موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٦ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢١

تعليم يسوع عن السلطة

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد التاسع والعشرون للسنة: تعليم يسوع عن السلطة (مرقس 10: 35-45)

الأحد التاسع والعشرون للسنة: تعليم يسوع عن السلطة (مرقس 10: 35-45)

 

النص الإنجيلي (مرقس 10: 35-45)

 

 35ودَنا إِلَيه يَعقوبُ ويوحَنَّا ابنا زَبَدى، فقالا له: ((يا مُعَلِّم، نُريدُ أَن تَصنَعَ لَنا ما نَسأَلُكَ)). 36 فقالَ لَهما: ((ماذا تُريدانِ أَن أَصنَعَ لكما؟)) 37 قالا لهُ: ((اِمنَحْنا أَن يَجلِسَ أَحَدُنا عن يَمينِك، والآخَرُ عَن شِمالِكَ في مَجدِكَ)). 38 فقالَ لَهما يسوع: ((إِنَّكُما لا تَعلَمانِ ما تَسألان. أَتَستَطيعانِ أَن تَشرَبا الكأسَ الَّتي سأَشرَبُها، أَو تَقبَلا المَعمودِيَّةَ الَّتي سَأَقبَلُها؟)) 39 فقالا له: ((نَستَطيع)). فقالَ لَهما يسوع: ((إِن الكأَسَ الَّتي أَشرَبُها سَوفَ تَشرَبانِها، والمَعمودِيَّةَ الَّتي أَقبَلُها سَوفَ تَقبَلانِها. 40 وأَمَّا الجُلوسُ عن يَميني أَو شِمالي، فلَيسَ لي أَن أَمنَحَه، وإِنَّما هُوَ لِلَّذينَ أُعِدَّ لهم)). 41 فلمَّا سَمِعَ العَشَرَةُ ذلكَ الكَلامَ اسْتاؤُوا مِن يَعقوبَ ويوحَنَّا 42 فدَعاهم يسوعُ وقالَ لَهم: ((تَعلَمونَ أَنَّ الَّذينَ يُعَدُّونَ رُؤَساءَ الأُمَمِ يَسودونَها، وأَنَّ أَكابِرَها يَتَسَلَّطونَ علَيها. 43 فلَيسَ الأَمرُ فيكم كذلِك. بل مَن أَرادَ أَن يَكونَ كَبيراً فيكم، فَلْيَكُنْ لَكُم خادِماً. 44 ومَن أَرادَ أَن يكونَ الأَوَّلَ فيكم، فَلْيَكُنْ لأَجمَعِكم عَبْداً. 45 لأَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس)).

 

مقدمة

 

يصف مرقس الإنجيلي طلب الرسولين الأخوين يعقوب ويوحنا ابني زبدى من يسوع لإشْغالِ مَنصبٍ رفيع في السلطة (مرقس 10: 35-45)؛ علما أنَّ أخطر صعوبة تواجه خدَّام الرب هي التخلي عن حب الرئاسات ومراكز الشرف والسلطة، فكان جواب السيد المسيح انقلاب ثوري بقوله إن السلطة خدمة وفدية. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل مرقس (مرقس 10: 35-45)

 

35 دَنا إِلَيه يَعقوبُ ويوحَنَّا ابنا زَبَدى، فقالا له: ((يا مُعَلِّم، نُريدُ أَن تَصنَعَ لَنا ما نَسأَلُكَ)).

 

تشير عبارة "دَنا إِلَيه يَعقوبُ ويوحَنَّا ابنا زَبَدى" إلى اقتراب الأخوين من يسوع طالبين منه حاجة علما أنَّ إنجيل متى يذكر أن أمهما سالومة (متى 27: 56) هي التي طلبت الحاجة " فدَنَت إِليهِ أُمُّ ابنَي زَبَدى ومعَها ابناها، وسَجَدَت لَه تَسأَلُه حاجة"(متى 20: 20). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " كيف يقول هذا الإنجيلي أنّ أمّهما جاءت إليه؟ من الممكن أنّ كلا الأمرين حدثا معاً.  ربّما أخذا أمّهما معهما ليجعلا تضرّعهما سيكون أقوى، ويملكا مع المسيح. لاحظ كيف يوجّه المسيح كلامه إليهما، فالطلب جاء منهما بدون شك، فبسبب خجلهما أشركا أمّهما بالمطالبة" (إنجيل متى، موعظة 65. 2). ويؤكد ذلك أن جواب المسيح كان لهما لا لها. ومثل هذا الطلب طلبت بَتْشابَع، أُمِّ سُلَيمان للتوسط إلى أَدونيَّا بنُ حَجِّيتَ عند سليمان (1ملوك 2: 20).  أمَّا عبارة "يَعقوبُ" فتشير إلى يعقوب الكبير أحد الاثني عشر والأخ الأكبر ليوحنا الرسول (متى 4: 21)، وكانت سالومَة امه، وهي شقيقة مريم أم المسيح (مرقس15: 40). وبالتالي يعقوب هو ابن خالة يسوع.  أمَّا عبارة "يوحَنَّا" فتشير إلى يوحنا الرسول من بيت صيدا وكان غنياً، لأنَّ أباه كان يملك عدداً من الخدم المأجورين (مرقس 1:20). ترك يعقوب ويوحنا أباهما والأجراء والشباك، تركا كل شيء وتبعا يسوع (لوقا 5: 11). وسمَّاه يسوع " التلميذ الحبيب". وعند الصلب أوصاه يسوع بأمه مريم. وكان أول من آمن بقيامة المسيح (يوحنا 20: 1-10). وكان يوحنا أحد أعمدة اورشليم (أعمال الرسل 15:6). ورافق يوحنّا ويعقوب السيد المسيح إلى منزل يائيرس (مر 5: 37)، وفي مشهد التجلّي (مرقس 9: 2)، وعندما كان يسوع يصلّي في "جتسمانية" (مرقس 14: 33)؛ وكانا سريعا الانفعال والغضب فلقَّبهما يسوع: "بوانرجس" اسم آرامي בְּנֵי־רְגוֹשׂ معناه أبناء الرعد (مرقس 3: 17).  ويرّجح أن ذلك تلميحاً لما ظهر من طبعيهما بموجب كلامهم مع يسوع "يا ربّ، أَتُريدُ أَن نَأمُرَ النَّارَ فتَنزِلَ مِنَ السَّماءِ وتَأكُلَهم؟" (لوقا 9: 54). وهذا ما فعله إيليا (2 ملوك 1: 10-12). قد ظن البعض أن ذلك رمز إلى القوة التي كانا يُظهرانها في تبشيرهما باسم المسيح. وفي إنجيل متى تقدمت أم يعقوب ويوحنا بهذا الطلب كما جاء في النص: "دَنَت إِليهِ أُمُّ ابنَي زَبَدى ومعَها ابناها" (متى 20: 20)؛ لا شك أن مرقس هو الذي أهمل ذكر الأم، لتبسيط الرواية ولإبراز جواب يسوع.  وعلى كل حال ليس في ذلك أي تناقض، فقد كانت الأم وابناها على اتفاق في تقديم طلب الحصول على مراكز الشرف في ملكوت المسيح. ويُعلق القديس يوحنا ذهبيّ الفم "كيف يقول هذا الإنجيلي (أي متّى) إنّ أمّهما جاءت إلى يسوع؟ من الممكن أنّ الأمرين كليهما حدثا (أي الشقيقان تارة والأم طورا). ربّما أخذا أمّهما معهما لجعل تضرّعهما أقوى، ويملكا مع المسيح. لاحظ كيف يوجّه المسيح كلامه إليهما، فالطلب جاء منهما بلا شكّ، فإنهما بسبب خجلهما أشركا أمّهما بالمطالبة (موعظة 65 في إنجيل متّى، 2). أما عبارة " نُريدُ " فتشير إلى حياة وفكر وشعور يختلف عن حياة وفكر وشعور يسوع. حيث أن يسوع من يفعل مشيئة الآب أما يعقوب ويوحنّا لديهما إرادة شخصيّة، وهي ليست نفس إرادة ربّهما. وبالإضافة إلى ذلك إن يعقوب ويوحنا يستثنيا الآخرين ويخططان كما لو أن التلاميذ الآخرين غير موجودين.  أمَّا عبارة " يا مُعَلِّم" فتشير إلى لَقَبَ الرَّبّ الذي يُحَدِّدُ رِسَالَةَ النَّصِّ الإنجيلي فَهِيَ: تَعْليمِيَّةٌ. أما عبارة " نُريدُ " فتشير إلى تعبير عن حياة وفكرة وشعور تتحرك نحو رغبة ما يريدان بعيدا عن خطى يسوع الذي كان يفعل مشيئة الآب، فإن يعقوب ويوحنّا يفتشان عن إرادتهما وعالمهما بعيدا عن إرادة يسوع، ولا يفكران سوى في أنفسهم كما لو أن الآخرين غير موجودين. أمَّا عبارة نُريدُ أَن تَصنَعَ لَنا ما نَسأَلُكَ " فتشير إلى التعبير عن طلب الرسولين يعقوب ويوحنا بِصِيغَةِ الإِلْحَاحِ، ويعتبران أنّ الخير هو فيما يفكّران هما به. لم يدعا مكانًا "لفكر الله" ولمشروعه عليهما وأخذا يفرضان شّروط صعبة؛ ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "إذ سمع التلاميذ المسيح يتكلم عن ملكوته كثيرًا ظنوا أن ملكوته يقوم قبل موته، والآن إذ هو يتحدث عن موته معلنًا لهم عنه مقدمًا. جاءه التلميذان ليتمتعا بكرامات الملكوت".

