موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٧ يوليو / تموز ٢٠٢١

تعالوا إلى مكان قفر واستريحوا قليلا

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
تعالوا إلى مكان قفر واستريحوا قليلا

تعالوا إلى مكان قفر واستريحوا قليلا

 

الأحد السادس عشر (الإنجيل مر 6: 30-34)

 

كمبشّر متنقّل، كان يسوع وتلاميذه يقطعون الكيلومترات تلو الكيلومترات على الأقدام، دون أن يمرّوا على نبعة ماءٍ، يستريي حون بجانبها، ويأخذون قسطاً من الرّاحة أو قيلولة تحت شجرة تحميهم من حرّ الشمس القاسي، حتى لا نقول أخذ قسطٍ من الرّاحة لتناول وجبة طعام.

 

الأحد الماضي إن كنّا لا نزال  نتذكّر، كان يسوع قد أرسل تلاميذه في مهمّة تبشيرية. وكان قال لهم: اذهبوا وتلمذوا كل البشر، وعمّدوهم وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما قلت لكم(متى 28: 19). لقد وضع العمل الرّاعوي بين أيديهم. أما إنجيل اليوم، فهو النتيجة. بعد قيامهم بهذه الوظيفة لبضعة أيام متتالية، كان هو قد اختلى كعادته لبضعة أيام للصلاة والحديث مع أبيه إلتقوا به وأخبروه عن سير عملهم المُضني، فشعر معهم، واكتشف من حديثهم معه، أنَّ ذلك قد كلّفهم جهداً وصَرْفَ طاقات أنهكتهم. فما كان منه، إلاّ أن أظهر شعوراً بشريّا، وقال لهم: تعالوا إلى مكان قفر واستريحوا قليلا. وذلك كي يُكمِّلوا حديثهم معه ويستشيروا بعضهم بعضا عن كيفيِّة سير العمل، ولا ننسى أيضا كي يسترجِعوا قواهم التي استهلكوها في الأيام الماضية. إذ للجسم حدوده. فهو كالسكّين الحادّ، إن استعملته كثيرا، يُصبحُ بادحاً ويحتاج إلى شحذه من جديد. ولنا مثل آخر في بطاريّات الأجهزة الكهربائية الكثيرة الّتي في حوزتنا. فبحسب الإستعمال، تفرغ هذه البطاريّا، ويجب أـ نعطيها وقتا كافيا لشحنها من جديد.

 

 صحيح أن العمل هو الوسيلة المهمّة، لاستعمال الوقت، لكن لا بدّ من التّوقّف عن العمل المتواصل، وإلا تخور القِوى الكامنة في الجسم، ولا يعود يقدر على الإنتاج المطلوب. الطبيعة نفسها، بليلها ونهارها، تستطيع أن تعطينا درساً، لضرورة العمل والراحة. أما قال الحكماء اليونان: العقل السليم في الجسم السّليم! على الإنسان أن يكون لديه الوقت للعمل، ولكن أيضا للراحة. إنّ مرض عصرنا اليوم، هو عدم توفّر الوقت، للحديث مع بعض، الوالد ما لديه الوقت ليتحدّث مع أولاده، أو مع زوجته أو مع الجار، حتى لا نقول، لا يجد الوقت للصلاة وحضور القداس....كل من يقولون هذا، يناديهم يسوع اليوم، كما نادى التلاميذ: تعالوا إلى مكان قفر واستريحوا قليلا.

 

