موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٩ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠

بشارة العذراء في الناصرة ودورها في الخلاص

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد الرابع المجيء

الاحد الرابع المجيء

 

النص الإنجيلي (لوقا 1: 26-38)

 

26 وفي الشَّهرِ السَّادِس، أَرسَلَ اللهُ الـمَلاكَ جِبرائيلَ إِلى مَدينَةٍ في الجَليلِ اسْمُها النَّاصِرَة، 27 إِلى عَذْراءَ مَخْطوبَةٍ لِرَجُلٍ مِن بَيتِ داودَ اسمُهُ يوسُف، وَاسمُ العَذْراءِ مَريَم. 28 فدَخَلَ إلَيها فَقال: ((إفَرحي، أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ)). 29 فداخَلَها لِهذا الكَلامِ اضطرابٌ شَديدٌ وسأَلَت نَفسَها ما مَعنى هذا السَّلام. 30 فقالَ لها الـمَلاك: ((لا تخافي يا مَريَم، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله. 31 فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يَسوع. 32 سَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود، 33 ويَملِكُ على بَيتِ يَعقوبَ أَبَدَ الدَّهر، وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية)) 34 فَقالَت مَريَمُ لِلمَلاك: ((كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلاً؟)) 35 فأَجابَها الـمَلاك: ((إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى. 36 وها إِنَّ نَسيبَتَكِ أَليصابات قد حَبِلَت هي أَيضاً بِابنٍ في شَيخوخَتِها، وهذا هو الشَّهرُ السَّادِسُ لِتِلكَ الَّتي كانَت تُدعى عاقِراً. 37 فما مِن شَيءٍ يُعجِزُ الله)). 38 فَقالَت مَريَم: ((أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ)). وَانصرَفَ الـمَلاكُ مِن عِندِها.

 

 

المقدمة

 

يصف لوقا الانجيلي بشارة الملاك جبرائيل للعذراء في الناصرة انها ستكون أمُّاً للمسيح المخلص (لوقا 1: 26-38). وبهذه البشارة تبدأ مرحلة تحقيق وعد الله بالخلاص لنا كما جاء في سفر التكوين "وأَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه (3: 15). وإنجيل البشارة يسلّط الضوء على بدء تاريخ الخلاص وهو وعد الله للإنسان، وعلى كيفية عبور هذا الخلاص من خلال شخصيّة فريدة في الكتاب المقدّس إلى جميع البشر. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 1: 26-38)

 

26 وفي الشَّهرِ السَّادِس، أَرسَلَ اللهُ الـمَلاكَ جِبرائيلَ إِلى مَدينَةٍ في الجَليلِ اسْمُها النَّاصِرَة

 

تشير عبارة "الشهر السادس" الى وقت حمل اليصابات ورُفع العار عنها على ما ورد في النص لاحقا " وهذا هو الشَّهرُ السَّادِسُ لِتِلكَ الَّتي كانَت تُدعى عاقِراً " (لوقا 1: 36). وربط لوقا الإنجيلي حدث بشارة ميلاد يوحنا المعمدان مع بشارة ميلاد يسوع لمريم العذراء؛ لكن شتان بين البشارتين، البشارة الأولى لزكريا الكاهن تمت داخل الهيكل أثناء العبادة الجماعية، أما البشارة الثانية فتمت في بيت مجهول في قرية فقيرة بطريقة سرية. وقد كانت بشارة بتجسد الكلمة نفسه.  لقد أخلى الابن ذاته حتى في البشارة به، لم تتم بين الكهنة ولا في داخل الهيكل ولا على مستوى الجماعة، إنما تمت مع فتاة فقيرة في مكان بسيط.  وبما ان لوقا الإنجيلي صرَّح أنه كتب ما رواه عن شهود عيان يرجَّح انه نقل ما كتبه هنا من مريم العذراء ام يسوع نفسها. أمَّا عبارة "أَرسَلَ اللهُ" فتشير الى انطلاق الخلاص من الله الذي "أرسَلَ"؛ الله هو الذي اتَّخذ المبادرة، "لَسنا نَحنُ أَحبَبْنا الله بل هو أَحَبَّنا فأَرسَلَ ابنَه كَفَّارةً لِخَطايانا" (1 يوحنا 4: 10). أمَّا عبارة "اللهُ" فتشير الى اسم الإله خالق جميع الكائنات والحاكم الأعظم لجميع البشر، والواهب كل المواهب الصالحة. واللَّه روح غير محدود، أزلي غير مُتغيِّر في وجوده وحكمته وقدرته وقداسته وعدله وجودته وحقه.  وهو يُعلن لنا نفسه بطرق متنوعة وفي أحوال مختلفة متباينة فيَظهر لنا في أعماله، وتدبير عنايته (رومة 1: 20) ولكنه يتجلى غاية التجلي ويُظهر ذاته في الكتاب المقدس. وقد أعلن لنا نفسه بأجلي بيان وعلى أكمل كيفية في شخص ابنه الوحيد مُخلصنا يسوع المسيح وعن طريق حياته وأعماله. ويوجد في العهد القديم باللغة العبرية ثلاث مترادفات رئيسية لاسم الجلالة، وهي: אֱלֹהִים ((الوهيم)) (التكوين 1:1) وיְהוָה ((يهوه)) (مزمور 83:17) وאֲדֹנָי ((أذوناي)). فالاسم الأول يستعمل للدلالة على صفة اللَّه الخالق العظيم، وعلى علاقته مع جميع شعوب العالم من أمم ويهود. ويدل الاسم الثاني على علاقة اللَّه مع بني إسرائيل وهو إله تابوت العهد وإله الرؤيا والإعلان وإله الفداء. والاسم الثالث أذوناي يُستخدم في مخاطبة اللَّه بخشوع ووقار وهيبة.  واللَّه واحد وهو ثلاثة أقانيم متساوية في الجوهر (متى 28: 19)، اللَّه الآب، واللَّه الابن، واللَّه الروح القدس، فالآب هو الذي خلق الكون بواسطة الابن (مزمور 33: 6) والابن هو الذي أتمَّ الفداء، والروح القدس هو الذي يُطهر القلب والحياة، غير أن الاقانيم الثلاثة يشتركون معاً في جميع الأعمال الإلهية على السواء.  أمَّا عبارة "الملاك جِبرائيلَ" في الأصل اليوناني Γαβριὴλ مشتقة من الى اسم عبري גַּבְרִיאֵל (معناه رجل الله او "قوّة الله " فتشير الى الكائن الروحانيّ الّذي يرسله الله دوماً ليحمل رسالة؛ فحضوره هو ضمانة لتدخل الله في تاريخنا. أرسل الله الملاك جبرائيل أرسل ليفسر رؤيا لدانيال النبي (دانيال 8: 16 -27) وبعث مرة في زيارة لنفس النبي ليعطيه فهماً وليعلن له نبوة السبعين اسبوعاً (دانيال 9: 21 -27). وقد أرسله الله أيضا إلى اورشليم ليحمل البشارة لزكريا في شأن ولادة يوحنا المعمدان (لوقا 1: 11 -22). وأرسله أيضاً إلى الناصرة ليبشر العذراء مريم أنها ستكون أمَّا للمسيح (لوقا 1: 26 -38) وصُف جبرائيل نفسه انه واقف أمام الله (لوقا 1: 19)، وهو القوّة نفسها التي وعد الله بها مريم كضمانة لتحقّيق الوعد "قوّة العلي تظلّلك. أمَّا عبارة "مَدينَةٍ في الجَليلِ" فتشير الى بداية بشارة الخلاص في إنجيل لوقا من الجليل، جليل الأمم"، جليل الشعوب الوثنية والخطأة الذين لا إله لهم ولا شريعة ولا هيكل. وذكر الجليل دليل ان لوقا الإنجيلي لم يكتب بشارته الى اليهود، لأنهم ما كانوا في حاجة الى هذا البيان، إنما كتبها للقراء من الأمم. وهذا الامر يشكّل اعتراضا جوهرياً على رسالة يسوع الخلاصيّة في أورشليم من قبل السلطات اليهودية. يختار الله الذين لا يملكون شيئاً لكي يهبهم كل شيء، هذا الامر نراه يتردّد على جميع صفحات الكتاب المقدس. أمَّا عبارة "الجَليلِ" في الأصل اليوناني Γαλιλαίας (مشتقة من اسم عبري גָּלִילָה معناه دائرة أو مقاطعة) فتشير الى القسم الذي كانت تقطنه غالبية من الأمم (متى 4: 15) وامتد اسم الجليل حتى شمل كل منطقة يزرعيل، ثم صارت منطقة الجليل كلها يهودية فكونت جزءاً من مملكة هيرودس الكبير. وبعد موته صارت تحت إدارة هيرودس رئيس الربع؛ وكانت الجليل في القسم الشمالي من بين الثلاثة الأقسام التي قُسِّمت إليها فلسطين في زمن المسيح في عصر الدولة الرومانية. وفي ومن الحرب اليهودية الأولى عام 66م قُسمت الجليل إلى قسمين، وهما: الجليل الأعلى والجليل الأسفل. ويحد الجليل الأعلى من الشمال صور ومن الجنوب السامرة ومن الغرب فينيقية ومن الشرق الأردن. وتقع الجليل الأسفل جنوب الجليل الأعلى ويمتد من بحيرة طبرية إلى عكا على البحر الأبيض المتوسط. ويذكر يوسيفوس في تاريخه أن سكان الجليل بلغوا في أيامه ثلاثة ملايين نسمة وبها 240 مدينة وقرية وأكبر مدنها صفورية، وكان سكانها خليط من الأجناس (لوقا 22: 59). وكان الاعتقاد أن شعب الجليل لا يمكن أن يكون منه نبي (يوحنا 7: 41-52) غير أن معظم رسل المسيح كانوا من الجليل. وكان يسوع يعرف بأنه الجليلي (متى 26: 69)، ففيها نشأ وخدم في حدودها الشرقية عند بحيرة طبرية وداخل منطقتها في كورزين وبيت صيدا وكفرناحوم ونايين وقانا والناصرة. وقيل عن بطرس أنه جليلي ولغته تُظهره (متى 26: 69).  وبلغ طول مقاطعة الجليل نحو 20كم وعرضها نحو 40 كم.  والجليل على العموم خصبة تنمو فيها الحبوب وتكثر فيها الجبال مثل الكرمل وجلبوع وطابور.  أمَّا عبارة " الناصرة" في الأصل اليوناني Ναζαρὲθ (مشتقة من اسم عبري נְצָרֶת معناه القضيب او الحارسة او النذير) فتشير الى مدينة غير معروفة في العهد القديم، لكن اشتهرت في العهد الجديد فورد ذكرها 29 مرة. وكانت قرية لا شأن لها في عهد المسيح كما نستشف من قول نَتَنائيل الى فيلبس: أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمكِنُ أَن يَخرُجَ شيء صالِح؟" (يوحنا 1: 46)، لكن لوقا يسمِّيها "مدينة" كسائر قرى بيت لحم (لوقا 2: 4)، وكفرناحوم (لوقا 4: 31) ونائين (لوقا 7: 11). والناصرة تقوم على جبل مرتفع (لوقا 4: 29)، نحو 153 م فوق سطح البحر وعلى مسافة ثلاثة أيام في القافلة من اورشليم وتبعد 23 كم الى الغرب من بحيرة طبريا، 139 كم الى الشمال من القدس. وهكذا ينتقل لوقا الإنجيلي من الهيكل في اورشليم في اليهودية الى الناصرة في الجليل التي احتقرها معاصرو يسوع لأنها كانت محط أنظار التجار الوثنيون والجنود الرومانيون نظرا لوقوعها على طريق تجاري كبير (يوحنا 1: 46). فقد كان مسقط رأس يوسف ومريم (لوقا 2: 39). في الناصرة قبلت مريم بشارة الملاك وكان هناك بداية الخلاص (لوقا 1 :26-38)، وإليها عادت مريم مع خطيبها من مصر (متى 2: 23). وفيها نشأ المسيح وترعرع (لوقا 4: 16)، وفيها قضى يسوع حياته الخفيّة (لوقا 2 :39، 51-52)، نحو الثلاثين السنة الاولى من حياته (لوقا 3: 23). ولذلك لقب يسوع الناصري، نسبة اليها (متى 21: 11) كما لُقِّب تلاميذه بالناصرين. وكان يسوع ينمو فيها بالحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس (لوقا 2: 52). وفي بداية الحياة العلنيّة، عارض أهل الناصرة رسالة يسوع الخلاصية، وأرادوا أن يُلقوه من أعلى الجبل (لوقا 4 :16-30).

