موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١١ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٥

دَعوةٌ إلى قراءة الإرشاد الرّسوليّ الأوّل للبابا لاوُن الرَّابع عشر «لقد أَحبَبتُكَ» (1)

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
 قراءة الإرشاد الرّسوليّ الأوّل للبابا لاوُن الرَّابع عشر «لقد أَحبَبتُكَ»

قراءة الإرشاد الرّسوليّ الأوّل للبابا لاوُن الرَّابع عشر «لقد أَحبَبتُكَ»

 

أوّلًا: الإرشادُ الرّسوليُّ الجديدُ ومضامينه

 

في اليوم الذي تحتفل فيه الكنيسةُ الكاثوليكيّةُ بعِيد القدّيس فرنسيس الأسيزيّ (4 أكتوبر/تشرين الأوّل)، وَقَّعَ البابا لاوُن الرَّابع عشر، الذي اُختيِر في يوم الـ8 من مايو/أيَّار لعام 2025، ليكون البابا الـ267 للكنيسة الكاثوليكيّة، على إرشاده الرّسوليّ الأوّل أو وثيقته الحَبريّة الجديدة بعنوان «لقد أَحبَبتُكَ» (رؤ 3: 9). ولقد قُدِّمت هذه الوثيقة الجديدة في مكتب الصّحافة التّابع للكرسيّ الرّسوليّ، اليوم، الموافق الـ9 من أكتوبر/تشرين الأوّل من هذا العام الجاري؛ ومِن ثمَّ نُشِرت في اليوم عينه، أي في اكتمال الشّهر الخامس من حَبريّة البابا لاوُن الرَّابع عشر. ويتمحور هذا الإرشاد الرّسوليّ الأوّل للبابا حول "محبّة الفقراء"، أو "المحبّة نحو الفقراء"، أو "اهتمام الكنيسة بالفقراء ومع الفقراء" ("لقد أَحبَبتُكَ"، بنود 1-3).

 

مِن جهةٍ أُخرى، يُلاحَظ التّشابه الشّديد بين عنوان هذا الإرشاد الرّسوليّ "لقد أَحبَبتُكَ" (Dilexi te) والرّسالة العامّة الرّابعة والأخيرة لمثلّث الطُّوبى البابا فرنسيس "لقد أحَبَّنا" (Dilexit nos)، التي أصدرها في الـ24 من أكتوبر/تشرين الأوّل لعام 2024، أي في السَّنة الثَّانية عشرة من حبريَّته. وقد تمحورت بدورها حول "الحبّ الإنسانيّ والحبّ الإلهيّ في قلب يسوع المسيح". فلقد بدأت بلورة هذا الإرشاد الرّسوليّ الجديد عندما كان البابا فرنسيس –بابا الفقراء– على قَيد الحياة. ولذا، فقد جاء محتواه متشابهًا ومكمّلّا لما جاء في الرّسالة العامّة الرّابعة والأخيرة للبابا فرنسيس. وبكلماتٍ أُخرى، هذا الإرشاد الرّسوليّ الجديد يدور حول محبّة الفقراء أو المحبّة نحو الفقراء، الذين هم نحن جميعًا بشكلٍ أو آخر، بعد أن تحدّثت الرّسالة العامّة الرّابعة والأخيرة للبابا فرنسيس عن قَلْب المسيح الأقدس، الذي «هو المبدأ الموحِّد للواقع، لأنّ "المسيح هو قلب العالم، والفصح الذي هو موته وقيامته هو مركز التّاريخ، وهو تاريخ الخلاص"» ("لقد أحَبَّنا"، بند 31). وفي هذا الصّدد عَيْنه، أوضح البابا لاوُن الرَّابع عشر ما يلي:

 

