موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٢ يونيو / حزيران ٢٠٢١

روحانيَةُ علامةِ الصّليب

بقلم :
الأب انطونيوس مقار ابراهيم - لبنان
روحانيَةُ علامةِ الصّليب

روحانيَةُ علامةِ الصّليب

 

مقدّمة

 

الصّليبُ هُوَ علامةُ خلاصٍ ودستورُ إيمان. هُوَ الطّريقُ إلى الآب. هُوَ المحبَّةُ والمُصالَحة. هُوَ رابطٌ قويٌّ بالله وبالآخرِ وبالذّات. لا حياةَ مِنْ دونِ الصّليب. ولا خلاصَ مِنْ دونِ الصّليب. لماذا؟ لأنَّهُ جسرُ العبورِ فوقَ وادي الموتِ إلى الحياةِ والسّلامِ والفرحِ والسّماءِ والأبديّة.

 

إذا أردتَ أنْ تكونَ مسيحيًّا، عليكَ أنْ تحمِلَ الصّليبَ فيسوعُ قالَ: "مَنْ أرادَ أنْ يتبعَني فليَحْمِلْ صليبَهُ ويتبعْني". بالتّالي، مسيحيٌّ مِنْ دونِ صليبٍ لا يمكنُ أنْ يتذّوقَ طعْمَ الحياةِ المسيحيّةِ كما أنّهُ لا يُمكِنُ أنْ يعيشَ مشيئةَ اللهِ في حياتِهِ (الصليب). ومشيئةُ اللهِ للإنسانِ هِيَ قداستُهُ وغفرانُ خطيئتُه. إذًا إنْ أردتَ الحياةَ الحقيقيّةَ، عليكَ أنْ تحمِلَ شجرةَ الحياةِ وتسلّمَ ذاتَكَ للصّليبِ لأنّهُ مفتاحُ الملكوت.

 

الحياةُ هِيَ دربٌ طويلٌ مليءٌ بالمتناقِضاتِ وهذا الدّربُ يشبِهُ دربَ الصّليبِ ومراحلَهُ وعلى قَدرِ ما نسلكُ الدّربَ بأمانةٍ نستحقُّ الحياةَ ونقفُ أمامَ اللهِ بكلِّ فخرٍ واعتزازٍ، لا لأجلِ مراكزَ حُزْنا عليها ولا أموالَ جمعْناها أو كدَّسناها ولا لأجلِ شهاداتٍ ولا لإنجازاتٍ إنّما لأجلِ أنّنا حملْنا الصّليبَ بحبٍّ وفرحٍ لغفرانٍ ومحبّةٍ وحياةٍ ومُصالحةٍ وخلاص.

 

 

ما معنى كلمةِ "صليب"؟

 

توجدُ كلِمتانِ مستعملتانِ للتّعبيرِ عن آلةِ التّعذيبِ الّتي نُفّذَ بها حُكْمُ الموتِ على مخلِّصِنا يسوعَ المسيح: اكسيلونxylon  ومعناها خشبةٌ أو شجرةٌ؛ استاوروس stauros ومعناها الصّليب.

 

 

ما هو تاريخُ الاحتفالِ بعيدِ الصّليبِ؟

 

تحتفلُ الكنيسةُ في العالمِ أجمع بعيدِ ارتفاعِ الصّليبِ في الرّابعَ عشرَ مِنْ شهرِ أيلول (سبتمبر)، وبشكلٍ خاصّ، تحتفِلُ الكنيسةُ القُبْطِيّةُ بِهِ مرَّتَيْنِ في السّنة: في العاشر مِنْ بْرَمْهات، ونَظَرًا إلى أنّ هذا التاريخَ هُوَ اليومُ الّذي ظَهرَ فيهِ الصّليبُ للمرّةِ الأولى (326م) على يدِ الملِكَةِ هيلانة وَهْوَ يقَعُ دائمًا في أيّامِ الصّومِ، فقدْ رتَّبَ آباءُ الكَنيسةِ الاحتفالَ بظهورِ الصّليبِ في يومِ تكريسِ كنيستِهِ، في السابِعَ عَشَرَ منْ توُت.

