةِ وَالْفَرَحِ، الَّذِي هُوَ هُنَاكَ، بَيْنَ الضُّيُوفِ حَتَّى. تَرَى مريم الْحَيَاةَ بِعُيُونِ اللهِ، وَتُدْرِكَ بِشَكْلٍ أَعْمَقَ أَلَمَ وَحَاجَةَ رِجَالٍ وَنِسَاءِ عَصْرِهَا. هَلْ نُحَاوِلُ أَنْ نَتَعَلَّمَ كَيْفِيَّةَ الْخُرُوجِ مِنْ ذَاتِنَا لِنَهْتَمَّ بِالْآخَرِ؟ والجَديرُ بالذِّكرِ أنَّ مَنِ انتَبَهَ إلى نَقصِ النَّبيذِ ليسوا الكَهَنَةَ أو الرُّؤساءَ الرُّوحِيّينَ لِبَني إسرائيلَ أو والِدَيِّ العَروسِ، بَل أُمُّ يَسوعَ. صُورةُ مَريمَ الأُمِّ تُرَمِّزُ إلى الكَنيسةِ تَحتَ الصَّليبِ، والتي سَلَّمَها يَسوعُ لِيُوحَنّا الإنجيليِّ." أَمَّا عِبَارَةُ "الخَمْرُ" فَتُشِيرُ إِلَى الخَمْرِ الْمَصْنُوعِ مِنَ الْعِنَبِ (إِرْمِيَا 6: 9)، وَقَدْ ذُكِرَتِ الخَمْرُ مَعَ الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ كَعَطِيَّةٍ عُظْمَى لِلْإِنْسَانِ، وَكَانَتْ فِي كُلِّ بَيْتٍ يُقَدِّمُونَهَا لِلضُّيُوفِ، لَا سِيَّمَا فِي الْأَعْيَادِ (التَّكْوِينُ 14: 18). وَالخَمْرُ تَعْبِيرٌ عَنْ سِرِّ الشَّرِكَةِ مَعَ الْمَسِيحِ وعَلامَة للفَرحِ والحَياة. فَالْمَسِيحُ حَوَّلَ الخَمْرَ إِلَى دَمِهِ، وَدُونَ شَرِكَةٍ مَعَ الْمَسِيحِ فِي الْقُدَّاسِ الْإِلَهِيِّ لَا فَرَحَ ولا حَياة. وَلَكِنْ نَهَى الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ عَنِ السُّكْرِ بِالخَمْرِ، وَعَلَّمَ أَنَّ السُّكْرَ بِهَا خَطِيئَةٌ: "لَا تَشْرَبُوا الخَمْرَ لِتَسْكَرُوا، فَإِنَّهَا تَدْعُو إِلَى الْفُجُورِ (أَفَسُسَ 5: 18).

 

4 فقالَ لها يسوع: ما لي وما لَكِ، أَيَّتُها المَرأَة؟ لَم تَأتِ ساعتي بَعْد

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "مَا لِي وَمَا لَكِ" إِلَى عِبَارَةٍ كِتَابِيَّةٍ لِصَدِّ كُلِّ تَدَخُّلٍ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ أَوْ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الرَّفْضِ (قُضَاةَ 11: 12 وَ2 صَمُوئِيلَ 16: 10 وَ1 مُلُوكَ 17: 18)، أَوْ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ انْقِطَاعٍ فِي الصِّلَةِ وَالعَلَاقَةِ بَيْنَ المُتَكَلِّمِ وَالمُخَاطَبِ، وَتَنْطَوِي عَلَى نَوْعٍ مِنَ القَسْوَةِ وَعَلَى تَبَاعُدٍ فِي وُجُهَاتِ النَّظَرِ بَيْنَ يَسُوعَ وَمَرْيَمَ أُمِّهِ؛ كَأَنَّ يَسُوعَ يَقُولُ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ: "لَيْسَ لَكِ أَنْ تُشِيرِي عَلَيَّ مَا يَجِبُ أَنْ أَعْمَلَهُ، أَوْ دَعِينِي! إِنَّكِ تَتَدَخَّلِينَ بِأَمْرٍ لَا يَعْنِيكِ". إِنَّ هذا الرَّدَّ قد يَبْدو غَريبًا في أوَّل وهلة، ولَكِنَّهُ يَحْمِلُ بُعْدًا لاهُوتِيًّا عَمِيقًا، حَيْثُ يُشِيرُ إلى أَنَّ يَسُوعَ يَعْمَلُ وَفْقَ تَوْقِيتٍ إِلَهِيٍّ دَقِيقٍ، مُرْتَبِطٍ بِساعَتِهِ الكُبْرَى، أَيِ الصَّلْبِ وَالقِيَامَةِ يُؤَكِّدُ يَسُوعُ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكْشِفَ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدُ. فهَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي السَّمَاوِيِّ. فَيَسُوعُ لَا يَنْظُرُ إِلَى حَاجَةٍ بَسِيطَةٍ فِي عُرْسٍ، بَلْ إِلَى سَاعَةِ إِعْلَانِ مَجْدِهِ كَمَسِيحٍ الَّتِي لَمْ تَحِنْ بَعْدُ، وَهِيَ سَاعَةُ الْآلَامِ وَالْمَوْتِ وَالْقِيَامَةِ (يُوحَنَّا 7: 30، 8: 20، 12: 23). أَمَّا عِبَارَةُ "الْمَرَأَةُ" فِي الْأَصْلِ الْيُونَانِيِّ γῳναι فَلَا تُشِيرُ إِلَى قِلَّةِ احْتِرَامٍ أَوْ إِجْلَالٍ، إنَّما إلى المَرأة المُتزِّوجَة. أَعَادَ يَسُوعُ هَذَا اللَّقَبَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ عِنْدَ الصَّلِيبِ حِينَ أَرَادَ إِظْهَارَ الْحُبِّ وَرِقَّةَ قَلْبِهِ عَلَيْهَا: "فَرَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ وَإِلَى جَانِبِهَا التِّلْمِيذُ الْحَبِيبُ إِلَيْهِ. فَقَالَ لِأُمِّهِ: أَيَّتُهَا الْمَرَأَةُ، هَذَا ابْنُكِ" (يُوحَنَّا 19: 26). فَمَنْ أَوْصَى بِإِكْرَامِ الْوَالِدَيْنِ لَنْ يَحْتَقِرَ أُمَّهُ، بَلْ قَالَ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ: "كَانَ خَاضِعًا لَهُمَا" (لُوقَا 2: 51). وَلَفْظَةُ "يَا امْرَأَةُ" لَا تَتَضَمَّنُ حَتْمًا أَيَّ تَوْبِيخٍ، إِنَّمَا هُوَ مُطَابِقٌ لِلْعَادَاتِ الْيَهُودِيَّةِ وَالْهِلِينِيَّةِ، وَأَطْلَقَ اللَّهُ عَلَى الْعَذْرَاءِ مَرْيَمَ لَقَبَ "امْرَأَةُ" حِينَ قَالَ إِنَّ نَسْلَ الْمَرْأَةِ، أَيِ الْمَسِيحَ، سَيَسْحَقُ رَأْسَ الْحَيَّةِ: "أَجْعَلُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا، فَهُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ وَأَنْتِ تُصِيبِينَ عَقِبَهُ" (التَّكْوِينِ 3: 16). وَأَطْلَقَ يَسُوعُ هَذَا اللَّقَبَ عَلَى الْمَرْأَةِ السَّامِرِيَّةِ: "صَدِّقِينِي أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ، تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا تَعْبُدُونَ الْآبَ لَا فِي هَذَا الْجَبَلِ وَلَا فِي أُورَشَلِيمَ" (يُوحَنَّا 4: 21)، حَيْثُ إِنَّ "الْمَرْأَةَ" تَعْنِي السَّيِّدَةَ. أَمَّا فِي مَفْهُومِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا فَتُوحِي لَفْظَةُ "الْمَرْأَةِ" إِلَى الْمَرْأَةِ الثَّانِيَةِ مُقَابِلَ حَوَّاءَ الْمَرْأَةِ الْأُولَى؛ وَمَعَهَا يَبْدَأُ نَسْلٌ جَدِيدٌ هُوَ يَسُوعُ، بِكْرُ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا (قُولُسِي 1: 15)، إِذْ صَارَتِ الْعَذْرَاءُ مَرْيَمُ حَوَّاءَ الْجَدِيدَةَ. وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الْفَمِ: "لَا يَتَحَدَّثُ يَسُوعُ هُنَا مَعَ مَرْيَمَ بِكَوْنِهَا أُمًّا لَهُ، بَلْ بِكَوْنِهَا حَوَّاءَ الْجَدِيدَةَ". أَمَّا عِبَارَةُ "لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ" فَتُشِيرُ إِلَى عَدَمِ حُضُورِ السَّاعَةِ الَّذِي يُظْهِرُ يَسُوعُ مَجْدَهُ عَلَانِيَةً بِفِعْلِ الْمُعْجِزَةِ، كَمَا وَرَدَ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (يُوحَنَّا 7: 3، 8: 20، 12: 23، 27)، إِنَّمَا تُشِيرُ إِلَى حُضُورِهِ فِي هَيْكَلِ أُورُشَلِيمَ وَفْقَ النُّبُوءَةِ الْقَائِلَةِ: "يَأْتِي فَجْأَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَلْتَمِسُونَهُ، وَمَلَاكُ الْعَهْدِ الَّذِي تَرْتَضُونَ بِهِ. هَا إِنَّهُ آتٍ، قَالَ رَبُّ الْقُوَّاتِ" (مَلَاخِي 3: 1). وَبِالتَّحْدِيدِ، تُشِيرُ السَّاعَةُ إِلَى مَوْتِ يَسُوعَ وَرُجُوعِهِ إِلَى الْآبِ (يُوحَنَّا 13: 1، 17: 1). أَمَّا عِبَارَةُ "سَاعَتِي" فَتُشِيرُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْآبُ لِظُهُورٍ مُسْبَقٍ لِمَجْدِ يَسُوعَ الْإِلَهِيِّ مِنْ خِلَالِ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، وَتَدُلُّ أَيْضًا فِي أَغْلَبِ الْأَحْيَانِ عَلَى سَاعَةِ الصَّلْبِ، لِأَنَّ الصَّلْبَ هُوَ عُبُورٌ أَوْ انْتِقَالٌ إِلَى الْمَجْدِ: "أَتَتِ السَّاعَةُ الَّتِي فِيهَا يُمَجَّدُ ابْنُ الْإِنْسَانِ" (يُوحَنَّا 12: 23). وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ، لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَةُ قَانَا لِإِعْلَانِ يَسُوعَ لِلْأُمَّةِ الْيَهُودِيَّةِ، إِنَّمَا لِإِظْهَارِ مَجْدِهِ لِتَوْطِيدِ إِيمَانِ تَلَامِيذِهِ.

 

5 فقالَت أُمُّه لِلخَدَم: ((مَهما قالَ لَكم فافعَلوه)).

 