في نهاية الفصل الدّارسي من كلِّ عام، يفرح الملايين من الناس على بداية العطل الصيفية وأخذ الإجازات للراحة والإستجمام، بل للسفر إلى بلاد بعيدة، لينسوا وراءهم ساعاتِ وشهورَ العمل المضنية، التي عاشوها خلال سنة أو أكثر أو أقل، حسب الوظيفة التي يُشغلونها. فكم وكم نسمع: الآن نعيش أحسن أيام، أو أيضا أحسن أسابيع السنة. طبعا، كثيرون يبقون في مسقط رأسهم ويمضون أيام راحتهم المستحقّة مع عائلاتهم وأولادهم وأصحابهم، طالبين الرّاحة والهدؤ، التي يحتاجونها، ليبدأوا عملهم من جديد بنشاط وراحة بال. تعالوا إلى مكان قفر واستريحوا قليلا. الرّاحة والإجازة، هما حق مشروع. وذلك للتعافي من صخب وهموم ونظام العمل في الحياة اليومية. نعم الإجازة يجب أن تأخذ مسارا وبرنامجاً، لا صلة لهما بالوظيفة اليومية، وإلا فهي لا تجلب الرّاحة والنشاط والحماس المنشودة، لبداية العمل من جديد. كثيرون لا يلاحظون، أن أكبر مصدرٍ للأمراض النفسية هو قلَّة الرّاحة للجسم. قال حكيم: أريد أن أُقَبِّل جمجمة من أوجد واجب العطلة. ونسى أنَّ مَنْ أوصي بها هو الله. ستة أيام تعمل وفي اليوم السايع تستريح(تكو 2: 1-4).ولا ننسى فضل الكنيسة، بأنها أوجدت عدّة أعياد جماعية، للتوقف عن العمل وأخذ الوقت للراحة والصلاة. الراحة هي علاج ضد كثير من أمراض عصرنا.

 

إنجيل اليوم قصير ولكنه مفيد، إذ فيه عبرة لمن يريد أن يعتبر. بعرق جبينك تأكل خبزك، قال الله لآدم. لكن أيضا كتاب حكمة كوهيليت، قال: لكلِّ شيء وقته. للعمل وقته وللراحة وقتها. وإنجيل اليوم هو بهذا المعنى. وفيه نصيحة لمن يريد أن ينتصح. فهو لا يحتوي لا على وصايا ولا على تهديدات ولا على قصاصات بل على تعليمات عادية، هي ترك العمل جانباً لفترة، والخلود إلى الرّاحة، لأنها مفيدة جدّا للجسم المُتعب، إذ الجسم المُنهَك لا يُنتِج. فنصيحة يسوع هي في محلِّها، إذ هو شعر أن التّلاميذ، بعد وقوفهم في الأيام الماضية، لخدمة الجماهير الكبيرة، في تقسيم الخبز على أكثر من خمسة آلاف شخص، وتجميع ما تبقى في إثنتي عشرة قفة(يو 9:6)، قد استهلك منهم قوىً كبيرة، فما عادوا قادرين على متابعة الطّربق مع سيّدهم على الأقدام. من هنا نصيحته كعالِم نفسي(إذ كان يعرف ما في الإنسان): الإستراحة هي حافزٌ لنشاط جديد. لذا دعاهم وقال: تعالوا إلى مكان قفر واستريحوا قليلا! إنَّ الإستراحة والإسترخاء، خاصة الجماعية، كما في العطل الرسمية، بلسم ضد التّعب، لاسترجاع الهمّة والتنشيط للبدء من جديد.

 

يوماً دعا أبو النُّسّاك المعروف، أنطونيوس، عدداً من الرّهبان النسّاك حواليه، ليس للإجتماع الشهري وإعطاء الإرشادات الرّوحية، كما وليس للصلاة، وليس للإحتفال بذبيحة القداس الجماعية، وإنّما فقط، كما يقول المثل، للدردشة مع ببعضهم البعض. فمرّ عن طريق الصدفة صيّادٌ من هناك وسمعهم يتسامرون ويقهقهون، فقال: آها! هذي هي حياة الرّهبان؟ لا شغل ولا هم ولا غم! فسمعه أبو الرهبان وطلب منه أن يشدّ قوس صيده، ففعل. فقال أنطونيوس: هذا قليل، يجب أن، تشدَّه بحزم أكثر. ففعل. شِدَه أكثر ما تقدر، طلب أنطونيوس للمرّة الثالثة. لا قال الصياد. إن شددتُه أكثر من ذلك فسينقطع حبله. فردّ أنطونبوس عليه: أترى؟ وهذا ما يحدث مع الإنسان، فإن هو إستعمل كلَّ قواه سيخور. لذا فهو يحتاج إلى لحظة استرخاء وترك العمل وراه، ليستريح قليلا، كما قال يسوع لتلاميذه اليوم. وبالأخص للتّفريج عن النفس، بحيث يتحدّث كلُّ فردٍ عن نحاحه أو إخفاقه، ويتبادل الآراء مِع الآخرين، مُشجَّعين بعضهم بعضاً، كفريق لاعبي كرة القدم، فهم َيستفيدون في فترة الإستراحة، لسماع آراء بعضهم البعض، عن سير اللعب في الشوط الأول، وبالأخص لإرشادات المُدرِّب، للتنسيق فيما بينهم في الفترة الحاسمة من الشوط الثاني.