 

 

متى نرشُمُ علامةَ الصّليب؟

 

نرشمُ الصّليبَ في بَدْءِ أعمالِنا جميعِها وفي ختامِها وفي كلِّ ما يحدُثُ لنا. أمّا على صعيدِ الجماعةِ، فلا يتمُّ أمرٌ مِنْ أمورِ الكنيسةِ حتّى التحوّلِ إلى جسدِ الرّبِّ ودمِهِ، إلاّ بِرَسْمِ الص          ليبِ مُقتَرِنًا بالصّلاةِ والطِلْبَة.

 

 

ما هُوَ معنى إشارةِ الصّليبِ؟

 

يكمُنُ سرُّ الإيمانِ المسيحيّ في رسمِ علامةِ الصّليبِ الّذي تحوّلَ معَ حَدَثِ صَلْبِ يسوعَ المَسيحِ، ربِّ المجدِ عليهِ، إلى نبعِ قداسةٍ يتقدّسُ منه كلُّ مؤمنٍ يقترِبُ ويلامِسُ خشبةَ الصّليبِ بمهابةٍ وخشوعٍ وإكرامٍ لأنّهُ ختْمُ تقوى مقدَّسٌ ومكمِّلٌ للخيراتِ كافّةً الآتيةِ منْ عندِ أبِ المراحمِ. أعطى حضورُ الصّليبِ الكنيسةَ علامةً مميَّزةً دائمًا، هِيَ عيشُ حياةِ النُّصرةِ والغَلَبةِ على الخطيئةِ والموتِ وأفعالِ الشّيطانِ ومؤامرةِ النّاسِ الأشرارِ وقيامُ الأعداءِ الخفيّينَ والظاهشرينَ وقدْ صارَ الصّليبُ ملازِمًا لنا في تصرّفاتِنا وتحرُّكاتِنا اليوميّةِ في ذَهابِنا وإيابِنا. "نقولُ باسمِ الآبِ والابنِ والرّوحِ القُدُسِ. في هذهِ الإشارةِ إيمانٌ مطلَقٌ بالثّالوثِ القدّوسِ مِنْ جهةٍ، وبحقيقةِ تجسُّدِ المسيحِ وموتِهِ وقيامتِهِ مِنْ جهِة أخرى.

 

 

ما هِيَ روحانيّةُ رشْمِ الصّليبِ في التّقليدِ الكنسيّ وفي فِكْرِ الآباءِ ؟

 

نستعمِلُ أصابعَ اليدِ اليُمنى، فنضعُها على جبهتِنا ونقولُ: « باسمِ الآبِ» وهذا إشارةٌ إلى اللهِ فوقَ كلِّ شيءٍ. ثُمَّ نتّجهُ إلى أسفلِ فنضعُها على آخِرِ الصدْرِ، وأوّلِ البَطْنِ ونقولُ: «والابنِ» إشارةً إلى نزولِ يسوعَ المسيحِ وتُجَسِّدُهُ في بَطْنِ أمِّنا مريمَ العذراءِ. ثُمّ ننقُلُها مِنْ على الكَتِفِ الأيسَرِ إلى الكَتِفِ الأيْمَنِ ونقولُ: «والرّوحِ القُدُسِ» وهذا يعني أنَّ اللهَ نقلَنا مِنَ الظُّلْمَةِ إلى النّورِ. وفي نهايةِ رَشْمِنا للصّليبِ نقولُ: « الإلهُ الواحدُ آمين» وهذا يعني إقرارًا مِنَّا بوَحْدانِيّةِ اللهِ في ثلاثةِ أقانيم.

 

1. القدّيسُ أنطونيوسُ الكبيرُ (251-356) "إنّ الشياطينَ توجّهُ هجماتِها المنظورةَ إلى الجُبَناءِ. فارْسُموا أنفسَكُم بعلامةِ الصّليبِ بشجاعةٍ ودَعوا هؤلاءَ يسخَرونَ مِنْ ذَواتِهم. أمّا أنتمْ فتحَصَّنوا بعلامة الصّليبِ".

 

2. القدّيسُ أثناسيوسُ الرّسولُ (279-358) "الصّليبُ هُوَ قوّةُ المسيحِ للخلاصِ والملائكةُ يخضَعونَ لقوّتِهِ ويتبعونَهُ حيثُما شاهدوا رَسْمَهُ ليُعينُوا المُلتَجِئَ إليهِ ولا تحصُلَ تخليَةٌ لِمَنْ حَمَلَ الصّليبَ إلاّ للّذي ضعُفَتْ أمانتُهُ فيه.

