موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مقدمة عـامة
لمناسبة حلول المئوية الأولى لطيب الذكر أبينا المتنيح غبطة البطريرك كيرلس مقار أردت أن أشارك في إحياء هذه الذكرى العطرة بما قرأته عن سيرة حياته المسطرة لنا في كتاب لأبينا المتنيح المطران يوحنا كابس، ونأمل أن يعلم كل ابنائنا في الكنيسة بسيرة رجالها العظماء الذين بذلوا الغالي والنفيس، كي تبقى كنيسة قوية مؤسسة على صخرة الإيمان محصنة بما قاله السيد المسيح ان ابواب الجحيم لم تقوى عليها.
إن ما نقرأه في تاريخ البطريرك كيرلس مقار، أول بطريرك لكنيسة الأقباط الكاثوليك، ويلقب بكيرلس الثاني مقار إتباعًا لبطريرك الإسكندرية كيرلس الأول الذي أعلن أمومة العذراء مريم في مجمع القسطنطينيه سنة 381، نجد صداه في مقدمة قراءة تاريخ أيٍ من الشعوب والأمم، فعندما يتصفح القارئ كتب التاريخ مرارًا ويتوقف أمام المراحل المتعاقبة التي تخوضها الشعوب، فيلاحظ سرعة التدهور والانهيار والهبوط من قمة العظمة والمجد والازدهار إلى الذل والتدهور والاستعباد.
من المجد إلى الأنانية التّي تولّد الكراهية والحقد ومن ثم الانقسامات، فتتصدع الوحدة ويتسبب الضعف ثم الخراب. فما يقال عن الشعوب نجده أيضًا ينطبق على الأشخاص، وهذا ما نراه مثلاٍ في حياة البطريرك الذي نحن بصدده، فقد وصل البطريرك كيرلس إلى مراقٍ عاليةٍ من المجد وانتهى بالموت في المنفى بسبب الحقد والكراهية والانانية والانقسامات التي حيكت حوله.
أولاً: لمحة عن حياة البطريرك كيرلس مقار
ولد جرجس مقار في بلدة الشنانية التابعة لمركز صدفا في محافظة أسيوط الواقعة جنوب القاهرة، في السابع عشر من يناير (كانون الثاني) سنة ألف وثماني مئة وسبع وستون، من أبوين صالحين عاشا حياتهما في مخافة وتقوى الرب، كما أنهما من متوسطي الحال، لكنهما غمرا ابنهما جرجس بالمزيد من الحب والحنان والعطف، ومع الأسف الشديد لم يدم هذا الحب طويلاً، نظراً لوفاة الأم، وهو في الثالثة من عمره.
عزم والده على أن يكرس حياته لله بقية أيامه، فتقدم بطلبٍ من الأنبا اغابيوس بشاي المدير الرسولي آنذاك على الطائفة، ملتمساً منه أن يقبله في سلك الكهنوت، وهكذا استجاب المطران بشاي، فقوبلَ والد الصبي في مقر النيابة الرسولية، استعداداً منه لنوال نعمة الكهنوت التي رغب فيها، وبعد فترة من الوقت والاستعداد الكافي نال الكهنوت بسيامته كاهناً على مذبح الرب. أما عن جرجس فقد أودع لدى المقربين إليه من الأهل للعناية بتربيته وشمله بعطفٍ وحنان كما كان بين احضان والديه .
لما بلغ جرجس العاشرة من عمره، أي في سنة 1878 تقَّرر إلحاقه بالكلية الاكليريكية الشرقية التابعة لجامعة القديس يوسف في لبنان والتي يديرها الآباء اليسوعيين. أتم جرجس دراسته بتّفوق وحصل على درجة الدكتوراة في دراسة الفلسفة واللاهوت. كما أجاد اللغات اليونانية واللاتينية والعبرية علاوة على اللغة العربيّة كما أتقن اللغة الفرنسية حتى أنه نظم أشعاراً فيها. وقد ألف وهو طالب روايتين تمثليتين باللغة الفرنسية ونظمهما بطريقةٍ شعرية، وهما: "إيمان لبنان"، و"شهيد الاكواتور: جاد سيامورنيو"، قضى الفتى جرجس أربعة عشرة سنة في مراحل التعليم المختلفة ومن بعدها سيم كاهنًا في السنة 1891 في كنيسة جامعة القديس يوسف في بيروت – لبنان متخذاً اسم الأب "جرجس".