«إعلان المحبّة هذا في سفر الرّؤيا يشير إلى السّرّ الذي لا يُستَقصَى الذي تعمّق فيه البابا فرنسيس في الرّسالة البابويّة العامّة "لقد أحَبَّنا - Dilexit nos"، في الحبّ الإنسانيّ والإلهيّ في قلب يسوع المسيح. تأمّلنا فيها كيف كان يسوع يساوي نفسه مع "أصغر أفراد المجتمع"، وكيف أظهر كرامة كلّ إنسان بمحبّته التي بذلها حتّى النّهاية لكلّ إنسان، لا سيِّما "لأكثرهم ضعفًا وبؤسًا وعذابًا" [...] لهذا السّبب، وبالارتباط مع الرّسالة البابويّة العامّة "لقد أحَبَّنا - Dilexit nos كان البابا فرنسيس يُعِدُّ، في الأشهر الأخيرة من حياته، إرشادًا رسوليًّا في اهتمام الكنيسة بالفقراء ومع الفقراء، بعنوان "لقد أَحبَبتُكَ - Dilexi te"، فتصوَّرَ أنّ المسيح يخاطب كلّ واحد منهم، فيقول له: أنت لا قوّة لك، ولا قدرة لك، لكنّي "أَحبَبتُكَ" (رؤيا يوحنّا 3، 9). وقد تسلّمت هذا المشروع بمثابة إرثٍ يسعدني أن أتبنّاه –وقد أضفتُ عليهِ بعض الأفكار– وأقدّمه من جديد في بداية حبريّتي، فأشارك في رغبة سلفي المحبوب بأن يدرك جميع المسيحيّين الارتباط العميق بين محبّة المسيح ودعوته لنا لكي نكون قريبين من الفقراء» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بندان 2 و3).

 

وعلى هذا النّحو، يوجد رباطٌ وثيقٌ قائمٌ بين الحياة الرّوحيّة والجوانب الأُخرى المتنوّعة للحياة، ولا سيّما الجوانب العمليّة والاجتماعيّة منها؛ وكذلك بين العلاقة بالله ومحبّته والعلاقة بالقريب ومحبّته؛ وبين تضامن "قَلْب المسيح الأقدس" مع الفقراء أجمعين وتضامن "قَلْب الكنيسة" مع الفقراء والمظلومين والمستبعدين والمهمّشين؛ وبين الالتصاق بـ"قَلْب المسيح الأقدس" والمشاعر نحوه والالتصاق بـ"الإنسان الآخر" والمشاعر نحوه، ولا سيّما الإنسان الفقير. وبعبارةٍ واحدةٍ، «من هذا المنظور، تتّحد محبّة الرّبّ يسوع مع محبّة الفقراء. قَول يسوع: "الفُقَراء عِندَكم دائمًا أَبدًا" (متّى 26، 11)، له المعنى نفسه مثل كلماته: "هاءَنذا معَكم طَوالَ الأَيَّام" (متّى 28، 20) [...] نحن لسنا في أفق الإحسان، بل في أفق الوحي: فالتواصل مع مَن لا سلطان له ولا عظمة هو طريق أساسيّ للّقاء مع ربّ التّاريخ. ففي الفقراء، يريد الله أن يقول لنا شيئًا» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 5). 

 

يحتوي الإرشاد الرّسوليّ الجديد، الذي يتمحور بدوره حول محبّة الفقراء أو المحبّة نحو الفقراء، على فصول أو أبواب خمسة: 1) بعض الكلمات الأساسيّة؛ 2) الله يختار الفقراء؛ 3) كنيسة للفقراء؛ 4) القصّة تستمرّ؛ 5) تحَدٍّ دائم. وقد جاءت هذه الفصولُ أو الأبوابُ الخمسة في 121 بندًا أو فقرة.

 

بوَجهٍ عامٍّ، إنّ محاور هذا الإرشاد الرّسوليّ هي الموضوعات التّالية، التي باتت بدورها عنواين رئيسيّة في الدّراسات البِيبليّة (الكِتابيّة) والثِّيولوجيّة (عِلْم اللّاهوت) الحالية، وكانت بمثابة نقاط محوريّة في حَبريّة البابا فرنسيس وتعاليمه، وكذلك عناصر مهمّة في مؤتمرات "مجلس أساقفة أمريكا اللّاتينيّة والكريبي": تعريف "الفقر" ومستوياته المتنوّعة (المادّيّة، والاجتماعيّة، والثّقافيّة، والتّربويّة، والرّوحيّة، والطّوعيّة أو الاختياريّة)؛ يسوع النّاصريّ وعلاقته بالفقر والفقراء؛ الفقر الإنجيليّ؛ مبدأ "الاختيار التّفضيليّ للفقراء"؛ البُعد الإكليزيولوجيّ (الكَنسيّ) الجوهريّ المتعلّق بـ"كنيسةٍ فقيرةٍ من أجل الفقراء"؛ قضيّة الفقر والفقراء كمشكلةٍ روحيّة وكَنسيّة، بالإضافة إلى كونها قضيّة اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة.