 

3. القدّيسُ أفرامُ السُّريانيّ:( 306-373) "بدَلاً مِنْ أنْ تحمِلَ سِلاحًا أو شيئًا يحميكَ، احمِلْ صليبَكَ واطبعْ صورتَهُ على أعضائِكَ وقلبكَ، وارسُمْ بِهِ ذاتَكَ لا بِتحريكِ اليَدِ فقطْ بلْ ليكُنْ برَسْمِ الذِّهنِ والفكْرِ أيضًا".

 

4. القدّيسُ كيرلُّسُ الأورَشْليميّ (315-386) "لا نَخْزَ إذًا أنْ نعْتَرِفَ بالمسيحِ مصلوبًا بلْ ليْتَ إشارةَ الصّليبِ تكونُ ختْمًا نصْنَعُهُ بِشجاعةٍ بأصابِعِنا على جبهْتِنا، وعلى كلِّ شيءٍ، لا تحتَقِروا الخَتْمَ مِنْ أجلِ مَجّانيّةِ العَطِيّةِ، بلْ بالحَرِيّ كرِّموا صاحِبَ الفَضْلِ".

 

5. القدّيسُ أمبروسيوسُ (339–397) "نَرْسمُ الصّليبَ على جبهَتِنا، ثُمَّ على قلبِنا. نرْسُمُهُ على جبهَتِنا حتّى نعترِفَ عَلَنًا بالمَسيحِ، وعلى قلبِنا حتّى نظَلَّ نحِبُّهُ، ونرسُمُهُ على ذراعِنا حتّى يكونَ عملُنا لَهُ".

 

6. القدّيسُ الأبُ يوحنّا مِنْ كرونستادت: حينَما ترْشُمُ ذاتَكَ بعلامةِ الصّليبِ، اذكرْ دائمًا أنّكَ تستطيع ُبقوّتِهِ أنْ تصْلُبَ شهواتِكَ وخطاياكَ على خشبةِ المخلِّصِ (هوّذا حملُ اللهِ الّذي يرفعُ خطيئةَ العالمِ) (يو29:1).  + حينَما ترْفَعُ نظرَكَ إلى خشبةِ الصّليبِ المعلَّقةِ فوْقَ الهَيْكَلِ، اذكرْ مِقدارَ الحّبِّ الّذي أحبّنا بِهِ اللهُ حتّى بَذَلَ ابنَهُ حبيبَهُ لِكيْ لا يهلِكَ كلُّ مَنْ يؤمنُ بِهِ. 

 

7. الشّيخُ الرّوحانيُّ "القدّيسُ يوحنّا سابا": قَبْلَ أنْ يَدْنُوَ منكَ هذا الماردُ الّلعينُ (الشّيطانُ) ارسمْ علامةَ الصّليبِ أمامَكَ فيُطْرَدَ في الحالِ وهكذا بقوَّةِ المسيحِ يَخزى ويهرُبُ. وهكذا في كلِّ موضعٍ يضايِقُكَ (الشيطان) في جسدِكَ ارسمْ نفسَكَ بِعلامةِ الصّليب فيهرُبَ منكَ.

 

 

لماذا الصّليبُ؟

 

لأنّهُ، باختصارٍ، جسرُ محبّةِ اللهِ للإنسانِ: "ليسَ لأحدٍ حبٌّ أعظمُ ...." وتمامُ الطّاعةِ الكاملةِ الّتي أطاعَها المسيحُ حُبًّا بالإنسانِ "حتّى الموتِ، موتِ الصّليبِ" (فيليبّي 2 : 5). إنّهُ الصّليبُ المصدرُ الحقيقيُّ والأداةُ الوحيدةُ لِرَفعِ الإنسانِ وجذْبِهِ نحوَ الملكوتِ "وأنا إذا رُفِعتُ عنِ الأرضِ جذَبْتُ إليّ الكلَّ!" (يو 12 : 32).

