موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٣ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٥

اليوم ولد المسيح: بيننا وفينا

بقلم :
الأب داني قريو السالسي - لبنان
اليوم، ولد المسيح... بيننا وفيَّنا

اليوم، ولد المسيح... بيننا وفيَّنا

 

في هذه الأيام المباركة، بعد مسيرة الآحاد التي سبقت عيد الميلاد، نصل اليوم إلى عيد ميلاد ربنا يسوع المسيح، لنكمل المسيرة مع شخصيات ما بعد ميلاده: الرعاة، والمجوس، ويوسف، ومريم، وسمعان، وحنة

 

مع ميلاد المسيح، ننتقل من مرحلة الترقب إلى مرحلة التجسّد الفعليّ، أي نعيش حضور ابن الله في بشريّتنا. قبل الميلاد، كنا نعرف الله في السماء، أما بعد التجسّد، صار الله واحدًا منا: "والكلمة صار جسدًا وسكن بيننا، ورأينا مجده، مجدًا كما لوحيد من الآب، مملوء نعمة وحقًا" (يوحنا 1:14). لم يعد "الله تعالى" إنما "الله تنازل!"، لم يعد "الله أكبر" إنما "الله أصغر". وبهذا التنازل، حصل الفرح الخلاص. كما يقول القديس أغسطينوس: "المسيح لم يزد البشر عددًا، بل زادهم حياة".

 

أولاً: الإحصاء:  يقول الإنجيل "في تلك الأيام صدر أمر من قيصر أغسطس بأن يُحصى جميع سكان الأرض. هذا أول إحصاء كان حينما كان كيرينيوس والي سوريا" (لوقا 2:1-2).

 

لماذا تُجري الدول إحصاءً؟

- لمعرفة مقدار الجزية الممكن الحصول عليها من الناس.

- لتقدير قوة الجيوش، متابعة أعداد السكان، وضبط الأمور السياسية والعسكرية.

 

أما عند ولادة يسوع:

- بالنسبة للعالم، أضافت البشرية شخصًا واحدًا فقط، اسمه يسوع.

- بالنسبة للمسيحية، لم يكن الإحصاء مهمًا، لأن ولادة يسوع أضافت تحولًا جوهريًا للبشرية، وصارت الألوهية متجسدة في بشريتنا إذ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "إن ميلاد المسيح لم يزيد البشر عددًا، بل زادهم نعمة وحياة جديدة".

 

بعد تجسد يسوع، أصبح بإمكاننا التأمل في كيفية أن ابن الله صار إنسانًا مثلنا، وأصبح واحدًا معنا، وغيّر جوهريًا البشرية وعلاقاتنا مع بعضنا البعض.

 

 

ثانيا: اليوم: الكلمة المتكررة والمحبة في إنجيل لوقا هي: "اليوم"، وتظهر في عدة مواقف:

 

- الملائكة للرعاة: "اليوم وُلِد لكم مخلص" (لوقا 2:11).

- يسوع في مجمع الناصرة: "اليوم تمت هذه الكتابة على مسامعي" (لوقا 4:21).

- زكا: "انزل يا زكا، لأنه اليوم يجب علي أن أقيم في بيتك" (لوقا 19:5).

- اللص التائب على الصليب: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لوقا 23:43).

 

هذا اليوم ليس مجرد تاريخ عادي كالاثنين أو الثلاثاء أو الأربعاء، بل هو اليوم الإلهي، حيث يلتقي الإنسان مع الله مباشرة، دون تأجيل أو انتظار: "اليوم تمت هذه الكتابة على مسامعكم" (لو 4، 21)، كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "لا تقل لنفسي سأفعل غدًا، فالرب يعمل اليوم وليس غدًا". الرعاة استجابوا فور سماعهم البشرى، فتركوا أماكنهم وساروا مباشرة  لرؤية الطفل: "اليَومَ، إِذا سَمِعتُم صَوتَه، فلا تُقَسُّوا قُلوبَكم" (عب 3، 15).

 

 

ثالثًا: مسيرة المؤمن مع الله: إنّ الميلاد حدث بالفعل: وُلِد يسوع، وولدت البشرية للفرح والخلاص. نرى في مسيرة الرعاة أربع خطوات رئيسية:

1. السماع: الاستماع للبشارة "اليوم وُلِد لكم مخلص".

2. الاختبار: الذهاب لرؤية الطفل وأمه ويوسف، والتأكد من البشرى.

3. نشر البشارة والتبشير: العودة لإخبار الآخرين بما شاهدوه.

4. تمجيد الله: مجد الله على ما أعطاهم من خلاص وفرح.

 

كما يقول القديس أغسطينوس: "المؤمن لا يكتفي بالاستماع، بل يعيش ما سمعه ويشاركه مع الآخرين". إن الرعاة انتقلوا من مرحلة السماع "ها إِنِّي أُبَشِّرُكُم بِفَرحٍ عَظيمٍ... وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ..." إلى الاختبار العملي "هَلُمَّ بِنا إِلى بَيتَ لَحم، فَنَرَى ما حَدَثَ... وجاؤوا مُسرعين، فوَجَدوا" فالتبشير " ولَمَّا رَأَوا ذٰلكَ جعَلوا يُخبِرونَ بِما قيلَ لَهم في ذٰلك الطِّفْل"، ومن ثم تمجيد الله "ورَجَعَ الرُّعاةُ وهم يُمَجِّدونَ الله ويُسَبِّحونَه على كُلِّ ما سَمِعوا ورَأَوا كَما قيلَ لَهم".

 

فالخطوات تتلخص في: سماع، اختبار، إخبار، وتمجيد الله. وهذه هي دعوة ومسيرة كل مؤمن. هذه المراحل يجب أن تبقى حاضرة في حياتنا بشكل مستمر، فهي جوهر المسيحية والتقليد المسيحي: أن نعيش التزامنا بكلمة الله، اختبار البشرى، مشاركتها، وتمجيد الله. كما يقول البابا فرنسيس: "فلنترك أنفسنا نضيء بنور المسيح، وعندها سيشعر الآخرون بحرارة هذا النور".

 

فليكن ميلاد المسيح، مناسبة لنعيش هذه الحقيقة في حياتنا، لنعيش حضور الله بيننا اليوم، ونعلن هذا الفرح لكل من حولنا، ونجعل من ميلاد المسيح لحظة تحوّل حقيقي في قلوبنا وأعمالنا ومن يرانا.