 

 

ثانيًا: الكِتابُ المقدَّس وآباءُ الكنيسة والتّقليدُ الكَنسيّ

 

إنّ نقطة انطلاق الإرشاد الرّسوليّ الكِتابيّة هي العبارة الواردة في سفر رؤيا القدّيس يوحنّا: «ها إِنِّي أُعْطيكَ أُناسًا مِن مَجمَعِ الشَّيطان، يَقولونَ إِنَّهم يَهودٌ وما هم إِلَّا كَذَّابون، ها إِنِّي أَجعَلُهم يَأتونَ ويَسجُدونَ عِندَ قَدَمَيكَ ويَعتَرِفونَ بِأَنَّني أَحبَبتُكَ» (رؤ 3: 9). وإضافةً لذلك، نجد –على سبيل المثال لا الحصر– نصوصٌ كِتابيّة معروفةٌ ومشهورةٌ أيضًا: المرأة التي سكبت الطِّيب الثّمين جدًّا على رأس يسوع (متّى 26: 6-12)، وقصّة السّامري الصّالح الرّحيم (لو 10: 25-37)، ومشهد الدّينونة الأخيرة (متّى 25: 31-46). فبواسطة قصّة السّامري الصّالح الرّحيم، مثلًا، نفهم أنّ «المجمع الفاتيكانيّ الثّاني نفسه، وفقًا لكلام القدّيس البابا بولس السّادس، كان يسير على هذا النّهج: "قصّة السّامري الرّحيم القديمة كانت النّموذج المثالي لروحانيّة المجمع"» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 7). 

 

ومِن خلال قراءة النّصوص الكِتابيّة المتنوّعة، نبلغ إلى القناعة التّامّة والقبول لمبدأ "الاختيار التّفضيليّ والإنجيليّ للفقراء" من جهة الله ومسيحيه وكنيسته ("لقد أَحبَبتُكَ"، بنود 7؛ 16-17؛ 79؛ 87؛ 90؛ 99؛ 101؛ 110؛ 114). ولذا، «لا يمكن أن ننسى الفقراء إن كنّا لا نريد أن نخرج ونبتعد عن تيّار الكنيسة الحيّ الذي ينبع من الإنجيل ويُخصِب كلّ لحظة تاريخيّة» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 15). و«مع القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني، ترسّخ، على الأقل على المستوى العقائديّ، أفضليّة الفقراء والعلاقة التي تربط الكنيسة بهم، إذ إنّ تعليمه قد اعترف بأنّ خِيَار الفقراء هو "شكل خاصّ من أشكال الأولويّة في ممارسة المحبّة المسيحيّة، التي يشهد لها تقليد الكنيسة بأكمله"» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 87). ومِن ثمَّ، فإنّ البابا لاوُن الرَّابع عشر مقتنعٌ تمام الاقتناع «بأنّ الخيار الأولويّ للفقراء يخلق تجديدًا استثنائيًّا في الكنيسة والمجتمع، عندما نكون قادرين على أن نتحرّر من المرجعيّة إلى الذّات، فنقدر أن نصغي إلى صراخهم» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 7).

 

وينبغي لنا، أيضًا، ملاحظة أنّنا «لا نتكلَّم فقط على المساعدة والالتزام الضّروريّ من أجل العدالة. على المؤمنين أن يؤدّوا حسابًا عن شكل آخر من أشكال التّناقض في موقفهم من الفقراء. في الحقيقة، "إنّ أسوأ تفرقة يعاني منها الفقراء هي النّقص في الاهتمام الرّوحي بهم […]. تفضيل الفقراء يجب أن يظهر بصورة أساسيّة في اهتمام دينيّ بهم متميّز، ويجب أن تكون له الأولويّة"» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 114).