 

1. بالصّليبِ صارَ هُوَ الكاهنُ والذّبيحةُ: على الصّليبِ هُوَ يرفَعُ يدَيْهِ كَكاهنٍ وَهْوَ في الوقتِ نفسِهِ الذّبيحُ المُعَلَّقُ. فالنّاظرُ إليهِ يراهُ كَكَاهنٍ يصلّي وفي الوقتِ نفسِهِ، يراهُ ذبيحًاً.

 

2. بالصّليبِ كانَ هُوَ المَيْتُ القائِمُ: ذَلكَ لأنَّ المُعلَّقَ على الصّليبِ تحمِلُهُ رجلاه، وقدْ أسلَمَ يسوعُ الرّوحَ وَهْوَ واقفٌ، وهذِهَ إشارةٌ إلى أنّهُ في أثناءِ موتِهِ هُوَ القائمُ الحيُّ. ليس معنى هذا أنّهُ لم يَمُتْ حقًّا لَكنَّ هذا رَمزَ إلى أنَّ "فيهِ كانتِ الحياةُ" (يو1: 4). فَهْوَ قدْ أسلمَ الرّوحَ لكنّ قوّةَ الحياةِ كائنةٌ فيهِ. 

وحتّى وَهْوَ قائمٌ مِنْ بينِ الأمواتِ، كانَ محتفِظًا بالجِراحاتِ لِكي نراهُ مذبوحًا وَهْوَ قائمٌ. 

 

3. بالصّليبِ صالَحَ الأرضيّينَ مع السَّمائيّين: هلِ السَّيِّـدُ المسيـحُ يمثِّلُ اللهَ في وسَطِ البَشَرِ أمْ يُمثِّلُ البَشَرَ أمامَ اللهِ؟ بالطّبعِ هُوَ الأمرانِ معًا في وقتٍ واحدٍ. هُوَ ابنُ اللهِ وَهْوَ ابنُ الإنسانِ في الوقتِ نفسِهِ. من دونِ التَجَسًّدِ، كانَ السَّيِّدُ المَسيحُ سيبقى ابنًا للهِ والبشرُ هُمْ أبناءُ الإنسانِ. ولَكِنَّهُ في تَجَسُّدِهِ وَحَّدَ البُنُوَّةَ للهِ معَ البُنُوَّةِ للإنسانِ وقدْ صارَ هُوَ نفْسُهُ ابنًا لله وابنًا للإنسانٍ معًا. وأرادَ أنْ يجعَلَ هنالِكَ صِلَةٌ بينَ اللهِ والبَشرِ.

 

4. الصّليبُ والأنا المَبْذولةُ: تُشيرُ علامةُ الصّليبِ إلى الأنا المبذولةِ أوِ الطّاعةِ الكاملةِ. الصّليبُ في حدِّ ذاتِهِ يُعلِنُ حياةَ التّسليمِ الكامِلِ للهِ. كما أنّ السّيِّدَ المسيحَ في مظهرِهِ على الصّليبِ كانَ واقفًا ولَكِنْ في الحقيقةِ فقدْ كانَ كلُّ جُزءٍ في جسدِهِ مقيَّدًا، فلا بُدَّ مِنْ "صَلْبِ الجَسَدِ مَعَ الأهواءِ والشَّهَواتِ" ونقولُ "مَعَ المسيحِ صُلِبْتُ فأحيا، لا أنا بلِ المسيحُ يحيا فيَّ" (غل 20:2).

 

5. بالصّليبِ تمَّتِ النبؤاتُ: كانَ الصّليبُ ضرورةً لأنَّ فيهِ تمّتِ النبؤاتُ. قالَ داودُ النبيُّ في المزمورِ "ثَقَبوا يديَّ ورجليَّ" (مز16:22) "ويقتَسِمونَ ثيابي بينَهُمْ وعلى لباسي يَقْتَرِعونَ" (مز18:22) "وفي عَطَشي يسْقونَني خَلاًّ" (مز69 :21)... وقالَ "كما رَفَعَ موسى الحيَّةَ في البَرِّيَّةِ هَكذا ينبغي أنْ يُرفَعَ ابنُ الإنسان" (يو3: 14). فالمَسيحُ حَمَلَ خطايانا الّتي ترْمُزُ إلى الشّرِّ (الحّيَّةِ) فصَعِدَ على الصّليبِ وسَمَّرَ الخطيئةَ على الصّليبِ ثُمَّ نزلَ هُوَ وترَكَ الخطيئةَ مُعلَّقَةً على الصّليبِ.