 

27 إِلى عَذْراءَ مَخْطوبَةٍ لِرَجُلٍ مِن بَيتِ داودَ اسمُهُ يوسُف، وَاسمُ العَذْراءِ مَريَم

 

 تشير عبارة "عَذْراءَ" في الأصل اليوناني παρθένος (معناها فتاة غير متزوجة) الى بتولية مريم، الأمر الذي يُبعد كل التباس عن زواجها ويُمهِّد لحبلها العجائبي بيسوع (لوقا 1: 34). أمَّا عبارة "مَخْطوبَةٍ" فتشير الى مريم التي كانت متزوجة شرعا ليوسف لكن المساكنة لم تتم (لوقا 1: 34)، إذ كانت العادة اليهودية تنص عن مهلة شهرين او ثلاثة من عقد الخطبة (لوقا 2: 5)، قبل ان تُزف العروس الى بيت عريسها (متى 25: 1-13). وكانت الخطبة في التقليد اليهودي تعادل الزواج بالمفهوم السائد الآن ما خلا العلاقات الجسدية. وبهذا المعنى، كانت مريم مرتبطة بخطيبها يوسف حسب الشريعة، ولكنها لم تنتقل بعد الى بيته للحياة المشتركة. حيث يعتبر زمن الخطوبة بمثابة التزامٌ جديٌ، إنما دون علاقة جنسيّة. وفي أثناء المدة التي كانت فيها مخطوبة ليوسف، وقد كان المتعارف عليه في ذلك الحين أن الخطبة تعقد لمدة عام واحد قبل الزواج، وفي هذه الفترة وُلد يسوع من مريم العذراء، وكانت مخطوبة ليوسف دفعا للأوهام وحفظا لشرفها ولنزع كل شك من جهتها عندما تظهر علامات الحمل عليها وليكون لها من يعتني بها.  أمَّا عبارة "مِن بَيتِ داودَ" فتشير الى نسل داود كي يستطيع يوسف ان يؤمن التواصل بين داود ويسوع كما جاء في المزامير "أَقسَمَ الرَّبُّ لِداوُد وهي حَقيقةٌ لَن يَرتَدَّ عَنها أبدًا: مِن ثَمَرَةِ بَطنِكَ أجلِسُ على العَرْشِ الَّذي لَكَ" (مزامير 132: 11). وسلالة داود هي علامة تدلُّ على أمانة الله عبر مواعده في التاريخ. أمَّا عبارة "داود" في الأصل اليوناني Δαυίδ (مشتق من اسم عبري דָּוִד معناه محبوب) فتشير الى ابن يسَّى وعائلة داود (رومة 1 :3) وهو ثاني ملوك بني إسرائيل. قضى الشطر الأول من حياته في بيت لحم يهوذا. وكان أصغر ابن بين ثمانية بنين (1 صموئيل 16: 10)، وتمتع بمواهب موسيقية فأنشأ بعض المزامير والأناشيد. فدعاه الملك شاول وعيّنه حامل السلاح له (1 صموئيل 16: 19-23). وبعد موت شاول اختار سبط يهوذا داود ملكاً عليه في حبرون (2 صموئيل 2: 1 -10) وصار له عدة ابناؤه وأهمهم: امنون، وابشالوم، وادونيا (2 صموئيل 3: 1 -5). ثم قام داود بالإستلاء على حصن اليبوسيِّين في أورشليم، وجعلها عاصمة ملكه.  واتم داود تأسيس المملكة وختم حكمه بتثبيت سليمان على العرش وارثاً له (1 ملوك 1) ومات في السنة الحادية والسبعين من عمره بعد أن حكم أربعين سنة، منها سبع سنين ونصف سنة في حبرون وثلاثة وثلاثين سنة في اورشليم (2 صموئيل 2: 11). وقد دفن داود في مدينة حبرون وقد نسبت إليه ثلاثة وسبعون مزموراً. ودعي رجلاً حسب قلب الله (1 صموئيل 13: 14). وقد كان داود حلقة في غاية الأهمية في نسب من هو ابن داود أي المسيح (متى 22: 41 -45). وقد وردت سلسلة نسب المسيح من ناحية يوسف (متى 1: 16 ولو 3: 23).  وبما ان مريم نسيبة اليصابات فهي من نسل كهنوتي، ويوسف هو من نسل ملوكي، نسل داود الملك، وهكذا اجتمعت الملوكية والكهنوت في يسوع. وأن الوعد الذي وُعد به داود قد تمّ بوساطة يوسف. أمَّا عبارة " يوسُف " الأصل اليوناني Ἰωσὴφ (مشتق من اسم عبري יוֹסֵף معناه يزيد) فتشير الى زوج مريم العذراء أم يسوع (متى 1: 16)، وأب روحي بالتبني ليسوع. وهو من بيت داود من بيت لحم (متى 1: 20)، وهاجر إلى الناصرة (لوقا 2: 4)، ومارس فيها مهنة النجارة (متى 13: 55)، وكان يوسف عبرانياً باراً محافظاً على الفروض والطقوس اليهودية (لوقا 2: 21 -24)، وعلى الاعياد اليهودية (2: 41). ووُصف يوسف بالبر والرقة والشهامة لأنه عندما درى بحالة مريم فكر في فسخ الخطوبة دون أن يفضح الأمر أو ان يلحق بها أي أذى وعندما أدرك الحقيقة أخذ مريم معه إلى بيت لحم للاكتتاب لينقذها من حصائد الالسنة وثرثرة الجيران (لوقا 2: 1 -5). وظهر نبل اخلاق الاب العطوف فيه عند اضطرار العائلة للهرب إلى مصر للمحافظة على سلامتها (متى 2: 13 -15)، ولدى مشاطرته الحدب الابوي على يسوع (لو 2: 48 و51)، وفي فهم الجمهور لهذه العلاقة (يوحنا 1: 45 و6: 42). أمَّا عبارة " مَريَم " (معناها في الاصل العبري מִרְיָם معناه عصيان، وفي الأصل المصري محبوبة (الاناشيد 8: 10) فتشير الى العذراء، مريم أم يسوع المسيح التي   جاءت هي ويوسف من سبط يهوذا من نسل داود (لوقا 1: 32 و69). وكان لمريم العذراء أخت واحدة (اسمها سالومَة، زوجة زبدي وأم يعقوب ويوحنا (مرقس 15: 40)، وكانت لها صلة القرابة مع اليصابات أم يوحنا المعمدان (لوقا 1: 36) وقد ذهب يوسف ومريم معاً من الجليل، من مدينة الناصرة إلى بيت لحم (لوقا 2: 4)، وهناك وضعت مريم ابنها البكر. والكتب المقدسة إشارات مقتضبة إلى العذراء مريم التي تصورها لنا في كونها المباركة من النساء (لوقا 1: 28) ومثل أعلى للأمهات وللنساء قاطبة (لوقا 2: 27). وقد تبعت المسيح واقتفت أثره في عمله إلى النهاية (لوقا 23: 49)، وعند الصليب تحقَّقت فيها النبوّة سمعان الشيخ عندما قال: " وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ" (لوقا 2: 35). والاشارة الوحيدة الصريحة التي وردت في العهد الجديد عن العذراء مريم بالإضافة عما جاء عنها في الاناجيل هي اشتراكها مع تلاميذ الرب وأخوته في الصلاة " كانوا يُواظِبونَ جَميعًا على الصَّلاةِ بِقَلْبٍ واحِد، معَ بَعضِ النِّسوَةِ ومَريَمَ أُمِّ يسوع ومعَ إخوته" (أعمال الرسل 1: 13). وصف لوقا الإنجيلي مريم هنا بصفتين في آن واحد: أنها زوجة وعذراء، فهي عذراء لأنها لم تعرف رجلا -سواء قبل أو بعد ولادة السيد المسيح-وزوجة حتى تكون في نظر الناس بلا شائبة من جهة عفتها وطهارتها. ويعلق القديس أوغسطينوس" لا تكرم البتولية من أجل ذاتها وإنما لانتسابها لله".

 

28 "فدَخَلَ إلَيها فَقال: ((إفَرحي، أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ)).

