موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في السّطور اللّاحقة نعرض –ببساطة– بضعةَ شَذَرات وصَلوات حول شخص العذراء مريم وحياتها ورسالتها، ولا سيّما ونحن نحتفل بالشّهر المريميّ (المرتبط بموسم الرّبيع والتّجدّد). ونقدّمها كدعوة للتفكير والتّأمّل حول مَن هي أُمّ فادينا وأُمّنا، التي تفكّرت وتأمَّلت فينا ككنيسة ناشئة قبل أن نتأمَّل نحن فيها كأُمّ ليسوع وللكنيسة ولنا.
أوّلًا: إكرامُ العذراء مريم والشّهرُ المريميّ
يشير كتابُ "التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة" إلى أنّ تكريم العذراء مريم أمرٌ له أبعاد وركيزة بيبليّة وتقليديّة وثيولوجيّة واضحة، ويميّزه بدوره عن "عبادة" الله الأحد-الواحد-الثَّالوث، فيقول: «"تطوّبني جميع الأجيال" (لو 1: 48) "تكريم الكنيسة للعذراء القديسة هو من ضمن الشعائر الدينيّة المسيحيّة". والعذراء القديسة "تكرمها الكنيسة بحقٍّ إكرامًا خاصًّا. والواقع أن العذراء الطوباويّة قد أُكرمت، منذ أبعد الأزمنة، بلقب "والدة الإلة"، والمؤمنون يلوذون بحمايتها، مُبتهلين إليها في جميع مخاطرهم وحاجاتهم (...). وهذا التكريم (...) وإن كان ذا طابعٍ فريد على الإطلاق (...) غير أنّه يختلف اختلافًا جوهريًّا عن العبادة التي يُعبد بها الكلمة المتجسّد والآب والروح القدس، وهو خليق جدًّا بأن يُعزِّزها". وهو يجد التعبير عنه في الأعياد الطقسيّة التي خُصّت بها والدة الإله، وفى الصلاة المريميّة، كالورديّة المقدّسة "خلاصة الإنجيل كلّه"» (بند 971).
وتخصّص الكنيسةُ الكاثوليكيّة، في أرجاء المعمورة كلّها، شهر مايو/أيار– بنوع خاصّ– لإكرام العذراء مريم، لأنّ هذه الأخيرة مستحقّة وجديرة بهذا. وفي رسالته إلى جميع المؤمنين بعام 2020، أيام جائحة كورونا، أكّد البابا فرنسيس أنّه في الشّهر المريميّ «يعبّر شعب الله بصورة خاصة عن حبه وتكريمه لسيدتنا مريم العذراء. اعتدنا في هذا الشهر أن نصلّي المسبحة الوردية في البيت مع العائلة. وقد أظهرت لنا قيود الجائحة المفروضة علينا قيمة البعد المنزلي، من وجهة نظر روحية أيضًا. لذا فكرت أن أقترح على الجميع أن يكتشفوا مجددًا، في شهر مايو/ أيار، جمال صلاة المسبحة الوردية في البيت. يمكن أن يتم ذلك معًا، أو فرديًا؛ اختاروا أنتم الطريقة المناسبة بحسب ظروفكم، واستفيدوا من كلا الاحتمالين. ولكن على أيّ حال هناك سرّ للقيام بذلك: وهو البساطة. ومن السهل العثور، حتى في الإنترنت، على طرق جيدة للصلاة، يمكن اتباعها [...] أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إنّ التأمّل معًا في وجه المسيح وقلب مريم، أمّنا، سيجعلنا أكثر اتّحادًا كعائلة روحية وسيساعدنا على تجاوز هذه المحنة».
ثانيًا: "دَمعُ" العذراء مريم وتوسُّلاتُها وأوجاعُها
نحن– ككنيسة كاثوليكيّة– نصرّح مع البابا بولس السّادس، في "قانون إيمان شعب الله: اعتراف رسميّ بالإيمان"، بـ«إنَّنا نعترف بأنّ والدة الإله الكليّة القداسة، حوّاء الجديدة، أمّ الكنيسة، تُواصِل في السماء دورها الأمومىّ في شأن أعضاء المسيح» ("التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة"، بند 975). ودورها الأمومىّ الرّوحيّ هذا تمارسه من خلال أمور عديدة؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر: "دموعها" وتوسُّلاتها وأوجاعها.
