موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٧ مايو / أيار ٢٠١٢

دومنيك سافيو "الفتى المتيم بالرب"

بقلم :
الأب داني قريو السالسي - إيطاليا

طفولته أبصر النور دومنيك سافيو في "ريفادي كييري" بالقرب من تورينو في إيطاليا في 2 نيسان 1842. وتشرّب تربية والديه الصالحة مقتبساً عنهما المثل الصالح. كان والده "كارلو" حداداً وأمه بريجيت خياطة. علمته والدته حب الله وأهمية الصلاة فتعود منذ نعومة أظافره أن يتمتم بعفوية الطفل الصلوات المعهودة في زمانه. وللم يبلغ الرابعة حتى أخذ يجد لذته في الصلاة. وكثيراً ماكان يختلي في إحدى الزوايا هو راكعٌ مناجياً الآب السماوي، وعندما تعلّم تلاوة السبحة الوردية، أصبحت صديقه الحميم الذي لا يفارقه. تميز دومنيك بأخلاق سامية، كان لطيف الخلق، طيب القلب، طائعاً لوالديه محباً لهما بكل كيانه. فكان يستقبل والده حين فدومه من العمل قافزاُ بين ذراعيه مقبلاً وجنتيه داعياً له بالصحة والعافية. كان كل من يرى هذا اللقاء، تدمع عيناه للدفء الذي يضفيه هذا الطفل بحركاته وكلماته العفوية النابعة من أعماق قلبه. حين كان يجلس على المائدة كان أوّل من يستمطر بركات الله بصلاته قبل الطعام ويشكره على نعمه مقدراً إياه خير تقدير. وفي إحد الأيام زار أحد الأصدقاء العائلة سافيو فدُعي إلى تناول الطعام. ولما جلس إلى المائدة شرع يأكل دو أن يتلو أية صلاة. فقام دومنيك عن المائدة وانفرد في إحدى زوايا البيت يلعب، ولما سأله أبوه عن سبب اعتزاله، أجاب: "لم أجرؤ أن أجلس إلى المائدة مع رجل يأكل على طريقة البهائم، لا إيمان ولا عقل له!". عشقه السماء تزامن تشوُق دومنيك إلى الله مع نمو سنه، ولازمه طوال حياته كتوأمين متلازمين. وكانت رغبته تتأجج في داخله يوماً بعد يوم للقاءه الفريد مع الرب. كان يرافق والدته في كل صباح للمشاركة في القداس الالهي في كنيسة الرعية. ولما أصبح قادراً على الذهاب وحده إلى الكنيسة أخذ يبكر كل يوم ليزور ربَّه فيختلي به، ويستعد للقداس. وبالغ يوماً في التبكر على غير انتباه، ولم يفطن لذلك إلا عند وصوله إلى الكنيسة، فوجد الباب مغلقاً مقفلاً، والثلج يغطي الأرض. فجثا على ركبتيه على عتبة باب الكنيسة، على أرض تكسوها الثلوج، وراح يستغرق في الصلاة مختلساً النظر إلى بيت القربان من ثقب المفتاح قائلاً "ما أحبَّ مساكنك، يارب القوات، تشتاق وتذوب نفسي إلى ديار الرب، عطشت نفسي إلى الإله الحي!" وبقي على هذا الحال إلى أن حضر كاهن الرعية، فسأله بدهشٍ وتعجب: ماذا تعمل يا دومي؟ وصلت مبكراً فأخذت أصلي. فقال له: تعال نهيئ المذبح معاً. أحب دومنيك الكنيسة وبخاصة خدمة المذبح وبيت القربان، حيث ضيفه الحبيب يسوع ينتظره وينتظر محبيه، وشغلت خدمة الهيكل حيزاً كبيراً من نشاطه في كل صباح، فتعلم خدمة القداس منذ الخامسة من عمره. وبدأ يرتاد كل يوم مدرسة القرية المجاورة، فتعلم القراءة والكتابة، والتهم الدروس الدينية بشغف عظيم، وقد مهدت لها تربية والدته الدينية في البيت، حتى أنّه أتقن التعليم المسيحي وهو في السابعة، وكان يزداد تعلقه بالرب في سر القربان، وكم كان يتشوق لقبول سر