 

تشير عبارة "فدَخَلَ إلَيها" الى دخول البيت التي كانت مريم فيه؛ ونستنتج مما قيل هنا ان الملاك ظهر في هيئة إنسان، إذ دخل البيت كأحد الناس وخاطب مريم ، والدليل على ذلك انه لم تخف من مشاهدته بل من كلامه وإنبائه، وظهر سابقاً الملائكة كأشخاص لجدعون (قضاة 6) ومنوح (قضاة 13)؛ أمَّا عبارة "إفَرحي" في الأصل اليوناني Χαῖρε (معناها سلام) فتشير الى أول كلمة أعلنها الأنبياء المبشِّرون بالمخلّص الصارخون أمامه معلنين مجيئه: "اِبتَهِجي جِدّاً يا بِنتَ صِهْيون وآهتِفي يا بنتَ أُورَشَليم هُوَذا مَلِكُكَ آتِياً إِلَيكِ " ( زكريا 9: 9) ولم يتردد صفنيا النبي ان يهتف قائلا "هَلِّلي يا بِنتَ صِهْيون إِهْتِفْ يا إِسْرائيل إِفرَحي وتَهَلَّلي بِكُلِّ قَلبِكِ يا بِنتَ أُورَشَليم" (صفنيا 3: 14) وذلك في سياق الوعد الالهي بالخلاص. إنها الكلمة الاولى التي يوجّهها الله الى العالم، يوجّهها إلى مريم في اليوم الذي أتى فيه لهذا العالم.  مريم هي بنت صهيون الحقيقية المطلوب منها ان تتكلم باسم الشعب لقبول الوعد. فحدث البشارة هو حدث نعمة وفرح، يبدأ مع مريم لكي ما يتحقّق بملئه بالمسيح المولود منها ويطال البشريّة بأسرها. وأمَّا عبارة "أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً" فتشير الى لقب أطلق على مريم، ولم يردْ في الكتاب المقدس الا في رسالة بولس الى أفسس "لِلتَّسْبيحِ بِمَجدِ نِعمَتِه الَّتي أَنعَمَ بِها علَينا في الحَبيب" (افسس1: 6).  ولا يعني هذا اللقب بإنعام عليها ما كان لها من الصفات الحسنة بل النعمة التي وهبها الله لها باختياره إياها أما للمسيح المخلص. ويعلق القديس أمبروسيوس "مريم وحدها التي دُعيت بحق ممتلئة نعمة، إذ نالت وحدها هذه النعمة التي لم ينلها أحدٌ غيرها قط، ان يملأها صانع النعمة". انفردت العذراء بدعوتها "الممتلئة نعمة"، إذ وحدها نالت النعمة التي لم يقتنها أحد غيرها، إذ امتلأت بمواهب النعمة. وأمَّا عبارة "الـمُمتَلِئَةُ" في الأصل اليوناني   κεχαριτωμένη (معناها المُنعم عليها بشكل فائق) فتشير الى صيغة المجهول أي الى الله الّذي ملأها نعمةً. أمَّا كلمة "نعمة" فتدل في العهد القديم اليوناني على حظوة الملك (1 صموئيل 16: 22) ثم على حُب الحبيب (أناشيد 8: 10). ولذلك فإنَّ مريم نالت نعمة الرب وحبَّه. وأمَّا عبارة "الرَّبُّ مَعَكِ" فتشير الى دعاء يتضمن كل البركات لكون الرب مع أحد من الناس يحقِّق له الحماية والنجاح والسعادة والقداسة كما كان لإبراهيم ويوسف ودانيال. وهو دعاء مألوف لتشجيع مريم المدعوة لحمل رسالة الرب وتحمل مسؤوليتها مثل موسى (خروج 33: 12) وجدعون (قضاة 1: 8) وارميا (6: 12). إنَّ الله معهم حيثما اتجهوا (تكوين 28: 15) ولكن مع مريم بشكل فريد. ويقول بولس الرسول: "إِذا كانَ اللّهُ معَنا، فمَن يَكونُ علَينا؟" (رومة 8: 31).

 

29 فداخَلَها لِهذا الكَلامِ اضطرابٌ شَديدٌ وسأَلَت نَفسَها ما مَعنى هذا السَّلام؟

 

تشير عبارة "داخَلَها لِهذا الكَلامِ اضطرابٌ شَديدٌ" الى كلام الملاك الذي أنشا اضطراب في افكار مريم لأن سلامه كان مبهما عندها وغريبا عن سمعها، إذ أشْعَرها بدعوتها الفريدة حيث لم تدرك حالا بُعدَ دعوتها ولا كيف ستحدث. واما عبارة "سأَلَت نَفسَها ما مَعنى هذا السَّلام" فتشير الى مريم التي أخذت تفكّر في بلاغ الملاك وتحاول فَهم سر هذا الوحي الذي لم تكن تتوقعه وتنتظره إذ هنَّأها ببركة عظيمة ولم يبيِّن لها موضوع التهنئة.

 

30 فقالَ لها الـمَلاك: ((لا تخافي يا مَريَم، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله)).

 

تشير عبارة "فقالَ لها الـمَلاك" الى سماع مريم صوت الملاك ولم يقُل لنا الإنجيلي أنها رأت ملاكاً، كما قيل عن الكاهن زكريّا الذي رأى الرؤيا (لوقا 1: 12). لقد سمعت مريم كلام الملاك فاضطربت؛ أمَّا عبارة " لا تخافي يا مَريَم، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله " فتشير الى كلام الملاك الى مريم مُبيِّناً انه أرسل اليها بشيرا لا نذيرا فأزال به خوفها، وسكَّن اضطرابها. الخوف من الله يجعل الانسان يتوارى عن نظره كما كان الامر مع آدم وحواء (التكوين 3: 10). يخاف الانسان من كل ما قد يطلبه الله منه، في حين لا يفتّش الله إلاّ عمّا يعطيه إيّاه. أمَّا عبارة "لا تخافي" فتشير الى إحساس مريم بحضور يفوقها أمام الظواهر المهيبة والخارقة للعادة.  والخوف هنا هو ردّ فعل مريم أمام حالات الظهور الإلهي: كخوف جد عون (قضاة 6: 22-23) وأشعيا (6: 5)، والخوف هي كلمة محوريّة في الإنجيل تردَّدت نحو 350 مرة في الكتاب المقدس.  وليس المقصود منها ان حياة مريم تكون سهلة ودون تضحيات، بل المقصود منها الثقة بالله وبقدرته. وهذه العبارة يوجّهها الملاك عبر مريم الى كلّ تلميذ، يدعوه للثّقة والاستسلام بين يدي الله. أمَّا عبارة "حُظوَةً " في الأصل اليوناني χάριν (معناها نعمة) فتشير الى تشديد لوقا الإنجيلي على الفرح والنعمة التي هي رسالة لاهوتيّة مسيحانيّة لا مريمية فحسب، وتسيّر النّص بأسره، وتختصر حدث البشارة السارة. لقد نالت مريم عند الله بإيمانها وطاعتها، اختيارا ونعمة خاصتين.

 

31 فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يَسوع.

 

تشير عبارة " فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً " الى إنباء عن المواليد في اسفار العهد القديم، كما هو الحال في ولادة اسحاق (تكوين 17: 19). وبهذه الآية تشير الى اوان تحقيق نبوءة أشعيا القائل: "إِنَّ العذراء تَحمِلُ فتَلِدُ آبناً وتَدْعو آسمَه عِمَّانوئيل" (أشعيا 7: 14). وعد الملاك لمريم بابن كوعده لزكريا، لكن وعده لمريم امتاز عنه لان ما كان لزكريا إنما تمَّ بوسائط طبيعية، وأمَّا ما كان لمريم فتمَّ بوسائط خارقة الطبيعة، وكان ابن زكريا انساناً كسائر الناس واما ابن مريم فكان ابن الانسان وابن الله. ويعلق القدّيس إيف الكرتوزيّ "لقد أصبح اليوم حشا العذراء بابًا للسماء الّذي من خلاله نزل الرَّبًّ إلى البشر ليصعدهم إلى السماء". وننشد مع تسبيحة الكنيسة “من أجل حواء أغلق باب الفردوس.  ومن قبل مريم العذراء فتح لنا مرة أخرى" ولد يسوع من أمرأه لكي يشترك في الطبيعة البشرية " فلَمَّا تَمَّ الزَّمان، أَرسَلَ اللهُ ابنَه مَولودًا لامرَأَةٍ، مَولودًا في حُكْمِ الشَّريعةْ" (غلاطية 4: 4)، ويُعلق القديس أثناسيوس معلم الكنيسة "هي حقًّا الطَّبيعةُ البَشَريَّةُ التي وُلِدَتْ من مريم، بحسبِ ما جاءَ في الكتابِ المقدَّسِ، وجَسَدُ الرَّبِّ هو جَسَدٌ حقيقيٌّ. إنَّه حقيقيٌّ لأنَّه نَفْسُ جَسَدِنا. ومريمُ هي أختُنا، بما أنّنا وُلِدْنا جميعًا من آدم".  أمَّا عبارة " يَسوع " الصيغة العربية للاسم العبري יֵשׁוּעַ (معناها الله مخلص) فتشير الى يسوع المُخلص كما بشّر الملائكة الرعاة (لوقا 2: 11)؛ وقد تسمى يسوع حسب قول الملاك ليوسف (متى 1: 21)، ولمريم (لوقا 1: 31).  وهكذا تكون ابعاد اسم المسيح الله معناُ ليخلصنا، "هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم"(متى 11: 21). "لا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص" (اعمال الرسل 4: 12). وهذا الاسم يسوع يحمل صفات المُخلص، كالسلطة (يشوع بن نون) والقدرة (اليشاع النبي) والرحمة (هوشع النبي) والقداسة (أشعيا) والحكمة (يشوع بني سيراخ). وهكذا تصوّر الآية رسالة يسوع بصورة المسيح التقليدية كما ورد في أشعيا " فلِذلك يُؤتيكُمُ السَّيِّد نَفْسُه آيَةً: ها إِنَّ الصَّبِيَّةَ تَحمِلُ فتَلِدُ آبناً وتَدْعو آسمَه عِمَّانوئيل" (أشعيا 7: 14). ويسوع هو اسمه الشخصي وورد على الأكثر في الأناجيل، أمَّا المسيح فهو لقبه. وقد وردت عبارة "الرب يسوع المسيح " نحو 50 مرة في العهد الجديد. ويسوع المسيح أو المسيح يسوع، نحو مئة مرة. بينما وردت كلمة المسيح مرتبطة بالمخلص " وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ " (لوقا 2: 11). ويسوع المسيح، والرب يسوع المسيح وردت في سفر الأعمال والرسائل.  وُلد يسوع قبل موت هيرودس الكبير (متى 2 :1) في بيت لحم، مدينة داود، وقضى صباه في الناصرة حيث مارس مهنة النجارة. وتذكر الأناجيل سفرة يسوع إلى أورشليم في ذاك الوقت (لوقا 2 :). ودامت حياة يسوع العلنيّة ثلاث سنوات وبضعة أشهر.