 

36 قالَ لَهما: ((ماذا تُريدانِ أَن أَصنَعَ لكما؟

 

تشير عبارة "ماذا تُريدانِ أَن أَصنَعَ لكما؟" إلى سؤال يسوع عن طلب التلميذين يعقوب ويوحنا أخيه، لا ليعرفه بل ليدخل إلى الحوار معهما ليرتفع بهما إلى ما يريد أن يعلّمهما عن مشروعه ولينبِّه ضميرهما على الخطأ ويُحرِّك مشاعرهما فيخجلا مما يطلبانه. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "سؤال يسوع ليس عن جهل منه للأمر، وإنما ليلزمهما بالإجابة، فيفتح الجرح ويقدم له الدواء".

 

37 قالا لهُ: ((اِمنَحْنا أَن يَجلِسَ أَحَدُنا عن يَمينِك، والآخَرُ عَن شِمالِكَ في مَجدِكَ)).

 

تشير عبارة "اِمنَحْنا أَن يَجلِسَ أَحَدُنا عن يَمينِك، والآخَرُ عَن شِمالِكَ في مَجدِكَ " إلى طلب الأخوين يعقوب ويوحنّا، مرتبتي الشرف الأسمى رغبة في الحصول على المراكز الأولى، وعلى المسؤوليّات العليا وعلى المجد الأعظم، وذلك لبسط نفوذهما وسلطتهما على الآخرين. طلبا مركزين، ليسا لمجرد الشرف، بل من اجل مركز الصدارة كوزيرين حول الملك، واحد عن شماله وآخر عن يمينه، ويشاركا يسوع في سلطته الذي يحكم بها (متى 19: 28). ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "، لقد أراد يعقوب ويوحنّا، من خلال رغبتهما في الحصول على المراكز الأولى، أن تكون لديهما سلطة على الآخرين. لذا، اعترض الرّب يسوع على هذا الادّعاء وفضح أفكارهما السريّة قائلاً: إن كنتم تطمحون إلى المركز الأوّل وإلى المجد العظيم، يجب أن تبحثوا عن المركز الأخير وأن تجتهدوا لتصبحوا الأكثر تواضعًا والأكثر صغرًا بين الجميع. كونوا بعد الآخرين. هذه هي الفضيلة التي ستمنحكم الشرف الذي تطمحون إليه" (عظة ضدّ الهراطقة). ما كاد يسوع يُعلن كيف سيُرفَض ويتألّم (مرقس 10: 32-34) حتى أتيا يطلبان أن يعطيهما السلطة، كما لو أنّهما لم يسمعا أو يفهما شيئًا ممّا قاله. إن هذا الطلب يُظهر أن أفكار الرسولين ما زالت في الملُك الأرضي، وهي فكرة خاطئة عن ملكوت المسيح؛ فكانا يعتقدان مثل غيرهما أنّ يسوع زعيم سياسي سيؤسّس مملكة زمنيّة جديدة، بديلةً من المملكة الرّومانيّة الوثنيّة المحتلّة لأرضهم. ولم يفهما الإنباءات المتكررة الواضحة عن آلام المسيح وموته كما جاء في تصريح يسوع لهم "أَما تَفهَمونَ هذا المَثَل؟ فكَيفَ تَفهَمونَ سائرَ الأَمثال؟" (مرقس4: 13)، حيث انهما ظنا أن يسوع يريد أن يؤسس ملكوتا ارضيا ويُحرِّر إسرائيل من ظلم روما، ولذا أراد يعقوب ويوحنا أن يفوزا بمراكز عالية فيه، بالرغم من الإنباء الواضح عن آلام المسيح وموته الذي أعلنه الرب للمرة الثالثة في نفس ذلك الوقت. ما زال التلاميذ يتعلقون بمسيح ممجّد، وقدير هو الذي سوف يلبي طموحاتهم. لكن ملكوت يسوع ليس من هذا العالم بل في قلوب أتباعه وحياتهم، والتلاميذ لم يفهموا ذلك إلاَّ بعد قيامته من بين الأموات. لكن موت المسيح حطَّم منطق البشر الذين يتزاحمون على المراكز الأولى التي تُعطيهم القوة والسلطة والتسلط على الآخرين. تلميذ يسوع الحقيقي هو المدعو إلى السير وراء يسوع، وليس أمامه، أو بجانبه شمالا أو يمينا.  الم يقل يسوع "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَنِي، فَلْيَكْفُرْ بِنَفْسِهِ ويَحْمِلْ صَلِيْبَهُ ويَتْبَعْنِي" (متى 16: 24). لقد نسيا أنّهما تلميذين وليسا وزيرين.  أما عبارة "أَحَدُنا عن يَمينِك، والآخَرُ عَن شِمالِكَ " فتشير إلى الجلوس عن يمين الملك وعن يساره كعلامات الشرف العظيم وسمو السلطان (1 صموئيل 20: 25). وهو مطلب سياسي أرضي، باعتبار أنّ يسوع جاء يبني مجدًا شخصيًا له، وهما يتوقان إلى مشاركته في هذا الانتصار، كمكافأة على اتّباعهما له.  لم يزل الإخوان يتوقعان أن المسيح يملك على الأرض بناء على قول المسيح أن رسله يجلسون على أثني عرش كرسيا (متى 19: 28) وانتظارهم قرب مجيئه في المجد (لوقا 19: 11) ولم يُدرك الإخوان أن مجد المسيح هو على الصليب مكان اللصين على جبل الجلجلة "أَحَدُهُما عن يَميِنِ يسوع والآخَرُ عن شِمَالِه " (مرقس 15: 27). ولم ترد هذه العبارة " يَميِنِه والآخَرُ عن شِمَالِه" في إنجيل مرقس إلا في هاتين المناسبتين فقط: هنا وعلى الصليب والميتة. ويعلق القدّيس أوغسطينوس عندما اختارَ كلٌّ منهُما مكانَهُ، الواحدُ عن يمينِهِ والآخرُ عن يسارِهِ، قبلَ أن يختبرا المهانةَ وفقًا لآلام الربّ كانا يريدان "القيام قبل النّور". لماذا تريدان أن تبكّرا في القيام؟ إنّ هذا غيرَ مُجدٍ. أتريدان أن ترفَعا نفسيكُما قبل أن تتّضعا؟ (أحاديث عن المزامير، المزمور 127). أمَّا عبارة "مَجدِكَ" فتشير إلى ميزة خاصة يتمتع بها يسوع الملك. ويقوم على سلطانه وعلى بهاء ملكه (1 أخبار الأيام الأول 29: 28). وإنجيل يوحنا يكشف لنا بوضوح المجد في حياة يسوع وموته، فيسوع هو الكلمة المتجسد. في جسده يسكن ويسطع مجد ابن الله الوحيد (يوحنا 1: 14 و18). وكانت تربية يسوع لتلاميذه تكمن في أن ينقلهم من فكرة مجد المسيح إلى فكرة الطريق التي تقود إليه، طريق الألم والموت كي يكتشفوا الشروط للبلوغ إلى المجد.  فقد طلب التلميذان المجد مع المسيح، ولكنهما لم يفهما أن المجد لا يأتي إلاَّ بالصليب، لان المسيح سيتمجَّد بالصليب. إن التلميذين يتكلمان عن المجد دون الدخول إلى الطريق المؤدية إليه، فهما يريدان الهدف دون الالتزام بالمسيرة. الرب يتحدث عن هبة ذاته حبًا، وتلاميذه يفكرون بحب السلطة والجلوس على العرش. تلميذ المسيح هو من يكون مستعداً للخدمة حتى التضحية، حتى الصليب. لا يعطينا يسوع ما نطلبه منه إذا كان عائقاً أمامنا ولا يخدم خلاصنا.

 

38 فقالَ لَهما يسوع: ((إِنَّكُما لا تَعلَمانِ ما تَسألان. أَتَستَطيعانِ أَن تَشرَبا الكأسَ الَّتي سأَشرَبُها، أَو تَقبَلا المَعمودِيَّةَ الَّتي سَأَقبَلُها؟)).

