موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مقدمة عامة
لمناسبة حلول المئوية الأولى لطيب الذكر أبينا المتنيح غبطة البطريرك كيرلس مقار أردت أن أشارك في إحياء هذه الذكرى العطرة بما قرأته عن سيرة حياته المسطرة لنا في كتاب لِأبينا المتنيح المطران يوحنا كابس ، ونأمل أن يعلم كل ابنائنا في الكنيسة بسيرة رجالها العظماء الذين بذلوا الغالي والنفيس كي تبقى كنيسة قوية مؤسسة على صخرة الإيمان محصنة بما قاله السيد المسيح ان ابواب الجحيم لم تقوى عليها.
ثانيًا: الأنبا كيرلس بطريركا للأقباط الكاثوليك
لبّي الانبا كيرلس طلب البابا للتوسط لدى منليك سلطان اثيوبيا لإطلاق سراح الاسرى الايطاليين وبجهدوده أجتمع أساقفة الكنيسة المصرية الكاثوليكية في الدار البطريركية، تحت رئاسة القاصد الرسولي. كما سعى إلى تجديد قانون الكنيسة القبطية مع مراعاة ظروف الزمنية والمكانية، وساهم بشكل فعال في بناء كاتدرائية القيامة في مدينة الاسكندرية لتكون منارة للكرازة المرقسية على ذات الأسس التي قامت عليها كنيسة الاسكندرية في عهد البطاركة الاقدمين .
إزاء هذا، فإن البابا لاون الثالث عشر أعلن كيرلس مقار بطريركاً على الكرسي الاسكندري لما رأى فيه من العلم والتقوى وحسن الإدارة والوساطة. وقد تم سيامتة وتجليسه في الكاتدرائية الجديدة بمدينة الاسكندرية في 31 يوليو 1899م. بعد ذلك قام البطريرك الجديد مع وفد من الكنيسة القبطية الكاثوليكية برئاسة بوغوص بك غالي برحلة إلى روما لتقديم الشكر إلى البابا لاون الثالث عشر وللتعبير عن إتحاد الاقباط الكاثوليك بكنيسة روما "الكرسي الرسولي". ومن بعد هذه الزيارة تقّلد البطريرك كيرلس مقار درع التثبيت في حفل أُقيم في كاتدرائية درب الجنينة في حي الموسكي– القاهرة، في خلال الحفل تُليت أول رسالة بطريركية للبطريرك كيرلس الثاني مقار دعا فيها إلى قيام عيد كبير أعلنه البابا لاون الثالث عشر وهو سنة اليوبيل المقدسة وهي تعبير عن بدء القرن العشرين.
كان من الصعب على أي بطريرك أن يمارس سلتطة مالم يكن هناك علم وخبر لدى السلطة العثمانية به.فلم يكن هناك بطريرك في عهد الامبراطورية العثمانية أن يباشر أي سلطة أو ولاية، حتى بعد انتخابه إن لم يمنحه السلطان براءة التثبيت التي كانت تقّره رسمياً حاكماً على كنيسته، وفي هذه البراءات كانت تُعيّن حدود السلطة والانعامات الممنوحة لكل بطريرك. وكان البطاركة يعتبرون حكاماً حقيقيين ذوي سلطان داخل السلطة العثمانية وكانت التولية تصدّر عن الباب العالي بالنسبة للرؤساء الروحيين في مصر هم أصلاً مصّريون ويمارسون ويباشرون ولايتهم في مصر فكان يكفي أن يعترف الخديوي بولاية الرئيس الديني المصري. هكذا اعترفت الحكومة المصرية بالأنبا كيرلس مقار بطريركاً بموجب قرار خديوي صدر في 29 يناير كانون الثاني سنة 1900م. في ذلك الوقت، كانت فرنسا تعتبر نفسها الدولة الوحيدة، دون سواها، المختصة بحماية المصالح الكاثوليكية في الشرق مستندة في ذلك على التقاليد والمعاهدات والمبادئ العامة لحق الامتيازات الأجنبية. إلا أنه في الواقع لم تكن حماية فرنسا شاملة بل حدثت لها بعض التقييدات، إحداها يتعلق بالأقباط الكاثوليك التي تقوم نحوهم دولة النمسا والمجر بدور الدولة الحامية وقد أختلف المؤرخون على تاريخ استبدال حماية فرنسا بحماية النمسا والمجر وعلى الاسباب التي دعت إلى ذلك.
خلاصة
تم اعتراف من الحكومة المصرية حكومة الخديوي لحكومة الامبراطور والملك بممارسة حماية دينية على الاقباط الكاثوليك تشبه الحماية التي تمارسها فرنسا على الطوائف الكاثوليكية الأخرى في الإمبراطورية العثمانية، ويبقى لأعضاء الأقباط وممتلكات كنيستهم خاضعين للتشريع والولاية المحلية. كما أُعترف رسميًا بالبطريرك كيرلس مقار كرئيسًا لكنيسة وطنية وبهذا الاعتراف عومل البطريرك معاملة بطريرك الاقباط الارثوذكس الذي له مكانته في بروتوكول الدولة وله الحق في تنقلاته، لتفقد أبناء شعبه وأن يستقبل استقبالاً رسيماً وبكل حفاوة
نوجز القول عن ابرز ما تميز به البطريرك كيرلس مقار:
1- كان البطريرك كيرلس راعياً غيوراً محباً لرعيته .