 

32 سَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود

 

 تشير الآية "سَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود" الى نبوءة النبي ناتان الموجَّة الى داود وتطبيقها على ميلاد يسوع حيث يتمُّ وعد الله الذي اعطاه لداود بعرش وملكوت لا نهاية لهما. أمَّا عبارة "سَيكونُ عَظيماً" فتشير الى تحقيق نبوءة أشعيا "اهتِفي وآبتَهجي يا ساكِنَةَ صِهْيون فإِنَّ قُدُّوسَ إِسْرائيلَ في وَسْطِكِ عَظيم" (أشعيا 12: 6)، وأنبا الملاك مثل ذلك في شان يوحنا المعمدان "لِأَنَّه سيَكونُ عَظيماً أَمامَ الرَّبّ، "(لوقا 1: 15)، ولكن عظمة يسوع فاقت يوحنا، لان عظمة يوحنا كانت هبة من الله وعظمة المسيح كانت ذاتية.  وتقوم عظمة يسوع على طبيعته الإلهية انه ابن العلي، وتسلسل طبيعته البشرية من أعظم الملوك إذ إنه من بيت داود، وان دوام ملكه للأبد "وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية". أمَّا عبارة "ابنَ" فتشير الى النعت التقليدي المُطلق على الملك ابن داود. وبهذا يكون يسوع قد حقَّق الوعد الذي قطعه الرب لداود بقوله "اقيمُ مَن يَخلُفُكَ مِن نَسلِكَ الَّذي يَخرُجُ مِن صُلبكَ" (2 صموئيل 7: 14). أمَّا عبارة "ابنَ العَلِيِّ" فتشير الى يسوع الذي هو ابن داود بحسب الجسد، هو ابن الله بحسب الروح (رومة 1: 4) وأمَّا عبارة "العَلِيِّ" فتشير الى الله، فهذا اللقب مألوف في الكلام على الله في الادب اليوناني وفي العهد القديم (التكوين 14: 18-20؛ العدد 24: 16، تثنية الاشتراع 32: 8، مزمور 86: 75). ولا يستعمل في العهد الجديد الاَّ في لوقا (لوقا 1: 35، وأعمال الرسل 7: 84). وتوضح هذه الآية اجابة الملاك على تساؤل مريم بان الله هو الآب لهذا الابن المزمع ان يُولد منها.

 

33 ويَملِكُ على بَيتِ يَعقوبَ أَبَدَ الدَّهر، وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية

 

تشير عبارة "يَملِكُ على بَيتِ يَعقوبَ أَبَدَ الدَّهر" الى إتمام هذا الوعد لمَّا جاء يسوع من نسل داود مباشرة ليستمر مُلك داود الى الابد. ويملك يسوع اولا على شعبه في شخص يعقوب أي الشعب اليهودي ثم ينتقل الى الامم "نوراً يتجلى للوثنيين" (لوقا 2: 32). وهكذا ينتقل النص من الخلاص الى اليهود الى نظرة شاملة للخلاص العالم كله.  ومن هذا المنطلق ليس المراد ببيت يعقوب نسل إسرائيل الجسدي بل كل نسل إسرائيل الروحي وهو كل أولاد إبراهيم بالإيمان وهذا يشتمل على اليهود والامم معاً، أي يضم شعب الله في كل زمان ومكان. أمَّا عبارة "يَعقوبَ" في الأصل اليوناني Ἰακὼβ مشتق من اسم عبري יַעֲקב (معناها يعقب، يمسك العقب، يحل محل) فيشير الى أحد الآباء الثلاثة الكبار للعبرانيين. وهو ابن اسحق ورفقة وتوأم عيسو. واخذ يعقوب بركة أبيه بدلاً من عيسو (التكوين 27). وأصبح وارث المواعيد. وتزوج راحيل وليئة، ووُلد له من امرأتيه وسريتيه أحد عشر ابناً وابنة (التكوين 31). وعند نهر يبوق - فنيئيل (وادي زرقاء )، باركه الله ودعي اسمه إسرائيل  وقال له: "لا يَكونُ آسمُكَ يَعْقوبَ فيما بَعْد، بل إِسْرائيل، لأَنَّكَ صارَعتَ اللهَ والنَّاسَ فغَلَبتَ" (التكوين 32: 29). ثم اتجه يعقوب إلى أرض كنعان (تكوين 33: 1-18). واشترى أرضاً عند شكيم (تكوين 33: 18-20). وأتى إلى بيت ايل ثم الى إفراته (بيت لحم) حيث وُلد ابنه الثاني عشر والأخير بنيامين، فماتت زوجته راحيل (التكوين 35: 16-20). ثم ارتحل إلى حبرون وقابل أباه اسحاق. وكان عمر بعقوب عند وفاته 147 سنة. وجاء يوسف وأخوته إلى حبرون بجثمانه ابيهم يعقوب ودفنوها في مغارة مكيفلة (تكوين 50: 1-14). وقد اعترف في أواخر حياته ضمناً بأخطائه، وإخفاقه في السير أمام الله. ولكنه في النهاية أدرك سر النعمة الإلهية (تكوين 48: 15 -16). واستمد قوة من إيمانه الثابت بالله (تكوين 48: 21). اما عبارة "بَيتِ يَعقوبَ" فتشير الى أطلاق أسم يعقوب وإسرائيل على كامل أمته (تثنية الاشتراع 33: 10 ومزمور 14: 7).  أمَّا عبارة " َلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية" فتشير الى وعد الله الى الملك داود أن يدوم ملكه الى الابد بقوله:" يَكونُ بَيتُكَ ومُلكُكَ ثابِتَينِ لِلأبدِ أمام وَجهِكَ، وعَرشُكَ يَكونُ راسِخًا لِلأَبَد" (2صموئيل 7: 16)، وقد تمَّ هذا الوعد من خلال يسوع الذي جاء يسوع من نسل داود مباشرة ليستمر مُلك داود الى الابد، إذ “رَفعَه اللهُ بِيَمينِه وجَعَلَه سَيِّدًا ومُخَلِّصًا " (اعمال الرسل 5: 31) وجعل ملكه لا نهاية له لان المسيح لا يضطر الى ترك مملكته بالموت كملوك البشر. وهكذا ينتقل الخلاص لليهود الى نظرة شاملة للخلاص العالم كله.

 

34 فَقالَت مَريَمُ لِلمَلاك: " كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلاً؟

 

تشير عبارة "كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلاً؟" الى سؤال مريم العذراء الذي لا يدلُّ على شك او عدم ايمان كما حدث في سؤال زكريا الكاهن (لوقا 1: 18)، لأنها لا تسال كبرهان على صحة الوعد كما سأل زكريا لكنها فهمت انها تلد ولدا بلا زواج. فسالت بكل احترام كيف يجب ان أتوقع إتمام هذه الوعد الفريد الذي لم اعرف الكتب المقدسة إنسانا ناله؟  سؤالها يدل على ايمان يحاول ان يكشف النور حول سر ولادة يسوع: " كَيفَ يَكونُ هذا (أي حملها للمخلّص الملك) وأنا وَلا أَعرِفُ رَجُلاً؟" مع أنها مخطوبة وقد "كُتب كتابها" اي تمّ عقد زواجها حتى قبل التساكن مع الخطيب مار يوسف. يعني سؤالها أو اعتراضها هو تصميمها على البتولية أو العذريّة. ويُعلق القدّيس إيف الكرتوزيّ " أيوجد عمل قوّة أكبر من أن تحبل العذراء مناقضةً قوانين الطبيعة؟". وُلد يسوع من عذراء لكي يكون مميَزا عن غيره من الناس بولادته كما يليق بمقامه، ولكيلا يكون شريكا في طبيعة آدم الخاطئة كما وجب ان يكون لو وُلد ولادة طبيعية؛ اما عبارة "لا أَعرِفُ رَجُلاً؟ فتشير في إطار الكتاب المقدس الى اقامة علاقة زوجية (تكوين4: 1). أكملت مريم الاستفسار، كيف يمكن لمن لا تعرف رجلاً أن تحبل؟ وعليه اعترضت مريم بان ليست لها علاقات زوجية مع يوسف وأنها عذراء (لوقا 1: 27).  أراد لوقا الإنجيلي ان يُشدِّد على عذرية مريم ليعلن أن السيد المسيح ليس من زرع بشر.

 

35 فأَجابَها الـمَلاك: "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى

 