 

تشير عبارة " إِنَّكُما لا تَعلَمانِ ما تَسألان" إلى توبيخ يسوع تلميذيه لا على حب الرئاسة بل على عدم إدراكهما ماهية الملكوت والطريق الحقيقي المؤدِّي إليه، وذلك أن المجد والشرف يكَمنان في الصليب. بعكس يسوع "كانَ يَعَلمُ بِأَن قد أَتَت ساعَةُ انتِقالِه عن هذا العالَمِ إلى أَبيه" (يوحنا 13، 1)، "وكانَ يسوعُ يَعلَمُ أَنَّ الآبَ جَعَلَ في يَدَيهِ كُلَّ شَيء، وأَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الله، وإلى اللهِ يَمْضي" (يوحنّا13، 3). والفعل "يَعْلَم" له أهمّية خاصّة في رواية الآلام.  يسوع يعلم من هو، ويعلم من أين أتى، ويعلم إلى أين هو ذاهب. أما يعقوب ويوحنا فهما لا يعلمان فكر يسوع أنّ المجد هو في الصليب، والعظمة الحقيقية هي في الخدمة التي يبذلان فيها حياتهما، مثل يسوع. إنما هما لا يزالان يعيشان عقلية عصرهما كما يبدو من خلال طلبهما أعلى المناصب، متمسكين في أوهام شعبهم أن المسيح هو الظافر والمنتصر الذي سيُحقق لهما جميع طموحاتهما في ملكوت ارضي وزمني. لانهما ظنّا أن يسوع أتى مَلكا زمنيا ليقيم مملكته على الأرض، وبالتالي يُصبحا معاونيه في الحكم. فإن أسلوب يسوع هو أسلوب العيش من أجل الآخرين، وليس من أجل الذات. وهذا هو معنى الصليب. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "كأن يسوع يقول لهما أنكما تتحدَّثان عن الكرامات بينما أتكلم أنا عن الصراعات والمتاعب. إنه ليس وقت المكافأة الآن بل هو وقت الدم والمعارك الروحية والمخاطر". يتوقع يعقوب ويوحنا أن يُلبّي يسوع كلّ احتياجاتهما وكل أحلامهما.  وفي الواقع ليس الأمر كذلك. يسوع لا يفعل هذا، لأنه يحبنا، يريد حملنا إلى الآب لخلاصنا، ولا يعطينا أي شيء لا يخدم هذا الهدف، أو يكون عائقاً من أجل خلاصنا.لذلك لم يَعدْ المسيح تلميذيه بالشرف الدنيوي كما طلبا.  أمَّا عبارة " أَتَستَطيعانِ أَن تَشرَبا الكأسَ الَّتي سأَشرَبُها " فتشير إلى سؤال يسوع للتلميذين: هل لكما من الشجاعة الثبات على احتمال كل ما سأحتمله من الآلام والموت والاستشهاد؛ ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "سحبهما يسوع من طريق سؤالهما إلى الالتزام بالشركة معه لتزداد غيرتهما". أمَّا عبارة "الكأَسَ" فتشير إلى المعنى المجازي أي محتويات الكأس، سواء أكان ذلك ساراً أم محزناً، وبالتحديد نصيب الإنسان من المسرات والبلايا.  وكثيرا ما تُذكر كأس المرارة في العهد القديم لوصف المحن والأخيرة (أشعيا 51: 17، وارميا 25: 15، وحزقيال 23: 31-32). وتدل هنا على الكأس التي أعطاها الآب للمسيح أي الآلام المُعدَّة له قبل أن يدخل مجد لملكوت.  والكاس هو الشرط الأول لبلوغ مجد المسيح. ويستعمل يسوع عبارة الكاس للدلالة على الألم العذاب وبالتالي إلى آلام يسوع وصلبه (متى 26:39). وهي تذكر خصوصا بصلاة يسوع في النزاع في بستان الزيتون في الجتسمانية "يا أَبتِ، إِن أَمكَنَ الأَمْرُ، فَلتَبتَعِدْ عَنِّي هذهِ الكَأس، ولكن لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء!" (متى 26: 36). هل نحن نقبل أن نشرب الكأس التي يعطيها لنا الآب؟ من يقبل ذلك سيكون له نصيب في المجد. أنها المرّة الثالثة يتحدّث يسوع إلى تلاميذه عن آلامه، وللمرّة الثالثة يَثبُت لنا يسوع ليس عدم فهم التلاميذ له فحسب إنما أيضا عما يعيشه يسوع. بينما كان يسوع يقترب من أورشليم، يبدو أن التلاميذ، على العكس، كانوا يبتعدون عنها. أمَّا عبارة "المعمودية" في الأصل اليوناني βάπτισμα (معناها تغطيس أو غسل أو صبغة) فتشير هنا إلى الغطس في الماء والموت والأخطار التي تحفُ به العذابات التي تغمر الإنسان عندما يعاني من المحنة عامةً، والصبغة أي أنه سيتغطى بالدم والاستشهاد خاصةً. وباختصار، استعمل مرقس الإنجيلي التعابير الشعرية عن الكأس والمعمودية الواردة في العهد القديم (مزمور 11: 6 وأشعيا 51: 17) ليصف آلام وحزن وموت سيدنا يسوع المسيح، حيث انه تدل على الغطس في الماء والموت. أمَّا عبارة "تَقبَلا المَعمودِيَّةَ الَّتي سَأَقبَلُها؟" فتشير إلى سؤال المسيح لتلاميذه: هل تستطيعون أن تقاسموني موتي؟ حاول يسوع أن يُفهمهم وجهة نظره من خلال رمزين: الكأس والمعمودية، كاس الألم ومعمودية الدم كشرط للسعادة وللقيامة.  ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "الكأس هي المعاناة. ليست الكأس والمعموديّة شيئًا واحدًا. الكأس هي الآلام، أمّا المعموديّة فهي الموت نفسه. المعموديّة تشبه كثيرًا الصوف المصبوغ. فكما أنّ الصوف، ذا اللون الطبيعيّ، يُغَطّس ليتلوّن بالأرجوان أو بأيّ لون آخر، هكذا ننحدر نحن أيضًا إلى الموت كجسم بشريّ ونصعد كجسم روحيّ. (موعظة رقم 35).  هل يعني أن نكون تلاميذ يسوع الجلوس على عرشٍ أم يعني شرب كأس الألم والمعاناة والموت؟

 

 39 فقالا له: ((نَستَطيع)). فقالَ لَهما يسوع: ((إِن الكأَسَ الَّتي أَشرَبُها سَوفَ تَشرَبانِها، والمَعمودِيَّةَ الَّتي أَقبَلُها سَوفَ تَقبَلانِها.

 

تشير عبارة "نَستَطيع" إلى جواب التلميذين الفوري بدون أيّة مشكلة الذي يعبر عن اسْتِعْدادِهِما الكَامِلِ، بِالقِيامِ بكل أمر يلزم للوصول إلى غايتهما المنشودة، أَيْ الجلوسُ عَن يَمينِ وَعَن يَسَارِ الرَّبِّ في مَجْدِهِ!  ولكن كلامهما لم يخلُ من جهلهما للمجد الذي يطلبانه وبالتالي هروبهما وقت صلب المسيح بدليل شهادة الإنجيل “فتَرَكه التَّلاميذُ كُلُّهم وهَربوا"(متى 26: 56).  ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " قالا "نستطيع" عن جهلهما بالتجربة. فالحرب للجاهل مُستحسنة، تمامًا كما تبدو تجربة الموت والألم لعديم الخبرة أمرًا بسيطًا. أفلا يجدر بالتلاميذ أن لا يقولوا "نستطيع"، لو كانوا يعلمون كيف هي تجربة الموت! عظيم الحزن الذي يسبّبه الألم، لكن الموت يسبّب خوفًا أعظم (موعظة 35). في حين أنّ يسوع نفسه صلَّى إلى أبيه عندما طلب منه شرب كأس الآلام: "يا أَبتِ، إِن شِئْتَ فَاصرِفْ عَنِّي هذِه الكَأس… ولكِن لا مَشيئَتي، بل مَشيئَتُكَ!" (لو 22: 42). إن جوابهما يدل على أنهما مُخلصان للسيد ويودان لو تألما معه.  ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لقد تسرعا في الإجابة إذ ظنا أنهما ينالان كرامة الملكوت فورًا". وقد يأتي تسرُّعهم بالإجابة بسبب محبتهم للمسيح وجهلهم بما يعنيه المسيح وبسبب تفكيرهم المحصور في مجد أرضى. ويُعلق الأب ثيؤفلاكتيوس "قد أجاباه بغير إدراك قائلين له: "نستطيع"، إذ حسباه يتحدث عن كأس منظورة وعن المعمودية التي كان اليهود يمارسونها تقوم على الغسل قبل الأكل".  أمَّا عبارة "سَوفَ تَشرَبانِها" فتشير إلى نبوءة يسوع الذي تحقَّقت عندما مات يعقوب شهيداً على يد هيرودس أغريباس الأول الذي امر بقطع راسه حوالي سنة 44 م في أورشليم (أعمال الرسل 12: 2)؛ وكان أول الرسل الذين ختموا حياتهم بدم شهادتهم. أمَّا يوحنا فهو الوحيد بين الرسل الّذي سوف يرافق الربّ يسوع على درب الصليب ويراه يشرب كأس آلامه ويجتاز معموديّة آلام صليبه. وهو أخيراً قد نُفي في حكم دوميتيانوس الحاكم الروماني إلى بطمس واضطُهد كما جاء في شهادته "أَنا، أَخاكم يوحَنَّا الَّذي يُشارِكُكم في الشِّدَّةِ والمَلَكوتِ والثَّباتِ في يَسوع، كُنتُ في جَزيرَةِ بَطمُس لأَجْلِ كَلِمَةِ اللهِ وشَهادَةِ يَسوع" (رؤيا 1: 9). ويُعلق القديس ايرونيموس " يسأل بعضهم كيف شرب ابنا زبدى، يعقوب ويوحنا كأس الاستشهاد. يُخبرنا الكتاب المقدّس أن هيرودس أغريباس قطع رأس الرسول يعقوب (أعمال 12: 2).  ويعلق العلامة ترتليانوس " وُضع يوحنا في قدر زيت مغليّ ليستشهد، فخرج من هناك كرياضيّ ليربح تاج المسيح." (ترتليانوس 36 ANF 3 :260) ونُفي بعد ذلك إلى بطمس. شرب كأس الاعتراف بالإيمان مثل الفتيان الثلاثة في أتون النار. (تفسير متى 3: 20-23).  جعل يسوع تلاميذه يستشفون آلامه وموته كتتويج لرسالته.

