موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
تمّ الإعلان عن وفاة البابا فرنسيس، صباح الإثنين 21 نيسان 2025. فإليكم القصة الكاملة عن مرضه ومعاناته من ثلاثة شهور، كما ستلحق مراسم دفنه، ومن ثمّ انتخابُ خلف له. كل ذلك نصفه لكم في هذا المقال.
تنتشر، في فصلي الخريف والشتاء، وبسبب تقلّب الأحوال الجوية، فيروسات مختلفة، مثل التهاب الحلق والرشح والتهاب الرئة مع ضيق وصعوبة التنفس بسبب تجمّع البلغم مع انسداد قنوات التنفس التي غالبًا ما ينتج عنها الاختناق.
تصيب هذه الأمراض الشتوية الكثيرين، صغارًا وكبارًا، حتى البابا فرنسيس رئيس الكنيسة الكاثوليكيّة الأعلى، وقع ضحيتها هذه السنة. فمن أصيب بهذه الأمراض وكان عمره فوق الستين ودخل المستشفى للعلاج منها، يقول الأطباء، لن يخرج من المستشفى بعد العلاج كما كان قبل العلاج، إذ هذه الأمراض تترك آثارها السّيئة وبصمتها في الجسم.
تابعنا خلال الأسابيع الماضية، أحوال البابا فرنسيس (البالغ من العمر 88 عامًا) الصحيّة عندما كان يتلقى علاجًا مُكثّفًا، منذ 14 شباط الماضي، في مستشفى جيميلي في روما، نسبةً إلى مؤسّسه الطبيب الراهب الفرنسيسكاني أوغستينو جيميلي (1878-1959)، والذي يُعدُّ من أكبر (1800 سرير) وأفضل المستشفيات في إيطاليا.
دخل قداسته المستشفى للعلاج من التهاب الشعب الهوائية المعقّد، لكن الأطباء المشرفين على عنايته شخّصوا أنّه إلى جانب ضيق التنفس كان هنالك التهابًا في كلتا الرّئتين، سببه ميكروبات متعدّدة، مما تطلّب علاجًا معقدًا، ولمدة طويلة. وبعد مكوث على سرير الشفاء امتدّ 38 يومًا، خرج البابا من المستشفى ليمكث في بيت القديسة مارتا بالفاتيكان فترة نقاهة لمدة شهرين على الأقل. ورغم التحديثات بالتحسّن البسيط والتدريجي، إلا أنّ الخطر كان ما زال قائمًا.
نظرت الكنيسة الكاثوليكيّة بقلق إلى هذه الأحداث، فإن عاد البابا فرنسيس إلى الفاتيكان مريضًا فإنّه لن يستطع القيام بمهامه كالسابق. كما طرحت التساؤلات في العالم: هل نحن أمام ظهور بابا جديد للكنيسة، وهل سيقدّم استقالته كسلفه بندكتس السادس عشر، علمًا بأنّ أول بابا استقال في تاريخ الكنيسة كان البابا سيلستين الخامس عام 1294.
لقد عُرف البابا فرنسيس بقربه الروحي والبشري للمؤمنين. فهو في طريقه كان يمد يده ليصافح هذا أو ذاك من حواليه، يحضن هذا أو ذاك لتحيته وتقبيله، يرسم إشارة الصليب على المرضى والأطفال. فمنذ تولّيه منصبه يوم 13 آذار 2013، أي قبل 12 عامًا، عدّ البابا فرنسيس أقرب البابوات للقلوب. لكن للأسف لم نلاحظ هذه المقابلات الشخصيّة البشريّة منذ دخوله إلى المستشفى.
وكانت الإشارة الوحيدة، والتي بثت بعض الأمل في النفوس، هو إرسال رسالة صوتيّة قصيرة باللغة الاسبانية، ثمّ بثها قبل بداية صلاة السبحة الوردية من أجله شفائه في ساحة القديس بطرس، وفيها قدّم الشكر لجميع المؤمنين للصلاة من أجله. ومن خلالها، لاحظ المستمعون كم أن صوته ضعيف وتنفسه متقطّع، وكان من الصعب فهم كلماته.