عبارة «لِلخَدَم» في الأصل اليوناني (διῐάκονοι) ومعناها «الشمامسة» وليس «العبيد». وهي تشير إلى خُدَامِ أسرارِ اللهِ الذِينَ يَعملُ بِهِمْ السَيِّدُ المسِيِحُ لِخِدْمَةِ وَبَهْجَةِ شَعْبِهِ. وكنِيسَةُ العَهْدِ الجَدَيدِ تُطلِقُ هِذَا الاسْمَ عَلَى الشَمَامِسَةِ الذِينَ يَقومُونَ بِخِدْمَةِ المِذْبَحِ مَعَ خِدْمَةِ المَواَئِدِ وَالاهِتمَامِ بِاحِتِياجَاتِ الفُقَرَاِءِ وَالمَرْضَى (أعمَالٟ الرسُلِ 6: 3-4).  يُؤَيِدُ أَمْرُ مَرْيَمَ لِلخَدَمِ القَوْلَ إِنَّ مَرْيَمَ مِنْ أَقْرِبَاءِ أَهْلِ العَرْسِ. أَمَّا عِبَارَةُ "مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ" فَتُشِيرُ إِلى ثِقَةِ مَرْيَمَ بِيَسُوعَ لِيُعَالِجَ المَشْكِلَةَ، إِذْ لَمْ تَتَرَاجَعْ أَمَامَ مَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ مَوْقِفُ رَفْضٍ مِنْ قَبْلِ ابْنِهَا، بَلْ عَرَفَتْ أَنَّ وَرَاَءَ تلْكَ الكَلِمَاتِ، قَلْبًا رَحُومًا شَفُوقًا وَعَطُوفًا. بَدَأَتْ تَعْمَلُ بِأِنَّ هَيَّأَتْ الخُدَمَ لِكَيْ يَجْتَمِعُوا لِإِطَاعَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ. وَهَذَا الأَمْرُ يُذُكِّرُنَا مَا قَالَهُ "فِرُعَونُ" لِجَمِيعِ المِصْرِّيِّينَ لَمَّا جَاعَتْ كُلُّ أَرْضِ مِصْرَ: "اِذْهَبُوا إِلَى يُوسُفَ، فَمَا يَقُلْهُ لَكُمْ فَاصْنَعُوهُ" (التَّكوِيِنِ 41: 55). مَرْيَمُ التِلْمِيِذَةُ المُؤْمِنَةُ تَرْجُو تَدَخُّلَ اللهِ فِي حِيْنِهِ. فَأَدْرَكَتْ أَنَّ يَسُوعَ لَا بُدَّ مِنْ تَدَخُّلِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِسَدِّ الاحِتِياجَاتِ وَكَانَتْ مُصْرَّةً فِي إِيمَانِهَا وَثِقَتِهَا وَلَمْ تُقَطِعْ الرَجَاءَ بِهِ. وَهَذِهِ هِيَ العَظَةُ الوَحِيدَةُ الِتِيَّ قَالَتْهَا العَذْرَاءُ. وَهَذِهِ هِيَ وَصِيَةُ الآِبِ لَنَا مِنْ السَّمَاءِ يَومَ التَّجَلِّيِ: “هذا هوَ ابنيَ الحَبيبُ الذي عنهُ رَضيتُ، فلَهُ اسمعوا" (متّى 17: 5). تُظْهِرُ مَرْيَمُ لِلْخَدَمِ الطَّرِيقَ لِلِانْخِرَاطِ فِي مَسِيرَةٍ بِالْمُجَازَفَةِ بِخُطْوَةٍ تَنْبُعُ مِنَ الثِّقَةِ، دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى إِدْرَاكِ كُلِّ التَّفَاصِيلِ. هل نَثِقُ مثل مريمَ بيسوعَ ونَترُكُهُ يُعالِجُ المُشكِلةَ، لأنَّهُ يَرى ويَعمَلُ الأفضلَ؟ أمّا عبارةُ "افعَلوا" فتشيرُ إلى فِعلِ أمرٍ يُدِلُّ على إصرارِ مريمَ في إيمانِها وثِقَتِها في طاعةِ ابنِها يسوعَ. فهيَ لم تَقطَعِ الرّجاءَ، بل استعدَّتْ أن تَعمَلَ بمشيئةِ ابنِها يسوعَ، فدَعَتِ الخَدَمَ أن يَفعَلوا مِثلَها. دورُ القدّيسةِ مريمَ هو توجيهُ أنظارِنا إلى مسيحِنا والطاعةُ الكامِلَةُ له. فالطاعةُ تَصنعُ المُعجِزاتِ، كما فَعَلَ الصبيُّ حينَ أعطى أرغِفَتَهُ، فَكَثُرَتْ بِيَدِ يسوعَ وأطعَمَتِ الجَماهيرَ (يوحنّا 6: 9). ونحنُ، إن فَعَلنا ما يَقولُهُ لنا المسيحُ، نَنالُ مَنّانا حتى لو حيَّرَتْنا مشيئتُهُ، كما حيَّرَتِ الخَدَمَ في قانا الجليلِ. تَدعونا هذهِ الآيَةُ إلى الثِّقَةِ باللهِ في الأوقاتِ الحَرِجَةِ. كما وَثَقَتْ مَريَمُ بِقُدرَةِ يَسوعَ، يُمكِنُ لِلمُؤمِنينَ اليومَ أنْ يَثِقوا باللهِ في أوقاتِ الأزماتِ، لأنَّهُ قادِرٌ على التَّدَخُّلِ في الوَقتِ المُناسِبِ.

 

6 كانَ هُناكَ سِتَّةُ أَجْرانٍ مِن حَجَر لِما تَقْتَضيه الطَّهارةُ عِندَ اليَهود، يَسَعُ كُلُّ واحِدٍ مِنها مِقدارَ مِكيالَينِ أَو ثَلاثَة.

 

تشيرُ عبارةُ "كانَ هُناكَ" إلى مكانٍ غيرِ مرئيٍّ من العَريسِ والمَدعُوِّين، قد يكونُ في مَدخَلِ الدارِ أو في الدِّهليزِ، حيثُ يُحفَظُ أَجرانٌ من حجرٍ. أمّا عبارةُ "سِتَّةُ أَجْرانٍ" فتشيرُ إلى ستَّةِ أَجرانٍ حَسَبَ أيّامِ الأسبوعِ من الأحدِ حتى الجُمُعة، كُلُّ جَرْنٍ يُخَصَّصُ ليومٍ معيَّنٍ للتَّطهيرِ، في حينِ يُخَصَّصُ يومُ السَّبتِ للعِبادةِ والرّاحةِ، فلا يُمارَسُ فيهِ عملٌ يَحتاجُ إلى تطهيرٍ. ويَدُلُّ عددُ "سِتَّة" على عددِ أيّامِ الخَلْقِ، إذ خَلَقَ الرّبُّ كُلَّ شيءٍ في ستَّةِ أيّامٍ (التَّكوين 1: 31-2: 1). كما يُرمِزُ إلى أجنِحَةِ السَّرافيمِ والكَروبيمِ (إشَعْياءَ 6: 2) وإلى التَّطهيرِ المَسيحانيِّ، لأنَّ رقمَ (6) يُرمِزُ إلى النّقصِ أو عدمِ الكَمالِ، وهنا يَدُلُّ على الإنسانِ الناقِصِ الذي خُلِقَ في اليومِ السّادسِ. ويُعلِّقُ القدّيسُ أوغسطينوس قائلاً: "هذهِ الأَجرانُ السِّتَّةُ تَعني العُصورَ السِّتَّةَ التي لم تَكنْ بدونِ نَبَواتٍ كالأَجاجينِ السِّتَّةِ، وهذهِ العُصورُ هي: من آدمَ إلى نوحٍ. من نوحٍ إلى إبراهيمَ. من إبراهيمَ إلى داوودَ. من داوودَ إلى السّبيِ البابليِّ. من السّبيِ البابليِّ إلى يوحنّا المَعمَدانِ. من يوحنّا المَعمَدانِ إلى نِهايةِ العالَمِ.وهذا الجَرْنُ السّادسُ يُلَمِّحُ إلى عُرسِ السّيّدِ المسيحِ مع الكنيسةِ المُجتَمِعَةِ من الأُمَمِ".  أمّا عِبارةُ 'أَجْرانٍ مِن حَجَرٍ' فتُشيرُ إلى الشَّريعةِ المَكتوبةِ على الحَجَرِ والفارِغةِ، فالشَّريعةُ قد أَدَّت دَورَها لِتَهيئةِ إسرائيلَ العَروسِ لِقَبولِ يَسوعَ العَريسِ، فهوَ يُتِمُّها ويَحمِلُها إلى الكَمالِ. أمّا عبارةُ "أَجْرانٍ" فتشيرُ إلى أَجاجينَ من الحجارةِ للاستعمالِ الطَّقسيِّ في الدِّيانةِ اليهوديّةِ لأجلِ التَّطهيرِ أو الاغتسالِ الطَّقسيِّ، إذ لم يكن جائزًا لليهوديِّ أن يأكلَ ما لم يَغتَسِلْ أوّلًا، كما وَرَدَ في إنجيلِ مرقس: "أنَّ الفِرِّيسِيّينَ واليهودَ عامَّةً لا يأكلونَ إلّا بعدَ أن يَغسِلوا أيديَهُم حتّى المِرفَقِ، تَمَسُّكًا بسُنَّةِ الشُّيوخِ. وإذا رَجَعوا مِنَ السُّوقِ لا يأكلونَ إلّا بعدَ أن يَغتَسِلوا بإتقانٍ. وهناكَ أشياءُ أُخرى كثيرةٌ من السُّنَّةِ يَتمَسَّكونَ بها، كغَسلِ الكُؤوسِ والجِرارِ وآنيَةِ النُّحاسِ" (مرقس 7: 3-4). ويُعلِّقُ القدّيسُ يوحنّا الذّهبيُّ الفمُّ: "إنَّ فلسطينَ بَلَدٌ تُعرَفُ بقلّةِ المياهِ، فلا تُوجَدُ القَنَواتُ والينابيعُ في كُلِّ موضعٍ، لهذا كانوا يملؤونَ الأَجرانَ بالماءِ، حتّى لا يَسرعوا إلى الأنهارِ متى تَدَنَّسوا في أيِّ وقتٍ، بل يَجِدونَ وسائلَ التَّطهيرِ بين أيديهم". وتوحي هذه الأَجرانُ في الإنجيلِ إلى تَطهيرٍ مَسيحانيٍّ. وهنا يُقدَّمُ تاريخُ الخلاصِ بأكمَلِهِ كَروايةٍ واحدةٍ. فالماءُ الذي يَجمعُهُ إسرائيلُ في جِرارٍ حَجَرِيّةٍ لتَطهيرِ اليَهودِ لِلعَهدِ الإلهيِّ المَقطوعِ معَ إبراهيمَ وموسى يُصبِحُ بدَورِهِ في 'ساعةِ يَسوعَ' بِمَثابةِ 'العَهدِ الجديدِ' (إرميا 31:31-34) الذي قَطَعَهُ اللهُ بشكلٍ أَبَدِيٍّ معَ البَشَرِيّةِ جَمعاءَ. أمّا عبارةُ "لِما تَقْتَضيهِ الطَّهارةُ عندَ اليَهودِ" فتشيرُ إلى تَقاليدِ وعادةِ الفِرِّيسيّينَ في غَسلِ أيديهم قبلَ الأكلِ (متّى 15: 2، مرقس 7: 1-4، ولوقا 11: 38). أمّا عبارةُ "مِكيالَينِ أو ثلاثَة" في الأصلِ اليونانيِّ μετρητὰς، المُشتقّةُ من الكلمةِ العِبريّةِ בַּתִּים (مَعناها "بَث" وهي مِكيالٌ سَعَةٌ لموادٍّ سائلةٍ)، فتشيرُ إلى سَعَةٍ تُقدَّرُ بنحوِ 45 لترًا. وبالتالي تسعُ الأَجاجينُ السِّتَّةُ نحو 540 لترًا من الماءِ، إذا كانَ كُلُّ جَرْنٍ يَسَعُ مِقدارَ مِكيالَينِ أي 90 لترًا. أو نحو 810 لترٍ إذا كانَ كُلُّ جَرْنٍ يَسَعُ ثلاثَةَ مكاييلَ، أي 135 لترًا. وكانَ اليهودُ بحاجةٍ إلى مثلِ هذهِ الكَمّيّةِ الكبيرةِ من الماءِ للتَّطهيرِ أو الاغتسالِ الشَّرعيِّ الطَّقسيِّ، لأنَّهُم يَتَنَجَّسونَ رَمزِيًا بِلَمسِهِم موادَّ الحياةِ اليوميّةِ واتِّصالِهِم الاجتماعيِّ، فيتطهَّرونَ بغَسلِ أيديهم. إنّما بِرَمزيّةِ يوحنّا الإنجيليِّ، نَفهَمُ أنَّ المَقصودَ هو أنّهُ على الرّغمِ من كَثرةِ المياهِ وكَثافةِ الوَصايا والثَّباتِ في الشَّريعةِ، لم يَقدِرِ الشَّعبُ أن يَخلُصَ، بل بَقِيَ عَطشانًا.

 

7 فَقالَ يسوعُ لِلخَدَم: امتلأوا الأَجرانَ ماءً. فمَلأُوها إلى أَعْلاها.

 

تشيرُ عبارةُ "امتلِئوا الأَجرانَ ماءً" إلى مشاركةِ الخَدَمِ في المعجزةِ، حيثُ إنّها لا تَحصُلُ دونَ سَعيِ البَشرِ وجهودِهم التي لا يُغفِلُها الرّبُّ. فما دامَ في استطاعتِنا أن نَملأَ الأَجرانَ ماءً، نَعمَلُ ما في وُسعِنا، ويَعمَلُ هو ما يَستحيلُ علينا عَملُه؛ وعِندَئذٍ يُصبِحُ المُستَحيلُ مُمكِنًا، واللاّمَنطِقيُّ في حِكمةِ البَشرِ يُصبِحُ مَنطِقيًا في حِكمةِ اللهِ. ويُعلِّقُ القدّيسُ يوحنّا الذّهبيُّ الفمُّ قائلاً: "لقد اهتمَّ يسوعُ بالغَيرِ، واستخدمَ كُلَّ وسيلةٍ لغَرسِ الرأي السديدِ فيهم، حيثُ إنّ أكثرَ ما يليقُ به أن يَفعَلَ ذلكَ معَ أُمّهِ". أمّا عبارةُ "ماءً" فتشيرُ إلى عَهدِ اللهِ مع شَعبِهِ، فالماء رمزِ الطّبيعةِ البشريّةِ الخاطئةِ المُحتاجَةِ إلى تَطهيرٍ (مَعموديّةٍ وغَسلٍ)، كما وردَ في العَهدِ القَديمِ وأخَذَها العَهدُ الجديدُ أيضًا. فالكتابُ المقدَّسُ يَبتدِئُ بالماءِ (ماءِ الغَمرِ) ويَنتهي بالماءِ (نَهرِ الماءِ الحَيّ في الفَصلِ الأخيرِ من سِفرِ الرُّؤيا): هي مِياهُ الخَلْقِ، مِياهُ الطوفانِ (خروج 29: 4؛ 30: 18-21)، مِياهُ الغَسلِ، والمياهُ تُقدَّمُ إلى الضُّيوفِ لِيَغتَسِلوا بعدَ السَّفرِ (تكوين 18: 4)، مِياهُ تَطهيرِ اليَهودِ كما في عُرسِ قانا، مِياهُ المَعموديّةِ، ومِياهُ جنبِ المسيحِ. والمياهُ أيضًا مصدرُ الخطرِ لجَماعةِ التَّلاميذِ في العاصفةِ (لوقا 8: 24)، ولبُطرُسَ حينَ كانَ يَغرَقُ. ويَسوعُ يُحوِّلُ مِياهَ شَرِّنا إلى خَمرِ فَرَحِ الخَلاصِ، ويَملأُ نَقصَنا برَحمَتِه. أمّا عبارةُ "فمَلأُوها إلى أَعلاها" فتشيرُ إلى عَدَمِ تَرَدُّدِ الخَدَمِ لَحظةً في مَلءِ الأَجاجينَ ماءً. وهذا الأَمرُ يُذكِّرُنا بتاريخِ شَعبِ العَهدِ القَديمِ، عندما جَعَلَ موسى أمامَهم كلامَ العَهدِ، فأجابَ كُلُّ الشَّعبِ "كُلُّ ما تَكَلَّمَ الرَّبُّ بِهِ نَعمَلُه" (خروج 19: 8). ونحنُ، هل نُلَبّي الدَّعوَةَ مِثلَ الخَدَمِ في قانا الجليلِ؟ الأَجرانُ المُمتَلِئةُ ماءً تُرمِزُ إلى الدّيانةِ اليهوديّةِ التي يَتهيَّأُ يَسوعُ لأنْ يَنفُخَها بروحٍ مَسيحيّةٍ جَديدةٍ، كما جاءَ في تَعليمِ بولسَ الرَّسولِ: "فإِذا كانَ أَحَدٌ في المَسيحِ، فإِنَّهُ خَلقٌ جَديدٌ. قد زالَتِ الأَشياءُ القَديمةُ، وها قد جاءَت أشياءُ جديدةٌ" (2 قورنتس 5: 17).