 

40 وأَمَّا الجُلوسُ عن يَميني أَو شِمالي، فلَيسَ لي أَن أَمنَحَه، وإِنَّما هُوَ لِلَّذينَ أُعِدَّ لهم)).

 

تشير عبارة" فلَيسَ لي أَن أَمنَحَه" إلى مبادرة الله الآب حيث انه هو ينبوع كل صلاح.  أن المسيح في مجيئه الأول أتى لخلاص الناس ودعوتهم للإيمان والتوبة. أمَّا في مجيئه الثاني فهو سيأتي ليدين (متى 31:25-34) لذلك لم يُحدِّد المسيح في مجيئه الأول من يجلس عن يمينه ومن يجلس عن يساره في الملكوت، بل أراد إن يبقى في خدمة أبيه وخدمة الناس (متى 24: 36). وظل يسعى فيما هو لأبيه (لوقا 2:49) كابن طائعٍ لمشيئته أبيه السماوي (متى 26: 42). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "مع أنه هو الذي يدين، لكنه يظهر بهذه العبارة بنوته الأصلية". إن توزيع الأماكن هو عمل الآب وليس عمل يسوع، يوزِّعها الله بحسب الاستحقاق وليس لاعتبارات الناس. ويعلق القدّيس أمبروسيوس" يمكننا أن نفهم عبارة " فلَيسَ لي أَن أَمنَحَهبمعنى آخر وهو أنّني قد جئتُ لكي أعلِّم التواضع. ما جئتُ لأُظهِر العدل بل لأقدّم حنوًا، أي أنه ليس وقت لتقديم الإكليل". أمَّا عبارة "أُعِدَّ لهم" في الأصل اليوناني δοῦναι (أُعطي) فتشير إلى مخطط الله الذي اعدّ الله منذ الأزل وفقا لقوله "تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم " (متى 25: 34) لهؤلاء هم الذين قبلوا حمل الصليب مع المسيح.  وفعل "أُعِدَّ" هي صيغة الفعل للمجهول التي تُعبّر عن عمل الله، أي اعدّه الله لهم كما جاء واضحا في إنجيل متى "أَمَّا كَأَسي فسَوفَ تَشرَبانِها، وأَمَّا الجُلوسُ عن يَميني وعن شِمالي، فلَيسَ لي أَن أَمنَحَه، بل هو لِلَّذِينَ أَعدَّه لَهم أَبي"(متى20: 23). وتهدف صيغة المجهول للفعل إلى تحاشي التلفظ باسم الله إكراما وإجلالا (متى 20: 23). الله وحده يقرِّر المراكز الأولى في الملكوت. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " وكأنه يقول لهما ستنعمان بالآلام معي والاستشهاد أيضًا، لكن أمر تمتعكما بأمجاد الملكوت فهو أمر إلهي يوهب لكما لا حسب فكركما المادي إنما حسب خطة الله الخلاصي". المكافآت لا تُعطى جُزافا، ولكنها تعطى لمن ظلوا أمناء للمسيح رغم المحن والتجارب. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " ملكوت السماوات ليس لمَن يُعطي بل لمَن يأخذ. "فالله لا يحابي الوجوه" (أعمال 10: 34). مَن أثبت استحقاقه لملكوت السماوات نال ما اُعدّ للحياة لا لشخص ما اعتباطا دون غيره. إن كنت ممّن يسعون إلى الملكوت الذي أعدّه أبي للظافرين فإنّك ستناله. آخرون تمنّوا لو أنّها قيلت عن موسى وإيليا. لكن أسماء الذين هم في الملكوت لا تُعلَن لئلاّ يُظنّ أنّ الآخرين مُبعدون" (تفسير متى 3: 20-23). وقد نشعر بحرية إن نطلب من الله أي شيء، ولكنه لا يستجيب لنا بعض الطلبات لخيرنا، فإنه يريد إن يعطينا ما هو أفضل لنا.

 

41 فلمَّا سَمِعَ العَشَرَةُ ذلكَ الكَلامَ اسْتاؤُوا مِن يَعقوبَ ويوحَنَّا

 

 تشير عبارة "فلمَّا سَمِعَ العَشَرَةُ ذلكَ الكَلامَ" إلى سماع طلب يوحنا ويعقوب من يسوع لا جواب يسوع لهما. أما عبارة "العَشَرَةُ" فتشير إلى سائر الرسل ماعدا يوحنا ويعقوب.  أما عبارة "اسْتاؤُوا" فتشير إلى الغيرة وحسد الرسل العشرة كحسد العمال الأولين في مثل العملة وأجرتهم (متى 20: 5-10). لأنهم يتطلعون هم أيضا إلى مراكز الصدارة وحب الرئاسات والمراتب والكرامة الزمنية حيث" كانوا في الطَّريقِ يَتَجادَلونَ فيمَن هُو الأَكبَر "(مرقس 9: 34). والحسد هو المرض الذي يوجهه عدو الخير بين خدَّام الرب لقد نسوا الصليب وأرادوا الوصول إلى المجد دون المرور في الألم والموت، ونسوا يسوع الذي يريد إن يؤسس ملكوتا روحيا لا أرضيا.  أليس الصراع على السلطة في غالب الأحيان هو أساس التوترات في عالمنا ومجتمعنا، وسبب كثير من النزاعات المسلّحة وغلبة فريق على آخر؟ ما من خطأ أن يتنافس التلاميذ على العظمة، ما من مشكلة إذا تسابق التلاميذ على من سيكون فيهم الأول، فهذا شيء إنساني وشيء طبيعي. لولا التنافس لما كان تقدم أو تطور. المشكلة ليست بالتنافس، بل بالتنافس السلبي وبمعاييره وبمقاييسه: الواسطة، أو المعرفة، أو القرابة أو الدعاية أو التملق أو القوة كوسيلة للوصول إلى السلطة بل بالعمل لخدمة الجميع والمصلحة العامة. وإن كان لا بدَّ من التنافس فليكن لا على المناصب بل على الخدمة.

 

42 دَعاهم يسوعُ وقالَ لَهم: ((تَعلَمونَ أَنَّ الَّذينَ يُعَدُّونَ رُؤَساءَ الأُمَمِ يَسودونَها، وأَنَّ أَكابِرَها يَتَسَلَّطونَ علَيها

 

تشير عبارة "دَعاهم يسوعُ وقالَ لَهم" إلى الاثني عشر وهذا دليل على اشتراك الجميع في خطا الأخوين. أمَّا عبارة "تَعلَمونَ أَنَّ الَّذينَ يُعَدُّونَ رُؤَساءَ الأُمَمِ يَسودونَها، وأَنَّ أَكابِرَها يَتَسَلَّطونَ علَيها" فتشير إلى تذكير يسوع بالطريقة التي بها يمارس الرؤساء السياسيون والعظماء سلطتهم في هذا العالم، إذ يتسلط كل منهم على شعبه مستخدما سلطانه لمصلحته الخاصة لا لمصلحة شعبه.  وليست غاية يسوع من هذه الكلام أن يذمَّ السلطة السياسية في حد ذاتها، بل أن يُبيّن أنها ليست مثالا للتلاميذ ولا يجوز اتخاذ السلطة السياسية مثالا لهم. في العالم يميل الناس إلى التسلط والرئاسة، ويستعملون كل نفوذ شخصي للحصول على رفعة ذاتية ومنفعتهم الشخصية، لذلك مثال التلاميذ هو يسوع الذي جاء ليَخدم، لا حكام هذا العال الذين جاءوا إلى السلطة ليُخدموا.

 

43 فلَيسَ الأَمرُ فيكم كذلِك. بل مَن أَرادَ أَن يَكونَ كَبيراً فيكم، فَلْيَكُنْ لَكُم خادِماً

 