غادر الأب جرجس مقار لبنان عائداً إلى وطنه مصر وحيث توجه في بادئ الأمر إلى مسقط رأسه بلدة الشنانية التابعة لمحافظة أسيوط، واستقبلَ بحفاوة هائلة، من الأهل والأقارب، وبعد فترة من الراحة من عناء التعب والدراسة، أخذ الأب جرجس يفكر بهدوء ويخطط للمستقبل، إذ قد رأى أن من واجبه العمل بجد ونشاط في سبيل إستعادة كنيسة الاسكندرية مجدها وفخرها ولاسيما بعد أن دب فيها الانقسام، منذ زمن بعيد فتراجعت وضعفت قوتها، عليه هو إذاً أن يقوم بدوره من أجل إحياء عهدها الماضي وعودتها إلى الوحدة .
بعد ثلاثة أشهر من عودته إستدعاه المونسنيور انطوان كابس النائب الرسولي على طائفة الأقباط الكاثوليك آنذاك، وعينّه مدرساً في مدرسة الأقباط الكاثوليك، المجاورة للدار البطريركية في منطقة درب الجنينية في حي الموسكي – القاهرة. في خلال فترة التعليم وضع كتابه الأول بعنوان الكنيسة القبطية، وقسمه إلى جزئين: دليل المصريين، والمسيح عمانوئيل. في هذا الكتاب بحث في نقطتين مهمتين بين الكنيستين الكاثوليكية والقبطية الارثوذكسية. رئاسة البابا، وطبيعة المسيح. وقد ألف هذا الكتاب علّ الكنيستين بالاتفاق على هاتين الحقيقتين تتم الوحدة المنشودة بينهما وبهذا يعود إلى الكنيسة المصرية كنيسة الاسكندرية مجدها الأول. لم يكتف الأب جرجس بهذين البحثين بل قام بإلقاء المحاضرات والتي وصل عددوها إلى تسعة وأربعين، جمعت كلها في مجلدٍ كبير وضخم تحت عنوان: "تاريخ كنيسة الإسكندرية منذ القديس مرقس كاروز إلى يومه هذا".
قد عقبت المحاضرات تحركات أخرى قام بها الأب جرجس لصالح كنيسته أبرزت شخصيته، فأقيم أسقفاً ونائباً رسولياً للأقباط الكاثوليك في الخامس عشر من شهر مارس (اذار) سنة 1895 متخذاً أسم كيرلس مقار ولقب أسقف قصيرية فيلبس ونائب رسولي على الكنيسة المرقسية الاسكندرانية.
في ذلك الوقت لم يكن عدد الاقباط الكاثوليك يفوق الأثنى عشر الفّاً وكان الكهنة على الأكثر ثلاثين، كانوا من النخبة في العلم والخبرة، يتميزون بعقل ثاق، ذهن وقّاد، وغيرة رسولية. وبسبب هذه الخصال كان لابد أن يأتوا أموراً كبيرة تحت نظر البابا لاون الثالث عشر الأبوي، الذي أراد لمسيحي مصر أن يجددوا سيرة أجدادهم، من خلال ثلاث كلمات: مدرسة الاسكندرية، والحياة الرهبانية، وطغمة الاكليروس مزدانة.
قسم الأنبا كيرلس مقار النيابة الرسولية إلى خمسة أقاليم كنائسية، يقوم بتدبير كلّ منها رئيس بالنيابة عنه يقدم كل سنة حساباً مدققاً عن إدارته، كما أنه جعل الرؤساء الخمسة أعضاء مجلسه الكنسي يجتمعون على الأقل مرة في السنة، ليفصلوا في المسائل الهامة. ويقيموا ما جرى في أقاليمهم، ويتداولوا في الطرق الواجب اتخاذها لاستئصال الضعف والتصرفات السيئة. وبعد ذلك يقدمون تقريراً للنائب الرسولي، فيه يعلمونه بالتفصيل عن حالة كنائسهم المتنوعة وعن احتياجاتها المختلفة الروحية والمادية. إضافة إلى كل ذلك تّم الفصل بين الاشياء المتعلقة حصراً بالاسقف ومجلسه الكنائسي والاشياء التي يطلب من الاخوة العوام من اهل الخبرة والغيرة أن يشاركوا فيها.