القربان المقدس على غرار الكبار، وكان يناجي الكاهن في رغبته هذه. فعزم الكاهن على عرض طلبه على كهنة الرعايا في اجتماعهم، لأنه كان من غير المسموح التناول في ذلك الحين قبل سنة الثانية عشر. ولما كان كاهنه مطلعاً عن كثب عن تقواه الديني وأخلاقه الرفيعة، دعم طلب دومنيك بحكمته وحنكته مؤيداً ذلك بروحانية دومنيك العالية وبلوغه النضج التعليمي الكافي في ميدان التربية الدينية والرغبة الشديدة للأفخارستيا. فما كان منهم إلا أن أجمعوا في الرأي على عدم انتظار بلوغ الثانية عشر. فأجري له إمتحان خاص دون انذار مسبق، فنجح وأثار دهش الجميع. وفي عشية إحدى الأيام أبلغ الكاهن دومنيك موافقة أخوته الكهنة على أنّه باستطاعته الإستعداد للمناولة في عيد القيامة. وما أن سمع دومنيك الخبر حتى رقص قلبه فرحاً، وأسرع إلى البيت ينقل البشرى إلى والدته. وباشر يُعد نفسه لليوم السعيد والمبارك. وفي عشية ذلك اليوم العظيم ألقى بنفسه بين ذراعي أمّه متمتماً: "ماما، غداً يوم مناولتي الأولى. في الماضي لم أكن دائماً مطيعاً ونشيطاً، فسامحيني. إني أعاهدك من الآن فصاعداً سأكون ابناً عاقلاً..." فتأثرت بكلامه وضمته إلى صدرها، قائلة: "كن مطمئناً فقد سامحتك، وأطلب من الله أن يحفظك طاهراً ونقياً وأنت صلِّ من أجلي ومن أجل والدك". وفي مساء ذلك اليوم خلد للفراش مبكراً وغرق في الصلاة ولم يستطع النوم لشدة شوقه، وتمزقت ليلته بأرق مستديم. نهض مبكراً صباح أحد الفصح 8 نيسان 1849 وتوجه بفرح إلى الكنيسة التي تبعد 4 كم عن قريته. ودامت الصلوات والإعترافات والقداس ورتبة الشكر قرابة 5 ساعات، ورغم طول الاحتفال فقد بدا له الوقت قصيراً جداً. ولما حان وقت التناول اقترب الصبي من درج المناولة فركع عليه واقتبل سر القربان بتقوى وشفغ وحرارة وإيمان ووعي كبير لمضمون هذا السر العظيم. ثم عاد إلى مكانه يعبِّر للرب يسوع عن شكره ومحبته، وقد غاب عن هذا العالم ليناجي ضيف قلبه الإلهي وطيف حياته وعروس نفسه. ولما خرج الناس من الكنيسة كان دومنيكلا يزال جاثياً في مكانه مستغرقاً في صلاة خاشعة يتأمل عظائم الرب ويشكر له آلاءه ويذوق حلاوة هذا اللقاء اللطيف، مكرراً ابتهال صاحب المزامير: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب". ولم يبرح مكانه إلا حين همس كاهن الرعية في أذنه قائلاً: "هيا، يادومنيك، فوالداك ينتظرانك في الساحة". فاستفاق من مناجاته السرية مع ربه تلك المحادثة الحارة التي وعد فيها ضيه الإلهي بمقاصد أربعة، وجدت فيما بعد مدونَّة في دفتر صغير، تشف عن نفس طاهرة تلتهب حباً ليسوع ومريم: 1. سأعترف وأتناول مراراً. 2. سأشارك في الذبيحة الإلهية أيام الآحاد والأعياد. 3. صديقاي هما يسوع ومريم. 4. الموت ولا الخطيئة!. بقي وفياً أميناً لما وعده كلّ حياته. كان دومنيك يتردد إلى مدرسة الرعية مرتين في اليوم قاطعاً في كل مرة 4 كم سيراً على الأقدام. وكان يتميز بذكاء ٍ فطري وذاكرة مدهشة وانتباه حاد وعقلٍ نير وإرادة صلبة وحسٍ مرهف.. ولكن نظراً لصحته المنحرفة (كان نحيفاً جداً) كان يسبب له هذا السير 16كم يومياً تعباً شديداً وارهاقاً جسمياً. وفي إحدى المرات كان يتمتم قائلاً: ليتني عصفوراً لطرت كل يومٍ بمزيد من الفرح مرتين في اليوم لمتابعة دروسي. فسأله كاهنه: أجل اشعر بعناء طريقك الطويل، فقال له: كلا يا أبت، أرغب أن أطير كي لا يُستهلك حذائي بسرعة. الرغم من أنّه كثيرا ما كان يراه عائداً وحذاؤه على كتفيه، وقدماه حافيتان.