 تشير العبارة "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى" الى اول اعلان واضح في الكتاب المقدس للثالوث: الآب يظلل العذراء بقدرته، الروح القدس ينزل عليها، الابن يتجسَّد في أحشائها. فالله نفسه هو من تجسّد في أحشاء مريم، دون أيّ تدخّلٍ بشري. أمَّا عبارة "الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ" فتشير الى الروح القدس هو الذي يُجري عمل الله الخالق كما كان في بداية الخليقة (تكوين 1: 2). فمعنى كلام الملاك ان الولد يُخلق بقدرة الله راساً وان حبلها به معجزة.  ومن هذا المنطلق، فإنَّ التجسد ليس حلولا في جسد سابق الوجود، بل هو خلق جسد انساني دون زرع بشري، فكان لا بدَّ من حلول الروح القدس على العذراء ليُولد المسيح. دور الروح القدس هو حماية مريم وتغطيتها في مسؤوليتها بان تعطي الله للعالم.  أمَّا عبارة "قُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ" فتشير الى حضور الله في وسط شعبه بقوّته تعالى المرافقة للشعب في خروجه من أرض العبوديّة (خروج 40: 34-35)، وتشير أيضا الى حضور الآب السماوي لدى تجلي المسيح امام تلاميذه "ظهَرَ غَمامٌ ظَلَّلهُم" (لوقا 9: 34). لم تؤخذ مريم في النار ولا في النور، إنما في ظل الروح القدس. "الظل حسب القديس يوحنا الصليب، هو حقاً أحد أسماء الروح القدس الذي يظلّلنا ويحيط بنا". ومن هذا المنطلق تشير هنا عبارة " قوة العلي انه ليس المراد بالروح القدس مجرد الاقنوم الثالث من الثالوث الاقدس. أمَّا عبارة "الـمَولودُ" فتشير الى المسيح الذي هو "ابن الله" ليس من وجهة النظر الجسدية كما يفهم من الكلمة "المولود"، إنما يُفهم به كتشبيه يُعبر عن مقدار المحبة والتعاون والتساوي في الطبيعة بين الاقنوم الأول (الآب) والاقنوم الثاني (الابن) في الثالوث الأقدس. ويعلق القديس أثناسيوس معلم الكنيسة "لَمَّا بَشَّرَها الملاكُ جِبرائيلُ ٱختارَ الألفاظَ بِحَذَرٍ وفِطْنَةٍ، فَلَمْ يَقُلْ "المَولودُ فيكِ"، حتَّى لا يُظَنَّ أنَّه يأتِيها من الخارج، بل "المولودُ مِنكِ"، ليُفهَمَ أنَّ المولودَ مِنها وَحدَها وُلِد". أمَّا عبارة "قُدُّوسً" في الأصل اليوناني ἅγιον (معناها المنزَّه عن كل خطيئة) فتشير الى القداسة التي هي ميزة الله الخاصة (مزمور22: 4). وفي العهد الجديد اول اعتراف بألوهية المسيح بعد العنصرة كان بكلمة "قدوس" تفوَّه بها بطرس لليهود "أَنكَرتُمُ القُدُّوسَ" (اعمال الرسل 3: 14). وبالرغم من كون يسوع من جنس آدم لحما ودما، لكنه وُلد بلا خطيئة كرئيس لجنس جديد، ولم يخطأ ابداً كما جاء في تعليم بولس الرسل "ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة" (2 قورنتس 5: 21). أمَّا عبارة "ابنَ اللهِ" فتشير الى يسوع المولود الذي هو ابن الله قبل ان يتجسَّد لكونه أزليا " في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله" (يوحنا 1: 1)، ولأنه ابن الله منذ الازل. وابن الله الأزلي حلَّ في جسد بشري، وولادته الخارقة دليل للناس على انه ليس إنسانا مجرداً بل هو ابن الله العلي أيضا. وأطلق هذا اللقب على المسيح (مزمور 2: 7 ويوحنا 1: 49)، دلالة على العلاقة القوية المتينة بين ألآب السماوي والابن الأزلي. وقد اُستعمل هذا اللقب في العهد الجديد ما يقارب من 44 مرة عن يسوع المسيح. وهذا اللقب يدل على سر يسوع بكامله، على بنوته الإلهية. ويعلق القديس أثناسيوس معلم الكنيسة “مع أَنَّ الكَلِمَةَ أخَذَ جَسَدًا مِن مريم، فالثالوثُ الأقدس بقِيَ هو هو، من غيرِ إضافةٍ ولا نُقصان. هو دائِمُ الكمالِ، إلهٌ واحدٌ فقط. وهكذا تُعَلِّمُ الكنيسةُ: إلهٌ واحِدٌ أبو الكَلِمَة، وَلَدَ الكَلِمة مُنذُ الأَزل". وتدعم كلمات الملاك البنوة الإلهية للطفل المولود من مريم على كونه حُبل به من الروح القدس. ولوقا يجعل من هذه اللقب تعبيرا عن الصلة الخفيَّة التي تربط يسوع بالله. ولا يوضع هذه اللقب في إنجيله على لسان البشر، بل على لسان الآب (لوقا 3: 22) وعلى لسان الملائكة (لوقا 1: 35)، وعلى لسان الارواح الشيطانية (لوقا 4: 3) وعلى لسان يسوع نفسه (لوقا 10: 22، يوحنا 5: 17-47 و10: 36 و11: 4)، وعلى لسان الرسل (أعمال الرسل 9: 20 ،1 يوحنا 3: 8) وعلى لسان بولس الرسول (غلاطية 2: 20). والمسيح بما أنه ابن الله فهو إله بكل الكمالات غير المحدودة التي للجوهر الإلهي (يوحنا 1: 1-14)، والابن مساو لله في الطبيعة (يوحنا 5: 17-25)؛ واستخدم هذا اللقب "ابن الله" عن المسيح بنوع خاص في التحدث عن عمل الفداء العظيم الذي أجراه، فهو النبي الأعظم (العبرانيين 1: 2)، وهو الكاهن الأعظم (العبرانيين 5: 5)، وهو الملك العظم (العبرانيين 1: 8).  والبراهين على أن المسيح هو ابن الله الأزلي كثيرة في العهد الجديد، فعند معمودية المسيح جاء صوت من السماء قائلاً: "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ" (متى 3: 17) وقد جاء الصوت بنفس هذه الكلمات عند تجلي المسيح "هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ"(متى 17: 5).  وإن اعمال الرسل وأعمال المسيح المُعجِزة لهي براهين قوية على أنه ابن الله بواسطة القيامة من الأموات (رومة 1: 4) وبصعوده إلى السماء (عبرانيين 1: 3). باختصار تصور هذه الآية صورة ابن الله المثالي كما جاء في تعليم بولس الرسول "جُعِلَ ابنَ اللهِ في القُدرَةِ، بِحَسَبِ روحِ القَداسة، بِقِيامتِه مِن بَينِ الأَموات، أَلا وهو يسوعُ المسيحُ ربّنا." (رومة 1: 4). وباختصار، كشف الملاك سر يسوع الذي هو ابن الله ومسيح شعبه مؤكدا شخصية يسوع أنه هو الله بالذات.

 

36 وها إِنَّ نَسيبَتَكِ أَليصابات قد حَبِلَت هي أَيضاً بِابنٍ في شَيخوخَتِها، وهذا هو الشَّهرُ السَّادِسُ لِتِلكَ الَّتي كانَت تُدعى عاقِراً.

 

تشير عبارة "وها إِنَّ نَسيبَتَكِ أَليصابات قد حَبِلَت هي أَيضاً بِابنٍ في شَيخوخَتِها" الى العلامة التي أعطاها الملاك جبرائيل من تلقاء نفسه الى مريم، وهي ان اليصابات حبلى لكي تتحقق صحة كلامه. استطاع الرّب العمل في الحشا الميت، فكيف لا يعمل الرّوح في الحشا البتول؟ امَّا عبارة "نَسيبَتَكِ" فتشير الى نسبة اليصابات الى مريم رغم من ان اليصابات من سبط لاوي، وذلك إمَّا كون امُّ اليصابات كانت من سبط يهوذا لان الكهنة (زكريا زوج اليصابات) لم يكونوا ممنوعين من ان يتزوجوا نساء من غير سبطهم بدليل ان امرأة هارون كانت من سبط يهوذا (خروج 6: 23)، وإمَّا ابُ مريم الذي هو من سبط يهوذا اخذ امرأة من سبط لاوي. أمَّا عبارة "أَليصابات" في الصيغة اليونانية Ἐλισάβετ لاسم لفظه في اللغة العبرية אֱלִישֶׁבַע (معناها الله قسم) فتشير الى اسم امرأة تقية من سبط لاوي ومن بيت هارون. واسمها هو نفس اسم امرأة هارون. وكانت اليصابات هذه زوجة زكريا وصارت فيما بعد أم يوحنا المعمدان الذي ولدته في شيخوختها. ومع أنها كانت من سبط يختلف عن السبط الذي جاءت منه مريم في الناصرة إلا أنهما كانتا قريبتين. وقد زارت العذراء مريم اليصابات في أرض يهوذا الجبلية. وقد أوحي إلى اليصابات بالروح القدس فرحبت بمريم داعية إياها "مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟"(لوقا 1: 45). اما عبارة "الشَّهرُ السَّادِسُ" فتشير الى الفرق بين عمر يوحنا المعمدان وعمر يسوع.

 

37 فما مِن شَيءٍ يُعجِزُ الله

 

تشير عبارة "فما مِن شَيءٍ يُعجِزُ الله" الى جواب الملاك جبرائيل لسؤال مريم مما أزال كل اضطرابها وبدَّد كل ريب من أفكار الناس في شان التجسّد ونفى كل شك في امر إتمام الله مواعيده، لان الله غير محدود في قدرته يجري ما يشاء، وليس مرتبط بالنواميس الطبيعية. وهذا القول نفسه استُخدم للدلالة على حبل سارة العجائبي بإسحاق، إذ يقول الملاك الى إبراهيم "هَل مِن أَمْرٍ يُعجِزُ الرَّبّ؟" (تكوين 18: 14)؛ من صار تلميذ الرّب لا يخاف المستحيل، فالله هو سيد المستحيل، ليس عليه أمر عسير، أنه قادر ان يحوّل عقمنا الى حياة، ومرارتنا الى رجاء، ويطهّر جسدنا المهشّم بالخطيئة ويجعله هيكلاً لحلول الرب. وهكذا ستلد مريم ابنا وتبقى عذراء، إذ "فما مِن شَيءٍ يُعجِزُ الله"، منشدة " أَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة: قُدُّوسٌ اسمُه" (لوقا 1: 49).