 

8 فقالَ لَهم: اِغرِفوا الآنَ وناوِلوا وَكيلَ المائِدَة. فناوَلوه،

 

تشيرُ عبارةُ "اِغرِفوا الآنَ" إلى الخَدَمِ الذينَ استَقَوا الماءَ بأنفسِهم، شُهودًا على الأعجوبةِ الكائنةِ، ويَشهَدونَ أنَّ الأعجوبةَ لم تَكُنْ خَياليّةً. أمّا عبارةُ "وَكيلَ المائِدَةِ" فتشيرُ إلى مديرِ التّشريفاتِ، وهي عادةٌ شَرقِيّةٌ، حيثُ يَتَبرّعُ رجلٌ مَرموقُ الكرامةِ من أهلِ العَريسِ بتنظيمِ وإدارةِ حَفلِ العُرسِ، ولذلكَ فهو يَظلُّ يَقظًا دونَ أن يَسكَرَ، فلا يُخِلُّ بالواجِباتِ؛ فشَهادَتُهُ لها قيمتُها. ويُعلِّقُ القدّيسُ يوحنّا الذّهبيُّ الفمُّ قائلاً: "لكيلا يَقولَ أحدٌ إنَّ الشّهادةَ قد صَدَرَتْ عن أُناسٍ سكارى لا يَدرونَ الفارِقَ بينَ الخَمرِ والماءِ، جاءتِ الشّهادةُ من وَكيلِ المائِدَةِ الذي يَحرِصُ ألاَّ يَسكَرَ، إذ يلتَزِمُ بتَدبيرِ أمرِ العُرسِ بوقارٍ وحِكمةٍ". وكونُ المسيحِ هو الذي يَطلُبُ أن يَشرَبَ "وَكيلُ المائِدَةِ"، فهذا يُشيرُ إلى أنَّ المسيحَ هو العَريسُ الحقيقيُّ، والكلُّ مَدعُوّوهُ. والمسيحُ أيضًا لم يُكلِّفْ وَكيلَ المائِدَةِ بتَصديقِ استحالةِ الماءِ إلى خَمرٍ ما لم تَثبُتْ صِحّتُها بشَهادَةِ ذَوقِه، إذ أرادَ أن يَعتَرِفَ وَكيلُ المائِدَةِ بنوعيّةِ الخَمرِ التي تَحمِلُ قوّةً إلهيّةً قادِرَةً على أن تُعطيَ فَرَحًا حقيقيًّا لوجودِ اللهِ. شَهادةُ "وَكيلُ المائِدَةِ" تُثبِتُ حقيقةَ المُعجِزةِ. إِنَّ اللهَ يَكْشِفُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ خِلَالِ تَدَخُّلِهِ فِي حَيَاةِ النَّاسِ، دُونَ أَنْ يُبْرِزَ نَفْسَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ، بَلْ عَبْرَ حُضُورِهِ الْبَسِيطِ وَالْفَرِيدِ.

 

9 فلَمَّا ذاقَ الماءَ الَّذي صارَ خَمْراً، وكانَ لا يَدري مِن أَينَ أَتَت، في حينِ أَنَّ الخَدَمَ الَّذينَ غَرَفوا الماءَ كانوا يَدْرُون، دَعا العَريسَ.

 

تشيرُ عبارةُ "الماءَ الَّذي صارَ خَمْرًا" إلى المُعجِزةِ التي أوضَحَتْ سُلطانَ يسوعَ على الطَّبيعةِ، وأظهَرَتْ قوَّةَ اللهِ. وليسَ غريبًا أن يُحوِّلَ السَّيّدُ المسيحُ الماءَ إلى خَمْرٍ، فهو الذي يُخرِجُ من الأرضِ خَمْرًا (مزمور 107: 37)، حيثُ يَهَبُ الأرضَ أن تُنتِجَ كُرومًا يُعصَرُ عِنبُها ويَتَحوَّلُ إلى خَمرٍ. حوَّل يسوعُ ماءَ التَّطهيرِ إلى خَمرٍ، كي يَنقُلَنا من حَرْفيَّةِ النّاموسِ، حيثُ التَّطهيرُ، إلى فَرَحِ الرّوحِ، لنعيشَ في عَصرٍ جديدٍ وبِبِدايةٍ جديدةٍ. فَالماءُ القَديمُ يُمثِّلُ الشَّريعةَ والطُّقوسَ اليهوديَّةَ، بَينَما الخَمرُ الجديدُ يَرمُزُ إلى الخَلاصِ الذي أتى بِهِ المَسيحُ. ويَقولُ بولسُ الرَّسولُ: "قد زالَتِ الأَشياءُ القَديمةُ، وها قد جاءَتْ أشياءٌ جديدةٌ" (2 قورنتس 5: 17). وهنا نَتساءَلُ: من أين جاءت هذهِ الخَمرةُ؟ فالعَريسُ لا جَوابَ له، أمّا الخَدَمُ فكانوا يَعرفونَ، ولكن لا نَعرِفُ إنْ آمَنوا؛ أمّا التّلاميذُ فآمَنوا. ولا زالَتِ الكنيسةُ في القُدّاسِ الإلهيِّ تَشرَبُ من خَمرةِ عُرسِ قانا الجليلِ المُحوَّلِ إلى دَمِ المسيحِ حتّى عَودَتِه. وصارت مِياهُ التّطهيرِ عندَ اليهودِ خَمرةَ العهدِ الجديدِ من أجلِ عالَمٍ جديدٍ، من خلالِ عَشاءِ الفِصحِ وتَقديسِ الخَمْرِ (مرقس 14: 13-25). وهذهِ المُعجِزةُ تَدُلُّ على مِياهِ التَّطهيرِ لدى اليهودِ التي صارت خَمرةَ العهدِ الجديدِ لأجلِ عالَمٍ جديدٍ (مرقس 14: 13-25). فمَن يَستطيعُ أن يُحوِّلَ الماءَ إلى خَمْرٍ، يَستطيعُ أن يُحوِّلَ الخَمْرَ إلى دَمٍ في العَشاءِ الأخيرِ مع تلاميذِهِ. قد جاءَ يسوعُ إلى العالَمِ ليُحوِّلَ حياتَنا إلى عُرسِ فَرَحٍ. إنّهُ يُحوِّلُ ماءَ حياتِنا إلى خَمْرٍ يُشيرُ إلى الفَرَحِ الرّوحِيِّ الأَبديِّ، كما جاءَ في تَعليمِ بولسَ الرَّسولِ: "دَعوا الرُّوحَ يَملأُكُم، واتْلوا مَعًا مَزاميرَ وتَسابِيحَ وأَناشيدَ رُوحِيَّةً. رَتِّلوا وسَبِّحوا للرَّبِّ في قُلوبِكُم، واشكُروا اللهَ الآبَ كُلَّ حينٍ على كُلِّ شيءٍ باسمِ ربِّنا يسوعَ المسيح" (أفسس 5: 18-20). فالمُعجِزةُ إذا تَمَّت، فهي تَدُلُّ على تَتْميمِ إرادةِ الآبِ السَّماويِّ، وأمّا مريمُ هنا فهي الوسيطةُ أو الشّفيعةُ، وصلواتُنا تَكونُ مَقبولةً بشَفاعَتِها. أمّا عبارةُ "خَمْرًا" فتشيرُ في العَهدِ القَديمِ، إلى الفَرَحِ والبَرَكَةِ (مَزمورُ 104: 15). والخَمرُ هو رمزُ البَرَكةِ التي يَنالُها الشّعبُ المُختارُ نتيجةَ العَهدِ مع اللهِ (إرميا 2: 21). ومِن خِلالِ هذهِ المُعجِزَةِ، يُظهِرُ يَسوعُ أنَّهُ مَصدَرُ الفَرَحِ الحَقيقيِّ لِلحَياةِ، ليسَ فقط الفَرَحَ الأرضيَّ، بَل الفَرَحَ الرُّوحيَّ الدَّائمَ، أي فَرَحَ العَهدِ الجَديدِ أي الإنجيلِ (إشَعْياءَ 25: 6).  والخَمرُ في هذا النّصِّ الإنجيليِّ هو رمزٌ لإعادةِ تَجديدِ العَهدِ بينَ اللهِ وشَعبِهِ، وهو العَهدُ الذي حَطَّمَهُ الشّعبُ بِسَبَبِ خِيانَتِهِ للرّبِّ. ويُعيدُ يسوعُ المسيحُ بآيةِ التّحويلِ تَجديدَ العَهدِ المُحَطَّمِ بينَ اللهِ وشَعبِهِ. أمّا عبارةُ "وكانَ لا يَدري مِن أَينَ أَتَتْ" فتشيرُ إلى وَكيلِ المائِدَةِ الذي شَرِبَ الخَمْرَ وأعجَبَتْهُ وتَوَقَّفَ عندَ هذا الأمرِ، وهو مَن رَأى مُعجِزَةَ المسيحِ وأعجَبَهُ كلامُه، ولكنَّهُ لم يَتَغيَّرْ ولم يُؤمِنْ. أمّا عبارةُ "غَرَفوا" في الأصلِ اليونانيِّ ἠντληκότες (ومعناها سَحَبَ من مصدرٍ عَميقٍ)، فتشيرُ إلى أَجرانٍ ضَخمةٍ جدًا وأفواهُها مُتَّسِعَةٌ، ولا يُمكِنُ سَكبُ الخَمْرِ منها إلّا بِسَحبِها بِكوزٍ ذي يَدٍ طَويلةٍ. أمّا عبارةُ "كانوا يَدْرُون" فتشيرُ إلى الخَدَمِ الذينَ عَرَفوا المسيحَ لشَخصِهِ، وعَرَفوا قُوَّتَهُ ونِعمَتَهُ، وعَلِموا أنَّهُ ابنُ اللهِ، فدَخَلوا في شَرِكَةٍ معهُ (متّى 26: 29). هؤلاءِ اختَبَروا قُوَّةَ التّجديدِ ولذَّةَ الفَرَحِ. أمّا عبارةُ 'دَعا العَريسَ' فتشيرُ إلى ظُهورِ العَريسِ بمَظهَرٍ عابِرٍ، إذْ ناداهُ وَكيلُ المائِدَةِ." أمّا عبارةُ "العريس" فتشيرُ إلى عَدَمِ ذِكرِ اسمِهِ ولا اسمِ أُمِّهِ. إنَّ هذا الغِيابَ هو رمزٌ مَقصودٌ من قِبَلِ الكاتِبِ لإظهارِ العَريسِ الحقيقيِّ: فيسوعُ هو الّذي سَدَّ النَّقصَ وقدَّمَ في النّهايةِ الخَمرَ الجَيّدةَ، وهو العَريسُ الحقيقيُّ الّذي يَدخُلُ في عَهدٍ جديدٍ، عَهدِ حُبٍّ مع الإنسانيّةِ. العَريسُ هو شَخصُ يَسوعَ، والعَروسُ هي البَشَرِيّةُ الّتي يُحِبُّها يَسوعُ، فهوَ قد أتى خَصِّيصًا لِيَتَّحِدَ بِها نِهائيًّا في العُرسِ الأبَدِيِّ كما جَاء في نَبوءة إشَعْياءَ (62: 1-5). ويرى البعضُ أنَّ العَريسَ هو سِمعانُ (متّى 10: 4)، وقيلَ إنّهُ بعدَ تلكَ الآيةِ قامَ وتَرَكَ كُلَّ شيءٍ وتَبِعَهُ، فكانَ من تَلاميذِهِ الاثنَي عَشَرَ، ولُقِّبَ بِسِمعانَ الغَيورِ (لوقا 6: 15). فقَد صارَ عَروسًا للعَريسِ الحقيقيِّ، الرّبِّ يسوعَ المسيحِ، كما صرَّحَ يوحنّا أنَّ يسوعَ هو العَريسُ الحقيقيُّ (يوحنّا 3: 29)، الّذي قدَّمَ خَمرَ العُرسِ، وعُرسُهُ هو عُرسُ الحَمَلِ المَسيحانيِّ الذي بَشَّرَ به يوحنّا المَعمَدانُ بِمجيئِهِ. والعَريسُ في آخِرِ الأمرِ هو المسيحُ المَصلوبُ الذي يُثبِتُ العَهدَ الجديدَ بِدَمِهِ: "هذهِ الكَأسُ هي العَهْدُ الجَديدُ بِدَمي" (1 قورنتس 11: 25). علمًا أنَّ لَقَبَ "عَريس" هو أحدُ الألقابِ التي اتَّخَذَها اللهُ لِنَفسِهِ (إشَعْياءَ 54: 5)، وقد أطلقَ يسوعُ على نَفسِهِ هذا اللَّقَبَ: "سَتَأتي أيّامٌ فيها يُرفَعُ العَريسُ مِن بَينِهِم" (متّى 9: 15). وما مِن أمرٍ أسمى من التَّحوُّل: كما بَدَأَتْ حياةُ يسوعَ العلنيّةُ وخُتِمَتْ بِأعجوبةِ تَحويلٍ، كذلك نَبدأُ حياتَنا ونَختِمُها بالتّحوُّلِ: في المَعموديّةِ نَتحوَّلُ من المَوتِ إلى الحياةِ، وفي الإفخارستيا نَتحوَّلُ إلى جَسَدِ المسيحِ ودَمِهِ، وفي المَسحةِ الأخيرةِ نَتحوَّلُ من الحياةِ الزّمنيّةِ إلى الحياةِ الأبديّةِ. المُعجِزَةُ تُذَكِّرُنا بأنَّ المسيحَ قادِرٌ على إحداثِ تَحوُّلٍ داخليٍّ في حَياتِنا، مِن حالَةِ الفَراغِ الرُّوحيِّ إلى حالَةِ الفَرَحِ والامتلاءِ بالنِّعمَةِ.