 

إنّ هذا "الاختيار التّفضيليّ والإنجيليّ للفقراء" لم يكن فقط اختيار القدّيس فرنسيس –"فقير أسيزي"– فحسب ("لقد أَحبَبتُكَبند 6)، وإنّما كان موقف "الجماعة المسيحيّة الأُولى" برُمّتها ("لقد أَحبَبتُكَ"، بنود 24-34) و"آباء الكنيسة" أجمعين ("لقد أَحبَبتُكَ"، بنود 39-48) أيضًا: على سبيل المثال، القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ، وأسقف إزمير بوليكاربس، والقدّيس يوستينس الشّهيد، والقدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم –رئيس أساقفة القسطنطينيّة وأكثر الواعظين حماسةً للعدالة الاجتماعيّة، والقدّيس أمبروزيوس –أسقف ميلانو، والقدّيس أغسطينس. و«منذ القرون الأولى، رأى آباء الكنيسة في الفقراء وسيلةً مميّزةً للوصول إلى الله، وطريقًا خاصًّا للقائه. لم يروا في المحبّة للمحتاجين فضيلةً أخلاقيّةً بسيطة فقط، بل تعبيرًا عمليًّا عن الإيمان بالكلمة المتجسّد» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 39). ولقد «عبّر العديد من آباء الكنيسة، الشّرقيّين والغربيّين، عن أولوّيّة الاهتمام بالفقراء في حياة ورسالة كلّ مؤمن مسيحي. ومن هذا المنظور، وباختصار، يمكن القول إنّ لاهوت آباء الكنيسة كان عمليًّا، إذ سعى إلى بناء كنيسة فقيرة ومن أجل الفقراء، مُذكّرًا بأنّ الإنجيل لا يُعلن على نحوٍ صحيح إلّا عندما يدفع إلى لمس عذاب الأقلّ حظًّا، ومُحذّرًا من أنّ التّشدّد في العقيدة، بدون رحمة، إنّما هو كلام فارغ» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 48).

 

ونجد كذلك الاهتمام بالفقراء في الحياة الرّهبانيّة أيضًا ("لقد أَحبَبتُكَ"، بنود 53-58). فقد «نشأت الحياة الرّهبانيّة في صمت الصّحاري، وكانت منذ بدايتها شهادة حيّة على روح التّضامن. فقد ترك الرّهبان كلّ شيء –الغنى، والشّهرة، والعائلة– لا لمجرّد ازدرائهم خيرات العالم (contemptus mundi)، بل لكي يلتقوا، بهذا التجرّد الجذريّ، بالمسيح الفقير» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 53). و«لقد أظهرت شهادة الرّهبان أنّ الفقر الاختياريّ، ليس شقاء، بل هو طريق للحرّيّة والوَحدة والشّركة» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 56). «وهكذا، فإنّ التّقليد الرّهبانيّ يعلّم أنّ الصّلاة والمحبّة، والصّمت والخدمة، وصوامع الرّهبان والمستشفيات، تشكّل نسيجًا روحيًّا واحدًا. فالدّير هو مكان للإصغاء والعمل، والعبادة والمشاركة» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 58).

 

وفي هذا المضمار عَيْنه، يسطع "شهود الفقر الإنجيليّ"، ولا سيّما في نطاق "الرّهبنات المتسوّلة" (القرن الثّالث عشر)، على غرار: الفرنسيسكان، والدّومينيكان، والأغسطينيّون، والكرمليّون» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بنود 63-67). «وقد تحدَّت شهادة الرّهبنات المتسوّلة، في الوقت نفسه، تَرَف الإكليروس وبرودة المجتمع المدنيّ» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 63). ولقد «صار القدّيس فرنسيس الأسيزي أيقونة لهذه النّهضة الرّوحيّة. فهو باتّخاذه الفقر عروسًا له، أراد أن يقتدي بالمسيح الفقير، والعريان، والمصلوب [...] كان فقره علاقة مع الفقراء: جعله يصير قريبًا، مساويًا للآخر، بل أصغر منه. نبعَت قداسته من قناعته بأنّه يمكن أن نستقبل حقًّا المسيح فقط إن بذلنا أنفسنا للإخوة بسخاء» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 64). فـ«إذًا، كانت الرّهبنات المتسوّلة جوابًا حيًّا على الإقصاء واللامبالاة. لم يقترحوا صراحةً إصلاحات اجتماعيّة، بل ارتدادًا شخصيًّا وجماعيًّا إلى منطق الملكوت. بالنّسبة لهم، لم يكن الفقر نتيجة لنقص في الخيرات، بل اختيارًا حرًّا: أن يصيروا صغارًا ليستقبلوا الصّغار [...] صار المتسوّلون رمزًا لكنيسة حَاجَّة، ومتواضعة، وأخويّة، تعيش بين الفقراء لا للبحث عن أتباعٍ لها، بل لتحدِّد هويّتها. كانوا يعلّمون أنّ الكنيسة تكون نورًا فقط عندما تتجرّد من كلّ شيء، وأنّ القداسة تمرّ عبر القلب المتواضع والمكرَّس للصّغار» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 67).