وبعد خروجه من المستشفى، لقضاء فترة نقاهة في بيت القديسة مرتا، مقرّ إقامته بالفاتيكان، ظهر البابا فرنسيس علانيّة في عدّة مناسبات، كان الظهور الأول في ختام القداس الإلهي لمناسبة يوبيل الخاص بالمرضى. وأمام الاحتفالات الفصحيّة، والتي يترأسها عادة البابا، فوّض قداسته الكرادلة لترؤس هذه الصلوات، من يوم أحد الشعانين إلى أحد الفصح. وخلال هذه الأيام، ظهر البابا فرنسيس في عدّة مناسبات، منها في ختام قداس أحد الشعانين، وفي زيارته إلى سجن. وكان آخر ظهور له يوم أحد الفصح، حيث منح بركته الفصحيّة الأخيرة لمدينة روما والعالم.
وكان البابا فرنسيس قد أصدر تعليمات تخص الطقوس الجنائزيّة ودفن البابوات، تضمّنت إدخال بعض التعديلات واللمسات الجديدة على هذه الطقوس. أمّا ما نَعجب منه، هو أن البابا فرنسيس كان يعني منها جنازته هو، ومفادها التخلي عن طقوس الدفن المتبعة في السابق، وإدخال تبسيطات عليها، لا تختلف جوهريًّا، إنما تمس طابعها الخارجي.
من هذه التعديلات فقد طلب البابا حينما تقترب ساعة موته، أن يقضي آخر ساعات حياته في كنيسة، كي يلفظ آخر أنفاسه فيها. وطلب وضع جثمانه وعرضه للمشاهدة والتوديع منه في تابوت خشبي بسيط، دلالة التواضع، بدلاً من العادة المتبعة في وضع الجثمان في ثلاثة توابيت من خشب الأرز الثقيل والرصاص والبلوط تدخل في بعضها البعض.
كما أراد البابا طقس الجناز بسيطًا ومُبسّطًا إلى أكثر ما يمكن، بشرط أن يبرز فيه إيمان الكنيسة الواعد بقيامة الموتى. وقد صرّح رئيس الأساقفة Diego Ravell المسؤول عن صلوات طقس الدفن، أن هدف هذه الطقوس هي التأكيد على أن المتوفى هو راعٍ وتلميذ للمسيح. أمّا الطقس فهو مطابق لمنشور الكوريا البابويّة "أكرزوا بالإنجيل" لرتبة الدفن الصادر في 19 آذار عام 2022.
إنّ المقصود من تجديد رتبة طقس دفن البابا في هذا المنشور هو تبسيط الاحتفال بمحتوى واضح، سواء باللغة كما في الهيئة الشكلية الخارجيّة بتقسيم الصلوات والأدوار بين المحتفلين به. ويقصد البابا من وصف مراسم الدفن، التنازل عن الأبهة والفخفخة المتّبعة لطقوس دفن البابوات في السابق، وإضافة البساطة في العلامات الخارجية، ليس فقط لجنازته هو، بل وإجمالاً، في تبسيط المراسم الطويلة التي ستُتّبع أيضًا في المستقبل.
ومّما لا شك فيه هو أن البابا فرنسيس، وبموافقته على تعديل ونشر هذا المنشور، قد لمّح إلى طقس دفنه هو، كما وعيّن مكان دفنه. فبعد أن أعرب عن رغبته في أن يُدفن في كاتدرائيّة اللاتيران، التي تُعدّ الكنيسة الرسميّة لرئيس أساقفة أبرشية روما، إلا أنّه عدل عن ذلك، وأوصى بدفنه في كنيسة مريم الكبرى التي تقع بين الفاتيكان واللاتيران، خارج أسوار الحاضرة، لتكون بذلك المرة الأولى التي يدفن فيها بابا خارج أسوار الفاتيكان منذ العام 1903.
إن حصلت وفاة البابا، أي بابا، فهناك قوانين ثابتة، يجب على الكاردينال المعيّن مُسبقًا للقيام بإدارة الكنيسة في حال شغور الكرسي الرسولي (يدعى "كاميرلينغو" الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة)، أن يتمسّك بها، وأن يعمل بموجبها. وأوّل هذه المهام هو أن يقوم بالإعلان الرسميّ عن وفاة البابا.
فقد أعلن الكاردينال كيفن فاريل، الكاميرلينغو، وفاة البابا فرنسيس بهذه الكلمات: "أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، بحزن عميق يجب أن أعلن وفاة أبينا الأقدس فرنسيس. عند الساعة السابعة وخمس وثلاثين دقيقة من صباح اليوم (الاثنين) عاد أسقف روما، البابا فرنسيس، إلى بيت الآب. كانت حياته كلها مكرسة لخدمة الرب وكنيسته. لقد علّمنا أن نعيش قيم الإنجيل بأمانة وشجاعة ومحبة شاملة، ولاسيما لصالح الأشد فقرًا وتهميشًا. بامتنان كبير لمثاله كتلميذ حقيقي للرب يسوع، نودع روح البابا فرنسيس إلى محبة الله المثلث الأقانيم اللامتناهية والرحيمة".