 

10 قالَ له: كُلُّ امرِىءٍ يُقَدِّمُ الخَمرَةَ الجَيِّدَةَ أَوَّلاً، فإِذا سَكِرَ النَّاس، قَدَّمَ ما كانَ دونَها في الجُودَة. أَمَّا أَنتَ فحَفِظتَ الخَمرَةَ الجَيِّدَةَ إلى الآن.

 

تشيرُ عبارةُ "الخَمرَةَ الجَيِّدَةَ إلى الآن" إلى الخَمرَةِ التي يَحتَفِظُ بها اللهُ إلى الأزمنةِ الأخيرةِ، وهي زَمَنُ يسوعَ المسيحِ. وهذا الزَّمَنُ يُمثِّلُ النِّعمةَ في العَهدِ الجديدِ بِجودَتِها ووَفرَتِها، لذلك تَعتَبِرُ الدّيانةُ اليهوديّةُ الخَمرَةَ مِن النِّعَمِ المسيحانيّةِ (التَّكوين 49: 10). فقد صرَّحَ المسيحُ أنَّ العَهدَ الجديدَ المُؤَسَّسَ في شَخصِهِ هو خَمرٌ جديدٌ يَشُقُّ الزِّقاقَ القديمةَ (مرقس 2: 22). ويُعلِّقُ القدّيسُ أوغسطينوس قائلاً: "العَريسُ الذي قيلَ له: 'قد أبقَيتَ الخَمرَ الجَيّدةَ إلى الآن' يُمثِّلُ شخصَ الرَّبِّ. لأنَّ الخَمرَ الجَيّدةَ -أعني الإنجيلَ-حَفِظَهُ المسيحُ حتى الآن". أمّا الخَمرُ فيتميَّزُ بِكَوْنِهِ "يُفرِحُ قَلبَ الإنسانِ" (مزمور 104: 15)، وهو أحدُ عناصِرِ الوَلِيمَةِ الخاصّةِ بالمسيحِ المُنتَظَرِ، ولكن أيضًا، وقَبلَ كُلِّ شيءٍ، جُزءٌ من عَشاءِ الإفخارستيّا، حيثُ يَغترِفُ المؤمنُ الفَرَحَ مِن مَحبّةِ المسيحِ. والسّعادةُ التي وَعَدَ بها اللهُ مُؤمنيهِ يُعبَّرُ عنها غالبًا في صورةِ وفرةِ الخَمرِ الكثيرةِ (عاموس 9: 14). فإنَّ خَمرَ العُرسِ في قانا الجليلِ يُظهِرُ أنَّ خَمرَ العُرسِ هو الخَمرُ الطّيّبُ المُنتَظَرُ "إلى الآن"؛ وهو هِبَةُ مَحبّةِ المسيحِ، وعلامةُ الفَرَحِ الذي يُحقِّقُهُ مَجيءُ المسيحِ (يوحنّا 2: 10). يَدْعُونَا الرَّبُّ إلى وَلِيمَةُ الْعُرْسِ الَّتِي َتَهَبُ لِحَيَاتِنَا فَرَحًا مُتَجَدِّدًا فِي كُلِّ يَوْم، فَرَحًا لا يَنْضب ولا يَتأثَّر بِظروفِ الحَياة. أمّا عبارةُ "الخَمرَةَ الجَيِّدَةَ" فلا تَشيرُ إلى خَمرٍ فَحَسْب، إنّما إلى خَمرٍ جيِّدٍ، بل خَيرِ الخُمورِ في الوَفرةِ والجَودةِ. ويُعلِّقُ القدّيسُ يوحنّا الذّهبيُّ الفمُّ قائلاً: "لم يُحوِّلِ المسيحُ الماءَ إلى خَمرٍ فَحَسْب، لكنهُ صيَّرَهُ خَمرًا فائِقَ الجَودةِ"، مما يَدُلُّ على الوَلِيمَةِ في آخِرِ الأزمنةِ التي يَخصُّ بِها يسوعُ المؤمنينَ في مَلكوتِ أبيهِ، أي الإفخارستيّا. ويُعلِّقُ القدّيسُ ايرينيوس قائلاً: "المسيحُ يُقدِّمُ لكنيستِهِ كأسَ الخَمرَةِ الكامِلَةِ التي لا تَنضُبُ، نبعَ الفَرَحِ والحياةِ الأبدِيّةِ والعَهدِ الجديدِ بِدَمِهِ". فَقبلَ أن يَشرَبَ المسيحيُّ المُؤمِنُ الخَمرَةَ الجديدةَ في مَلكوتِ اللهِ، سَيَشرَبُ على مَرِّ الأيّامِ الخَمرَةَ التي تَحوَّلَتْ إلى الدَّمِ المَسكوبِ في مُخلِّصِهِ، كما جاءَ في تَعليمِ بولسَ الرَّسولِ: "أَلَيسَت كَأسُ البَرَكَةِ الَّتي نُبارِكُها مُشارَكَةً في دَمِ المسيحِ؟" (1 قورنتس 10: 16). وهناكَ سؤالان: من أين جاءت هذه الخَمرَةُ؟ وما قيمةُ هذهِ الآيةِ؟ كما كانت الخَمرَةُ التي صَنَعَها يسوعُ هي الأفضَلَ والأجوَدَ، كذلكَ حياتُنا معهُ هي الأفضَلُ. فلماذا نُؤَجِّرُ الأفضَلَ إلى النِّهايةِ؟

 

11 هذِه أُولى آياتِ يسوع أَتى بها في قانا الجَليل، فأَظهَرَ مَجدَه فَآمَنَ بِه تَلاميذُه.

 

تشيرُ عبارةُ "أُولى آياتِ يسوع" إلى بَدَايَةِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي سَتُعِيدُ الْفَرَحَ وَالْحَيَاةَ لِلْإِنْسَانِ الْيَائِسِ.  وهي أوَّلِ بُرهانٍ على صِدقِ رسالةِ المسيحِ، ضدَّ ما وَرَدَ في الأناجيلِ الأبوكرافيةِ التي ذُكِرَتْ فيها معجزاتٌ صَنَعَها يسوعُ وهو طِفلٌ. وهذه المعجزاتُ غَيرُ لائقةٍ بهِ. ويُسمِّي يوحنّا البشيرُ أفعالَ يسوعَ الإلهيّةَ "آياتٍ" بالنّظرِ إلى غايتِها، لتكونَ بُرهانًا على صِحّةِ رسالتِهِ وعَلامةً على صِدقِ لاهوتِهِ. ويُعلِّقُ القدّيسُ يوحنّا الذّهبيُّ الفمُّ قائلاً: "إنَّ يوحنّا المعمدانَ قد قالَ سابقًا عن المسيح: 'وأنا لم أكن أعرفُه، ولكنِّي ما جئتُ أُعمِّدُ في الماء" (يوحنّا 1: 31). فلو كانَ المسيحُ صَنَعَ في عُمرِهِ المُبَكِّرِ عجائبَ، لَما كانَ اليهودُ قد احتاجوا إلى آخَرَ يُعلِنُ عنه. لأنَّ ذاكَ (يسوع) الذي جاءَ بينَ الناسِ وبِمُعجِزاتٍ صارَ معروفًا، ليسَ فقط لِلذينَ في اليهوديّةِ، وإنّما أيضًا لِلذينَ في سوريّةَ وما وراءَها". وكانت أوَّلُ مُعجِزَةٍ صَنَعَها المسيحُ هي تحويلُ الماءِ إلى خَمرٍ، وآخِرُ آيةٍ صَنَعَها هي تحويلُ الخَمرِ إلى دَمِهِ في العشاءِ الأخيرِ: "أَخَذَ كَأسًا وشَكَرَ وناولَهم إيّاها قائلاً: اِشرَبوا منها كُلُّكم فهذا هو دَمي" (متّى 26: 27). ولم يذكُرْ يوحنّا البشيرُ في إنجيلِهِ سوى سَبعِ آياتٍ من أصلِ 42 مُعجِزَةً.

 

ويَذكُرُ لنا يوحنّا هذه السّبعَ آياتٍ:

 

1. تحويلُ الماءِ إلى خَمرٍ في عُرسِ قانا الجليلِ (يوحنّا 2: 1-12).

2. شِفاءُ ابنِ عاملِ المَلِكِ في قانا الجليلِ (يوحنّا 4: 37-43).

3. شِفاءُ المَقعَدِ عندَ بَرْكَةِ الغنمِ (يوحنّا 5: 1-9).

4. معجزةُ الخُبزِ والسَّمَكتينِ (يوحنّا 6: 1-15).

5. يَسوعُ يَمشي على الماءِ (يوحنّا 6: 16-21).

6. شِفاءُ الأعمى في أُورُشليمَ (يوحنّا 9: 1-38).

7. إحياءُ لَعازرَ (يوحنّا 11: 1-44).