 

6. بالصّليبِ مَلَكَ على خشَبَةٍ: قيلَ عنِ السَّيِّدِ المسيحِ المُخلِّصِ: "مَلَكَ الرَّبُّ على خشبَةٍ" (مز95: 10) فلا بُدَّ من أنْ تكونَ أداةُ موْتِهِ الّتي يَمْلُكُ مِنْ خلالِها على قلوبِ البَشَرِ هِيَ خَشَبَةٌ. وكانَ الصّليبُ هُوَ عرْشُهُ باعترافِ الوايى نفسِهِ الّذي كتَبَ: "يسوعُ النّاصريُّ مَلِكُ اليَهودِ" (يو19:19) وقدْ كُتِبَتْ بِثلاثِ لُغاتٍ الّلاتينيّةِ واليونانيّةِ والعبرانيّةِ، بمعنى أنّ العالمَ كلَّهُ قدِ اعترَفَ رسْميًّا بأنّ هذا هُوَ مَلِكُ اليهودِ.

 

 

الصّليبُ وبِرُّ الله

 

لنوضِحْ مَعنى كلمةِ بِرِّ الله:

 

إنطلاقًا منْ مفهومِ القدّيسِ بولسَ أنَّ الإنسانَ كانَ يسيرُ نحوَ الهلاكِ الأبَديِّ واللهُ هُوَ الّذي قامَ بِدَفْعِ الدّيْنِ عَنِ الإنسانِ ليفتَدِيَهُ، فقدْ أجْلَسَ الرّبَّ يسوعَ كإنسانٍ عنْ يمينِهِ، وبَرَّرَ كلَّ مَنْ يؤمِنُ بِهِ تبريرًا مَجّانيَّا بِنعمةِ الرّوحِ القُدُسِ " «متبرِّرينَ مجّانًا بنعمتِهِ بالفِداءِ الّذي بِيسوعَ المسيحِ، الّذي قدَّمَهُ اللهُ كَفّارةً، بالإيمانِ بِدمِهِ. ليكونَ (اللهُ) بارًّا ويبرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإيمانِ بِيسوعَ» (رو3: 21-26).

 

تساءَلَ أيّوبُ الصِّدِّيقُ متحيِّرًا: «كيفَ يتَبَرَّرُ الإنسانُ عندَ اللهِ؟» (أيّوب9: 2). لقدْ كانَ أيّوبُ يعرفُ أنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ، لكنّهُ كانَ يعرِفُ أيضًا أنّهُ بارٌّ وعادلٌ. فإذا كانتْ محبّةُ اللهِ ورحمتُهُ تريدانِ مسامَحَةَ الخاطئِ، فإنَّ عدلَهُ وبِرَّهُ يحتِّمانِ إدانةَ الخاطئِ. وكأنَّنا هُنا في موقفِ قضاءٍ، فيهِ يَطلُبُ ممثِّلُ الادّعاءِ إيقاعَ أقصى العقوباتِ بمذنبٍ استهانَ بالمبادئِ السّماويّةِ وأخطأَ ضدَّ خالقِهِ، ويطلبُ ممثِّلُ الدّفاعِ استعمالَ الرأفةِ معَ المُتَّهَمِ المسكينِ، ويطالبُ لَهُ بالبراءةِ. لكنَّ قضيَّتنا لمْ يكنْ فيها الادِّعاءُ شخصًا والمحامي شخصًا آخرَ، بلْ إنّهما صفاتُ اللهِ الواحدِ ذاتُها: اللهُ الرحيمُ والبارُّ في آنٍ معًا، المحبُّ ولكنِ العادلُ في الوقتِ نفسِهِ.

 

تَرِدُ عبارةٌ ملفتَةٌ للنّظَرِ في نبؤةِ أشعياء تقولُ: إنّ اللهّ «إلهٌ بارٌّ ومخلِّصٌ» (أش45: 21). فكيفَ يكونُ اللهُ بارًّا ومخلِّصًا في آنٍ معاً؟ كيفَ للهِ البارِّ أنْ يخلِّصَ الإنسانَ؟ أو بالأحرى كيف َيبرّرُ اللهُ الإنسانَ المذنِبَ النَجسَ؟ (أمثال17: 15).