 

وعلى هذا النّحو عَيْنه، نجد رُوَّاد ورَئدات التّربيّة الكاثوليّكيّة، ورسالتهم التّربويّة نحو الفقراء ومعهم ("لقد أَحبَبتُكَ"، بنود 68-72)؛ فـ«بالنّسبة للإيمان المسيحيّ، تربية الفقراء ليس إحسانًا بل هو واجب» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 72). ويقدّم الإرشادُ الرّسوليّ بدوره النّماذج التّالية للمُربّين والمربّيات الكاثوليك: القدّيس يوسف كالازانس (القرن السّادس عشر)، «المؤسّس الحقيقيّ للمدرسة الكاثوليكيّة الحديثة، التي تسعى إلى تنشئة الإنسان تنشئة كاملة، ومنفتحة على الجميع»؛ والقدّيس يوحنّا باتّيستا دي لا سال (القرن السّابع عشر)، "مؤسّس إخوة المدارس المسيحيّة"؛ القدّيس مارسيلينو شامبانيا (القرن التّاسع عشر)؛ القدّيس يوحنّا بوسكو؛ الطّوباوي أنطونيو روزميني؛ وكذلك الرّهبنات النّسائيّة العديدة التي أدّت دورًا في هذه الثّورة التّربويّة، لا سيّما في القرنين الثّامن عشر والتّاسع عشر.

 

في نهاية المطاف، الكِتابُ المقدَّس وآباءُ الكنيسة والتّقليدُ الكَنسيّ الحيّ، هم بمثابة حُجَجٌ وشهودٌ مقتنعةٌ ومقنِعةٌ بمحبّة الفقراء، أو المحبّة نحو الفقراء. و«بالنّسبة لنا نحن المسيحيّين، تعيدنا قضيّة الفقراء إلى جوهر إيماننا. إنّ تفضيل الفقراء، أي محبّة الكنيسة لهم، كما علّم القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، "هو أمرٌ جوهريٌّ وجزءٌ من تراثها الرّاسخ. ويدفعها إلى أن تتوجّه إلى العالم، حيث يُهدِّد الفقر بأن يتّخذ أشكالًا هائلة، بالرّغم من التّقدّم التّقني والاقتصادي". والواقع هو أنّ الفقراء بالنّسبة للمسيحيّين ليسوا فئة اجتماعيّة، بل هم جسد المسيح نفسه» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 110).

 

ومِن ثمَّ، يصرّح البابا لاوُن الرَّابع عشر بما يلي: «أردت أن أذكر تاريخ ألفَيْ سنة لاهتمام الكنيسة بالفقراء ومع الفقراء لأُبَيِّنَ أنّه جزء أساسيّ من مسيرة في الكنيسة لم تتوقّف. الاهتمام بالفقراء هو جزءٌ من تراث الكنيسة الكبير، مِثلَ منارة تبعث نورًا، منذ أن ظهر الإنجيل وما بعد ذلك، فأنارت قلوب وخطى المسيحيّين في كلّ زمان. لذلك، يجب أن نشعر بأهمّيّة دعوة الجميع للدخول في نهر النّور والحياة هذا الذي يرى المسيح في وجه المحتاجين والمتألّمين. إنّ محبّة الفقراء هي عنصر أساسيّ من تاريخ الله معنا، وهي نداء مستمرّ من قلب الكنيسة إلى قلوب المؤمنين، جماعات وأفرادًا. ولأنّ الكنيسة هي جسد المسيح، فإنّها تشعر بحياة الفقراء، كأنّهم جسدها، وهم الجزء الأفضل فيه، في شعبٍ يسير ويتقدَّم. ولهذا، فإنّ محبّة الفقراء، كيفما ظهر وجه الفقر فيهم، هي الضّمانة الإنجيليّة لأمانة الكنيسة لقلب الله. في الواقع، كلّ تجديد في الكنيسة كان دائمًا من أولويّاته هذا الاهتمام التّفضيليّ بالفقراء، وهو يختلف، بدوافعه وأسلوبه، عن عمل أيّ منظّمة إنسانيّة أخرى» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 103).

 

[يُتبَع]