 

أمّا عبارةُ "آياتِ" في الأصلِ اليونانيِّ σημεῖον فتشيرُ إلى طَبيعةِ صانِعِ العَملِ، أي هي عَملٌ يَكشِفُ عن طَبيعةِ مَن عَمِلَهُ، وهي بذلكَ تَختَلِفُ عن اللفظةِ συναμις التي تَشيرُ إلى أَعمالِ القُدرةِ أو عَملِ القوّةِ. فالمُعجِزةُ تَدُلُّ على عَملِ قُدرةِ يسوعَ (δύναμις)، أمّا "الآياتُ" فتشيرُ إلى مُعجِزاتٍ تُعلِنُ مَجدَ يسوعَ وتَشهَدُ على افتتاحِ الزَّمنِ المسيحانيِّ (متّى 12: 38). وقد اعتبَرَ يوحنّا الإنجيليُّ معجزةَ قانا الجليلِ آيةً، أي فِعلًا رَمزيًّا على غِرارِ العَهدِ القديمِ (إشَعْياءَ 66: 19)، بحيثُ تَدُلُّ المُعجِزَةُ على حَدَثٍ يُمكِّنُ المؤمنينَ من الشُّعورِ، مُنذُ الآنَ، بمَجدِ يسوعَ في الأزمنةِ الأخيرةِ، وتَدعو الجميعَ إلى التَّعَرُّفِ على يسوعَ كابنِ اللهِ. فالمسيحُ بَدَأَ نِظامًا جديدًا في العالَمِ. وهكذا أَعلَنَ مَجدَهُ وأدّى شَهادةً للعَصرِ المسيحانيِّ الجديدِ. أمّا عبارةُ "أَتى بها" فتشيرُ إلى نُبوءَةِ إشَعْياءَ المُتعلِّقَةِ بتِلكَ البِقاعِ، وهذا نَصُّها: "الشَّعبُ السَّائِرُ في الظُّلمَةِ أبصَرَ نورًا عظيمًا، والمُقيمونَ في بُقعَةِ الظَّلام أشرَقَ عليهم النُّور. كثَّرتَ لهُ الأُمّةَ ووفَّرتَ لها الفَرَحَ، يَفرَحونَ أمامَكَ كالفَرَحِ في الحِصادِ وكابتهاجِ الذينَ يَتقاسَمونَ الغَنيمةَ" (إشَعْياءَ 9: 1-2). أمّا عبارةُ "أُولى آياتِ" فتشيرُ إلى بَدءِ الآياتِ العَشرِ التي أجراها اللهُ على يَدِ موسى في مِصرَ. وكانت أوَّلُها تحويلَ الماءِ إلى دَمٍ للانتقامِ، بينما قامَ يسوعُ بتحويلِ الماءِ إلى خَمرٍ للبركةِ.  أمّا "ثانِيَةُ آياتِ يسوعَ، أتى بها بعدَ رُجوعِهِ منَ اليهوديّةِ إلى الجليلِ"، فهي شِفاءُ ابنِ عاملِ المَلِكِ في كَفرناحومَ (يوحنّا 4: 54). أمَّا عِبارةُ "فَأَظهَرَ مَجدَهُ" فتُشيرُ إلى تأكيدِ الهَدَفِ مِنَ الآيةِ، وهوَ إعلانُ مَجدِ المسيحِ الإلهيِّ وجَذبُ التَّلاميذِ إلى الإيمانِ بِهِ. أمّا عبارةُ "مَجدَه" فتشيرُ إلى الحَضرةِ الإلهيّةِ، إذ أُعلِنَ حضورُ الآبِ في ابنِهِ الوَحيدِ، الذي يُخبِرُ عنهُ كما وَرَدَ في الإنجيلِ: "الكَلِمَةُ صارَ بَشَرًا فسَكَنَ بَينَنا، فرأينا مَجدَه، مَجدًا مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيدٍ مِلؤُهُ النِّعمةُ والحَقُّ" (يوحنّا 1: 14). يَكشِفُ اللهُ المَجدَ في الكتابِ المقدّسِ تارةً بِصورةِ بَهاءِ نَيِّرٍ يُلازِمُ ما هو مُقدَّسٌ، وتارةً أخرى بِصورةِ أحداثٍ تَكشِفُ قُدرَتَهُ تعالى. اللَّهُ يُمَجِّدُنا حينما يُعلِنُ حُضورَهُ فينا، ونحنُ نُمَجِّدُهُ حينما نُعلِنُ حُضورَهُ في العالَمِ. غايةُ يسوعَ الأُولى من المُعجِزاتِ هي إظهارُ مَجدِهِ الذي كانَ مَحجوبًا عن أعيُنِ سائرِ الناسِ مُدّةَ ثلاثينَ سنةً، وهو ساكِنٌ مَعَهُم، يَظهَرُ لهم في الهَيئةِ كسائِرِ الناسِ. لِذلك تَحتَفِلُ الكنيسةُ بعيدِ عُرسِ قانا الجليلِ مع أعيادِ الظُّهورِ الإلهيِّ الذي فيهِ استُعلِنَ الثّالوثُ. أمّا عبارةُ "آمَنَ بِهِ تَلاميذُه" فتشيرُ إلى باكورةِ إيمانِ التّلاميذِ الذي جاءَ نتيجةً للمُعجِزَةِ. عندما شاهَدَ التّلاميذُ مُعجِزَةَ يسوعَ آمَنوا به. هم قَبلًا أُعجِبوا بهِ وتَبِعوهُ، لكنّهُم بعدَ المُعجِزَةِ عَرَفوا مَجدَهُ فآمَنوا بهِ. وبَلَغَت ذُروةُ إيمانِ التّلاميذِ في عيدِ الفِصحِ، كما جاءَ في خِبرةِ يوحنّا الحَبيبِ: "فرأى وآمَنَ" (يوحنّا 20: 8). وكما عَرَفَ تِلميذا عِمواسَ المسيحَ وقتَ كَسرِ الخُبزِ، كذلكَ عَرَفَهُ التّلاميذُ هنا حينما حوَّلَ الماءَ إلى خَمرٍ. فالمُعجِزَةُ ليست مُجَرَّدَ عَملٍ فائقٍ للعَقلِ البشريِّ، لكنها تُظهِرُ قُوّةَ اللهِ وتُوَلِّدُ الإيمانَ وتُجدِّدُ الخَليقَةَ. وبما أنّ هذهِ الآيةَ لم يَتبَعْها حديثٌ كباقي الآياتِ الأُخرى، فهذا يَعني أنَّ يوحنّا الإنجيليَّ أرادَ أن يُعطيَ هذهِ الآيةَ تَفسيرًا جديدًا مُتعلِّقًا بالعَصرِ الجديدِ الذي كانَ مُزمِعًا أن يَبدَأَهُ.

 

12  ونَزَلَ بَعدَ ذلكَ إلى كَفَرناحوم هو وأُمُّه وإِخوَتُه وتَلاميذُه، فأَقاموا فيها بِضعَةَ أَيَّام

 

تشيرُ عبارةُ "نَزَلَ" إلى النُّزولِ إلى كَفَرناحومَ الواقِعةِ على شاطئِ البُحيرةِ، باعتبارِ موقعِ قانا الجليلِ أعلَى منها. ويُلمِّحُ متّى الإنجيليُّ إلى سببِ نُزولِ يسوعَ إلى كَفَرناحومَ بقَولِه: " بلَغَ يسوعَ خَبرُ اعتِقالِ يوحنّا، فلَجأَ إلى الجليلِ. ثُمَّ تَركَ الناصِرةَ وجاءَ كَفَرْناحومَ على شاطِئِ البحرِ في بِلادِ زَبولونَ ونَفتالي، فسَكَنَ فيها" (متّى 4: 12-13). وأصبَحَت قانا الجليلِ، مثلَ أُورُشليم، رمزًا إلى حُضورِ اللهِ ومَجدِهِ. أمّا عبارةُ "هو وأُمُّه" فتشيرُ إلى ذِكرِ يسوعَ ومريمَ دونَ ذِكرِ يُوسُفَ، ومن المُرجَّحِ أنَّهُ قد ماتَ. أمّا عبارةُ "هو وأُمُّه وإِخوَتُه وتَلاميذُه" فتشيرُ إلى مُرافَقةِ هؤلاءِ ليسوعَ، وذلكَ لمُشاهَدَةِ الآياتِ التي تَوَقَّعوا أن يَصنَعَها. أمّا عبارةُ "كَفَرناحوم" فتشيرُ إلى مَدينَةٍ هامّةٍ، أقامَ فيها السّيّدُ المسيحُ خِلالَ خِدمتِهِ في الجليلِ، وجَعَلَ منها مَركزًا لدَعوتِهِ، حتّى أنّها دُعِيَت "مَدينتَه" (متّى 9: 1). وكانَ موقعُها على طريقٍ رئيسيٍّ للتّجارةِ، وفيها حاميةٌ رومانيّةٌ ومَركزٌ لِجبايةِ الضّرائِبِ. وفي كَفَرناحومَ، تَمَّت دَعوةُ متّى العشّارِ ليُصبِحَ تلميذًا ليسوعَ (متّى 9: 9)، كما كانت مَوطِنًا لعدّةِ تلاميذَ آخَرينَ (متّى 4: 18-22)، ومَقرًّا لِرَجُلٍ من حاشِيَةِ المَلِكِ (يوحنّا 4: 46). وكانَ فيها مَجمَعٌ كبيرٌ. وعلى الرُّغمِ من أنَّ يسوعَ جَعَلَ من كَفَرناحومَ مَركزًا لأعمالِهِ، إلّا أنَّهُ أدانَها لِعَدَمِ إيمانِ أهلِها بهِ، كما جاءَ في تَعنيفِهِ لها: "وأنتِ يا كَفَرناحومُ، أتُراكِ تُرفَعينَ إلى السّماءِ؟ سيُهبَطُ بِكِ إلى مَثوى الأمواتِ. فلَو جَرَى في سَدومَ ما جَرى فيكِ مِنَ المُعجِزاتِ، لَبَقِيَت إلى اليومِ" (متّى 11: 23). أمّا عبارةُ "إِخوَتُه" فتشيرُ في الكتابِ المقدّسِ إلى أبناءِ أُمٍّ واحدةٍ، كما تدُلُّ أيضًا على أبناءِ عُمومَتِهِ والأقارِبِ، كما هي العادَةُ المُتَّبَعةُ في الشّرقِ (التكوين 13: 8؛ 14: 16؛ 29: 15؛ الأحبار 10: 4؛ 1 أخبار 23: 22). وهنا تَدُلُّ لفظةُ "إِخوَتُه" على الأقارِبِ. أمّا عبارةُ "فأَقاموا فيها بِضعَةَ أيّامٍ" فتشيرُ إلى فُرصَةٍ للرسلِ لِزيارةِ بُيوتِهِم قَبلَ أن يَدعوَهُم يسوعُ رُسُلًا ليَبقوا معهُ دائمًا. يُركِّزُ يوحنّا الإنجيليُّ على خِدمَةِ المسيحِ في اليهوديّةِ، خاصّةً في أُورُشليمَ، وتَحدَّثَ قليلًا عن خِدمتِهِ في الجليلِ (يوحنّا 2: 1-22؛ 4: 43-54؛ 6: 1-7: 9؛ 21: 1-25)، على عكسِ الأناجيلِ الثّلاثةِ (متّى ومرقس ولوقا) التي ركَّزَت على خِدمَةِ المسيحِ في الناصِرَةِ والجليلِ.

 

 

ثانياً: تطبيقات نص الإنجيلي (يوحنا 2: 1-11)

 

بعدَ دِراسةِ وَقائِعِ النَّصِّ الإنجيليِّ (يوحنّا 2: 1-11) نستَنتِجُ أنَّهُ يَتمَحوَرُ حولَ ثلاثِ نِقاطٍ رئيسيّةٍ، وهي: ساعةُ مَجدِ المسيحِ، وساعةُ إيمانِ التّلاميذِ، وساعةُ تَضامُنِ مريمَ، أُمِّ يسوعَ.

 

1) ساعةُ مَجدِ المسيحِ

 

تُشيرُ كلمةُ "ساعة" في إنجيلِ يوحنّا إلى الوَقتِ الذي حَدَّدَهُ الآبُ لِظُهورٍ مُسبَقٍ لمَجدِ يسوعَ الإلهيِّ مِن خِلالِ الآياتِ والمُعجِزاتِ، وتَدُلُّ أيضًا في أغلبِ الأحيانِ على ساعةِ الصَّلبِ، لأنَّ الصَّلبَ هو عُبورٌ أو انتقالٌ إلى المَجدِ: " أتَتِ السّاعةُ الَّتي فيها يُمَجَّدُ ابنُ الإنسانِ" (يوحنّا 12: 23). ويُسمِّيها يوحنّا الإنجيليُّ أيضًا ساعةَ الارتفاعِ وساعةَ التَّمجيدِ، لأنَّ مَوتَهُ يُعطي الحياةَ للبَشَريّةِ. وإنَّ تقديمَ السّاعةِ في عُرسِ قانا هو إعلانٌ من يسوعَ للشَّعبِ، وللمرّةِ الأُولى، عَمّا هو مُزمِعٌ أن يَتَحقَّقَ في حياتِهِ، وفي مَوتِهِ وقِيامَتِهِ. إنَّهُ استِباقٌ لِساعةِ المَوتِ، لِساعةِ تَمجيدِ ابنِ الإنسانِ.

 

كانَ هَدَفُ يسوعَ مِن عَملِ مُعجِزَةِ تَحويلِ الماءِ إلى خَمرٍ هو إظهارُ مَجدِهِ: " هذِه أُولى آياتِ يسوعَ أتَى بها في قانا الجليلِ، فأظهَرَ مَجدَهُ" (يوحنّا 2: 11). إنَّ كلمةَ "المَجدِ" في النَّصِّ العِبريِّ مِنَ الكتابِ المقدّسِ وَرَدَت بِلَفظةِ "כְבוֹד"، وهي تُفيدُ الثِّقَلَ والوزنَ، أي الاحترامَ. فمَجدُ اللهِ في العَهدِ القَديمِ يَدُلُّ على تَجَلِّيهِ بِعَظَمتِهِ وسُلطانِهِ وبَهاءِ قُدسِهِ، وقُوَّةِ عَمَلِهِ وقُدرَتِهِ التي تَتَجَلّى للإنسانِ مِن خِلالِ الأحداثِ (خروج 16: 10).