لكن كاهن الرعية كان يدرك تماماً عناء هذا الصبي الذي لم يتجاوز بعد العشر سنوات في ذهابه وإيابه يومياً، أنظار والديه لهذا الأمر واقترح إرساله إلى مدرسة داخلية في تورينو لعل دون بوسكو يقبله في عداد تلاميذه. لقاء العاشق مع القديس حدث الأب "كالييرو" صديقه دون بوسكو عن تلميذه دومنيك، مطنباً في مديحه. قائلاً فيه: ليس له من الصحة إلا القليل ولكن له من الصلاح ما يجعلني أراهنك أنك لم تعرف قط ولداً مثله ذكاءً وفضيله. فسرَّ دون بوسكو وابرقت عيناه أملاً، وقال: أنا هنا لعدة أيام دعني أتحدث إليه وسنرى من أي نسيج صلُنع. وفي 2/10/1854 أقبل دومنيك مع والده إلى موريالدو حيث كان دون بوسكو يقضي عطلته مع أولاده هناك، ولما وصلا هبَّ دون بوسكو لملاقاتهما، فجذب وجهه المشرق ناظري دون بوسكو ومظهره وهو يبتسم ويظهر التوقير والإحترام. فقال له: من أنت ومن أين جئت؟ دومنيك: أنا دومنيك من "موندونيو" وقد حدثك عني كاهن رعيتنا. وبعد حديث قصير سادت الثقة التامة بينهما. ودُهش دون بوسكو للنتائج التي حصلت عليها النعمة الإلهية من صبي صغير. وأخيراً قال دومنيك: ما رأيك أن تذهب بي إلى "تورينو" لأدرس؟ دون بوسكو: أجل يبدو لي أني أجد فيك نسيجاً حسناً. دومنيك ولما يصلح هذا النسيج؟ دون بوسكو: لصنع ثوب جميل أقدمه للرب. دومنيك: إذاً أنا النسيج وأنت الخياط، وسنصنع معاً ثوباً جميلاً للرب. واعترض دون بوسكو وقد ذعر من للونه الشاحب: "لكني أخاف عليك، فلعل ضعف صحتك لن يسمح لك ببلوغ نهاية دراستك. دومنيك: لا تخف، فالرب الذي مدني بالصحة الآن، سيقويني حتى النهاية. فرغبتي أن أصير كاهناً. وفي مساء الأحد 1/4/1855 تحدث دون بوسكو عن القداسة، وأنّه ليس من الصعب أبداً بلوغ هذه الغاية. فأصغى دومنيك بانتباه وبدا له وكأن الحديث موجّهٌ له. تأثر تأُيراً بالغاً بعظة مرشده، وأخذ يحلم منذ ذلك الحين، وحلمه هو القداسة وضرورة بلوغها بأسرع وقت ممكن. وفي عيد يوحنا المعمدان. أراد دون بوسكو أن يقابل بالمثل ما يظهر له الأولاد من المحبة وحسن الإرادة، فأعلن "ليكتب كل منكم على بطاقة الهدية التي يرغب في الحصول عليها مني، وأنا سأبذل قصار جهدي في تحقيقها". وعندما أخذ يقرأ البطاقات التي جُمعت، رأى الغريب والعجيب، منها ما يتصف بالجد والنعقل ومنها الغريب، فمثلاً طلب صبي، أنّه يرغب بـ100 كغ من السكاكر، لكي تكفيه لمؤونة سنة! ثم وجد بطاقة دومنيك وكُتب فيها: ساعدني على أن أكون قديساً. حمل دون بوسكو هذه الكلمات على محمل الجد، فدعا دومنيك وقال له: أريد أن أعطيك مايضمن لك القداسة. ها هوذا: 1. الفرح، فما يجعلك تضطرب، ويسلبك الفرح، لا يأتي من الله. 2. واجباتك المدرسية والتقوية، ثابر على الدرس وثابر على التقوى. ذلك كله لا تفعله للطموح بل حباً للرب. 3. عمل الخير