عندما يُقال "دمع" مريم أو أنّها "تبكي"، فينبغي فهم هذا بشكل تصوريّ ومجازيّ، لا حرفيّ. فإذا قُلنا أنّ الله "يبكي" على أولاده، هل يعني هذا أنّ الله حرفيًّا وماديًّا له عينان، ويزرف الدّموع؟ بالطّبع لا، وإنّما هي تعبيرات مجازيّة عن مواقف وعواطف ومشاعر حقيقيّة مملؤة بالحبّ والحنان تجاه البشر. والعذراء مريم هي أيضًا أُمّ لها عواطف ومشاعر روحيّة، وهي مختبرة وخبيرة في الأحزان والأوجاع (لو 2/ 34-35؛ يو 19/ 1-42؛ رؤ 12/ 1-17).
وأمّا عن اعتقادنا بدور "دمع" العذراء مريم وتوسُّلاتها في نجاة العالم وخلاصه ومناصه، فهو مرتبط ارتباطًا جوهريًّا بدم ابنها يسوع المسيح (والمقصود بـ"الدّم" هنا ليس الدّم في حد ذاته، وإنّما العطاء والتّضحيّة)، وبعمله الخلاصيّ. وليس ثمّة أُمّ طبيعيّة وسليمة وعاقلة وطيبة ومُحبّة لا تشارك ابنها حياته ورسالته وعمله، وتسعى إلى إنجاحهم. فعلينا مناجاتها باستمرار من أجل نجاة "العالم الدّامي"، ونجاتنا من الحروب المشتعلة في أيامنا المعاصرة، في أماكن جغرافيّة متنوّعة:
يا دَمع مريم النقيّة، لا تتوقّف أبدًا عن السّقوط بغزارة، لقد كنت بالأمس تبكي دَم يسوع ابن البتول كليّة الطّاهرة، وأريدك اليوم أن تبكي ما آل إليه عالمنا. فليتك تبكي الدَم النّازف ليس مِن الأجساد فحسب، بل ومِن العقول والقلوب والنّفوس المريضة بداء الخطيئة. وليتك تبكي وتكون شاهدًا لعالمنا وشهيدًا فيه! انظر أيّها الدَّمع الحزين ذاك الدَّم النّازف مِن جَرْح البشريّة العميق، فلا تتوقّف لأنّه لا خلاص ولا مناص لهذا العالم الدّامي إلّا دَم يسوع وإياك!
ثالثًا: العذراء مريم "أُمّنا في نظام النّعمة"
1) "مثالنُا النّموذجيّ": أُنموذَجيُّتها في فضائل المحبّة والرّجاء والإيمان
«بخضوع مريم العذراء الدائم والكامل لإرادة الآب، وبمُماشاتها لعمل ابنها الفدائي، ولعمل الروح القدس كله، كانت للكنيسة مثال الإيمان والمحبّة. وهى بذلك "عضو في الكنيسة فائق ووحيد"، بل أنها "التحقيق المثاليّ" للكنيسة» ("التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة"، بند 967).
2) متعاونةٌ ومساهمة في "عمل المسيح الخلاصيّ"
«ودور العذراء، بالنسبة إلى الكنيسة وإلى البشرية كلها جمعاء، يصل إلى أبعد من ذلك. "فقد أسهمت بطاعتها وإيمانها ورجائها ومحبّتها المضطرمة، في عمل الخلاص إسهامًا لا مثيلَ له على الإطلاق، من أجل أن تُعاد على النفوس الحياة الفائقة الطبيعة؛ لذلك كانت لنا، في نظام النعمة، أُمًّا» ("التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة"، بند 968).
3) الشّفيعةُ والمحامية والنّصيرة والظّهيرة والوسيطة
«إنطلاقاً من الرضى الذي حَمَلَته بإيمانها يوم البشارة وحافظت عليه دون ترددٍّ تحت الصليب، تستمرُّ أمومة مريم في تدبير النعمة دون ما انقطاع حتى يبلغ المختارون الكمال الأبدي. وفعلاً إن دورها في الخلاص لم يتوقف بعد صعودها إلى السماء، إنها لا تزال تحصل لنا بشفاعتها على النِعَمِ التي تُؤكِّدُ خلاصَنا الأبدي. إنَّ حبَّها الأمومي يجعلها تصغي إلى إخوةِ ابنها الذين لم يُكملوا غربتهم، أو إنهم لا يزالون عرضةً للمخاطر والضيقات حتى يصلوا إلى الوطن السعيد. لهذا تُدعى الطوباوية العذراء في الكنيسة بألقابٍ عدّة منها الحامية، والمُعينة، والمساعدة، والوسيطة» (المجمعُ الفاتيكانيّ الثَّاني، دستور عقائديّ في الكنيسة "نور الأمم"،، بند 62).