جميع هذه التدابير شرحها الأنبا كيرلس مقار في أول منشور له أصدره بعد إرتقائه الدرجة الاسقفية في السابع من شهر مايو (أيار) سنة 1895 يوم عيد القديس مرقس كاروز الديار المصرية، معلناً لأبناء كنيسته الصلة التي يجب أن تكون بينهم وبين قداسة البابا، وتلك التي يجب أن تقوم بينهم وبين المرسلين الذين ضحّوا في سبيل خدمتهم. وأول ما شرع فيه هو تقويم إدارة النيابة الرسولية، فقد وضع فاصلاً واضحاً بين الأمور الزمنية والأمور الروحية. فبالنسبة للأمر الزمنية والأمور الروحية التي يدخل فيها الروحي والزمني انشاء لها مجلسي شورى: الأول مجلس الشورى الأعلى، مكون من أثنى عشر عضواً من أعيان الطائفة، والثاني هو مجلس قضائي، غايته مساعدة المدير الرسولي فيما يتعلق بالأحوال الشخصية التي يجب البتّ فيها. وأما بالنسبة للأمور الروحية الكنسيّةِ الداخلية، فجعلها خارجة كلياً عن نطاق العلمانيين ليتفادى الخلافات التي تحدث عادة بين الاكليروس والعلمانيين.
شعر البابا لاون الثالث عشر بيقظة الكنيسة القبطية الكاثوليكية وبتمسكها الكرسي الرسولي، فقد وردت إليه عدة برقيات ورسائل من الاكليروس والعلمانيين، فوجّه إلى هذه الكنيسة التي أراد أن ينتشلها من وهدة الأحزان، بمد يد المساعدة لها في سبيل الوصول إلى الوحدة، تلك الوحدة المسيحية التي شرع في إحيائها في الأقطار الشرقية، وكانت هذه الرسالة بتاريخ 11 حزيران (يونيو) 1895 وتبعها منشور رعوي للأنبا كيرلس مقار، يعلق فيه على رسالة البابا.
تقبل الاقباط الرسالتين بحماس وتكوّن وفد بزعامة باغوص باشا غالي أحد احفاد المعلم غالي وترأس الوفد الانبا كيرلس مقار وتوجه إلى روما لشكر البابا ولإثبات تمسك الأقباط الكاثوليك بالكرسي الرسولي، ولطلب المزيد من المساعدة في سبيل إحياء الكرسي الاسكندري والارتقاء بالكنيسة القبطية الكاثوليكية. بعد ذلك توجه الأنبا كيرلس مقار إلى النمسا لمقابلة الامبراطور فرنسوا جوزيف وكان معتبراً محامياً للاقباط الكاثوليك. كما أن حكومة النمسا تبرعت له بمبلغ خمسة واربعين ألف فرنك وقد وعد الامبراطور بالمزيد من المساعدة لتشييد الدار البطريركية وكاتدرائية الإسكندرية، وأنعم عليه بوسام فرنسوا جوزيف من الدرجة الثانية، ومنثم الدرجة الأولى.
في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1895 أصدر البابا لاون الثالث عشر رسالة أعلنها إلى العالم المسيحي في قلب مجلس الكرادلة المنعقد رسمياً تحت رئاسته، أعاد بموجبها إلى الأقباط مقام البطريركية الإسكندرية الكاثوليكية بجميع إمتيازاتها القديمة وقرر للأقباط أمر تدبيرها الروحي والرعوي، كما قرر مؤقتاً تأسيس أسقفيتين خاضعتين للبطريركية، الأسقفية الأولي مقرها في مدينة هيرموبوليس (المنيا) وعين لها البابا الأب مكسيموس صدفاوي أسقفاً. والأسقفية الثانية مقرها في مدينة ديوبوليس (طيبة -الاقصر) كما عين لها الأب بولس قلادة باسم الأنبا اغناطيوس برزي.