تشير عبارة "فلَيسَ الأَمرُ فيكم كذلِك" إلى نظام ملكوت المسيح مختلفٍ عن ممالك الأرض، فان أعضائه أخوة أي متساوون فالغني والفقير والمتعلم والأمِّي كلهم في رتبة واحدة في كنيسة المسيح. العمل في ملكوت الرب لا يحتاج لا إلى سفراء ولا إلى وزراء، لكن لخدّام مُتطوِّعين، يعتبرون كلَّ الآخرين إخوةً وأخواتٍ لهم، وبحاجةٍ لخدمتهم.  ليست الوظيفة هي الّتي تُدخلنا إلى السّماء، لكن الأعمال الّتي نُتمِّمُها في مهنتنا. أن إشغال المناصب، غيرُ مُرتبطٍ لا بالحسب ولا بالنّسب، كما ولا بمصلحة، لا خاصّة ولا عامّة. أمَّا عبارة "مَن أَرادَ أَن يَكونَ كَبيراً فيكم، فَلْيَكُنْ لَكُم خادِماً" فتشير إلى تعارض سُلم قيم العالم مع سُلم قيم الإنجيل. ففي العالم التسلط والسيادة ومصلحة الذات، وفي الإنجيل الخدمة والفِدية ومصلحة الآخرين. يعتبر هذا القول ليس قانونا بل دستورا لتعاليم يسوع في الحياة الأخوية. فالدستور هو التشريع الذي يُحدِّد الحقوق والواجبات العامة، أمَّا القانون فهو الذي ينظم العمل والحياة في مجال معين كقانون للعمل، وقانون للعقوبات... العظيم في ملكوت السماوات هو من ينسى نفسه ويخدم الآخرين ويتضع باذلًا نفسه كما فعل المسيح نفسه فهذه لا يعني أن الخدمة عبودية. أنّ المجد الحقيقي لا نجده في الأعلى، بل في الخدمة المتواضعة للآخرين.  فالعظمة ليست في الألقاب والمقامات بل في خدمة الآخرين على خطى ذاك الذي قال "أَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس"(مرقس 10: 45). أمَّا عبارة " فَلْيَكُنْ " فلا تشير فقط إلى نصيحة، بل إلى أمرٍ للتمسك في سُلَّم قيم الإنجيل. أمَّا عبارة "خادِما" في الأصل اليوناني اليونانية διάκονος (معناها تابع شخصي أو معين) فتشير على خادم الإنجيل مثل طيموتاوس (1 تسالونيقي 3: 2)، وبولس وابولُّس (1 قورنتس 3: 5) وابفراس (قولسي 1: 7).  وجاء يسوع إلى العالم كالخادم، كعبد الله المتألم (أشعيا 52: 13). والخدمة تتطلب التواضع والرغبة في فعل الخير. وهذا النمط الحياتي هو أساس لمقدرة التلاميذ على الاقتداء بالرب وإلزامهم بهذا الاقتداء (يوحنا 13: 34-34).  فتلاميذ المسيح قاموا على خدمته وكانوا شهود عيان له (لوقا 1: 2 وأعمال 26: 16). فالوسيلة للوصول إلى العظمة هي الخدمة على مثال المسيح. ويسوع كان دائما يعمل بما يعلّم. فقد غسل أقدام تلاميذه في العشاء الأخير (يوحنا 13: 4-15). ويعبّر غسل يسوع لأقدام التلاميذ تعبيرا رمزياً عمَّا كان جوهر حياة يسوع وآلامه، وهو المحبة التي تقوم بأوضع الخدمات لخلاص البشر. في الإنجيل يكون الأول حين يكون خادم الجميع وعبداً لهم حين يبذل نفسه في سبيلهم. أوضح لهم يسوع الفرق الأساسي بين العظمة الأرضية والعظمة الروحية. العظمة الحقة تنبع من الخدمة المتواضعة المتطوعة. لذلك لا بدَّ لنا أن نتخلى عن مبدا المناصب ونلتزم بقاعدة واحدة للجميع: الخدمة.  الأكبر هو الذي يجعل من نفسه خادم الآخرين، كما فعل يسوع محقّقا ذاته في سرّ الإفخارستيا، حيث " أَخَذَ خُبْزاً وشَكَرَ وكَسَرَه وناوَلَه تلاميذه وقال هذا هو جَسدي يُبذَلُ مِن أَجلِكُم. إِصنَعوا هذا لِذِكْري " (لوقا 2: 19). لقد وعلم يسوع إن العظمة تأتي من خدمة الآخرين كما جاء أيضا في توصيات بطرس الرسول " اِرعَوا قَطيعَ اللهِ الَّذي وُكِلَ إِلَيكم واحرِسوه طَوْعًا لا كَرَهاً، لِوَجهِ الله، لا رَغبَةً في مَكسَبٍ خَسيس، بل لِما فيكم مِن حَمِيَّة.  ولا تَتَسلَّطوا على الَّذينَ هم في رَعِيَّتكم، بل كونوا قُدْوةً للِقَطيع" (1بطرس 5: 2-3). ليست درب الصليب والآلام بمفهوم يسوع هو العذاب والألم فحسبـ، إنما أيضا الخدمة.  ولو كرّس كل واحد منا نفسه لخدمة الجميع، لأحدثنا ثورة اجتماعية حقيقية في العالم.

 

44 ومَن أَرادَ أَن يكونَ الأَوَّلَ فيكم، فَلْيَكُنْ لأَجمَعِكم عَبْداً.

 

تشير عبارة "ومَن أَرادَ أَن يكونَ الأَوَّلَ فيكم، فَلْيَكُنْ لأَجمَعِكم عَبْداً" إلى مقام الإنسان أي في الاسم والصيت والوظيفة. أمَّا عبارة "الأَوَّلَ" فتشير إلى الآمر والناهي. أمَّا عبارة "عَبْداً" في الأصل اليوناني δοῦλος (خادم بلا حرية) فتشير إلى إنسان يكون تحت مُلك إنسان آخر حيث يكون صاحب الحق فيه، جسماً وروحاً وتصرفات وإرادة. وقد ارتضى يسوع أن يتخذ هو نفسه صورة عبد " تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد" (فيلبي 2: 7)، "ولَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة." (العبرانيين 4: 15) كما تنبأ عنه أشعيا النبي "فإِذا قَرَّبَت نَفسُه ذَبيحَةَ إِثمٍ " (أشعيا 53: 10). اتّخذ يسوع المكان الأخير، مكان المصلوبين، مكان العبيد، المكان الأخير. فالصليب هو المقياس الحقيقي للعظمة. فيسوع هو "العبد المتألم" المطيع والمنفِّذ المستعد إن يفدي نفسه في سبيل الآخرين. وهكذا يقتدي التلميذ بمعلمه كما طلب يسوع من تلاميذه "فإِذا كُنتُ أَنا الرَّبَّ والمُعَلِّمَ قد غَسَلتُ أَقدامَكم، فيَجِبُ علَيكُم أَنتُم أَيضاً أَن يَغسِلَ بَعضُكم أَقدامَ بَعْض" (يوحنا 13: 14). يُشبه عمل يسوع تلك الأعمال الرمزية التي قام بها بعض الأنبياء. كان "غسل قدمي" أحد يُعد عملا مُذلاً، لا يُفرض حتى على عبد يهودي، لكنه قد يصبح أسمى وجه للتعبير عن البر بأبٍ أو معلّم. أمَّا في إنجيل لوقا نجد الآية بعبارة موازية "أَمَّا أَنتُم فلَيسَ الأًمْرُ فيكُم كذَلِكَ، بل لِيَكُنِ الأَكبَرُ فيكم كأَنَّه الأَصغَر، والمُتَرَئِّسُ كأَنَّه الخادم"(لوقا 22: 26)، لانَّ في العالم الفلسطيني، " الأصغر" هو الأخير في تسلسل الرُتب، وهكذا في الكنيسة الأولى (أعمال الرسل 5: 6). في الإنجيل، الأول يكون الأول حين يكون خادم الجميع وعبدا لهم. لم يَعدْ تلميذ المسيح خادما بل عبد الجميع من دون استثناء. ونحن لا نختار من نخدم، فكلهم لهم حق في خدمتنا.  قدم يسوع تَّعْليما جديدا الذي يَقْلِبُ الـمَفاهيمَ الَّتي يَضَعُها العالَمُ، فَيَجْعَلَ العَظَمَةَ في التَّواضُعِ وَالـمَرْكَزَ الأَوَّلَ في خِدْمَةِ لِلْجَميعِ.

 

45 لأَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس.

 