وبمشاركة ثلاثة كرادلة آخرين يتم تعيينه بالقرعة كل ثلاثة أيام، يشرف الكاميرلينغو على مراسيم الدفن، وعلى كسر الخاتم الخاص بالبابا الراحل، وإغلاق مسكن البابا بالشمع الأحمر، والدعوة إلى الكونكلاف، وإغلاق أبواب كنيسة السيكستين، لتبدأ من بعدها عملية انتخاب البابا التي تعود لتاريخ عريق، لا يتغيّر، وترتبط بأعلى من درجات السرّية.
بالتالي، يصبح هذا الكاردينال، وخلال فترة شغور الكرسي الرسولي أعلى مسؤول في الكنيسة، إذ بوفاة البابا يقدّم جميع موظفي الفاتيكان ودوائره استقالتهم له، فيتولى هذا الكردينال تصريف أعمال الكنيسة، حتى انتخاب البابا الجديد.
إن الكاميرلينغو يعلن موت البابا ليس بطريقة التشريح، فهذه غير واردة إطلاقًا، ولم تُستعمل أبدًا في كل تاريخ الكنيسة.
قديمًا كان يتم تأكيد الوفاة بهذه الطريقة: كان الكاميرلينغو يحمل مطرقة مصنوعة من العاج أو الذهب أو الفضة، ويطرق بها على جبين البابا المتوفي المُسجّى، داعيًا إياه باسم معموديته، ويسأله باللاتيني: "يا فلان هل أنت نائم؟". ثمّ يكرّر هذا السؤال مرتين. فإن لم تحدث أية ردة فعل: لا حركة، ولا كلام، ولا فتح جفن، كان الكردينال يعلن: "بالحقيقة إن الأب الأقدس هو ميّت!". ومن هذه اللحظة يتمّ إعلان عن فترة فراغ الكرسي الرسولي، أي أنّ كرسي القديس بطرس فارغ، لا يُشغله أحد. فتبدأ عندها التحضيرات لمراسيم دفن البابا.
لكن هذه الطريقة قد أُلغيت وزالت منذ بداية القرن العشرين التي تمّ استعمالها لآخر مرّة مع البابا ليو الثالث عشر عام 1903، وتمّ استبدالها بشهادة طبّية من الأطباء المشرفين عليه والأجهزة الطبيّة الحديثة الدقيقة التي تُؤكد لحظة وسبب الوفاة. فيأخذ الكاميرلينغو حالاً الخاتم من إصبع البابا المتوفي، ويكسره لاحقًا في رتبة خاصة أمام كل الكرادلة المجتمعين. كما ويكسر ختم المعاملات من مكتبه، لئلا يحدث تزوير معاملات. كما ويغلق غرف عمل البابا ومكاتبه الخاصة بالشمع الأحمر، لكي لا تصدر أية وثيقة رسميّة باسمه في هذا الوقت.
ثم تبدأ فترة الحزن ومدتها 9 أيام تقام فيها يوميًّا القداديس والصلوات من أجل راحة نفس البابا الراحل، ويشترك فيها الإكليروس والشعب من جميع أنحاء العالم. أما مراسيم الدفن فتتم ما بين اليوم الرابع والسادس بعد إعلان الوفاة.
ومن المهم القول أنّ انتخاب البابا الجديد لا يتم إلا بعد دفن البابا المتوفى.
عادة ما يتم مواراة جثمان البابا المتوفى في قبو كنيسة القديس بطرس الواسعة إلى جانب أسلافه. فيوحنا بولس الثاني القديس دفن مؤقتًا هناك عام 2005 إلى أن تمّ نقل جثمانه أسفل هيكل جانبي داخل الكاتدرائية عام 2011. كما دفن أسلافه، بيوس الثاني عشر، بولس السادس، ويوحنا بولس الأول، بندكتس السادس عشر كلهم في القبو. لكنّ البابا فرنسيس فقد طلب في وصيته الروحيّة أن يدفن في كنيسة مريم الكبرى، وليس في الفاتيكان، وبتابوت بسيط، من دون زخارف خاصة، دلالة على التواضع؛ فكان متواضعًا في حياته، ومتواضعًا في مماته.
(يتبع: كيف تتم عملية انتخاب البابا؟)