 

الحياة ليست فقط شغلاَ متواصلا وتجميعَ المال، إذ يا غبي، لمن سيكون كلُّ هذا الذي جمّعته في مخازنك؟ وبهذه الليلة تُطلب نفسك منك. فوصية التوراة لا يعلو عليها وصية، حيث فرض الله العمل لستة أيام وفي اليوم السابع الإستراحة، الذي هو اليوم المُحبّذ عند الجميع.

 

إنَّ إلهَنا إلهٌ رحيم، يريد خيرنا وسلامتنا. بعكس الآلهة اليونانية المعروفة، فهي لا تعرف الرّاحة بل تتجوّل ليل نهار، حتى تجد مخالفين لأوامرها وتهفيهم. وبالمناسبة هناك إله إسمه زيزيفس (Sisyhos) الذي هو صورة الإنهاك الإحباري، إذ شغلُه كان قائما على دحدلة صخرة ثقيلة من الوادي إلى قمة الجبل دون توقّف. لكن ما يوصل الصخرة مُنهكا ويرفع يده عنها، حتى تتدحرج من تلقاء نفسها إلى مكانها في الواد، فكان مُلزماً أن يلحقها ويبدأ المُهمّة من جديد. هذه المُهمَّة كانت قصاصاً له من منافسه الإله زويس Zeus حتّى يخضع له.، لكنه فضّل الهلاك على الخضوع، حماية لعبادِه. أما فينا روح هذا الإله؟ لا نعرف الراحة والإستجمام؟

 

أما عبّر أنطونيوس عن حقيقة، خافية، لا يعرفها الكثيرون، الّذين يواصلون ليلهم بنهارهم، منهمكين بالشغل ومتطلّبات الوظيفة، لا يعرفون الكلمات راحة واستراحة، كما في المعسكرات الشيوعية سابقا. فكم من أمراض، جسدية أو نفسية حلّت بالمحكوم عليهم بالأعمال الشاقة، وأدّت بحياتهم.

 

وفي زماننا، ولو لم يكن هناك من معسكرات للأعمال الشاقّة، لكن هناك أرباب عمل وأصحاب تجارة، يتسارعون مع الزمن، كما قال أحدهم: اليوم هو 24 ساعة ولكن في مفكّرتي 25 موعداً. أعني الوقت هو الذي يتحكم فينا وبحياتنا لا العكس. من يُنكر أن جسمنا يحتاج إلى الرّاحة، حتى يتنفّس الصعداء ويعود مُتنشِّطا وقادرا على الإنتاج. من يُنكر أنّ الأطفال اليوم، لكثرة الإلتزامات المدرسية وبرامج الهوايات الشخصية، من رياضة وتدريبات بعد المدرسة للموسيقى ومشاهدة الأفلام التي تعجبهم، ما عادوا يقدرون على إيجاد الوقت الكافي لأخذ وجبات الطّعام بانتظام. فكم وكم منهم ، صار مُدمناً على تناول الأدوية والمُهدءآت.

 

إن عوامل التّعب والإحتراق لا تخفى على أحد. فهي كمن يقود سيارة في سفرة بعيدة، فهو يلحظ أن خزّان البنزين ينقص وينقص، وبالتّالي إنْ لَم يفطن للخروج إلى محطّة بنزين على الوقت، فهو يتفاجأ، بأنّ السيّارة فرغت من الوقود وما عادت تسير. هذه حياة الإنسان، إن بقي منغمسا في وظيفته، فهو يلحط بالتّالي أن قواه تخور يوما بعد يوم، وما عاد يقدر لا على التركيز ولا على إنتاج ٍ مرضٍ. فلا بدَّ من فترة استراحة ،لإحياء النّشاط وكسب قوّةٍ جديدة. تعالوا إلى مكان قفر واستريحوا قليلا.