تشير عبارة "ابنَ الإِنسانِ" إلى السيد المسيح الذي قلّده الآب سلطته ومجده وقدرته فصار أحسن قدوة للإنسان كما جاء في تعليم بولس الرسول "هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان" (فيلبي 2: 6-7) وقد ورد هذا اللقب 84 مرة في الأناجيل. أمَّا عبارة "لِيُخدَم" فتشير إلى قبول الإنسان خدمة تؤدَّى له.  فان المسيح قبل ذلك على سبيل المثال خدمة مريم ومرتا له (لوقا 10: 38-42)، ولكن لم يكن ذلك غرض حياته. أما عبارة " لِيَخدُمَ " فتشير إلى خضوع الإنسان لله من خلال خدمته لأخيه الإنسان. هذا القول من أوائل التصريحات الواضحة عن غرض المسيح في مجيئه: للخدمة والفداء. أمَّا عبارة "يَفدِيَ بِنَفْسِه " فتشير إلى ما يُعطى عن الأسير لنجاته من الأسر، ثم أطلقت على كل ما يُنقذ الإنسان من المصائب أو العبودية أو العقاب أو الموت (خروج 21: 31، وأمثل 13: 8). والفداء بنفسه هو أعظم برهان على أن يسوع لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم غيره، وكانت خاتمة خدمته للناس بذل حياته عنهم. والفداء هو إنقاذ عن طريق دفع الثمن لافتداء الأسرى. والثمن في مفهوم يسوع يكمن في ضرورة موته من أجل الشعب، كعبد الرب المُـتألم الذي يفدي الناس من الشر (أشعيا 53: 11-12)؛ كان العبد يُفدى بالمال، أمَّا يسوع فافتدانا بآلامه وموته واكَّد ذلك بولس الرسول " فقَدِ اشتُريتم وأُدِّيَ الثَّمَن " (1 قورنتس 7: 23). كان الثمن يكمن في وضع حياته للموت، فصارت حياته ثمن فدائنا.  فالفداء هي دلالة على أن الناس أسرى الخطيئة وعبيد لها وتحت دينونة الله وعرضة للموت (رومة 2: 6-9) لذلك بذل المسيح حياته ليفديهم من تلك العبودية والدينونة والموت. مات المسيج كفارة عن الخطأة لكيلا يموتوا إلى للأبد.   أمَّا عبارة "جَماعةَ النَّاس" في الأصل اليوناني ολλῶν (معناها كثير من الناس) فلا تشير إلى التخصص بل الشمول أي مجمل الشعب، بل البشرية كلها: بموت الواحد يتم فداء الجماعة (2 قورنتس 5: 13-14). فهناك مقابلة بين الواحد الذي هو الفادي يسوع والكثرين وهم المُفتَدون. لان ذلك الفادي ابن الله كان لموته قيمة لا تُحد فيقبلها الله بدل موت البشر إن أتوا إليه بالإيمان والتوبة. وقول الإنجيل جماعة الناس لا يمنع انه فدية الجميع وفقا لقول بولس الرسول " الَّذي جادَ بِنَفْسِه فِدًى لِجَميعِ النَّاس" (1 طيموتاوس 2: 6). لكن الفداء وان كان عن الجميع قبله كثيرون لا الجميع. ومن هذا المنطلق، لا تشير العبارة هنا إلى تحديد مجال عمل المسيح التكفيري، كأنه عن جماعة فقط بل للكل لفداء جماعة يحصلون على بركة بالذبيحة الواحدة لذلك الواحد كما وضَّح ذلك بولس الرسول "فكما أَنَّه بِمَعصِيَةِ إِنسانٍ واحِدٍ جُعِلَت جَماعةُ النَّاسِ خاطِئَة، فكَذلِكَ بِطاعةِ واحِدٍ تُجعَلُ جَماعةُ النَّاسِ بارَّة " (رومة 5: 19). وفي الواقع بذل يسوع دمه على الصليب محقَّقاً العهد الذي قُطعه قديما في جبل سيناء بدم الضحايا (خروج 24: 4-8)، وأخبر ضمنا بتحقيق العهد الجديد الذي تنبأ به الأنبياء (ارميا 31: 31-34)، وذلك ما لذبيحته من قيمة شاملة من اجل جماعة الناس (أشعيا 53: 12). أمَّا عبارة "يَفدِيَ" في الأصل اليوناني λύτρον ἀντὶ (معناها فدية) فتشير إلى الثمن الذي يدفع لعتق عبد وتحريره من العبودية.  وقد دفع يسوع فدية عنا لعدل الله في حقوقه على الإنسان، حيث لم يكن في طاقتنا إن ندفعها. وبيّن يسوع انه ينبغي أن يموت ليفدي جميع الناس من عبودية الخطيئة والموت. بموته قد أعتقنا جميعا من عبودية الخطيئة، وهذا هو سبب موت المسيح. وفي هذا الصدد قال بولس الرسول " قَد عَلِمتُم أَنَّكم لم تُفتَدَوا بِالفاني مِنَ الفِضَّةِ أَو الذَّهَب مِن سيرَتِكمُ الباطِلَةِ الَّتي وَرِثتُموها عن آبائِكم، بل بِدَمٍ كريم، دَمِ الحَمَلِ الَّذي لا عَيبَ فيه ولا دَنَس، دَمِ المسيح" (1 بطرس 1: 18-19). كان العبد يُفدى بالمال، أمَّا يسوع فافتدانا بدمه وآلامه وموته، نيابة عن الإنسان ومكانه كما أكّد ذلك بولس الرسول اشترينا ودُفع الثمن (1قورنتس 6: 20). مات يسوع من اجل وبدل جماعة الناس، كالعبد المتألم من أجل كافة الشعب " يُبَرِّرُ عَبْديَ البارُّ الكَثيرين وهو يَحتَمِلُ آثامَهم.  فلِذلك أَجعَلُ لَه نَصيباً بَينَ العُظَماء وغَنيمةً مع الأَعِزَّاء لِأَنَّه أَسلَمَ نَفْسَه لِلمَوت وأُحصِيَ مع العُصاة وهو حَمَلَ خَطايا الكَثيرين وشَفَعَ في مَعاصيهم"(أشعيا 53: 11-12). وهذا القول هو من أهم الأقوال التي وردت في الأناجيل، وهو بلا جدال مفتاح الإنجيل.  ليتنا نتبع المسيح الخادم الذي يخدم فيضحي بحياته من أجل الجماعة. ويُعلق البطريرك لويس روفائيل ستاكو، بطريرك الكلدان الكاثوليك عن خدمة الكاهن كتلميذ المسيح "الكاهن هو خادم بالدرجة الأولى وليس شيخا ولا أميرا ولا موظفا من درجة رفيعة، فلا داع لينفخ روحه ويكبر حجمه ويغدو شخصا مغرورا يتكلم عن نفسه وإنجازاته، بل هو الخادم المتواضع الذي يعمل بروح المسؤولية والقيادة. والتواضع لا يعني مسح مواهبنا وقدراتنا، بل أن نستثمرها من اجل الكنيسة والجماعة ويكون شعورنا بانها نعم من الله نحمده عليها".

 

 

 ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 10: 35-45)

 

بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي وتحليله (مرقس 10: 35-45) نستنتج أن النص يتمحور حول السلطة وموقف يسوع منها. ومن هنا نتساءل: ما هو موقف التلاميذ من السلطة؟ ثم ما هو موقف يسوع منها.

 

ما هو موقف التلاميذ من السلطة؟

 

بينما كان يسوع وتلاميذه سائرين في الطريق إلى اورشليم أعلن لهم مرة ثالثة عن موته وقيامته. وبهذا الإعلان جعل يسوع تلاميذه يستشفون آلامه وموته كتتويج لرسالته، ومع ذلك فما زالوا يتعلقون بمسيح مُمجد وقدير يُلبِّي طموحاتهم، فدنا إليه يعقوب ويوحنا ابنا زبدى يطلبان أن يتخذا المكانة الأولى في ملكوت المسيح "اِمنَحْنا أَن يَجلِسَ أَحَدُنا عن يَمينِك، والآخَرُ عَن شِمالِكَ في مَجدِكَ" (مرقس 10: 37).

 

لا يزال هذان الرسولان وباقي الرسل يعيشون عقلية عصرهم. فهم يسعون إلى اعلى المناصب في السلطة ولا يعلمون أن ملكوت المسيح ملكوت روحي، والدخول فيه يتطلب كأسا من الموت ومعمودية الدم. فحاول يسوع أن يدلهما على الطريق التي توصلهما إلى المجد في ملكوته ليس فقط عن طريق العذاب والموت بل أيضا عن الخدمة. العالم يميل الناس إلى التسلط والرئاسة، ويستغلون كل نفوذ شخصي ليحصلوا على رفعة ذاتية. أمَّا في الملكوت فالعظمة تنبع من الخدمة المتواضعة والبذل في سبيل الآخرين.

 

ما هو موقف يسوع من السلطة؟

 

تقلّد يسوع سلطته من الله. ووصف السلطة من وجهة نظر جديدة: بدلا من استغلال الناس من خلال السلطة، علينا أن نخدمهم. بينما يستغل رؤساء هذا العالم ما لهم من سلطة للسيطرة على الآخرين، فالمسيح يقف بين خاصته موقف من يخدم وكان له قلب خادم، كما قال "فأَنا بينَكم كالَّذي يَخدُم" (لوقا 22: 25-27). هو ربّ ومعلم (يوحنا 13: 13)، ولكنه أتى من اجل الخدمة وبذل الذات (مرقس 10: 42-44). فكان يسوع يمارس ما يُعلم به. وهكذا اتَّخذ صورة العبد، ولكن في النهاية تجثو له كلّ ركبة كما جاء في تعليم بولس الرسول "تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب. لِذلِك رَفَعَه اللهُ إلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء. كَيما تَجثُوَ لاسمِ يسوع كُلُّ رُكبَةٍ في السَّمَواتِ وفي الأَرْضِ وتَحتَ الأَرض" (فيلبي 2: 5-11). لذلك فإنه بعد قيامته، سوف يستطيع أن يقول لخاصته "إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ (ἐξουσία) في السَّماءِ والأَرض" (متى 28: 18). السلطة ليست قيادة ونفوذ بل صدق وشهادة حياة.