 

38 فَقالَت مَريَم: أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ. وَانصرَفَ الـمَلاكُ مِن عِندِها

 

تشير عبارة "أَنا أَمَةُ الرَّبّ" الى جواب مريم تعبيراً عن هبة نفسها كليّاً كخادمة للرب، وتسليمها الى إرادة الله واستعدادها لتقبل النعمة وايمانها بما وُعدت به وبعناية الله بها وتكريس ذاتها وطاعتها وتواضعها بدليل تسمية نفسها "أَمَةُ الرَّبّ". العذراء تصف نفسها أمة للرب مع أنها اختيرت أما له. العالم كله وليس فقط الملاك جبرائيل إنتظر جواب مريم. فلا عجب قول اليصابات عن مريم" طوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ" (لوقا 1: 45)؛ ويعلق القديس برناردس على عن جواب مريم "أيتها العذراء المباركة، افتحي للإيمان قلبك، وللرضى شفتيك، وللخالق احشاءك، عليك يتوقف عزاءُ المعذّبين، وفداءُ المأسورين، وحرية المحكوم عليهم، وأخيرا خلاص جميع أبناء آدم، والجنس البشري الذي أنت منه" (العظة 4: 8-9). آمنت مريم بكلمات الملاك وقبلت ان تحمل الطفل حتى في الظروف بشرية مستحيلة على العكس ردود فعل سارة أمرأه ابراهيم التي ضحكت (التكوين 18: 9-15) وزكريا الذي شكَّ (لوقا 1: 18)، واختلق أعذاراً "أنا شيخ كبير، وامراتي طاعنة في السن". مريم ظلّت منذ البشارة وحتى النهاية، تردّد "نَعمَ" فتطيع وتسير في ليل الإيمان والمحن، إيمان يتجدّد ويكبر وينضج ويتفتّح عبر الصراعات والتجارب والالام. اما عبارة " فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ " فتشير الى مريم التي أصبحت أداة خاضعة بين يدي الله بملء حريتها للمشاركة في مخطط حب الله ""حَيثُ يَكونُ رُوحُ الرَّبّ، تَكونُ الحُرِّيَّة" (2 قورنتس 3: 17). قالت مريم كلمتها الإنسانية "نعم" وحملت بالكلمة الإلهية، يسوع المسيح. ويُعلق القديس برنادس "بكلمتك الموجزة رُمَّمت طبيعتُنا وعُدنا الى الحياة" (العظة 4: 8-9). فإن الله قادر ان يعمل المستحيل، إنه إله المستحيلات. فينبغي ان نتجاوب مع ما يطلبه الله لا بالضحك او بالخوف او بالشك بل بإيمان واعٍ وطاعة ومحبة. وقد شهدت اليصابات على ايمان مريم بقولها: "طوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ (لوقا 1: 45). وبذلك ادَّى خضوعها وطاعتها الى خلاصنا. أنقبل بأن نؤمن بالوعد استناداً إلى كلام الله وحده؟

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 1: 26-38)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (لوقا 1: 26-38) نستنتج انه يتمحور في نقطتين: دور العذراء في حدث بشارة الملاك جبرائيل في الناصرة، والنقطة الاخرى ايمان مريم في البشارة كنموذج لإيماننا.

 

اولا: دور العذراء في سر البشارة في الناصرة

 

شهدت مغارة البشارة في الناصرة تحية الملاك جبرائيل، إذ نزل رئيس الملائكة، من عند عرش الله الى الناصرة ليحيِّ العذراء مريم، المُنعم عليها. فكانت لحظة دعوة واختيار، مقدسة للسماء والأرض. مريم اختيرت لتكون والدة ابن الله كما أعلن الملاك جبرائيل "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى" (لوقا 35:1). تدخل الله ذاته في التاريخ وفي حياة هذه الفتاة الناصرية المتواضعة، مُحقِّقاً بذلك أمراً جديداً: عهدا جديدا وأعجوبة جديدة وخلاصا جديدا، يتمثل في حضور الله وتجسّده وعيشه بيننا. أَعطَتْ مريم ابن الله مسكنا في أحشاها، فصارت "مُبارَكَة في النِّساء!". فأعطاها الله مكانًا أن تكون "أُمُّ رَبِّي؟" كما هتفت اليصابات (لوقا 1: 42) وهذا لن يحظى به امرأة إلى الأبد.

 

هذا الحدث لم ينحصر بشخص مريم وأنتهي في قولها "فليكن لي بحسب قولك"، بل انطلق ليعطي النعمة للبشريّة بأسرها. حدث البشارة هو إنجيل مصغّر، يحتوي على قصة الله مع شعبه، ويعلن بشرى فرح ونعمة. هي النعمة الأزليّة، كلمة الله الأزلي حلّت في أحشاء مريم لتُعطي الخلاص للأمم بأسرها. لم يأتِ الله في سحابة كعلامة لحضوره بين البشر بل أتي بنفسه. أتي الله ليسكن في احشاء مريم وفي هيكل لم تصنعه أيدٍي بشرية. اتى يسكن في هيكل مكوّن منا نحن البشر أي في حياتنا وأجسادنا.

 

الهدف من خلال البشارة كان تحضير الانسان العاقل والحر حتى يتقبَّل بإيمانه وطاعته كلمة الرّب التي توجَّه إليه. ولذلك فإنّ مريم هي مثال لنا بعقلها المستنير التي تسعى الى معرفة الله وتمييز إرادته بكل حرية وقواها، لا الرّوحيّة فحسب، بل العقليّة أيضًا.

 

صارت مريم في حدث البشارة معلمّة لنا في استخدامها لعقلها ولفكرها بحرّيتها، وبتمييزها للخضوع لإرادة الله. وعلمت أن ما يتمّ معها من قبل الله يتخطّى قوى عقلها وإدراكها، فخضعت بطاعة الإيمان، واثقة أن الله يُهيئ لها النصيب الأفضل. وجعلت ذاتها "أمة لله" حين علمت أن ما يحدث معها هو مستحيل، ولكنّها في علاقة مع الله، إله المستحيلات" فما مِن شَيءٍ يُعجِزُ الله" (لوقا 1: 37).

 

واضطراب مريم هو صورة لاضطراب بشريّتنا إزاء المستحيل، فكم من مرّات نتساءل "كيف يكون هذا؟"، ونشكّك في قدرة الله على العمل في حياتنا؟ مريم تعلّمنا أن نقبل إله المستحيل، فما من شيء لديه مستحيل. مريم فالإنسان مخلوق على صورة الله، يميّزه عقله عن سائر المخلوقات، وبحريّته يقدر أن يقبل مخطّط الله أو أن يرفضه. ومريم هي ضمانة قيمة فكرنا والتزامنا وقبول مخطط الله علينا. لله مخطط لكل واحد منا.

 

كيف يمكن لمن لم تعرف رجلاً أن تحبل؟ وهو سؤالنا اليوميّ نحن الّذين يدعوهم المسيح الى الاشتراك معه في خلاص العالم: كيف يمكن لي أنا الضعيف الخاطئ أن اكون تلميذ المسيح؟ وكيف يمكن للإنسان المُجرّب المتألّم أن يحمل في داخله بشرى الخلاص؟ وكيف لي، أنا الّذي تملأ حياتي الآلام والمشاكل أن أبشرّ بإنجيل الفرح والرّجاء؟ جواب الملاك لمريم هو أن عمل الرّوح القدّس الّذي جعل البتول تحمل المسيح هو جواب لنا نحن ايضاً: الرّوح القدس هو القادر على تحويل حياتنا، ويجعلنا هياكل له مقدّسة، لنحمل يسوع بالرّوح كما حملته مريم بالجسد، ونستحقّ أن نكون له تلاميذ ونتمم مخطط الله علينا. إنجيل البشارة هو مدرسة انجيل.

 

ثانيا: ايمان مريم في البشارة نموذج لإيماننا.

 

في مغارة البشارة في الناصرة حيّا الملاك مريم الناصرية على انها الممتلئة نعمة، وهنا قالت "نعم" مسلِّمة ذاتها لإرادة الله. إن كلمة "نعم" الحرّة لمريم سمحت للرب التدخل في تاريخنا فأتى بنفسه وشخصه فأصبح واحد منَّا ومعنا كما تنبأ أشعيا " يُؤتيكُمُ السَّيِّد نَفْسُه آيَةً: ها إِنَّ الصَّبِيَّةَ تَحمِلُ فتَلِدُ آبناً وتَدْعو آسمَه عِمَّانوئيل " (أشعيا 7: 14) يعلن النبي الاورشليمي اية الرب المزدوجة: الأولى: بتول تحمل وتلد طفلا. والثانية: هذا الطفل هو عمانوئيل أي الله معنا، لكي نكون نحن معه. ويطبق متى الإنجيلي هذا النبوءة على مريم العذراء بقوله " ها إِنَّ العَذراءَ تَحْمِلُ فتَلِدُ ابناً يُسمُّونَه عِمَّانوئيل أَيِ اللهُ معَنا " (متى 1: 23). بتجسد كلمة الله في احشاء مريم جعل الله من التّاريخ العالمي تاريخا مُقدَّسا.

 

وأصبحت العذراء بقوة الروح القدس امَّ الكلمة الإلهي. فصارت مريم معلمّة لنا في الإيمان. كما جاء على لسان البابا القديس بولس السادس "مريم تعلمنا كيف نعيش ايماننا. تعلمنا ان ننظر، وان نوازن بين الامور، وان ننفُذ الى المعنى الحقيقي والسري لظهور ابن الله، الذي هو غاية في البهاء وغاية في التواضع والبساطة" (عظته لدى زيارته الناصرة عام 1964).

 

سمعت مريم وعدا عجيبا من الله؛ وهو ان تكون أمَّا لابن هو مسيح الرب كما بشَّرها الملاك "فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يَسوع" (لوقا 1: 31). كان وعد الله امرا غير متوقع حوّل مسار حياتها اليومية وأقلق رتابة حياتها وتطلعاتها العادية وبدا وعد الله لها امرأً عسيرا "كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلاً؟" (لوقا 1: 34).  لكن الملاك جبرائيل يُطمْئن مريم العذراء بإعطائها علامة: "ها إِنَّ نَسيبَتَكِ اليصابات قد حَبِلَت هي أَيضاً بِابنٍ في شَيخوخَتِها" (لوقا 1: 36). تعلمنا مريم بإيمانها ان " ما مِن شَيءٍ يُعجِزُ الله" (لوقا 1: 37). فالإيمان يكمن هنا بالتصديق بأن يد الله الخفية لا زالت تعمل حيث لا يصل الإنسان: يأتي ليخلق حياة في أحشاء اليصابات العاقر (لوقا 1: 36)، وفي أحشاء مريم التي لا تعرف رجلاً (لوقا 1: 34). الإيمان هو الاتكال على نعمة الله، والثقة به تعالى من دون أن نتصرف لوحدنا متكلين فقط على عقلنا وإدراكنا وقوانا.

 

ويُطلب من مريم ان تقول نعم لأمر لم يحدث قط من قبل، لان الله يعمل بدون تدخل يد الإنسان ولكن ليس بدون موافقة الإنسان وقبوله بحريته كما هو الحال مع مريم الذي قالت بثقة مقدمة ذاتها " أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ" (لوقا 1: 38).  تضع مريم ثقتها في الله الذي دعاها وهي لا تسأل هل الوعد ممكن، بل كيف سيتم، ولهذا تُجيب في نهاية الامر " أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ" (لوقا 1: 38).  ليس مكان مع الله للرفض بل للقبول أي "للنعم". هذا لا يعني الاستسلام بل التسليم، أي قبول مريم ان تضع حياتها بكل حريّة وإرادة بين يدي الله، لأن الله ليس فقط محبّة، بل هو كامل الرحمة. فبقدر ما نصغي لكلمة الله ونقبلها بفرح، نصبح مقراً لعمل الله الخفي، فتتلاشى في كياننا مساحات الموت والخطيئة والخوف، ويتحقّق فينا الخلاص كما تحقَّق في مريم ومن ثمّ الى جميع البشر. مريم تمثل البشرية التي توافق بحرية على ما يطلبه الله وتقول "نعم" للحياة وتؤمن ان لا شيء مستحيل على من يحب. بهذه الكلمات اصبحت اما للمسيح، واماً لكل المؤمنين.