 

الجوابُ في الصّليبِ: لَمْ يسمحِ اللهُ للشرِّ أنْ يمرَّ مِنْ دونِ عقابٍ، ولكنّهُ أصغى إلى رغبتِهِ في خلاصِ الخاطئِ؛ فلَوْ أنّهُ سامَحَهُ هَكذا مِنْ دونِ كفّارَةِ، لما كانَ اللهُ في هذه الحالةِ قدْ تَصرَّفَ بالبرِّ معَ الخطأةِ، لكنَّ الصّليبَ أظهرَ برَّ اللهِ في إدانة الخطيئةِ، وأيضًا في تبريرِ الخاطئِ وقدْ أدّى يسوعُ الفديةَ عنّا نحنُ الخطأةِ. «الرّحمةُ والحقُّ التقيا، البرُّ والسّلامُ تلاثَما» (مز85: 10). فكِلا الرّحمةِ والعدلِ أصبحا يُطالبانِ بتبريرِ المذنبِ الّذي آمنَ بالمسيحِ.

 

 

الصّليبُ وبيانُ محبّةِ اللهِ

 

يمكِنُ القولُ إنَّ الكفّارَةَ هِيَ إسكاتُ غضبِ اللهِ، بواسطةِ محبّةِ اللهِ، عنْ طريقِ ما قدَّمَهُ وبذَلَهُ الله.ُ وإنْ كانتْ خطايانا قدْ أغضبتِ اللهَ القُدّوسَ البارَّ، الّذي ضدَّهُ أخطأنا، والّذي كانتْ تنبغي تهدئةُ غضبِهِ البارِّ المُقدَّسِ، فإنَّهُ -في نعمةٍ فاقتِ التَّصّوُّرَ- أرسلَ ابنَهُ وقدَّمَهُ كفّارةً: "في هذا تكْمُنُ المحبّةُ: ليسَ أنَّنا نحنُ أحببْنا اللهَ، بلْ إنَّهُ هُوَ أحبَّنا وأرسَلَ ابنّهُ كفّارةً عنْ خطايانا» (1يو4: 9،10). «لأنَّهُ هَكذا أحَبَّ اللهُ العالمَ حتّى بذَلَ ابنَهُ الوحيدَ لِكي لا يهلِكَ كلُّ منْ يؤمنُ بِهِ بلْ تكونُ لهُ الحياةُ الأبديّةُ» (يو3: 16).

 

 

يسوعُ المسيحُ والصّليبُ

 

قصّةُ الصّليبِ هِيَ قصّةُ الخلاصِ، قصّةُ دخولِ اللهِ تاريخَ البشرِ. هذا ما يُعرَفُ في علْمِ الّلاهوتِ بالحَدَثِ التّاريخيِّ مِنْ جهةٍ ومِنْ جهةٍ أخرى بِالحَدَثِ الإلَهيِّ أيّ اللّحظةِ الّتي دعا فيها اللهُ العالَمَ لِيعيشَ في عُمْقِ الحُبِّ الإلَهيِّ، أيّ أنّ يسوعَ المسيحَ قدَّمَ ذاتَهُ فداءً عنِ البشرِ أحبّائِهِ وفي هذهِ التقدِمَةَ أعادَ العلاقةَ الحميمةَ بينَ اللهِ والإنسانِ بعدما فقدَ الأخيرُ طريقَ الخلاصِ بالوقوعِ في الخطيئةِ والانفصالِ عنِ اللهِ والاستقلالِ الذّاتيِّ. هكذا، ذاقَ الإنسانُ طعمَ ثمرةِ الخلاصِ عندما جعلَ يسوعُ من جسدِهِ مأكلاً حقًّا ومشربًا حقًّا. وَهْوَ، أيّ المسيحُ، مَنْ تألّمَ على الصّليبِ حتّى يلِدَ الحياةَ الجديدةَ لبشريّةٍ جديدةٍ ومتجدِّدةٍ على الدّوامِ محوِّلاً فيها حياةَ الحُزنِ إلى الفرحِ والكآبةَ إلى أملٍ واليأسَ إلى رجاءٍ والخطيئةَ إلى نعمةٍ والموتَ إلى حياةٍ.