موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٣ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١

باباوات الكنيسة الكاثوليكية والقديس يوسف (2)

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
شخص القديس يوسف في مكتبة القصر الرسولي بالفاتيكان

شخص القديس يوسف في مكتبة القصر الرسولي بالفاتيكان

 

2. منذ المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني حتّى يومنا هذا[0]

 

من خلال كلّ ما سبق، يمكننا القول بأنّ "الروحانيّة اليوسفيّة" قد نشأت وازدهرت جدًّا في الفترة الممتدة ما بين المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الأوّل والمجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني. فدعونا الآن نعرض– بطريقة وجيزة– بعضًا من تعاليم الباباوات المعاصرين واللّاحقين للمجمع الفاتيكانيّ الثاني.

 

أ) البابا يُوحنَّا الثّالث والعشرون (المتنيّح في 3 يونيو/حزيران 1963)

 

في ما يتعلّق بإكرام القدّيس يوسف– شفيع الكنيسة الكاثوليكيّة، قد بَرَزَ "البابا الطيب" عبر ثلاثة أفعال قويّة. فكان أوّل فعل قام به قداسة البابا هو وضع جميع أنشطة وأعمال المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني تحت حماية القدّيس يوسف الأبويّة، في 19 مارس/آذار 1961، بواسطة الرسالة الرسوليّة "الأصوات" (Le voci). وفي هذه الرسالة الرسوليّة، علاوةً على تلقيبه للقدّيس يوسف بـ"حامي" المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني، لخّص البابا يُوحنَّا الثّالث والعشرون أفعال وأفكار الباباوات السابقين بشأن إكرامهم لنجَّار الناصرة[5].

 

وأمّا في 12 أكتوبر/تشرين الأول 1962، قام قداسة البابا بالفعل الثاني: محاولة إدخال اسم القدّيس يوسف في قانون القداس الإلهيّ. فقرّر "مجمع الطقوس" المقدّس، عبر أحد مراسيمه (في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1962)، وبموجب إرادة الحبر الأعظم، أن يُضاف اسم الطوباويّ يوسف– عروس مريم العذراء– ضمن قائمة رسل وشهداء ربّنا يسوع المسيح الطوباويّين الذين يُذكرون في القداس اللّاتينيّ.

 

وعلاوةً على ذلك، ينبغي أن نذكر أنّ قداسة البابا قد أعاد تجديد– بروعة شديدة– مذبح القدّيس يوسف البتول، والذي يقع في كاتدرائية القدّيس بطرس بالفاتيكان. وعلى صعيد آخر، فقد أهدى "البابا الطيب" خاتمه الحبريّ للقدّيس يوسف في هيكل بولنديّ بمدينة كاليس، في عام 1962، حيث تُكرّم لوحة للقدّيس يوسف باعتبارها "معجزيّة".

 

ب) البابا بُولس السّادس  (المتنيّح في 6 أغسطس/آب 1978)

 

أشاد البابا بُولس السّادس بشخصيّة القدّيس يوسف البتول وفضائله العديدة في عظته بمناسبة عيد البطريرك القدّيس، في 27 مارس/آذار 1969، داعيًا المؤمنين إلى التوجّه بلا انقطاع إلى شفاعته القويّة كراعٍ وشفيع وحامي للكنيسة في حجّها الأرضيّ.

 

ت) البابا يُوحنَّا بولس الثّاني (المتنيّح في 2 أبريل/نيسان 2005)

 

في ما يتعلّق بتعليم القدّيس يُوحنَّا بولس الثّاني حول عروس القدّيسة مريم العذراء، ينبغي علينا ملاحظة أنّه قد اختصرها كلّها في إرشاده الرسوليّ "حارس الفادي" (Redemptoris Custos)، الذي صدر في 15 أغسطس/آب 1989. وبإيجازٍ شديد، أراد قداسة البابا من خلال هذا الإرشاد الرسوليّ إلقاء الضوء على شخصيّة يوسف الناصريّ ورسالته في حياة المسيح والكنيسة. وفي مطلع هذا الإرشاد الرسوليّ، ذكر قداسة البابا ما يلي:

 

«منذ القرون الأولى، بيَّن آباء الكنيسة بوضوح، مستلهمين، في ذلك، الإنجيل، أن القديس يوسف، كما تعهَّد مريم بعناية ودودة، وانقطع بفرحٍ لتربية يسوع المسيح كذلك هو أيضًا حارس وحامي جسده السرّي، أي الكنيسة التي العذراء صورتُها ومثالها [...] إني أحسب أنَّ تأمُّلًا جديدًا في مشاركة زوج مريم في السرّ الإلهي، سوف يمكّن الكنيسة الذاهبة مع البشرية جمعاء شطر المستقبل، من أن تكتشف بلا ملل هويتها في إطار التصميم الفدائي المرتكز على سرّ التجسّد. من الواضح أن يوسف الناصريّ قد "اشترك" في هذا السرّ أكثر من أي إنسان آخر، باستثناء مريم أم الكلمة المتجسّد. لقد اشترك وإياها مندفعًا في واقعِ ذاتِ الحدث الخلاصي وأؤتمن على ذات الحبّ الذي بدافعه، سبق الآب الأزلي "فقدَّر لنا أن يتبنّانا بيسوع المسيح" (أف 1 : 5)»[6].