 

إنَّ مَجدَ اللهِ كُلَّهُ حاضِرٌ في شَخصِ يسوعَ المسيحِ، حيثُ إنَّهُ ابنُ اللهِ، فهو "شُعاعُ مَجدِهِ وصُورةُ جَوهَرِهِ" (عبرانيين 1: 3)، ويُؤَكِّدُ ذلك بولسُ الرَّسولُ بأنَّ مَجدَ اللهِ يَتَجَلّى على وَجهِ المسيحِ: "هو الَّذي أشرَقَ في قُلوبِنا لِيَشُعَّ نُورُ مَعرِفَةِ مَجدِ اللهِ، ذلكَ المَجدِ الذي على وَجهِ المسيحِ" (2 قورنتس 4: 6). ومِنهُ يَشُعُّ على جَميعِ البَشَرِ: "ونَحنُ جَميعًا نَعكِسُ صورةَ مَجدِ الرَّبِّ" (2 قورنتس 3: 18). إنَّهُ "رَبُّ المَجدِ" (1 قورنتس 2: 8)، هذا المَجدُ الذي سَبَقَ أن رآهُ إشَعْياءَ النبيُّ "وتَكلَّمَ عنهُ" (يوحنّا 12: 41).

 

وبِعِبارَةٍ أُخرى، كلمةُ "المَجدِ" تُحَدِّدُ كِيانَ المسيحِ، الابنِ الوَحيدِ للآبِ، المُمتَلِئِ نِعمَةً وحَقًّا، كما جاءَ في مُقدِّمَةِ الإنجيلِ: "الكَلِمَةُ صارَ بَشَرًا فسَكَنَ بَينَنا، فرأينا مَجدَهُ، مَجدًا مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيدٍ مِلؤُهُ النِّعمَةُ والحَقُّ" (يوحنّا 1: 14).

 

يَكشِفُ إنجيلُ يوحنّا لنا بوضوحٍ المَجدَ في حياةِ يسوعَ، وعجائِبِهِ، ومَوتِهِ، حيثُ إنَّ يسوعَ هو "الكَلِمَةُ المُتجَسِّدُ، الابنُ الوَحيدُ للآبِ، المُمتَلِئُ نِعمَةً وحَقًّا" (يوحنّا 1: 14). في جَسَدِهِ يَسكُنُ ويَسطَعُ مَجدُ ابنِ اللهِ الوَحيدِ، ويتجلّى هذا المَجدُ في الاتّحادِ المُتَسامي بينَ يسوعَ وأبيهِ الذي أرسَلَهُ: "أنا والآبُ واحدٌ" (يوحنّا 10: 30). فأعمالُ يسوعَ هي أعمالُ الآبِ الذي "يأتي بها" في الابنِ (يوحنّا 14: 10)، ويُعلِنُ فيها مَجدَهُ الذي هو نُورٌ وحياةٌ للعالَمِ. ويَسطَعُ هذا المَجدُ في عجائِبِهِ كآياتٍ تُظهِرُ أنَّ اللهَ حاضِرٌ فيهِ، يَعمَلُ ويتجلّى ويأتي لِكَي يُخلِّصَنا، لذلك يُعلِنُ مَجدَهُ خُصوصًا في آلامِهِ.

 

فالآلامُ هي ساعةُ يسوعَ، بل أسمى ظُهورٍ لمَجدٍ إلهيٍّ فيهِ، إذ يَقولُ: "الآنَ تَمَجَّدَ ابنُ الإنسانِ وتمَجَّدَ اللهُ فيهِ" (يوحنّا 13: 31). في الآلامِ يُقدِّسُ يسوعُ نَفسَهُ مُقدِّمًا ذاتَهُ للمَوتِ: "وأنا أُقدِّسُ نَفسي مِن أَجلِهِم" (يوحنّا 17: 19).

 

والماءُ والدَّمُ الخارِجانِ مِن جَنبِ المسيحِ يُرمِزانِ إلى خُصوبَةِ مَوتِهِ، الذي صارَ مَنبَعَ حياةٍ أبديّةٍ، وفي هذا يَقومُ مَجدُهُ: "إذا عَطِشَ أحدٌ فليأتِ إلَيَّ، ومَن آمَنَ بي فليشرَبْ... فَقالَ هذا عنِ الرُّوحِ الَّذي كانَ المؤمنونَ بهِ سَيَنالونهُ" (يوحنّا 7: 37-39). والعَهدُ الجديدُ يَحتَفِظُ بالمَجدِ لابنِ الإنسانِ، الذي سيَأتي بِبَهاءِ مَجدِهِ على الغَمامِ في آخِرِ الأزمنةِ. يَظهَرُ هذا المَجدُ مِن أوّلِ مُعجِزَةٍ في عُرسِ قانا الجليلِ: "هذهِ أُولى آياتِ يسوعَ، أتَى بها في قانا الجليلِ فأَظهَرَ مَجدَهُ" (يوحنّا 2: 11).

 

ويُخصِّصُ إنجيلُ يوحنّا المسيحَ المُقيمَ بينَنا بهذا المَجدِ، ويَصِفُ عجائِبَ المسيحِ كآياتٍ تُظهِرُ أنَّ اللهَ حاضِرٌ فيهِ، يَعمَلُ ويتجلّى ويأتي لِيُخلِّصَنا؛ وهذا هو مَعنى أوّلِ آياتِ يسوعَ التي صَنَعَها في قانا الجليلِ. في قانا الجليلِ كانت أوّلُ مُعجِزَةٍ ليسوعَ هي تَحويلُ الماءِ إلى خَمرٍ، وفي أُورُشليمَ كانت آخِرُ مُعجِزاتِهِ بتحويلِ الخَمرِ إلى دَمٍ. وفي العَشاءِ الأخيرِ قَدَّمَ السيّدُ المسيحُ آخِرَ قَطرَةٍ مِن دَمِهِ، إذ قالَ: "هذهِ الكأسُ هي العهدُ الجديدُ بِدَمي الذي يُسفَكُ مِن أجلكُم (لوقا 22: 20). إنّها الخَمرَةُ المسيحيّةُ، إنّها العَهدُ الجديدُ الذي يُريدُ اللهُ أن يَقطَعَهُ معَ بني البَشَرِ بِدَمهِ على الصّليبِ. فبِإظهارِ مَجدِهِ عَرَفَ التّلاميذُ أنَّ عيدَ الفِصحِ قد بَدَأَ حَقًّا.

 

ونَستَنتِجُ مِمّا سَبَقَ أنَّهُ لمّا حوَّلَ يسوعُ الماءَ إلى خَمرٍ أظهَرَ أُلوهيّتَهُ ومَجدَهُ، وأظهَرَ نَفسَهُ المسيحَ، والعَريسَ، ومُؤَسِّسَ العَهدِ الجديدِ، فقد صَبَّ يسوعُ "الخَمرَةَ الجَيِّدَةَ" (يوحنّا 2: 10) التي يَحتَفِظُ بها اللهُ إلى الأزمنةِ الأخيرةِ. لأنَّ وَفرَةَ هذهِ الخَمرَةِ وجودَتَها هُما صُورَةٌ لِعَطاءِ اللهِ وتَجديدِ كُلِّ شيءٍ بالمسيحِ، حيثُ يَتَجلّى مَجدُ الرَّبِّ في جَودةِ الخَمرِ وفَيضِها، الذي يَكشِفُ مَحبّةَ اللهِ للبَشَرِ. وفي هذا الصَّدَدِ قالَ أحدُ مُفسِّري الكتابِ المقدّسِ: "سِرُّ قانا الجليلِ قائِمٌ على وُجودِ المسيحِ، العَريسِ الحقيقيِّ، المُستَتِرِ، أو بالأصحِّ الذي بَدَأَ يُظهِرُ نَفسَهُ".

 

2) ساعة إيمان التلاميذ

 

"فَآمَنَ بِهِ تَلاميذُه" (يوحنّا 2: 11). التلاميذُ الذين آمنوا به هُم تلاميذُ يوحنّا المَعمَدان، كما وَرَدَ في الفَصلِ السّابِقِ (يوحنّا 1: 35-51)، إذ أشارَ يوحنّا المَعمَدان إلى يسوعَ بقَولِهِ: "هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم" (يوحنّا 1: 29). وفي اليومِ التالي، رَدَّدَ شَهادتَهُ أمامَ اثنَينِ مِن تلاميذِهِ: أندراوس ويوحنّا، فَتَبِعَا يسوعَ. وأندراوسُ اقتادَ أخاهُ سِمعانَ إلى يسوعَ، ثُمّ دَعا يسوعُ فيلبّسَ، الذي جَلَبَ بدَورِهِ نتنائيلَ مِن قانا الجليلِ. هؤلاءِ جَميعًا رافَقوا يسوعَ إلى العُرسِ.

 

أمّا التّلاميذُ الذين عايَنوا الآيةَ وآمَنوا فَهُم: أندراوسُ ويوحنّا اللذانِ تَبِعا يسوعَ استِنادًا إلى شَهادةِ يوحنّا المَعمَدان: "هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم" (يوحنّا 1: 29)؛ وأندراوسُ اقتادَ أخاهُ سِمعانَ بُطرُسَ إلى يسوعَ، ثُمّ دَعا يسوعُ فيلبّسَ، الذي جَلَبَ بدَورِهِ نتنائيلَ مِن قانا (يوحنّا 1: 35-51). وهؤلاءِ جَميعًا رافَقوا يسوعَ إلى العُرسِ، حيثُ كانت أُمُّهُ مريمُ قد سَبَقَتْهُم.

 

ومِن أجلِ هؤلاءِ التّلاميذِ صَنَعَ يسوعُ هذهِ الآيةَ، فَعبَّروا عن إيمانِهِم بألقابٍ أطلَقوها على يسوعَ. فجاءَت شَهادةُ أندراوسَ بِقَولِهِ: "وَجَدْنا المَشيحَ ومَعناهُ المسيح" (يوحنّا 1: 41)، وشَهادةُ فيلبّسَ: "الَّذي كَتَبَ في شأنِهِ موسى في الشّريعةِ وذَكَرَهُ الأنبِياءُ، وَجَدْناهُ، وهو يسوعُ ابنُ يُوسُفَ مِنَ النّاصِرَةِ" (يوحنّا 1: 45)، ثُمّ شَهادةُ نتنائيلَ: "رابّي، أنتَ ابنُ اللهِ، أنتَ مَلِكُ إسرائيلَ" (يوحنّا 1: 49).

 

وخَتَمَ يسوعُ هذهِ الشّهاداتِ مُعلِنًا نَفسَهُ ابنَ الإنسانِ بقَولِهِ: "ستَرونَ السّماءَ مُنفَتِحَةً، ومَلائِكَةَ اللهِ صاعِدينَ ونازِلينَ فوقَ ابنِ الإنسانِ" (يوحنّا 1: 51). وهكذا تَحَقَّقَ هَدَفُ إنجيلِ يوحنّا: الشّهادَةُ للمسيحِ وإعلانُ سِرِّهِ، وحَملُ النّاسِ على الإيمانِ بشَخصِهِ في الدّرجةِ الأولى، كما صَرَّحَ يوحنّا الإنجيليُّ: "وأتى يسوعُ أمامَ التّلاميذِ بآياتٍ أُخرى كثيرةٍ لم تُكتَبْ في هذا الكِتاب، وإنّما كُتِبَتْ هذهِ لِتُؤمِنوا بأنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ اللهِ، ولِتَكونَ لَكُم إذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِهِ" (يوحنّا 20: 30).

 

ومِن خِلالِ مُعجِزَةِ قانا الجليلِ، أرادَ يسوعُ أيضًا أن يُقَوِّيَ إيمانَ تلاميذِهِ الجُدُدِ برسالتِهِ السّماويّةِ. فقد تَبِعَ يسوعَ خَمسةُ رجالٍ وأرادوا أن يَكونوا لهُ تلاميذَ. وكانَ يسوعُ يَعرِفُ أنَّهُم كانوا بِحاجةٍ إلى بُرهانٍ يُبَيِّنُ لهُم أنَّهُم لم يُخطِئوا في اتّباعِهِ والبَقاءِ معهُ. فاغتَنَمَ هذهِ الفُرصَةَ، وقدَّمَ لهُم البُرهانَ الذي يُزيلُ عنهُم كُلَّ تَرَدُّدٍ، ويُؤَكِّدُ لهُم أنَّهُم كانوا على صَوابٍ عندما لَبَّوا دَعوَتَهُ وانضَمّوا إليهِ. وكانَ البُرهانُ الذي قَدَّمَهُ لهُم أنَّهُ صَنَعَ مُعجِزَةً لا يَصنَعُها إلّا اللهُ وَحدَهُ. واطَّلَعَ الرّجالُ الخَمسةُ مع أهلِ العُرسِ على هذهِ المُعجِزَةِ، فمَجَّدوا قُدرَتَهُ الفائِقَةَ، وآمَنوا بهِ وتَبِعوهُ نِهائيًّا.

 

إنَّ الإيمانَ هو مَنبَعٌ ومَركزٌ للحياةِ الدّينيّةِ. وعلى الإنسانِ أن يَتجاوَبَ بالإيمانِ مع مُخطَّطِ اللهِ الذي يُحَقِّقُهُ على أرضِنا وفي تاريخِنا. وإنجيلُ يوحنّا هو إنجيلُ إيمانٍ. ففيهِ يَتَركَّزُ الإيمانُ، أوّلَ ما يَتَركَّزُ، في يسوعَ ومَجدِهِ الإلهيِّ. وتلاميذُ المسيحِ هُم "الذينَ آمَنوا بهِ" (أعمال 2: 44) و"الذينَ يُؤمِنون" (1 تسالونيقي 1: 7). لقد كانَ باستطاعَةِ جميعِ الحاضِرينَ في عُرسِ قانا الجليلِ "أن يَسمَعوا ويَرَوا" (متّى 13: 13) كلمةَ يسوعَ ومُعجِزَتَهُ التي تُعلِنُ مَجيءَ المَلكوتِ (متّى 11: 3-6). ولكن، أن يَرى النّاسُ حَقًّا ويُؤمِنوا (مرقس 1: 15)، إنّما كانَ ذلكَ مِيزةً اختَصَّ بها التّلاميذُ: "فَآمَنَ بِهِ تَلاميذُهُ" (يوحنّا 2: 11).