للآخرين. ساعد دائماً أترابك ولو فرض ذلك عليك البذل. القداسة كلها في هذه الأمور. وضع دومنيك القداسة بين ناظريه، فراح يبحث عن جميع الوسائل لبلوغ هدفه، منها التقرب من سر التوبة، الأماتات، التقشفات، الصوم... ووصل به الحد أن يضع في سريره بعض قطع الآجر أو الخشب، أو ينزع عنه الغطاء في أيام البرد.. فأخبر صديقه كل هذا لدون بوسكو. فنهاه نهياً قاطعاً عن كل هذه المبالغات. فأجاب دومنيك: كيف أصل للفردوس دون إماتات؟ وبدون تكفير عن ذنوبي وذنوب الآخرين؟ فأرشده دون بوسكو إلى أهمية الطاعة وتقبل الآلم الذي ترسلها الحياة وليس البحث عنه. ومن ذلك اليوم بدا وكأنه الملاك لأترابه، فراح يملأ رفاقه مرحاً وفرحاً، يبدل من وجوههم العبوسة والحزن بالبشاشة، فهو يسلبهم بحديث لذيذ أو قصة لطيفة أو نكته ناعمة، كما كان متحفزاً لكل خدمة بقلب كريم لا يمل عطاءً وبذلاً. كان بهجة رفاقه في نزهاتهم، وفي لعبهم، والفتى الذي يتراكض الجميع إلى عشرته وصحبته. وكان يردد على أصحابه أنّ "قداستنا تكمن في أن نكون فرحين". أسس بصحبة بعض رفاقه "أخوية أصدقاء الحبل بلا دنس" وسنّ لها قانوناً يتركز حول ثلاثة نقاط: 1. الطاعة للرؤساء. 2. إعطاء المثل الصالح لرفاقهم. 3. عدم أضاعة الوقت والإجتهاد في عمل الخير نحو التلاميذ غير المرضيين بسلوكهم. دومنيك المتيم بالرب كان دومنيك صديق الجميع، ولكن كان له صديقان حميمان هما "كافيو" و"مساليا" كانوا الثلاثي المرح، وكم من الرسائل التي كانوا يتبادلونها استعملها دون بوسكو في ارشاده. ونشرها عدة مرات. كانت سيرتهم ترتقي رويداً رويداً سلم الفضيلة، في التعاضد والتعاون، في المنافسة وصنع الخير. ولكن للأسف لم تدم هذه الصداقات طويلاً فقد سرق الموت سريعاً "كافيو" ومن بعده "مساليا" بسبب إنتشار الوباء وقلة أساليب العلاج ناهيك عن سوء التغذي والفقر في تلك الأيام. على أثر التجربتين السابقتين القصيرتي المدى أضحى دون رفيق ولا صديق، فهو لا ينوي على تجديد تجربة الصداقة مع شخص آخر، وأصبحت حياة السماء برفقة الله محط آماله و غايته القصوى. شغف بالقربان المقدس منذ حداثته، فأولاه المكانة الأولى في حياته الروحية وممارساته الدينية. واختبر حسنات هذا السر العظيم. قّم نهاره إلى قسمين: القسم الأول كان شكر لقبول سر القربان المقدس والقسم الثاني من النهار كان استعداداً لقبول هذا السر. كان يختلي بالرب يسوع مراراً في النهار، وكان اختلاؤه عميقاً حيث ينسيه ذاته وما حوله. فمرة دخل مع رفاقه إلى الكنيسة ولضيق المكان ذهب مع البعض إلى وراء المذبح. ولما انتهت الصلاة خرج الجميع إلا دومنيك. الذي بقي بلا حراك، ووجهه بين يديه. فتفقده معلموه ورفاقه في المدرسة، وحان وقت الغذاء دون أن يجدوه. فأخبروا دون بوسكو الذي فكّر أنّه لابد أن يكون بعد في الكنيسة. ولما قصدها وجده واقفاً وعيناه محدقتان ببيت القربان. فناداه فلم يلتفت. عندئذ هزه برفق على كتفه فنظر إليك دومنيك دهشاً، وسأله هل إنتهى القداس؟ فأجابه منذ ساعات، الآن الساعة الثانية. إذهب إلى رفاقك وإن سألوك فقل لهم كنت أعمل ما أمرني به دون بوسكو. ومرة شاهد أحد الكهنة يحمل القربان فجثا على ركبتيه وكان بجانبه أحد الجنود فكي لا يحرجه أخرج منديلاً من جيبه ووضعه على الأرض ودعاه للركوع. وكم من المرات شاهده أترابه واقفاً يصلي مولعاً بالقربان المقدس وهو مرتفع عن الأرض. كان منذ صغره وله حدس خاص، كان يشعر بالمنازعين، أصحاب الرمق الآخير. عدة مرات استيقظ مسرعاً إلى دون بوسكو، قائلا له: هناك من يحتاج للمسحة الأخيرة. أو فجأة يختلي بدون بوسكو ويهمس في أذنه أن هناك من يريد الأعتراف والتناول، فيصحب دون بوسكو إلى أماكن بعيدة مسرعاً ويطرق الباب ويقدم دون بوسكو، وكم تكون فرحة أهل البيت عندما يرون كاهناً معه الزاد الأخير لمصابه. رغم أن صحته كانت تهزل وتذوي وهو يشعر بانحطاط قواه واشتدات الزكام والسعال عليه وقد فقد كل شهية للطعام ولكن لم تفارق البشاشة لحظة وجهه. واستدعا طبيباً خاصاً لمعالجته.وسأله دون بوسكو: ماذا أستطيع أن أفعل لك: فهز كتفيه آسفاً، وقال: أعدّه إلى قريته ففي الريف سيستنشق الهواء الأنقى وانهه عن الجهد أو الدراسة. ولما أعلم دون بوسكو دومنيك بالأمر، شق عليه ترك المركز والأصدقاء، وقال: أريد أن أنهي حياتي هنا بين من أححبتهم وأحبوني. فأجابه دون بسكو: لا تتكلم عن هذا فستشفى وتعود. فأردف دومنيك: كلا يا أبتي، سأذهب ولن أعود، هذه ستكون آخر مرة نتحدث فيها معاً. قل لي: ماذا يمكنني أن أعمل للرب؟ دون بوسكو: قدم له آلامك. دومنيك: وماذا أيضاً؟ دون بوسكو: قدم له حياتك أيضاً. دومنيك: سيمكنني أن أرى من الفردوس أصدقائي الذين سأتركهم؟ دون بوسكو: أجل. دومنيك: وهل سيمكنني المجيء إليهم لأراهم. دون بسكو: إن شاء الله/ أمكنك أن تعود. وأهلي الذين رحلوا عنا. كان المركز عزيزاً على قلبه ففيه قضى سنتين ونصف مع دون بسكو الذي عطف عليه بحنان الأم وحكمة الأب، وأدار شؤون نفسه الروحية في سبيل الرب، وأنار ظلمات حياته، وعزى قلبه. وحان موعد رحيله: فطلب من دون بوسكو قائلاً أريد منك تذكاراً أخذه معي. ما الهدية التي تعجبك، أتريد كتاباً؟ كلا شيئاً أفضل. أتريد بعض النقود لتعل أسرتك؟ نعم نقوداً للسفر إلى الأبدية. ألم يمنحك قداسة البابا غفرانات كاملة؟ أغفر لي خطاياي! توقف دون بوسكو عن الكلام لشعوره أنّه لن يتمكن من أمساك الشهيق في صدره. فهذا الفتى الذي أحبه، ابنه المفضل، والذي وجد فيه المعين، هذا النجم المتألق يهوي بين يديه. وعندما استقل العربة مع والده لوح بيديه وكأنه يصعد طريق الجلجلة، وكأنه يدفن ذاته في قبر متحرك يقوده إلى مثواه الآخير. يداه تلوح وقلب أترابه واصحابه يتمزق وهم يرونه يغيب عن أنظارهم، مرافقينه بقلبهم الدامي حزناً وعينهم الدامعة ألماً. عاش تسعة أيام جلجلة من آلام مبرحة حرمته النوم وارقت مضجعه. ثم سقط بعدها الفتى الجبار ممسكاً بيد كاهن رعيته قائلاً: أشكرك يارب لأنك سمحت لي أن بهذا الألم لأكفر عن ذنوبي التي نسيتها ولم أعترف بها. ثم أردف صارخاً: "ماأجمل ما أراه" وأغمض عينيه. إنتقل الى السماء بفرح كبير في التاسع من آذار 1857 وكان عمره خمسة عشرة سنة. أعلنه البابا بيوس الثاني عشر قديساً في 12 حزيران 1954 وهو أول قديس تعلنه الكنيسة في الخامسة عشرة من عمره.