موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
شجرة الميلاد تُعتبر اليوم رمزًا رئيسيًا في احتفالات عيد الميلاد المسيحي، حيث يرتبط تزيينها بالعائلة والأجواء الاحتفالية التي ترافق استقبال ذكرى الميلاد المجيد. لكن جذورها (حرفيًا ومجازيًا) تمتد إلى ما قبل المسيحية، إذ كانت تمثل رمزًا روحانيًا في ثقافات وحضارات متعددة سابقة على المسيحية.
في الديانة المسيحية التقليدية والمعاصرة، الشجرة المزيّنة بالأضواء والزخارف ترتبط بميلاد السيد المسيح وتُستخدم كتعبير عن الحياة الأبدية التي وعد بها المسيح أتباعه، من حيث خضرتها المستدامة صيفا وشتاء، كشجر الصنوبر. ولكن تقليد تزيين شجرة الميلاد بدأ على الأرجح في ألمانيا في القرون الوسطى، حيث كان يُستخدم شجراً دائم الخضرة، مثل التنوب أو الصنوبر، للزينة في موسم عيد الميلاد. وقد اختيرت الأشجار دائمة الخضرة لما ترمز إليه من الحياة المستمرة في فترة الشتاء التي تمثل الموت والجمود في الطبيعة.
وأكثر ما يزعجني في هذا العيد هو قطع الأشجار لهذه الغاية، لأن ذلك يتناقض مع فكرة الشجرة دائمة الخضرة والحياة الأبدية التي بشر بها السيد المسيح، ويتناقض أيضا مع مبادئ الاسلام. فهناك أحاديث عن الرسول الكريم قوله: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها»، و"من قطع سدرة، صوَّب الله رأسه في النار»، والسدرة هي شجرة النّبِق، و"ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة».
وبعض التقاليد المسيحية تربط بين شجرة الميلاد و"شجرة الحياة» بالجنة المذكورة في الكتاب المقدس. وتمثل الأضواء التي تُزين الشجرة نور المسيح الذي يضيء العالم، أما الزينة الأخرى فهي رموز للأمل والفرح. والبعض يعتقد ان تزيين الشجرة هو احتفال بإحياء ذكرى شهداء المسيحية الذين حرق بعضهم على شجر في العهد الوثني. وهذه معتقدات قد تختلف من كنيسة الى أخرى، فليعذرنا من اختلفنا معه في التفسير، فالله محبة وتسامح.
وقبل أن تُصبح شجرة الميلاد جزءًا من التقاليد المسيحية، كانت الأشجار دائمة الخضرة تحظى بمعاني روحية عميقة في العديد من الثقافات القديمة. ففي حضارة مصر القديمة، كانت تُقدّر الأشجار الخضراء، وخاصة النخيل، كرمز للبعث والحياة الأبدية لخضرتها الدائمة. كانت هذه الرموز تتجلى في احتفالات دينية ترتبط بالآلهة أوزيريس وإيزيس، حيث كانت الأشجار تمثل الحياة بعد الموت في إطار المعتقدات الجنائزية. ولنتذكر السعف الذي استقبل به السيد المسيح في القدس، وأيضا النبي محمد في المدينة.
وفي روما القديمة، كان الرومان يحتفلون بـ"ساتورناليا»، وهو مهرجان يقام تكريماً للإله ساتورن (زُحل)، إله الزراعة. كانت الأشجار دائمة الخضرة تُستخدم كرمز لتجديد الحياة وكانت تُزيّن المنازل كجزء من الاحتفالات التي تتزامن مع الانقلاب الشتوي. هذا التقليد قد يكون أحد الجذور التي أثرت على انتشار الشجرة في أعياد الميلاد لاحقاً، خاصة بعد انتشار المسيحية الأولى في الدولة الرومانية على يد الرسول بولس. وعندما انتشرت المسيحية في أوروبا، تم دمج العديد من التقاليد الوثنية في العادات المسيحية. وعلى مدار الزمن، أصبحت الشجرة رمزًا للعيد المسيحي الذي يحيي ولادة السيد المسيح، وتم دمج عناصر مسيحية معها مثل استخدام الأضواء لتمثيل نور السيد المسيح.
أما في ثقافات شمالي أوروبا، فالشعوب الجرمانية والإسكندنافية قدّرت الأشجار دائمة الخضرة لكونها رمزاً للخصوبة والقوة. ففي الأساطير النوردية والجرمانية التي تعود إلى الألفية الأولى قبل الميلاد، كانت شجرة «إيغدراسيل» Yggdrasil محور الكون، وتربط بين العوالم المختلفة، وتحمل قبة السماء لضخامتها وارتفاعها، كما علّق عليها الإله أودين نفسه، وتعذب عليها لمدة تسعة أيام، وطُعن برمح في خاصرته. وفي فترة الانقلاب الشتوي، كان الشماليون يعتقدون أن الشمس ستعود للحياة بعد الظلام الطويل، لذا كانوا يحتفلون باستخدام رموز الأشجار التي تبقى خضراء خلال الشتاء.