 

وأصبحت مريم في بشارة الملاك لها رمزاً للنفس المؤمنة، ومعلمّة لنا في الإيمان، في التواضع، في الطاعة وفي شجاعة الاستجابة. تعلّمنا الشجاعة في الإيمان، وعدم الخوف من حضور الله في حياتنا، وتعلمنا كيف نظر الى الرب ونستعد لميلاده في قلوبنا. وإذا امنَّا به تعالى على مثال مريم وقبلناه فهو يُحرّرنا، ويُقدّسنا، ويجعلنا آنية مقدّسة تحلّ فيها نِعَم روحه، ويحقّق في حياتنا المستحيل. مريم تستحق منا كل إكرام.

 

اختارنا الله ونقّانا منذ خلقنا، لنكون هيكل الله الطاهر يحلّ فينا ليفدي البشر كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَنَّ اللهَ اخْتارَكم مُنذُ البَدْءِ لِيُخلِّصَكم بِالرُّوحِ الَّذي يُقدِّسُكم والإِيمانِ بِالحقّ" (2 تسالونيقي 2: 13). ولنعلم أنّنا بمعموديّتنا دخلنا مدرسة إله المستحيل، وأن حياتنا ملكه، نضعها في خدمة إنجيله أينما كنّا، لنعلن كلّ يوم للّذين نلتقيهم أن الله هو عمّانوئيل، الله معنا، لكي نكون نحن معه وهو لا يتركنا. لندع حياتنا أن تكون تسليم غير مشروط لإرادة الله القدوس ولقيادته.

 

ولنجدد ايماننا في العمق، فلا يبقى ايماننا موقفاً مُبهماً في الحياة، بل يكون اعترافا واعيا وشجاعا بما نؤمن به في قانون الايمان "تجسد بقوة الروح القدس من مريم العذراء وتأنس". ولنتأمل بكل ذلك كلما تلونا صلاة التبشير " السلام الملائكي. ولنُردِّد اخيرا صلاة البابا القديس يوحنا بولس الثاني في مغارة الناصرة: "يا أم الكلمة المُتجسد لا تردّي طلباتي، بل اصغي اليَّ بحنانك، واستجيبي لدعائي. أمين.

 

ثالثًا: كنيسة البشارة في الناصرة  

 

للناصرة مكانة خاصة في نفوس المسيحيين في مختلف أنحاء العالم. وفي الناصرة كنائس، منها كنيسة البشارة وكنيسة مار يوسف، كنيسة العائلة المقدسة، وكنيسة عين العذراء للروم الأرثوذكس، وكنيسة المجمع للروم الكاثوليك، وكنيسة سيدة الرجفة، وكنيسة الموارنة، وكنائس أخرى.

 

كنيسة البشارة هي الكنيسة الأولى التي تجذب نظر من يزور الناصرة. وتقع في الطرف الجنوبي من الناصرة القديمة. وتذكر هذه الكنيسة ما يرويه القديس لوقا في إنجيله (1/26-28) عما جرى هناك، وهو بشارة الملاك لمريم و"تأنس" كلمة الله على أثر تلك البشارة. وهذه الكنيسة مكرسة لتكريم مريم العذراء أم الله وكلمة الله المتجسد.

 

الحفريات التي اجريت 1955-1960 باشراف الاب باغاتي أضفت نورا على تاريخ الكنائس التي تعاقبت في هذا المكان المقدس: تأتي في الطليعة مغارة البشارة التي كانت تؤلف جزءا من مسكن مريم وتحول هذا البيت الى بيت – كنيسة (أو مجمع) كما تشير الكتابات. ثم أقيمت كنيسة بيزنطية مرصوفة بالفسيفساء سنة 427م وفيها درج ينزل من القسم الشمالي منها الى المغارة التي شاهدها سائح سنة570 فكتب فيها: "أن بيت مريم هو الآن بازليك". وفي أوائل القرن الثاني عشر اقام الصليبيون على أنقاض الكنيسة المذكورة كنيسة أكبر منها وكانت المغارة ضمن القسم الشمالي من الكنيسة وينزل إليها بدرج. وقد صلى القديس لويس التاسع ملك فرنسا في هذه الكنيسة سنة 1254م.

 

وفي سنة 1730 بنى الآباء الفرنسيسكان كنيسة خالية من كل مظهر فني وتتجه من الجنوب نحو المغارة. والكنيسة الحالية تمَّ بناؤها من 1960 الى 1969 وقد أسهم العالم الكاثوليكي في هذا المشروع واقبل مختلف الفنانين الدوليين على جعل الكنيسة الجديدة جديرة بالذكريات الإنجيلية التي أقيمت لها.

 

شيدت كنيسة البشارة الحالية في الأعوام 1960 – 1969 بالإسمنت المسلح المكسوّ بالحجارة المنحوتة. وقد صمَّمها المهندس الايطالي"يوحنا موتزيو". وهي أكبر كنائس الشرق الأوسط مساحة. يتوج الواجهة الأمامية تمثال يسوع الفادي المصنوع من البرونز، تحته مشهد البشارة، مع كتابة باللاتينية Angelus Domini nuntiavit Marie ومعناه "ملاك الرب بشر مريم العذراء" ثم صورة الأناجيل الأربعة وتحتها كتابة باللاتينية: Verbum Caro factum est et Habitavit in Nobis ومعناها "الكلمة صار بشرا وسكن بيننا". وعلى الجانبين من واجهة الكنيسة عبارتان من العهد القديم تشيران إلى مجيء المخلص يسوع. من اليمين العبارة ماخودة من سفر التكوين وهذه نصها: Ait Dominus ad serpentem ipsa conteret caput tuum et tu insiduaberis calcaneo eius، ومعناها: "فقالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلحيَّة. هُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه"(التكوين3/15). وأما من جهة اليسار فنقشت نبوءة اشعيا: "ها إِنَّ العذراء تَحمِلُ فتَلِدُ آبناً وتَدْعو آسمَه عِمَّانوئيل". (اشعيا7/14). أما في الواجهة الجنوبية فنقشوا عليها صلاة Salve Regina   "السلام عليك يا سلطانة..." باللاتينية.  وباب الكنيسة الرئيسي مصنوع من البرونز والنحاس ومنقوش عليه رسومات تروي تاريخ الخلاص. وهو من صنع الفنان Roland Friederichensen.

 

وتتألف كنيسة البشارة الجديدة من الكنيسة السفلى والكنيسة العليا وطولهما معا 76،85م وعرضهما 28.60م، وعلوهما 20م مع قبة علوها 57م.

 

الكنيسة السفلى:

 

عندما باشر الآباء الفرنسيسكان توسيع الكنيسة 1955 -1959 ظهرت حسب حفريات عالم الآثار الأب "باغاتي" الفرنسيسكاني عام 1955 معالم الكنيسة الصليبية من القرن الثاني عشر التي تبلغ مساحتها 75 x30م. ولا يزال ظاهرًا للعيان جدارها الشمالي والزاوية الشمالية الشرقية مع درجها اللولبي ومقاييس حنايا الكنيسة الثلاث. ويعرض في متحف دير الفرنسيسكان ستة تيجان لأعمدة صليبية عليها مشاهد من حياة المسيح والرسل. صنعها نحاتون من شمال فرنسا لم يتمكن الصليبيون من استخدامها في الكنيسة لأنهم فوجئوا بالاحتلال العربي في معركة حطين، فلذلك وضعوهم في مكان آمن ولم تُكتَشف إلا في أثناء الحفريات.

 

وظهرت تحت أساسات الكنيسة الصليبية أثار كنيسة بيزنطية تعود الى القرن الخامس (جدران وتيجان وأعمدة)، يبلغ مساحتها 18X8م. وإلى جانب الكنيسة دير بيزنطي من جهة الجنوب. وأما في الجهة الغربية فتوجد ساحة. وأرضية الكنيسة مكسوة بالفسيفساء وفيها حوض مربع ينزل إليه بسبع درجات منقوش على جداره بعض الكتابات تشير بأنه كان يستخدم كجرن للعماد يعود تاريخه الى ما قبل قسطنطين.
 

وعلى مقربة من هذا الجرن لوحة فسيفساء يشير اتجاهها شمال – جنوب بان تاريخها يعود الى ما قبل الكنيسة البيزنطية. ويزين هذا الفسيفساء رسم يمثل إكليلًا من الزهر رمز الانتصار مع غصنين، رمز الفردوس، يحيطان بأول أحرف من لفظة الصليبmonogram  وهي باليونانية (ιστος) XP، وصلبان منتشرة في القطعة الفسيفسائية كلها متجهة نحو المغارة، ويعود تاريخ كل ذلك الى القرن الرابع قبل بناء الكنيسة البيزنطية. وعلى مقربة من هذه الفسيفساء يوجد بركة لها درج محفور في الصخر كانت تستخدم للعماد امام المغارة. وترتبط هذه القطعة الفسيفسائية مع درج يؤدي الى قطعة فسيفساء أخرى مربعة الشكل مكتوب عليها باللغة اليونانية (Κονον οc Διακ ιεροcολυμον) "هدية من كونون، شماس القدس" وتعود هذه الكتابة الى القرن الخامس عثر عليها عام 1730. والمغارة الصغيرة القريبة من الفسيفساء مكرسة للشهيد كونون. وهذه الكنيسة الأخيرة تقوم حولها مغارة ومخازن قمح. ربما أقيمت الكنيسة البيزنطية فوق كنيس أو مجمع يعود تاريخه الى القرنين الثاني والثالث.

 

أن الكنيسة السفلى خالية من الزينة لأنها ترمز الى فقر العذراء وتواضعها بعكس الكنيسة العليا التي تذيع أمجاد مريم أم المسيح وزينتها الروحية. وفيها أيضًا بقايا الكنائس السابقة التي ما زالت حتى ألان تشهد على مقدار تكريم الأجيال المتعاقبة للسيدة مريم العذراء في بيتها، وفي بشارتها محور كل هذه التحفة الفنية. وتزين الكنيسة السفلى لوحة تمثل لقاء قداسة البطريرك المسكوني اثيناغورس، بطريرك القسطنطينية وقداسة البابا بولس السادس الذي زار هذه الكنيسة وخاطب فيها العالم كله سنة1964. في سقف الكنيسة السفلى فتحة كبيرة تمكن من رؤية المغارة من الكنيسة العليا. والقبة التي تعلو السقف تخيم على المغارة. وتحتوي الكنيسة السفلى على الآثار التالية:

1) مذبح في الوسط لذكرى سر التجسد ويعلوه سقف يتدلى منه صليب نحاس من عمل الفنان الإسرائيلي بن شالوم.