في سنة 1896، اندلعت الحرب بين ايطاليا وإثيوبيا، وكان إمبراطور إثيوبيا، قد غنم كثيراً من الأسرى الإيطاليين، وأراد قداسة البابا لاون الثالث عشر أن يتوسط لدى الإمبراطور حتى يطلق سراحهم، فوقع اختياره لهذه المهمة الخطيرة على الأنبا كيرلس مقار، فلبى الأنبا مقار الدعوة واصطحب معه الأب لويس سلامه ورسالة قداسة البابا الموجهة إلى المنليك .
استغرقت الرحلة ستة أشهر كاملة وكانت محفوفة بالكثير من المخاطر، وبقى الأنبا كيرلس مقار في ضيافة ملك اثيوبيا الذي أُعجب بفطنته ومنحه وساماً رفيع الشأن، خمسة عشر يوماً، ثم تركه معه رسالة إلى البابا عبّر فيها الإمبراطور عن استعداده الطيب لتلبية آمال قداسته وآماله الشخصيه في تسريح الاسرى الايطاليين فور إيفاق الحكومة الايطالية أعمالها الحربية إلا أنه وعد بأن تخفف وطأة الأسر إلى حينه إلى أقصى حدّ مستطاع. لم ينسى في مطلع الرسالة أن يفوّه بشكل ظاهر برسول البابا، البطريرك كيرلس مقار. وبالفعل ما كاد هذا الرسول ورفيقه يعودان إلى وطنهما حتى دقت بشائر بعقد الصلح بين إثيوبيا وايطاليا بإطلاق الأسرى.
في عام 1898، دعا الانبا كيرلس مقار إلى عقد مجمع كنسي رسمي للنظر في كلّ ماله علاقة بدستور الايمان ولآداب الكنسية وتوزيع الاسرار المقدّدسة والوسائط المناسبة لخير المؤمنين، وحقوق الرعاة وواجباتهم نحو رعاياهم وأعلن أن البابا وافق على هذا المشروع وباركه وعيّن نائباً عنه يرأس المجمع. وافتتح المجمع أعماله في الثامن عشر من شهر يناير كانون الثاني سنة 1898 وسار الموكب يتقدمه الصليب من الدار البطريركية في حي درب الجنينة في الموسكي بالقاهرة إلى الكنيسة الكاتدرائية .
في نهاية المجمع الملي الكبير، حث البطريرك كيرلس مقار أبناء القديس مرقس كاروز الديار المصرية على النهوض والتقدم، ومن ثم كرّس الكنيسة القبطية الكاثوليكية لقلب يسوع الأقدس ملكها وإلهها. بعد الختام تواً، قام الأنبا كيرلس مقار مع مُسجّل المجمع بعمل مضنيٍ دام شهرين، ورتبّا فيه قرارات المجمع في نسخة نهائية وقع عليها كل الاساقفة أعضاء المجمع وأرسلت إلى روما لبحثها والتصديق عليها. وفي 23 ابريل نيسان عام 1899 صدّق عليها الكرسي الرسولي، وطبعت أعمال المجمع في مطبعة انتشار الايمان في روما في مجلدٍ متوسط الحجم ولم تنشر باللغة العربية ما عد ما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية .
لقد أتى الانبا كيرلس مقار بأعمال جليلة كثيرة في مدّة وجيزةٍ تحسينًا لشؤون كنيسة الأقباط الكاثوليك، فضلاً عن المهام الخطيرة التي قام بها أمام الملوك والسلاطين. فبمساعيه تعين النائب الرسولي أسقفًا وتجدد مقام البطريركية الإسكندرية، بُنى المعهد الاكليريكي في طهطا .
(هذا المقال مأخوذ من كتاب تاريخ الانبا كيرلس مقار، بطريرك الاسكندرية للاقباط الكاثوليك 1899-1921، بقلم الأنبا يوحنا كابس)