2- أميناً في خدمته لربه ومعمله يسوع المسيح
3- تميز بالعلم والفصاحة والذكاء الحاد وتعدد اللغات .
4- له الكثير من المؤلفات الادبية والكنيسة الدينية واللاهوتية والروحية نذكر منها مخطوط من ثلاثة اجزاء نُشر اثنان والثالث مخطوط عن تبرئة اوريجانوس الاسكندري.
5- دعا إلى عقد مجمع كنسي لبحث الشؤون الرعوية والقانونية وحقوق وواجبات الرعاة .
6- صحّح تقويم كنيسة الاسكندرية بناءً على مستندات علمية، جعله موافقاً مع الإصلاح الغريغوري.
7- تضلع في القانون المدني وإذ بجدراته هذه استطاع أن ينهي قضية سيداروس الشهيرة التي شغلت البطريركية منذ عهد الانبا أغابيوس بيشاي.
8- ألقي محاضرة عن السيزاريوم أحدثت اهتماماً كبيراً في الاوساط العلمية إذ سرد بمهارة عالية تاريخ الهيكل القيصري المعروف بالسيزاريوم، وكيف تحّول في عهد قسطنطين الملك إلى معبد مسيحي صار فيما مقراً لبطاركة الإسكندرية. وعلى إثر هذه المحاضرة طلبت الجمعية الخديوية منه محاضرة حول رسالة القديس مرقس في الديار المصرية .
9- شيد المعهد الاكليريكي في مدينة طهطا –سوهاج جنوب القاهر، وهو اليوم الاكليريكية الصغرى .
10- شيد كاتدرائية القيامة مكان السيزاريوم والعديد من الكنائس التي رممها بمساعدة البابا لاون الثالث عشر .
11- قام بشراء مطبعة بحروف قبطية وعربية وطبع فيها الكتب الطقسية ولاسيما كتاب القداسات وكتاب اسبوع الالام وخدمة الاسرار وقطمارس الرسائل بالعربي .
12- اشترك في العديد من الندوات واللقاءات والجمعيات العلمية وكان عضواً بارزاً في المجمع العلمي المصري وعضواً في الجمعية الجغرافية الخديوية ورئيساً فخرياً لجمعية شيكاغو الاميريكية العلمية .
13- أسس صحيفة الاسد المرقس والتي كانت الغاية منها تقرير الحقائق بالأدلة الواضحة والبراهين الراجحة. كما أسس العديد من الجمعيات التي تُعنى بشؤون الكنيسة .
لقد ظل الانبا كيرلس بعد انتخابه بطريركاً سنيناً قلائل موصلاً فيها أعماله الجليلة ولاسيما فيما يتعلق بالعلوم الكتابية والابحاث الدقيقة عن الآثار التاريخية إلا أن تلك الأيام لم تدم طويلاً فإن روح الخلاف أخذ يدب بين الاقباط واستحكمت حلقاته حتى أضطر البطريرك إلى تقديم استقالته في 30 مايو ايار سنة 1908 وفي ذلك العهد تلبدت الغيوم في سماء الكنيسة القبطية الكاثوليكية وتبلبلت الأفكار فأنحجبت شمس الحقائق وخيم على نورها الظلام الحالك.
ويا للاسف فأن الانبا كيرلس مقار قد سار في هذا الظلام ردحاً من الزمان فزلت قدماه وسقط متعثراً في دياجيره فبكت الأمة بأسرها لسقطته، ولكن إيمانه الرسخ في قلبه عاد فتغلب عليها فهتك بنوره الحجب الكثيفة، إذ اعلن انتماءه للكنيسة الارثوذكسية، ثم عاد سريعا تائباً ونادماً وسرعان ما قصد عاصمة الكثلكة مبدياً ما يكنه صدره من عواطف الولاء نحو الكنيسة الرومانية وتعلقه بكرسيها الرسولي.
ولما بلغه أن الاضطربات لا تزال ضاربة في بلده، قَبِلَ شاكراً نصيحة المشير العالي الذي أوعز إليه أن يبقى في لبنان فبقي في المنفي مقتدياً بالعلامة اوريجانوي الاسكندري وعاش هناك مدة الحرب العالمية الأولى، والله عليم بما قد عانى هذا البطريرك من مشاق وكم قاسى من صنوف الفتك ولكنه كان ثابت الجنان رابطه الجأش واسع الصدر كبير الصبر.
رغم هذه المحن كلها، لم ينس الأنبا مقار بلده مصر وكنيسته ففي عز ما كان يقاسي منه من متاعب واحزان لم يتوقف لحظة واحدة عن ذكر كنيسته وعزها الشامخ، بالرغم ما قيل عنه أنه انضم إلى الكنيسة اليونانية ولكن قبله وفكره وصلاته لم ينفصل عن كنيسته بنت يديه ناطقاً كلمته الأخيرة: “اذكروا كنيسة الإسكندرية ولا تنسوا مجدها”. توفي وفي نفسه أنين وحنين على اسباب الخلاف والشقاق التي مزقت أحشاؤه، في عزلة عن الأهل ووحشة الاصدقاء ولكنه كان مشمولاً برعاية ومحبة وعناية ربه.
(هذا المقال مأخوذ من كتاب تاريخ الانبا كيرلس مقار، بطريرك الاسكندرية للاقباط الكاثوليك 1899-1921، بقلم الأنبا يوحنا كابس)