 

يتميز موقف يسوع أمام السلطة السياسية بمرونة أكبر. فهو يعترف باختصاص قيصر "أَدُّوا إِذاً لِقَيصَرَ ما لِقَيصر، وللهِ ما لله "(متى 22: 21)، ولكن ذلك لا يجعله يتغاضى عن الظلم الواقع من قِبل ممثلي السلطة "تَعلَمونَ أَنَّ الَّذينَ يُعَدُّونَ رُؤَساءَ الأُمَمِ يَسودونَها، وأَنَّ أَكابِرَها يَتَسَلَّطونَ علَيها " (مرقس 10: 42). فعندما يَمْثُل أمام الحاكم بيلاطس البنطي، لا يشكّك في سُلطته التي يعرف أصلها الإلهي، وإنما يفضح ظلمها الذي يذهب هو ضحيته كما صرّح يسوع له " لو لم تُعطَ السُّلطانَ مِن عَلُ، لَما كانَ لَكَ علَيَّ مِن سُلْطان، ولِذلِكَ فالَّذي أَسلَمَني إِلَيكَ علَيه خَطيئَةٌ كبيرة " (يوحنا 19: 11)، ويقرّ لنفسه بمملكة ليست من هذا العالم "لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم"(يوحنا 18: 36). ومن هذا المنطلق، إن ملكوت المسيح يختلف كلّيّاً، بتأسيسه وأهدافه وموظفيه عن مملكة العالم. أولا هو لا يعتمد لا على قوّة ولا على سلاح " لَو كانَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم لَدافعَ عَنِّي حَرَسي لِكي لا أُسلَمَ" (يوحنا 18: 36). ثمّ هذا الملكوت ينتشر بين البشر وعلى الأرض بكلِّ هدوء، وهو لكلِّ البشر، يقبل كل إنسان يؤمن بالله الخالق، ويعترف، بأنّ يسوع هو الابن المخلِّص. وفيه تتجلّى المساواة والعدالة والمحبّة والسّلام.

 

وأشار يسوع بمبدأ أساسي للسلطة ألا وهو "أَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس" (مرقس 10: 45). وهذا القول مفتاح الإنجيل، وهو من أوائل التصريحات الواضحة عن هدف المسيح في مجيئه إلى الأرض، كما يوضِّح عمل المسيح بشقيّه: ليخدم وليفدي. والواقع يقسم مرقس إنجيله إلى قسمين: من الفصل الأول حتى العاشر يختص بخدمة الابن، وبقية الإنجيل تختص بذبيحة الابن أي فدائه (مرقس 10: 45).

 

أ) السلطة خدمة

 

يتفق لفظ "خدمة" بالعبرية עבד باليونانية δουλεύω للدلالة على حالتين: خدمة العبد على مستوى العبودية، وخدمة الخادم على مستوى الإنسان الخاضع لله.  والمسيح طالب بسلطته ليغفر الخطايا، وليعلم، وليطرد الباعة من الهيكل. ولكن السلطة ليست التسلط بل هي خدمة. لقد جاء المسيح ليخدم لا ليُخدم. لم يأت ليأمر وإنما ليُطيع؛ لم يأتِ لكي تُغسل قدماه بل لكي يَغسل هو أقدام تلاميذه. فالسلطة لا تعارض الخدمة بل هي مسؤولية يعطيها الله للخدمة. ويعلق البابا فرنسيس "يقول لنا يسوع أن السلطة الحقيقيّة هي في الخدمة، في خدمة الآخرين وليس في استغلالهم؛ والسلطة هي للخدمة وبالتالي فيجب ممارستها من أجل خير الجميع ومن أجل نشر الإنجيل" (عظة البابا 4/10/2020). وعندما شجب يسوع شهوة السلطة، فهوي يعارض النموذج السياسي أيا كانت ويُعلق القديس ايرونيموس "لنتبع المسيح ربنا، فإن من يقول إنه يؤمن به يلزم أن يسلك كما سلك ذاك" (1 يوحنا 2: 6).

 

عندما أراد يعقوب ويوحنا الحصول على ارفع مراكز السلطة في ملكوت يسوع، أراهم يسوع أن العظمة تأتي من خدمة الآخرين وبذل الذات فدية عنهم. العظمة الحقيقية هي في الصليب وفي الخدمة والبذل. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على لسان يسوع " إن كنتم تطمحون إلى المركز الأوّل وإلى المجد العظيم، يجب أن تبحثوا عن المركز الأخير وأن تجتهدوا لتصبحوا الأكثر بساطة، والأكثر تواضعًا والأكثر صغرًا بين الجميع. كونوا بعد الآخرين. هذه هي الفضيلة التي ستمنحكم الشرف الذي تطمحون إليه.  هكذا، يمكنكم أن تحصلوا على المجد والشهرة"(عظة ضدّ الهراطقة).  أمامكم مثال ساطع، إذ "إنّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس" (مرقس 10: 45).

 

وعندما أوفد يسوع تلاميذه للرسالة، فوّض لهم سلطانه الخاصّ " مَن سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ" (لوقا 10: 16)، وعهد إليهم بسلطاته "فأَقامَ مِنهُمُ اثنَي عَشَرَ لِكَي يَصحَبوه، فيُرسِلُهم يُبَشِّرون، ولَهم سُلْطانٌ يَطرُدونَ بِه الشَّياطين" (مرقس 3: 14 -15). ولكنه علّمهم أن هذا التفويض هو في الحقيقة خدمة "لِيَكُنِ الأَكبَرُ فيكم كأَنَّه الأَصغَر، والمُتَرَئِّسُ كأَنَّه الخادم" (لوقا 22: 26). وفعلاً نرى الرسل فيما بعد يمارسون سلطانهم لكنهم يحرصون قبل كلّ شيء على خدمة المسيح والناس كما يشهد بولس الرسول "أَيُّها الإِخوَة، جَهْدَنا وكَدَّنا فقَد بَلَّغْناكم بِشارةَ الله َونحنُ نَعمَلُ في اللَّيلِ والنَّهار لِئَلاَّ نُثَقِّلَ على أَحَدٍ مِنكم "(1 تسالونيقي 2: 9). ويوضِّح بطرس هذه الفكرة بقوله للكهنة " اِرعَوا قَطيعَ اللهِ الَّذي وُكِلَ إِلَيكم ...ولا تَتَسلَّطوا على الَّذينَ هم في رَعِيَّتكم، بل كونوا قُدْوةً للِقَطيع (1بطرس 5: 1-4). ومع كون هذه السلطة تمارس بطريقة منظورة، إلا أنها تظلّ مع ذلك روحية في طبيعتها؛ فهي تقتصر على إدارة شئون الكنيسة.

 

ب) السلطة فدية

 

السلطة ليست فقط خدمة الآخرين، بل إنها أيضا بذل الذات لأجل الآخرين وفديتهم كما جاء في قول المسيح لتلاميذه "لأَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس" (مرقس 10: 45). "كلمة فدية تتكرر تسع مرات في العهد الجديد. لفظة فدية في الأصل اليوناني δίδωμι؛ والمقصود بها هو الثمن المدفوع لإخلاء سبيل سجين أو لافتداء أسير. وبعبارة أخرى الإنقاذ عن طريق دفع الثمن. نفس الإنسان قد تفقد أو تخسر "وماذا يُعطي الإِنسانُ بدلاً لِنَفسِه؟ وتعني هذه الآية انه جاء يسوع ليضع حياته كثمن الفدية حتى يسترد الخاسرون حياتهم من جديد. ومن هنا جاء لفظ آخر في اليونانية لكلمة فديةλύτρον  تسبقها حرف جر ἀντὶ للدلالة على طبيعة عمل يسوع النيابي. ويمكن إيضاح معنى حرف الجر بتوقيع أحدهم بإمضائه نيابة عن آخر لا يعرف القراءة والكتابة. فهو يعمل ما لا يستطيع الآخر أن يعمله نيابة عنه ومكانه. أمَّا في العهد القديم فتدل كلمة "فدية" יִּפְדְּךָ على التحرير الذي وهبه الله لشعبه من عبودية مصر (تثنية الاشتراع (ومن الجلاء إلى بابل (أشعيا 41: 14)، ومن الخطيئة على وجه عام (مزمور 130: 8).

 

في مفهوم العهد الجديد فإن" الفدية" ἀπολύτρωσις تدل على "التحرير" الذي تمّ في يسوع المسيح (1 قورنتس 1: 30). إنه مغفرة الخطايا (قولسي 1: 14) وغايته إنشاء شعب جديد خاص الله (أفسس 1: 14)، بعد أن كان الشعب عبداً الخطيئة والموت (رومة 6: 6). ويقول لنا بولس الرسول "إن الفداء هو عطية مجانية من الله كما جاء في رسالته "فكانَ لَنا فيه الفِداءُ بدَمِه أَيِ الصَّفْحُ عنِ الزَّلاَّت على مِقدارِ نِعمَتِه الوافِرة" (أفسس 1: 7). وكثيرا ما يقول بولس الرسول أن المسيحي "اشتري" أو "افتدي" "فقَدِ اشتُريتم وأُدِّيَ الثَّمَن"(1 قورنتس 6: 20). وتشير هذه العبارة قبل كل شيء إلى أن المسيحي هو "خاصة الله"، ومُحرَّر من عبودية الخطيئة والموت. فبالمسيح الذي مات وقام، ينال المؤمن منذ الآن هذا الفداء. وهذا الفداء لن يكون تاما ونهائيا إلاَّ في آخر الأزمنة (أفسس 1: 14). ويشمل جسد الإنسان (رومة 8: 24) والخليقة كلها (رومة 8: 22).

 

ثمن الفداء هو "دم " يسوع، أي حياته المبذولة عن محبة "فكانَ لَنا فيه الفِداءُ بدَمِه" (أفسس 1/ 7). فان الله لكثرة محبته لنا، لم يتردَّد في تسليم ابنه "أَمَّا اللهُ فقَد دَلَّ على مَحبتِّهِ لَنا بِأَنَّ المسيحَ قد ماتَ مِن أَجْلِنا إِذ كُنَّا خاطِئين. فما أَحرانا اليَوم، وقَد بُرِّرنا بِدَمِه، أَن نَنجُوَ بِه مِنَ الغَضَب! "(رومة 5: 8).