 

ث) البابا بِنِديكْتُس السّادس عشر (البابا الفخريّ منذ 28 فبراير/شباط 2013)

 

علاوةً على عظاته العديدة حول عروس مريم العذراء وشفيع الكنيسة الجامعة، تجدر الإشارة هنا إلى أنّ البابا بِنِديكْتُس السّادس عشر قد أولى اهتمامًا كبيرًا للقدّيس يوسف أثناء "الصلاة الملائكيّة"، في يوم 19 مارس/آذار 2006؛ فمن بين الأمور التي أكّد عليها قداسته نذكر ما يلي:

 

«إنّ شخصيّة هذا القدّيس العظيم، بالرغم من بقائها مستترة إلى حدّ ما، إلَّا أنّها تتمتّع بأهمّيّة جوهريّة في تاريخ الخلاص. فهو، قبل كلّ شيء، وعبر انتمائه إلى سبط يهوذا، ربط بين يسوع وبين نسل داود؛ ولذلك، وإتمامًا للوعود المسيانيّة، يمكن لابن مريم العذراء أن يُدعى حقًّا "ابن داود" [...] وفي هذا كلّه، قد برهن، على غرار عروسه مريم، أنّه وريثٌ أصيل لإيمان إبراهيم: الإيمان بالله الذي يقود أحداث التاريخ وفقًا لتدبيره الخلاصيّ السرّيّ. وتبرز عظمته، مثل عظمة مريم، بشكل أكثر وضوحًا، لأنّ رسالته قد تمّت في تواضعِ واحْتِجَابِ بيت الناصرة»[7].

 

ج) البابا فرنسيس (البابا الحاليّ منذ 13 مارس/آذار 2013)

 

لم يكفّ البابا فرنسيس، منذ بداية تعليمه الحبريّ الرسميّ، عن إلقاء الضوء– بشكل أكثر حيويّة– على الدور الواضح والصريح الذي لعبه نجَّار الناصرة؛ فحضَّ المؤمنين على مزيد من الإكرام لهذا القدّيس اللامع. وفي مطلع خدمته البطرسيّة (بعد بضعة أشهر من اختياره كبابا للكنيسة)، اهتَمَّ بإدخال اسم القدّيس يوسف في الصلوات الإفخارستيّة الثانية والثالثة والرابعة الخاصّة بالقداس اللّاتينيّ، بواسطة مرسوم متعلّق باللّيتورجيا قد صدر عن "مجمع العبادة الإلهيّة ونظام الأسرار". وقد كان هذا القرار مَرْغُوبًا ومُفكَّرًا فيه من قِبل البابا بِنِديكْتُس السّادس عشر قبل استقالته، فصادق عليه البابا فرنسيس وأكّده[8].

 

وليس هذا فحسب، ففي يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 2020، في السَّنة الثامنة من حبريّته، تناول قداسة البابا شخصيّة القدّيس يوسف وحياته ورسالته بنوع من الإسهاب، في رسالته الرسوليّة "بقلب أبويٍّ". فبعد أن ربط بشكل وثيق بين حياة نجَّار الناصرة المستترة وحياة العديد من مجهولي الهويّة والمخفيّين (أكانوا مسيحيّين أو غير مسيحيّين)، وهم ليسوا قليلين في عصرنا هذا الذي نواجه فيه الكثير من الصعوبات والعقبات والمعانات في أنحاء العالم، ولا سيّما بسبب جائحة فيروس كورونا الحاليّة، أكّد قداسته مجدّدًا على الحبّ الأبويّ فائق الوصف وغير المشروط من قِبَل نجَّار الناصرة تجاه يسوع المسيح، وهو ما جعله أبًّا صالحًا للطفل الإلهيّ، وملجأ آمنًا وسريًّا للمسيحيّين أيضًا.

 

وعلاوةً على ذلك، كما قِيل في المقدّمة، صرّح قداسة البابا، في يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 2020 (أثناء الاحتفال بعيد الحبل بلا دنس للقدّيسة مريم العذراء)، بأنّه من الملائم إعلان سَنة طقسيّة يوبيليّة لإكرام القدّيس يوسف، بمناسبة الذكرى الـ 150 لإعلان البابا بيوس التاسع له شفيعًا للكنيسة الجامعة. وهذه "السَّنة اليوسفيّة" ستُختم رسميًّا في يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 2021 المقبل. وفي سياق هذه السَّنة، أشار البابا فرنسيس، في رسالته الرسوليّة "بقلب أبويٍّ"، إلى نجَّار الناصرة بهذه الكلمات التي أوجز فيها أبرز ملامح شخصيّة هذا القدّيس الأب:

 

«بقلب أبويٍّ: هكذا أحبّ يوسفُ يسوعَ الذي سمّته الأناجيلُ الأربعة "ابن يوسف". إن الإنجيليَّين اللذَين سلّطا الضوء على شخصيّته، متّى ولوقا، لا يخبران إلاّ القليل، ولكنه يكفي لتوضيح أيّ نوع من الأب كان، والمهمّة التي أوكلتها إليه العنايةُ الإلهية [...] رأى يوسفُ يسوعَ ينمو يومًا بعد يوم "في الحِكمَةِ والقامَةِ والحُظْوَةِ عِندَ اللهِ والنَّاس" (لو 2، 52). وكما فعل الربّ مع إسرائيل، هكذا صنع يوسفُ مع يسوع: درّجه وحَمَله على ذِراعه [...] كُان لَه كمَن يَرفَعُ الرَّضيعَ إِلى وَجنَتَيه وانحَنَى علَيه وأَطعَمه (را. هو 11، 3-4). ورأى يسوعُ في يوسف رأفة الآب»[9].

 

خُلاصة

 

في نهاية المطاف، وفي سياق "السَّنة اليوسفيّة"، يتّضح لنا جليًّا أنّ القدّيس يوسف– البتول والعفيف والعامل والصالح والبار والصامت وعروس القدّيسة مريم العذراء والأب الحاضن والحارس ليسوع المسيح– يحتلّ مكانة بارزة في التعليم الرسميّ لباباوات الكنسية الكاثوليكيّة، ولا سيّما في الفترة  الواقعة ما بين المجمعين المسكونين الأخيرين حتّى يومنا هذا. وإذا رغبنا في البحث عن الدافع الكامن وراء موقف الباباوات المبجّل لنجَّار الناصرة، سنجد أنّه يكمن في الدور الجوهريّ والحيويّ الذي لعبه هذا القدّيس العظيم الصامت– بجوار يسوع المسيح ومريم العذراء– في تاريخ الخلاص برمّته، وفقًا لتدبير الحبّ الأبدي والرحيم من لَدُن الله تجاه البشر. ومن ثمّ، تنبع أهمّيّة قدومنا نحن المسيحيّين على التوسّل الحار والتشفّع المستمرّ بهذا القدّيس العظيم، الذي يفيض علينا بنعم فائقة الوصف ولا حدّ لها؛ ولذا، فإنّ الشعب المسيحيّ يبتهل إليه بصفته "شفيع الميتة الصالحة" أيضًا.

 

وفي ما يتعلّق بالتشفّع بالقدّيس يوسف بوجه عامّ، ولا سيّما "فى ساعة موتنا"، دعونا نختم مقالتنا المختصرة هذه بما جاء في كتاب "التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة": «تشجّعنا الكنيسة على أن نُهيِّىء أنفسنا لساعة موتنا ("نجنا يارب من الموت المفاجئ وغير المتوقَّع": طلبة القديسين القديمة)، وأن نطلب إلى والدة الإله أن تتشفَّع فينا "فى ساعة موتنا" (صلاة "السلام عليك يا مريم")، وأن نودع ذواتنا القديس يوسف، شفيع الميتة الصالحة: "فما كان أحراكَ أن تسلك، فى كل عمل وفكر، سلوكَ من كان موشكًا أن يموت اليوم. لو كان ضميرُك صالحًا، لما كنتَ تخاف الموتَ كثيرًا. تجنّبُ الخطايا خيرٌ من محاولة الهرب من الموت. إن كنتَ اليوم غيرَ متأهّب، فغدًا كيف تكون مستعدًا؟"»[10].

 

 

الحواشي والمراجع

[0] قد نُشرت هذه المقالة بمناسبة السّنة المخصّصة للقدّيس يوسف (من يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 2020 حتّى 8 ديسمبر/كانون الأول 2021)، في عدد خاصّ بالقدّيس يوسف كرّسته مجلة "رسالة القديسة تريزا" له، والتي مركز إدارتها وتحريرها دير الآباء الكرمليين بمصر، تحت عنوان «القدّيسُ يُوسف في التّعليم الرّسميّ لباباوات الكَنيسة الكاثوليكيّة».

 [5]Giovanni XXIII, Lettera apostolica Le voci (19 marzo 1961).

[6] يُوحنَّا بولس الثّاني (البابا)، الرّسالة العامَّة "حارس الفادي" (15 أغسطس/آب 1989)، بند 1.

[7] Benedetto XVI, Angelus della III Domenica di Quaresima del 19 marzo 2006.

[8] Congregazione per il culto divino e la disciplina dei sacramenti, Decreto Paternas vices (1 maggio 2013).

[9] فرنسيس (البابا)، رسالة رسوليّة "بقلب أبويٍّ" (8 ديسمبر/كانون الأول 2020).

[10] التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، المكتبة البولسيّة-جونيه، لبنان، 1999، بند 1014، ص. 312-313.