 

2) مذبح من جهة اليمين على اسم الملاك جبرائيل. وفوق المذبح صورة البشارة تمثل العذراء والملاك جبرائيل وحمامة رمز الروح القدس.

 

3) مذبح من جهة اليسار على اسم يواكيم وحنة والدي العذراء يزينه تمثالان للقديسين يواكيم وحنة من صنع الفنان الايطاليAngelo Biancini . وهو الذي صمم تمثال يسوع الذي يعلو واجهة الكنيسة كما صمم أيضا لوحات مراحل درب الصليب. الجدران وجزء من الشباك تعود الى عهد الصليبيين وكذلك الجدار الطويل (رقم 4) الذي يقوم وراء المغارة.

 

4) مذبح الاحتفالات يقوم على 4 أربعة تيجان صليبية. ويقع المذبح على أرضية الكنيسة البيزنطية ولكن في مستوى اوطى من المستوى الأصلي للكنيسة البيزنطية.

 

5) حائط من بقايا الكنيسة البيزنطية: لهذه الكنيسة ثلاثة أجنحة ويبلغ مساحتها 19،50x8م ولم يبق منها سوى ألحنية الوسطى وبقايا من قطع فسيفساء في الجناح الشمالي والجنوبي. وللكنيسة فناء في جهة الغرب وأضيف دير من جهة الجنوب تبلغ مساحته 48X27م.

 

6) مغارة الشماس "كونون" في الجهة الشمالية الغربية وهي مدفن لهذا الشماس الذي استشهد من اجل المسيح سنة248 في أسيا الصغرى في عهد داقيوس (249-251)، إذ أعلن إيمانه بالمسيح امام القاضي في المحكمة: "أنا من ناصرة الجليل من أقرباء يسوع وأنا اعبده كما عبده أجدادي".

 

7) جرن المعمودية في عهد الجماعة المسيحية الأولى مع رموز مسيحية.

 

8) مغارة البشارة: كانت المغارة تستخدم للسكن منذ العصر الحديدي وحتى الحقبة الرومانية. تبلغ مساحتها 5.49 م2 وعلوها حوالي 2.74 م. فكما يبدو من تجويف الصخر الأبيض أنها كانت مسكنًا أصليًّا وتشكل جزءا من القرية القديمة. وعثر من كل جهة من مدخل المغارة على مخزن من الحبوب المختلفة silo. وأما السقف الداخلي للمغارة فهو محفور بشكل مستدير كقبة كنيسة صغيرة. وعلى مر العصور أقيم في السقف فتحات للتهوية ومُتَنفَّس لدخان المصابيح.

ومن جهة الشرق يوجد في المغارة حنية صغيرة لها سبعة وجوه من التلييس. وكان فيها مذبح استخدم من العصر البيزنطي حتى عام1730. وهناك صدع في الجهة العليا من ألحنية سببه أساسات عمود بناه الصليبيون بقرب جدار المغارة. وفي الجهة المقابلة وضع الصليبيون ثلاثة أعمدة عمودان من غرانيت خارج المغارة لوضع دعامة للكنيسة، وأما العمود الثالث فكان لدعم سقف المغارة. وعندما أعيد ترميم السقف بقي العمود بلا جدوى في الزاوية. ويصف لويس دها ؟؟ بتاريخ 1621 في مقام البشارة معبدًا ينزل إليه بست درجات وفيه عامودان أحدهما للدلالة على موقف العذراء حين بشرها الملاك والأخر على موقف الملاك نفسه".

 

والقسم الداخلي من المغارة له شكل نصف دائري ادخلت عليه تعديلات كثيرة ولا سيما في عهد الصليبيين. ويوجد في المغارة حجران متقوسان كانا يستخدمان كأساس للحنية الصليبية في الجدار الشمالي. وأما الدرج في داخل المغارة فأقامه الآباء الفرنسيسكان عام 1730 للنزول مباشرة من الدير الى المغارة. وكان سابقا نفقًا للوصول الى مغاور أخرى التي كانت تستخدم معصرة للنبيذ. وأما المذبح في داخل المغارة فهو من صنع الفن الاسباني ويعود الى عام 1730. وهناك مظلة فوق المغارة مزينة بنقوش نحاسية مذهبة تمثل البشارة والملائكة متخشعين. وعلى جانبي المغارة عامودان يعودان إلى الكنيسة الصليبية.

وهذه المغارة هي البيت التي كانت تقيم فيه سيدتنا مريم العذراء. وتنعم بإكرام خاص من أيام الرسل، كما يدل على ذلك صليب مخروطي الشكل، وكتابات منقوشة على الجدران، وأهمها كتابة يونانية (XE MAPIA) أي "السلام عليك يا مريم..." منقوشة على قاعدة عامود، وكتابة تنص: "هنا مكان مريم المقدس"، وكتابات أخرى يزيد عددها على المائة وهي عبارات تقوية منها " أنا فاليريا قدمت هنا الى بيت مريم لأسجد ليسوع ابن الله". يتوسطها مذبح نقش عليه "هنا الكلمة صار جسدا" شكلها الحالي يرقي الى الصليبيين، وتبدو المغارة خارجيا كوحدة سكنية مستقلة عن باقي المغاور السكنية المجاورة. وأما الدرج في داخلها فقد أنشأه الفرنسيسكان عام 1700.

 

وراء المغارة يوجد مغارة أخرى يُقال إنها مطبخ العذراء وفي سقفها من الشرق ثقب يقال انه مدخنة المطبخ، وعن يمينك في الجهة الشرقية باب يقال إن العذراء كانت تخرج منه الى العين لتستقي. وفي رواق ساحة الكنيسة السفلى تعرض70 لوحة من الفسيفساء والسيراميك والخشب تمثل المزارات المكرسة لسيدتنا العذراء مريم في العالم.

 

الكنيسة العليا

 

تبلغ مساحة الكنيسة العليا 45X27م. تعلوها قبة ترتفع 40 مترا. مصنوعة من الاسمنت المسلح المغطى بالحجارة وسقفها مغطى بالنحاس ويعلو القبة فانوس. وتمثل القبة شكل زنبقة مقلوبة، جذورها في السماء منفتحة باتجاه الأرض، ترمز إلى انسكاب النعمة والنور على البشرية التي تنشقت عبير السماء عندما قبلت مريم أن تصبح أم المسيح. ويزين القبة حروف M بشكل سلسلة. وهذا الحرف يمثل أول حرف من كلمة مريم في اللغة اللاتينية (aria)M. وتتصدر حنية الكنيسة لوحة ضخمة من الفسيفساء الحديث تشيد بكنيسة المسيح في ضوء المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) وتمثل العذراء "أم الكنيسة" فوقها باللغة اللاتينية Catholicam Apostolicam Unam Sanctam "كنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية". ويظهر في صدر الفسيفساء صورة المسيح، ومعه بطرس على جبل صهيون. يقول يسوع وهو فاتح ذراعيه "تعالوا الي يا جميع المرهقين والمتعبين وأنا أريحكم" (متى11/28) والى خلفه لجهة اليمين مريم العذراء الملكة مستوية على عرشها وتتشفع لأبنائها. ويحيط بها جميع اعضاء الكنيسة من القديس بطرس حتى البابا بولس السادس وقد اتجهوا نحو المسيح. وهي من صنع الفنان الايطالي Salvatore Fiume.

 

وأما المذبح الرئيسي فهو مصنوع من رخام احمر، بشكل قارب يعلوه بيت القربان، مطلي بالفضة. وهناك مذبحان جانبيان: مذبح الى اليمين مكرس للقربان الاقدس، والاخر الى اليسار مكرس للرهبنة الفرنسيسكانية. وتزين جدران الكنيسة لوحات تمثل درب الصليب تستخدم لرعية الكنيسة اللاتينية في الناصرة ولوحات فنية تبرعت بها شعوب الدول المسيحية، تمثل هذه اللوحات صورة سيدتنا مريم العذراء ماثلة على جدران الكنيسة بحسب فن كل شعب. والجدير بالمشاهدة صورة العذراء بالزي الياباني عليها معطف مصنوع من 4،50 كيلو غرام من اللؤلؤ الأصلي.

 

ومما يجذب النظر في الكنيسة العليا أيضا الرسوم التي فرشت بها أرضها والتي تذكر بالمجامع المسكونية التي كان موضوع الدراسة فيها العذراء مريم أم المخلص ووالدة الإله.

 

1) مريم العذراء والدة كلمة الله ووالدة الإله:-Theotokos)  (De Divina Maternitate،

ولُقِّبت العذراء مريم أيضًا "بالكلية القداسة" De perfecta Sanctitate.

 

2) امتيازات مريم العذراء والدة الإله:

- الحبل بالعذراء بدون دنس الخطيئة الأصليةDe Immacolata Concepitone

- عقيدة العذراء الدائمة البتوليةDe perpetua Virginitate   

- عقيدة انتقال العذراء الى السماءDe Mariae Virgini Assumptione   

- العذراء سلطانة السماء والارض De Universali Regalitate 

 

3) اشتراك مريم في عمل الفداء:

- العذراء الوسيطة لجميع النعم De Universali Mediatione 

- العذراء أم بالروح للبشرية كلها De Spirituali Maternitate

 

ويغطي أرضية الكنيسة بلاط رخامي عليه شعارات الباباوات الذين تكلموا عن أمجاد مريم عبر العصور. واما النوافذ الزجاجية للكنيسة والقبة فتحمل صورا للآباء والقديسين الذين ساهموا في اللاهوت المريمي.

 

 

دعاء

 

أيها ألاب السماوي، انت الذي اخترت العذراء مريم، وشرّفتها ان تكون أما لابنك يسوع المسيح، فأصبحت لنا مثال الايمان في تقبل كلمة الله اجعلنا ان نتقبل بحرية محبة ابنك يسوع اللامتناهية، الذي جاء على ارضنا مخلصا وفاديا فنجد فيه خلاصنا وينبوع رجائنا في الدنيا والآخرة. آمين.