 

ج) كيف يُجري الله فداءنا في المسيح؟

 

يُعبر بولس الرسول عن طريقة الفداء من خلال مفردات خاصة بالقانون والذبائح والمشاركة. أمَّا المفردات الخاصة بالقانون فيكتب بولس الرسول "حَقَّقَ اللهُ الفداء أو التحرر بالروح بإِرسالِ ابِنه في "جَسَدٍ يُشْبِهُ جَسَدنا الخاطِئ، كَفَّارةً لِلخَطِيئَة. فَحَكَمَ على الخَطيئَةِ في الجَسَد" (رومة 8: 3).

 

واستخدم بولس الرسول ألفاظاً خاصة بالذبائح، وهي ذبيحة عن الخطيئة كالتكفير "لكِنَّهم بُرِّروا مَجَّانًا بِنِعمَتِه، بِحُكمِ الفِداءِ الَّذي تَمَّ في المَسيحِ يَسوع، ذاكَ الَّذي جَعلَه اللهُ كَفَّارةً في دَمِه" (رومة 3: 24-25). الكفارة تدل على مكان الرش في عيد التكفير السنوي في هيكل اورشليم. وفي أثناء هذا الاحتفال، كانت خطايا إسرائيل تًغفر (أحبار 16). ويرى بولس الرسول في هذه الرتبة صورة لذبيحة المسيح. فالمسيح يبذل "دمه" أي انه يقرِّب نفسه ذبيحة، فيهب لنا غفران الله. وبالإيمان وحده يمكننا من الاستفادة من هذا الغفران وهذا الخلاص كما جاء في تعليم بولس الرسول "ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا كَيما نَصيرَ فيه بِرَّ الله" (2 قورنتس5: 21).

 

وجاء توضيحا للمفردات المشاركة للتعبير عن طريقة الفداء في تعليم بولس الرسول" فإِذا اتَّحَدْنا بِه فصِرْنا على مِثالِه في المَوت، فسنَكونُ على مِثالِه في القِيامةِ أَيضًا... فإِذا كُنَّا قَد مُتْنا مع المسيح، فإِنَّنا نُؤمِنُ بِأًنَّنا سنَحْيا معَه" (رومة 6: 5-7). فالمسيح يتضامن بذبيحته مع البشرية الخاطئة ويصبح رأس البشرية الجديدة التي تشترك في حياته، مقرّباً نفسه لله وجاعلا نفسه عن محبة في خدمة الشر كما جاء في تعليم بولس الرسول. "سِيروا في المَحَبَّةِ سيرةَ المسيحِ الَّذي أَحبَّنا وجادَ بِنَفسِه لأَجْلِنا قُربانًا وذَبيحةً للهِ طَيِّبةَ الرَّائِحة" (أفسس 5: 2).

 

كانت الفدية هي الثمن الذي يُدفع لعتق العبد. وقد دفع يسوع الثمن فدية عنا، حيث لم يكن في طاقتنا أن ندفعها؛ فموته قد أعتقنا جميعا من عبودية الخطيئة. وها هو سبب موت المسيح. لقد ظن التلاميذ أن حياة يسوع وقوته ستخلصانهم من سلطة روما، ولكن يسوع قال إن موته هو الذي يخلصهم من الخطيئة، وهي عبودية أقسى من عبودية روما، كما أكد ذلك بطرس الرسول "وقَد عَلِمتُم أَنَّكم لم تُفتَدَوا بِالفاني مِنَ الفِضَّةِ أَو الذَّهَب مِن سيرَتِكمُ الباطِلَةِ الَّتي وَرِثتُموها عن آبائِكم، بل بِدَمٍ كريم، دَمِ الحَمَلِ الَّذي لا عَيبَ فيه ولا دَنَس، دَمِ المسيح" (1 بطرس 1: 18:19).

 

الخلاصة

 

بينما كان يسوع يقترب من أورشليم، ويُنبئ للمرة الثالثة بآلامه وموته (مرقس 10: 32-34)، يبدو أن التلاميذ، على العكس، كانوا يبتعدون عنه ويطلبون المراتب الأولى ومراكز الشرف والسلطة في الملكوت الأرضي. لكن يسوع أسس ملكوتا روحيا، ومن يرغب اقتناء المكانة الأولى في ملكوته، ينبغي أن يصير عند الجميع خادما، وان يَعُدَّ نفسه آخر القوم، وان يتلاشى في سبيل الآخرين خدمة وبذلا وعطاء وتفانياً على مثال ابن الإنسان، يسوع المسيح. وهذه هي القاعدة الذهبية التي سنّها يسوع لتلاميذه: إذ يتوجب على كل واحد منا أن يصبح خادما وعبدا يتضامن مع الجميع لكي يقتدي بيسوع ويسير على خطاه للوصول إلى المجد. هذا هو النهجُ الجديد لممارسة السلطة.

 

لو كرّس كل واحد نفسه لخدمة الآخرين لأحدثنا ثورة اجتماعية حقيقية في هذا العالم المتخبط بالعنف والظلم والقتل. لا يوجد موضع في كنيسة الله للتسلط العالمي بل للخدمة وبذل الذات للآخرين “ن أَرادَ أَن يكونَ الأَوَّلَ فيكم، فَلْيَكُنْ لأَجمَعِكم عَبْداً" (مرقس 10: 44) و" بِفَضلِ مَحَبَّةِ (المسيح) اخدِموا بَعضُكم بَعضًا "(غلاطية 5: 13.) فإن العظمة الحقيقية ليست في المراكز العالمية بل بالتشبه بالمسيح في خدمته وتضحيته وبذل الذات.

 

خضَع يسوع للتجربة في اختيار بين مجد العالم الزائل والمجد الذي أعطاه إيّاه الآب، إذ قالَ له ابليس: "أُوليكَ هذا السُّلطانَ كُلَّه ومَجدَ هذهِ الـمَمالِك، فَإِن سَجَدتَ لي، يَعودُ إِلَيكَ ذلكَ كُلُّه" فعلمنا أنداك أن نطلب المجد الحقيقي من الآب، "فَأَجابَه يسوع: مَكتوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد، وإِيَّاه وَحدَه تَعبُد" (مرقس 4: 6).  فالمجد الذي يطلبه يسوع من الآب لا يتعلّق بالسلطة وتوابعها، بل بالمجد على الصليب ليمُجد الآب ويهب الحياة الأبدية كما صرّح يسوع في صلاته “يا أَبتِ، قد أَتَتِ السَّاعة: مَجِّدِ ابنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابنُكَ بِما أَولَيتَهُ مِن سُلطانٍ على جَميعِ البَشَر لِيَهَبَ الحَياةَ الأَبَدِيَّةَ لِجَميعِ الَّذينَ وهبتَهم له"(يوحنا 17: 1). 

 

 

دعاء

 

أيها ألآب السماوي، نسألك باسم يسوع ابنك الحبيب، الذي جعل الجلوس معه في الملكوت مرهونا بروح الخدمة وتحمل الألم، أمنحنا أن نشرب كأس الآلام للتي شربها، ونتعمد بالمعمودية التي اعتمدها، معمودية الحب، أعطنا أن نخدم إخوتنا حتى الرمق الأخير من حياتنا. آمين 

 

 

قصة وعبرة: الحياة خدمة وعطاء

 

"تشن" طفل صيني في السابعة من عمره، أُصيب مع والدته في الوقت نفسه بسرطان في المخ، وفقد بصره وهي بفشل كلوي مزمن.  طيلة فترة العلاج كان كل منهما يزور الآخر ويهوّن عليه وكانت حالة "تشن" تزداد سوءًا أكثر وقد شارف على مفارقة الحياة. طلب "تشن" من الأطباء نقل كليته لأمه ولكنها رفضت ومع إصرار الطاقم الطبي وإلحاح تشن قائلا: "استمري في الحياة بقطعةٍ مني".

 

وافقت الأم أمام هذا الموقف العصيب. وبعد عملية زرع الكلى مات "تشن" بعد ساعات قليلة، واكتشفت الأم انه طلب من الأطباء دون إعلامها أن يتبرع بكبده لمريض كان معه في الغرفة، وكليته الأخرى لفتاة بالغرفة المجاورة له! توفي “تشن” وأعطى الحياة لثلاث أشخاص بعده. متى تعلّم "تشنّ" هذا الكم الهائل من التضحية؟ تخرّج ""تشن" عظيماً من مدرسة يسوع، مدرسة الحب.

 

لم يفهم تلاميذ يسوع في حينها أن العظمة تكون في الخدمة حتى التضحية بالنفس على مذبح الحب كما فعل هو ليعطي الحياة للذين هم في الأرض. لم يتبرع يسوع بكليتيه فقط أو بكبده أو بقرنية عينيه أو أحد أعضاء جسده بل بجسده ودمه كاملين، ولا زال حتى اليوم يقدم نفسه مأكلاً ومشرباً للذين يتقدمون منه. رغم ذلك لا زلنا حتى اليوم نسأل يسوع كيعقوب ويوحنا أن يعطينا نوعاً من السلطة كي نتسلط على الآخرين ونتحكم بأعناقهم وأرزاقهم! ولكن بقدر ما تمتد سلطةُ الإنسان يتّسع حقل مسؤولياته الفرديّة والاجتماعيّة.