 

هذِهِ هِيَ الْمَرَّةُ الأُولَى الَّتِي يُعْلِنُ فِيهَا يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيُّ أَنَّ تَلاَمِيذَ يَسُوعَ "يُؤْمِنُونَ بِهِ". وَكَانَ ذٰلِكَ بَاكُورَةَ إِيمَانِهِمْ، وَقَدْ بَلَغَتْ ذُرْوَتَهَا فِي عِيدِ الْفِصْحِ كَمَا وَرَدَ فِي خِبْرَةِ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيِّ: “فَرَأَى وَآمَنَ” (يُوحَنَّا 2: 8-28). فَالإِيمَانُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ عَنْهُ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيُّ يُؤَلِّفُ جَمَاعَةً مِنَ التَّلاَمِيذِ حَوْلَ يَسُوعَ (يُوحَنَّا 10: 26-27). وَبِفَضْلِ تَوْجِيهِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ (يُوحَنَّا 1: 34-35) اكْتَشَفَ تَلاَمِيذُهُ مَجْدَ يَسُوعَ فِي قَانَا الْجَلِيلِ مِنْ خِلَالِ إِيمَانِهِمْ (يُوحَنَّا 2: 11). "فَقَبِلُوا كَلاَمَ الْمَسِيحِ” (يُوحَنَّا 12: 46-47) وَ"سَمِعُوا صَوْتَهُ" (يُوحَنَّا 10: 26-27) وَثَبَّتُوا إِيمَانَهُمْ بِفَمِ بُطْرُسَ فِي كَفْرَنَاحُومَ: "يَا رَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ وَكَلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ؟" (يُوحَنَّا 6: 68).

 

نَسْتَنْتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ إِيمَانَ التَّلاَمِيذِ يُؤَلِّفُ بَوَاكِيرَ الإِيمَانِ الْجَدِيدِ. وَعَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ نُؤْمِنَ بِيَسُوعَ (يُوحَنَّا 4: 39) وَبِاسْمِهِ (يُوحَنَّا 1: 12). فَالإِيمَانُ يَجِبُ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى الْحَقِيقَةِ غَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ لِمَجْدِ يَسُوعَ، دُونَ حَاجَةٍ إِلَى رُؤْيَةِ الْعَلَامَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تُظْهِرُهُ (يُوحَنَّا 2: 11-12). وَإِلْحَاحُ يُوحَنَّا عَلَى الإِيمَانِ وَعَلَى أَهَمِّيَّتِهِ، يُفَسِّرُهُ هَدَفُ إِنْجِيلِهِ بِالذَّاتِ: هُوَ حَمْلُ قُرَّائِهِ عَلَى أَنْ يُشَارِكُوهُ إِيمَانَهُ الْقَائِمَ عَلَى أَنَّ “يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ، ابْنُ اللَّهِ” (يُوحَنَّا 20: 31)، وَعَلَى أَنْ يَصِيرُوا أَبْنَاءَ اللَّهِ بِفَضْلِ الإِيمَانِ "بِالْكَلِمَةِ" الْمُتَجَسِّدِ (يُوحَنَّا 1: 9-14).

 

 

3) ساعة تضامن مريم، أم يسوع

 

يُحِيطُ إِنْجِيلُ يُوحَنَّا حَيَاةَ يَسُوعَ بِمَشْهَدَيْنِ يُبْرِزُ فِيهِمَا دَوْرُ مَرْيَمَ فِي تَضَامُنِهَا مَعَ يَسُوعَ ابْنِهَا. فِي الْمَشْهَدِ الأَوَّلِ فِي عُرْسِ قَانَا الْجَلِيلِ (يُوحَنَّا 2: 10–12) حَيْثُ يُحَدِّدُ يَسُوعُ دَوْرَ مَرْيَمَ كَمُؤْمِنَةٍ، وَفِي الْمَشْهَدِ الثَّانِي فِي الْجُلْجُلَةِ (يُوحَنَّا 29: 25–27) حَيْثُ يُحَدِّدُ يَسُوعُ دَوْرَ مَرْيَمَ كَأُمٍّ لِلتَّلَامِيذِ وَالْبَشَرِيَّةِ.

 

الْمَشْهَدُ الأَوَّلُ

 

عَرَفَتْ مَرْيَمُ كَيْفَ تَكُونُ حَاضِرَةً لِحُضُورِ اللهِ، عَرَفَتْ كَيْفَ تَسْمَعُ كَلِمَةَ اللهِ وَتَعْمَلُ بِهَا. فَكَمَا وَلَدَتْ مَرْيَمُ يَسُوعَ، هَكَذَا فِي قَانَا، سَاعَدَتِ ابْنَهَا ثَانِيَةً كَيْ يُولَدَ فِي حَيَاتِهِ الْعَلَنِيَّةِ، لِيَبْدَأَ رِسَالَتَهُ وَيُظْهِرَ مَجْدَهُ. فَدَوْرُ مَرْيَمَ رَئِيسِيٌّ هُوَ لَفْتُ انْتِبَاهِ يَسُوعَ إِلَى نَقْصِ الْخَمْرِ. وَبِالرَّغْمِ مِنْ تَبَايُنِ وِجْهَتَيِ النَّظَرِ بَيْنَ يَسُوعَ وَأُمِّهِ حَوْلَ سَاعَتِهِ لِعَمَلِ الْمُعْجِزَاتِ وَلِخَلاَصِ الْبَشَرِ، فَقَدْ خَضَعَتْ بِكُلِّ كِيَانِهَا لِسِرِّ تِلْكَ السَّاعَةِ؛ إِنَّهَا التِّلْمِيذَةُ الأُولَى.

 

تَوَجَّهَتْ مَرْيَمُ بِالْكَلَامِ إِلَى الْخَدَمِ فِي الْعُرْسِ كَيْ يَتَقَيَّدُوا بِأَوَامِرِ يَسُوعَ: "مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ". إِنَّهَا الْوَصِيَّةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي تُطْلِقُهَا مَرْيَمُ فِي الإِنْجِيلِ كُلِّهِ. وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ تَتَعَلَّقُ بِالْخُضُوعِ التَّامِّ لِلْمُخَلِّصِ الْوَحِيدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. وَقَبِلَتْ أَنْ تَكُونَ خَادِمَةً. فَوَقَفَتْ بِقُرْبِ ابْنِهَا، وَأَرْشَدَتِ النَّاسَ، بِإِيمَانِهَا وَطَاعَتِهَا وَاسْتِسْلاَمِهَا إِلَى طُرُقِ الْحَيَاةِ الْجَدِيدَةِ وَفَتَحَتْهَا لَهُمْ. إِذْ حَوَّلَتْ مَرْيَمُ الأَنْظَارَ إِلَى الْمَسِيحِ؛ فَدَوْرُهَا يَقُومُ بِتَمْهِيدِ الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّي إِلَى يَسُوعَ. فَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَضَعُ ذَاتَهَا فِي خِدْمَةِ الآخَرِينَ لِيَبْلُغُوا إِلَى يَسُوعَ. وَمِنْ هُنَا جَاءَتْ مَقُولَةُ الْقِدِّيسِ دُومِينِيك، مُؤَسِّسِ صَلاَةِ الْمَسْبَحَةِ الْوَرْدِيَّةِ لِإِكْرَامِهَا: "بِمَرْيَمَ إِلَى يَسُوعَ". مَرْيَمُ تُمَثِّلُ الْكَنِيسَةَ الَّتِي هِيَ الْمَدْخَلُ الْبَشَرِيُّ إِلَى الْمَسِيحِ.

 

بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ مَرْيَمَ لَمْ تُدْرِكْ مَا كَانَ يَسُوعُ سَيَفْعَلُهُ، إِلاَّ أَنَّهَا وَثِقَتْ بِهِ وَآمَنَتْ بِقُدْرَتِهِ الْعَجَائِبِيَّةِ. أَدْرَكَتْ مَرْيَمُ أَنَّ نَظَرَ ابْنِهَا يَنْفُذُ إِلَى أَبْعَدَ وَأَسْمَى مِنْ هُمُومِ السَّاعَةِ الْحَاضِرَةِ. وَاسْتَبَقَ يَسُوعُ سَاعَتَهُ فَخَلَقَ خَمْرَ الأَعْجُوبَةِ كَآيَةٍ لِمَجْدِ وَهِبَةِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ بِدَمِهِ. يُعَلِّقُ سَعِيدُ عَقْلٍ، مِنْ أَشْهَرِ الشُّعَرَاءِ اللُّبْنَانِيِّينَ، قَائِلاً: "إِنَّ مَرْيَمَ فِي قَانَا الْجَلِيلِ خَرْبَطَتْ سَاعَةَ اللهِ". إِنَّهَا قَدَّمَتِ السَّاعَةَ. بِهَذِهِ الأَعْجُوبَةِ يُؤَكِّدُ يَسُوعُ مِنْ بَدَايَةِ حَيَاتِهِ الْعَلَنِيَّةِ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الْبَشَرِ وَفِي خِدْمَةِ الْمُحْتَاجِينَ وَالْمُتَضَايِقِينَ. وَالأَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، يَسْطَعُ دَوْرُ مَرْيَمَ الْكَبِيرُ فِي حَيَاةِ الْبَشَرِ وَالْكَنِيسَةِ، فَهِيَ الشَّفِيعَةُ وَالْوَسِيطَةُ. فَيَسُوعُ جَاءَ بِوَاسِطَتِهَا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ، وَلِكَيْلاَ نَنْسَاهَا، فَقَدْ أَقَامَهَا لَنَا أُمًّا تَحْتَ الصَّلِيبِ، فَاصْطَبَحَتْ لَنَا الْوَسِيطَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِهَا يَسُوعَ فِي كُلِّ احْتِيَاجَاتِنَا.

 

نَسْتَنْتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الأَعْجُوبَةَ هِيَ جَوَابٌ لِطَاعَتِهَا وَإِيمَانِهَا. مَنْ يُؤْمِنُ بِيَسُوعَ، وَإِنْ وَجَدَ نَفْسَهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِفِ لاَ يَفْهَمُهَا، يَنْبَغِي أَلاَّ يَتَرَدَّدَ أَنْ يُوَاصِلَ الثِّقَةَ فِي يَسُوعَ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِأَفْضَلِ الطُّرُقِ. فَالأَعْجُوبَةُ هِيَ جَوَابٌ لِطَاعَةِ مَرْيَمَ وَإِيمَانِهَا. وَقَدْ أَرْشَدَتْ مَرْيَمُ النَّاسَ بِإِيمَانِهَا وَطَاعَتِهَا وَاسْتِسْلاَمِهَا إِلَى طُرُقِ الْحَيَاةِ الْجَدِيدَةِ، وَفَتَحَتْهَا لَهُمْ. فَكَانَتْ أَوَّلُ كَلِمَةِ إِيمَانٍ لِمَرْيَمَ: "أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ فَلْيَكُنْ لِي بِحَسَبِ قَوْلِكَ" (لُوقَا 1: 38)، وَهِيَ كَلِمَةُ الالْتِزَامِ الشَّخْصِيِّ لِرِسَالَةِ الْمَسِيحِ. وَآخِرُ كَلِمَةِ إِيمَانٍ لَهَا فِي الإِنْجِيلِ كَانَتْ: "مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ" (يُوحَنَّا 2: 5)، وَهِيَ كَلِمَةُ الدَّعْوَةِ الْمُوَجَّهَةُ إِلَى الْجَمِيعِ لِكَيْ يُؤْمِنُوا بِيَسُوعَ وَيَلْتَزِمُوا بِرِسَالَتِهِ وَيَعْمَلُوا بِهَا.

 

المَشهَدُ الثّاني

 

كَمَا كانَتْ مَريَمُ مَوجُودَةً في عُرسِ قَانَا الجَليلِ، كَذَلِكَ كانَتْ مَريَمُ وَاقِفَةً عِندَ قَدَمَيِ المَصلُوبِ في سَاعَةِ انتِقَالِهِ إِلَى أَبِيهِ، وَقَدْ اقتَرَبَ عِيدُ الفِصحِ (يُوحَنَّا 13: 19)، فَتَكَرَّسَتْ بِكَلِمَةِ ابنِهَا يَسُوعَ أُمًّا لِكُلِّ التَّلَامِيذِ. وَيَدعُو يَسُوعُ أُمَّهُ مَرَّةً أُخرَى "امرَأَةً" وَهِيَ وَاقِفَةٌ عِندَ الصَّلِيبِ، وَهِيَ تُمَثِّلُ الإِنسَانِيَّةَ المُخلَّصَةَ (يُوحَنَّا 19: 26)، كَونَهَا أَصبَحَتْ حَوَّاءَ الجَدِيدَةَ، أُمَّ البَشَرِيَّةِ جَمعَاءَ. فَفِي قَانَا كَانَتْ بَدَايَةُ عُرسِ الحَمَلِ، وَأَمَّا عَلَى الصَّلِيبِ فَكَانَ اكتِمَالُ العُرسِ. وَلَمْ تَتَرَدَّدْ مَريَمُ فِي أَنْ تُضَحِّيَ بِوَاقِعِ أَنَّهَا "أُمُّ يَسُوعَ" لِتُصبِحَ "امرَأَةً" شَعبِهَا، حَوَّاءَ الجَدِيدَةَ، المَرأَةَ الَّتِي تَبدَأُ مَعَهَا رِسَالَةُ الخَلاصِ.