وفي ثقافة شعوب أوروبا القديمة، كانت شعوب الكلت التي استوطنت بريطانيا في الألفية الأولى قبل الميلاد، وقبل وصول الأنجلوسكسون، يعظّمون الأشجار باعتبارها مقدسة، خاصة شجر البلوط والصنوبر. وكانوا يؤمنون بأن الأرواح الطبيعية تسكن الأشجار، وأنها مصدر للحياة والقوة. ففي احتفالات الانقلاب الشتوي، كانت الأشجار دائمة الخضرة تمثل الانتصار على الموت والظلام.
وفي التراث الشركسي القديم، كانت الأشجار تحتل مكانة مقدسة في المعتقدات الشعبية، وكان يُنظر إليها باعتبارها تجسد قوى طبيعية وروحية. ويُقال إن الشركس كانوا يحطّبون في الغابة ليلاً ويخفون الفأس بعد قطع الأشجار، حتى لا تراهم الآلهة فتغضب عليهم. هذا التصرف يعكس احترامهم العميق للأشجار والطبيعة، إذ اعتقدوا أن الأرواح الإلهية تسكن في الغابات وتراقب تصرفات البشر. كذلك في الأساطير اليونانية، كانت الأشجار تعد مسكناً لحوريات الغابات، وكان يُعتقد أنها تحمي الشجرة وتغضب إذا تعرضت للأذى، ويمكن أن يجلب سوء الحظ أو غضب الآلهة.
وفي الديانة الشنتوية اليابانية تسكن الأرواح الإلهية المعروفة بـ"كامي» (Kami) في الأشجار، وتتم حماية هذه الأشجار وتُقام حولها طقوس لتكريم الأرواح الساكنة فيها. وعند قبائل غابات الأمازون المطيرة الأشجار هي موطن الأرواح وتحمل طاقة الحياة. فعند قطع شجرة أو أخذ موارد منها، يُجرى طقوس خاصة لضمان عدم إغضاب الأرواح. لذلك يُقدَّم احترام خاص لأشجار معينة تُعتبر مقدسة، وتُجرى حولها احتفالات تعبيرًا عن الشكر. ألم تكن ثقافات الحضارات القديمة أكثر رعاية للبيئة من حضارتنا المعاصرة؟
والزرادشتية، التي تعتبر من أقدم الديانات التوحيدية، تقدّر بعض الأشجار، مثل شجرة السرو، التي تحمل رمزية خاصة في الديانة. فوفقًا للأساطير، زُرعت «شجرة السرو المقدسة» في إيران من قِبل زرادشت نفسه، وأصبحت رمزًا للحياة الأبدية والخلود، وهو مفهوم يمكن ربطه بتقديس الحياة واستمراريتها في ظل الظروف القاسية، كما هو الحال مع الأشجار دائمة الخضرة التي لا تذبل في الشتاء. ويُعتقد أن الزرادشتيين كانوا يحتفلون بانتصار النور على الظلام في هذه الفترة، على نحو مشابه لتقليد شجرة الميلاد المسيحية التي يتم تزيينها بالأضواء للاحتفال بولادة المسيح كنور العالم.
هذا التقديس للأشجار يعكس العلاقة العميقة بين الإنسان والطبيعة في الثقافات القديمة، حيث كان يُنظر إلى الأشجار على أنها كائنات تحمل رمزية روحية قوية، وتمثل الحياة، والقوة، والحكمة. وقد تكون الشجرة رمزًا مرتبطًا بالصليب، حيث أن الصليب نفسه قد يُعتبر شجرة خشبية. لذلك، فان شجرة الميلاد التي نعرفها اليوم تمثل تزاوجًا بين التقاليد المسيحية القديمة والرموز الروحية ما قبل المسيحية.
فمن مصر القديمة إلى روما، ومن شمالي أوروبا إلى القبائل الجرمانية إلى بلاد فارس، كانت الأشجار دائمًا رمزًا للحياة والقوة والطاقة والغذاء في أوقات الشتاء القاسية. وعبر القرون، تطورت هذه الرموز لتُصبح جزءًا من احتفالات الميلاد، حيث تضفي الشجرة لمسة من الروحانية والجمال والمحبة على هذا الموسم.
إنها مناسبة للاجتماع بالأهل والأحبة وتوزيع الهدايا التي ترمز إلى هدايا الملوك الثلاثة الذين حضروا عند ولادة الطفل، والدعوة الى المحبة والسلام؛ لعل أولئك الذين يؤمنون بعودة المسيح من أصحاب الديانة السماوية الأقدم يستمعون الى رسالة المحبة والسلام، ويوقفوا المجازر التي ترتكب في فلسطين الحبيبة: مهد السيد المسيح عليه السلام.
(الرأي الأردنية)