 

نَستَنتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ دَورَ مَريَمَ يُمَثِّلُ استِمرَارِيَّةً بَينَ العَهدَينِ. فَهِيَ تُمَثِّلُ فِي قَانَا وَعِندَ أَقدَامِ الصَّلِيبِ العَهدَ القَدِيمَ الَّذِي يَنتَظِرُ وُصُولَ العَهدِ الجَدِيدِ وَيُسَاهِمُ فِي تَحقِيقِهِ، فَهِيَ الَّتِي تُعلِنُ أَنَّ مَاءَ العَهدِ القَدِيمِ قَدْ نَفِذَ، وَلَمْ تَعُدْ بِإِمكَانِهِ إِروَاءُ عَطَشِ الإِنسَانِ وَلَا بُدَّ مِنْ خَمرَةِ العَهدِ الجَدِيدِ. يَعكِسُ دَورُ مَريَمَ سِرَّ يَسُوعَ الَّذِي لَا يُمكِنُ فَصلُهُ عَنْ مَريَمَ أُمِّهِ، الَّذِي ارتَضَى أَنْ يُولَدَ مِنهَا، كَمَا جَاءَ فِي تَعلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "فَلَمَّا تَمَّ الزَّمَانُ، أَرسَلَ اللهُ ابنَهُ مَولُودًا لِامرَأَةٍ، مَولُودًا فِي حُكمِ الشَّرِيعَةِ" (غَلَاطِيَّة 4: 4).

 

إِنَّ هَذِهِ المُعجِزَةَ قَدْ حَمَلَتْ أَبنَاءَ الكَنِيسَةِ، مُنذُ القُرُونِ الأُولَى، فِي الشَّرقِ وَالغَربِ، عَلَى أَنْ يَرَوا فِي مَريَمَ، أُمِّ يَسُوعَ، "المَرأَةَ النَّمُوذَجِيَّةَ" الَّتِي تَتَمَنَّى كُلُّ مَرأَةٍ فِي قَلبِهَا أَنْ تَتَمَثَّلَ بِهَا، وَأَنْ يَتَضَرَّعُوا إِلَيهَا وَيَسأَلُوا شَفَاعَتَهَا الَّتِي لَا تَرُدُّ أَحَدًا خَائِبًا. لَقَدْ فَهِمُوا أَنَّ شَفَاعَتَهَا لَا تَتَعَارَضُ مَعَ شَفَاعَةِ يَسُوعَ وَلَا تَنُوبُ مَنَابَهَا. فَإِنَّ يَسُوعَ يَتَبَنَّى شَفَاعَةَ أُمِّهِ العَذْرَاءَ، وَيَحمِلُهَا إِلَى اللهِ الآبِ، وَيَجعَلُهَا مَعَ شَفَاعَتِهِ شَفَاعَةً وَاحِدَةً وَوِسَاطَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ هُوَ الشَّفِيعُ الأَصِيلُ وَالوَسِيطُ الأَوحَدُ بَينَ اللهِ وَالنَّاسِ، كَمَا ذَكَرَ بُولُسُ الرَّسُولُ ذَلِكَ فِي رِسَالَتِهِ الأُولَى إِلَى طِيمُوتَاوُسَ: "إِنَّ اللهَ وَاحِدٌ، وَالوَسِيطَ بَينَ اللهِ وَالنَّاسِ وَاحِدٌ، أَلَا وَهُوَ المَسِيحُ يَسُوعُ الإِنسَانُ" (1 طِيمُوتَاوُس 2: 5). وَهَذَا الأَمرُ يَحمِلُ المَسِيحِيِّينَ عَلَى الثِّقَةِ بِمَريَمَ أُمِّ يَسُوعَ وَطَلَبِ شَفَاعَتِهَا.

 

 

الخُلاصَةُ

 

يقعُ هذا النَّصُّ في بدايةِ إنجيلِ يوحنَّا، وهو الإنجيلُ الذي يُركِّزُ على إبرازِ الهُويَّةِ الإلهيَّةِ لِيَسوعَ المسيحِ مِن خلالِ آياتٍ مُعيَّنةٍ تُظهِرُ مَجدَهُ وتُؤكِّدُ لاهُوتَهُ، باعتبارِهِ المسيحَ المُرسَلَ مِنَ اللهِ، القادِرَ على تَحوِيلِ الطَّبيعةِ وتَقديمِ خَلاصٍ جَديدٍ. ويَكشِفُ هذا النَّصُّ أيضًا دَورَ مَريَمَ في الخَلاصِ كأوَّلِ مَن آمَنَ بِقُدرَةِ ابنِها، وبالتَّالي يُمكِنُ اعتِبارُها أوَّلَ مَن دَفَعَ الآخَرينَ إلى الإيمانِ بِهِ. ويَكشِفُ النَّصُّ أخيرًا بَدءَ "السَّاعةِ"، أي تَحديدَ تَوقيتِ الخَلاصِ الإلهيِّ الذي سيُكمَلُ بالصَّليبِ والقِيامَةِ. هذهِ المُعجِزَةُ، وإن كانت مُجَرَّدَ بِدايَةٍ، تُلَمِّحُ إلى المَسيرَةِ الكُبرى نَحوَ الخَلاصِ.

 

تبدأُ هذهِ الآيةُ في إنجيلِ يوحنَّا بإعلانٍ مَجيدٍ عن يَسوعَ باعتبارهِ "الكَلِمَةَ الَّذي صارَ جَسَدًا" (يوحنَّا 1: 14)، وتأتي مُعْجِزَةُ قَانَا الجَلِيلِ كَأولَى آيَاتِ يَسُوعَ فِي بَدْءِ خِدْمَتِهِ، حَيْثُ بَدَأَ عَصْرًا جَدِيدًا مَسِيحَانِيًّا، فِيهِ تَتَحَوَّلُ مِيَاهُ التَّطْهِيرِ حَسَبَ النَّامُوسِ القَدِيمِ إِلَى خَمْرٍ مِنْ صِنْفٍ جَدِيدٍ. وَفِي هَذِهِ الآيَةِ ظَهَرَتْ سَاعَةُ مَجْدِ يَسُوعَ وَسَاعَةُ إِيمَانِ التَّلاَمِيذِ وَسَاعَةُ تَضَامُنِ أُمِّهِ مَرْيَمَ. إِنَّ رُمُوزَ عُرْسِ قَانَا الجَلِيلِ، بِمَا فِيهَا مِنْ "عُرْسٍ" وَ"خَمْرٍ" وَ"اليَوْمِ الثَّالِثِ" وَ"السَّاعَةِ"، تَحْمِلُنَا إِلَى إِدْرَاكِ مَكَانَةِ عُرْسِ يَسُوعَ، الحَمَلِ الذَّبِيحِ وَقِيَامَتِهِ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ.

 

وَأَمَّا إِيمَانُ التَّلاَمِيذِ فَيَفْسَحُ المَجَالَ لِإِيمَانِ الكَنِيسَةِ. وَأَمَّا مَرْيَمُ، أُمُّ يَسُوعَ، فَتُصْبِحُ أُمًّا لِلْبَشَرِيَّةِ. فَمِنْ وَاجِبِنَا أَنْ نُندِّدَ بِالخَطِيئَةِ الَّتِي تَحْجُبُ مَجْدَ اللهِ (إشَعْياءَ 52: 5) مِنْ نَاحِيَةٍ، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى أَنْ نَعْتَرِفَ بِمَجْدِ اللهِ (مَزْمُور 147: 1) وَبِمَجْدِ المَسِيحِ يَسُوعَ ابْنِهِ، لِأَنَّ فِيهِ نَقُولُ للهِ: "آمِينُ، إِكْرَامًا لِمَجْدِهِ" (2 قُورِنْتُس 1: 20). وَبِهِ يَرْتَفِعُ "لِلهِ المَجْدُ أَبَدَ الدُّهُورِ" (رُومَة 16: 27). وَلِلهِ نُقَدِّمُ المَجْدَ مِنْ أَجْلِ مِيلاَدِهِ (لُوقَا 2: 20)، وَمِنْ أَجْلِ مُعْجِزَاتِهِ (مَرْقُس 2: 12)، وَمِنْ أَجْلِ مَوْتِهِ (لُوقَا 23: 4). وَفِي المَسِيحِ يَسُوعَ يَرْتَفِعُ التَّمْجِيدُ لِلآبِ عَلَى مَدَى جَمِيعِ الأَجْيَالِ وَالدُّهُورِ (أَفَسُس 3: 21). كَمَا أَنَّ مَجْدَ اللهِ يَتَجَلَّى فِي كَلاَمِ مَرْيَمَ إِلَى الخَدَمِ وَإِلَى كُلِّ مِنَّا: "مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ". وَمِنْ خِلَالِ إِيمَانِنَا، سَيَتَمَكَّنُ مَجْدُ اللهِ مِنْ أَنْ يَتَجَلَّى.

 

أَمَّا الخَمْرُ الجَدِيدَةُ الَّتِي حَوَّلَهَا الرَّبُّ يَسُوعُ فَتَشِيرُ إِلَى سِرِّ الإِفْخَارِسْتِيَّا، إِذْ نَشْرَبُ خَمْرًا جَدِيدَةً قَدَّسَهَا الرَّبُّ يَسُوعُ وَمَنَحَنَا إِيَّاهَا دَمًا كَرِيمًا لِلْعَهْدِ الجَدِيدِ: "لَنْ أَشْرَبَ بَعْدَ الآنِ مِنْ عَصِيرِ الكَرْمَةِ هَذَا حَتَّى ذَلِكَ اليَوْمِ الَّذِي فِيهِ أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ أَبِي" (مَتَّى 26: 29). الخَمْرَةُ الَّتِي صَيَّرَهَا الرَّبُّ فِي عُرْسِ قَانَا الجَلِيلِ لا بُدَّ أَنَّهَا انْتَهَتْ أَخِيرًا. أَمَّا الخَمْرَةُ الجَدِيدَةُ (دَمُهُ الكَرِيمُ) الَّتِي يُعْطِينَا إِيَّاهَا فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. عُرْسُ قَانَا الجَلِيلِ انْتَهَى، أَمَّا عُرْسُهُ السَّمَاوِيُّ وَفَرَحُ قُلُوبِنَا فَهُوَ بِلَا نِهَايَةٍ وَلَا انْقِضَاءِ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ كُلِّهَا.

 

وَأَخِيرًا، فَقَدْ اشْتَرَكَ يَسُوعُ فِي أَفْرَاحِ عُرْسِ قَانَا الجَلِيلِ لِيُقَدِّسَ الزَّوَاجَ المَسِيحِيَّ بِحُضُورِهِ، وَيَرْفَعَهُ مِنْ دَرَجَةِ عَقْدٍ طَبِيعِيٍّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ إِلَى مَقَامِ سِرٍّ إِلَهِيٍّ يَكُونُ مَجْلَبَةً لِلنِّعَمِ الكَثِيرَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا المُتَزَوِّجُونَ طُوَالَ أَيَّامِ حَيَاتِهِمْ، فَيَسْتَطِيعُونَ بِفَضْلِهَا أَنْ يَعِيشُوا عِيشَةً مُقَدَّسَةً، وَيَتَحَمَّلُوا بِصَبْرٍ وَمَوَدَّةٍ مُتَبَادَلَةٍ أَعْبَاءَ الحَيَاةِ المُشْتَرَكَةِ، وَيُرَبُّوا أَوْلَادَهُمْ تَرْبِيَةً صَالِحَةً.

 

 

دعاء

 

أيُّهَا الآبُ السَّمَاوِيُّ، يَا مَنْ مَجَّدْتَ ابْنَكَ يَسُوعَ مِنْ خِلَالِ تَحْوِيلِهِ الْمَاءَ خَمْرًا، أَعْطِنَا نِعْمَةَ الإِيمَانِ بِهِ رَبًّا وَمُخَلِّصًا، وَأَنْ نَقْبَلَ يَسُوعَ وَمَرْيَمَ فِي عِدَادِ عَائِلَاتِنَا، فَنُتَمِّمَ كُلَّ مَا يَطْلُبُهُ مِنَّا يَسُوعُ، فَنَنَالَ مَجْدَهُ بِشَفَاعَةِ أُمِّهِ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ. يَا قِدِّيسَةَ مَرْيَمَ، يَا وَالِدَةَ اللهِ، صَلِّي لأَجْلِنَا!