رابعًا: صَلواتٌ مريميّة للبابا بِنِديكْتُس السّادس عشر والبابا فرنسيس حول فضائل المحبّة والرّجاء والإيمان
1) البابا بِنِديكْتُس السّادس عشر: العذراء مريم هي مَن "تبيّن لنا ما هو الحبّ، ومن أين ينبع"
«يا قدّيسةُ مريم، يا والدةَ الله،
لقد منحتِ العالمَ النورَ الحقيقيّ،
يسوعَ، ابنكِ– ابنِ الله.
لقد استسلمتِ كليًّا
إلى صوت الله
فأصبحتِ هكذا ينبوعَ
الحنانِ الفائضِ منه.
أرِينا يسوع. قودينا إليه.
علّمينا أن نعرفَه ونحبَّه.
كي نستطيع، نحن أيضًا،
أن نصيرَ قادرين على حبٍّ حقيقي،
ونكون ينابيعَ ماءٍ حيّ
وسط عالَمٍ ظمآن» (الرّسالة العامّة "الله محبّة"، بند 42).
2) البابا بِنِديكْتُس السّادس عشر: العذراء مريم "نجمةُ الرجاء"
«لها إذًا نتوجّه قائلين: يا قدّيسة مريم، أنتِ كنتِ واحدةً من تلكَ النفوسِ المتواضعةِ والعظيمةِ في إسرائيلَ، تلكَ التي كسمعانَ كانت تنتظرُ "عزاءَ إسرائيل" (لو 2، 25) وتتطلَّعُ كحنة إلى "فداءِ أورشليم" (لو 2، 38). كنتِ تحيينَ بعلاقةٍ حميمةٍ مع كتبَ إسرائيلَ المقدّسة، تلك التي كانت تتكلّمُ عن الرجاء– عن وعدِ الله لإبراهيم ونسلِهِ (را. لو 1، 55). لهذا نفهمُ الرهبةَ المقدّسةَ التي شعرتِ بها عندما دخلَ ملاكُ الربِّ مخدعَكِ وقال لكِ بأنكِ ستلدين رجاءَ إسرائيلَ ومُنتَظَرَ العالم. بواسطتكِ وبفضلِ الـ"نَعَم" التي قلتيها، كان على الرجاء المنتَظَرِ منذُ آلافِ السنين أن يَغدوَ واقعًا، أن يدخُلَ في هذا العالم وفي تاريخه. لقد انحنيتِ أمامَ عظَمَةِ هذه المُهمّة وقلتِ "نَعَم": "أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ" (لو 1، 38). وعندما كنتِ مملوءةً بالفرحِ وعَبَرتِ بسرعةٍ جبالَ اليهوديةِ لتصلي عندَ نسيبتِكِ اليصابات، قد صرتِ الكنيسةِ المستقبليّة التي تحملُ في داخلها رجاءَ العالمِ عَبرَ جبالِ التاريخ. مع الفرحِ الذي نشرتيهِ عَبرَ السنين من خلالِ ترديدنا وترتيلنا نشيدَكِ "تعظِّمُ نفسيّ الربَّ"، كنتِ على علمٍ أيضًا بأقوالِ الأنبياء الغامضة، التي تحدّثوا فيها عن ألَمِ عبدِ الله في هذا العالم. عند الميلادِ في مذود بيتِ لحم أشرَقَ ضياءُ الملائكةِ الذين حَمَلوا الخبرَ السارَّ للرعاة، لكن في نفس الوقت صار فقرُ الله في هذا العالم ملموسًا إلى أقصى الحدود. لقد كلّمكِ الشيخُ سمعان عن السيفِ الذي كان سينفذُ في قلبك (را. لو 2، 35)، عن كون ابنكِ آيةً معرَّضةً للرفضِ في العالم. وعندما بدأ يسوعُ نشاطه العلنيّ كان عليكِ أن تتنحّي جانبًا، في سبيل نموّ العائلة الجديدة التي أتى لأجلِ تأسيسها وهي تتطوّرُ بفضلِ مساهمةِ أولئكَ الذين سمعوا كلمته وحفظوها (را. لو 11، 27 وما يليه). وبالرغم من كل الفرح الذي رافقَ انطلاقةَ نشاطِ يسوع، كانَ عليكِ أن تختبري في مَجمَع الناصرة حقيقةَ "الآية المعرّضةِ للرفض" (را. لو 4، 28 وما يليه). هكذا قد رأيتِ سلطانَ الحقدِ المتزايدِ والرفضِ المتصاعِدِ تجاه يسوع حتى ساعةِ الصليب، حيث كان عليكِ أن تري مُخلِّصَ العالم، وريثَ داود، ابن الله يموت بين الأشرار، كفاشلٍ يسخرون منه. فقبلت عندئذٍ الكلمة: "يا امرأة، هذا ابنك!" (يو 19، 26). ومن على الصليب أعطيتِ مُهمَّةً جديدة. فمن الصليب أصبحتِ أمًا بطريقةٍ جديدة: أمًا لكل الذين يريدون الإيمانَ بإبنكِ يسوع واتباعه. لقد نَفَذَ سيفُ الآلامِ قلبَكِ. فهل مات الرجاءُ؟ هل بقيَ العالمُ دونَ نورٍ نهائيًا، وهل بقيتِ الحياةُ دون هدفٍ؟ في تلكَ الساعةِ قد سمعتِ، على الأغلب، في قلبكِ كلمةُ الملاكِ تتردَّدُ من جديد، تلك التي بها أجاب عن خوفكِ في لحظةِ البشارة: "لا تخافي، مريم!" (لو 1، 30). كم مرةً كان قد ردّدها الربُّ ابنُك لتلاميذه: لا تخافوا! في ليلِ الجلجلة قد سمعتِ من جديدٍ هذه الكلمة. قبل ساعةِ تسلميه قد قال لتلاميذه: "ثقوا! فقد غلبتُ العالم" (يو 16، 33) "لا تضطرب قلوبكم ولا تفزع" (يو 14، 27). "لا تخافي، مريم!" يومَ البشارة قال لكِ الملاكُ أيضًا: "لن يكونَ لمُلكِهِ نهاية" (لو 1، 33). فهل كان مُلْكُهُ قد انتهى قبل أن يبدأ؟ لا، عند الصليبِ، وحسبَ كلمة يسوعَ نفسها، أنتِ قد صرتِ أمَّ المؤمنين. بهذا الإيمان، الذي كانَ لكِ رجاءً أكيدًا حتى في ظلامِ السبتِ المقدّس، قد سِرتِ نحوَ صباحِ الفصح. لقد لمسَ فرحُ القيامةِ قلبَكِ ووحَّدَكِ مع التلاميذِ بشكلٍ جديد، التلاميذ المزمعينَ أن يصيروا عائلةَ يسوع بفضلِ الإيمان. هكذا كنتِ موجودةً في وسط جماعةِ المؤمنين، الذين اجتمعوا ليُصلّوا بنفسٍ واحدةٍ بعد صعودِ الربِّ ليطلبوا عطيةَ الروح القدس (را. رسل 1، 14) فنالوه في يوم العنصرة. لقد كان "ملكوت" يسوعَ مختلفًا عما تصّوره الناس. ذاك "الملكوت" الذي بدأ في تلك الساعة دون أن يكون له انقضاء. هكذا تظلّين أنتِ بين التلاميذِ كأمٍ لهم، كأمِّ الرجاء. يا قديسة مريم، يا والدةَ الله، علّمينا أن نؤمن، أن نرجو وأن نحبّ معكِ. أرشدينا الطريقَ نحوَ ملكوتِهِ! يا نجمةَ البحرِ، أشرقي علينا وسيري أمامَنا في الدرب!» (الرّسالة العامّة "بالرجاء مخلَّصون"، بند 50).
3) البابا فرنسيس: العذراء مريم "أُمّ إيماننا"
«لنتوجه بالصلاة إلى مريم، أم الكنيسة وأم إيماننا:
أيتها الأم، ساعدي إيماننا!
افتحي إصغاءنا للكلمة، كي نتعرف على صوت الله وعلى دعوته.
ايقظي فينا الرغبة في اتباع خطواته، خارجين من أرضنا ومحتضنين وعدَه.
ساعدينا في أن نسلم أنفسنا لتلمسنا محبته، وكي نتمكن من أن نلمسه بالإيمان.
ساعدينا في أن نثق فيه كليًّا، وفي الإيمان بمحبته، لا سيما في أوقات الشقاء والصليب،
عندما يكون إيماننا مدعو للنضج.
أبذري في إيماننا فرحة القائم من بين الأموات.
ذكِّرينا بأن مَن يؤمن ليس وحيدا البتة.
علمينا أن ننظر بأعين يسوع، حتى يكون هو نور طريقنا. حتى ينمو نور الإيمان هذا فينا دائما،
إلى أن يأتي ذاك اليوم الذي لا يعرف غروبا،
والذي هو المسيح ذاته، ابنك، وربنا!» (الرّسالة العامّة "نورُ الإيمان"، بند 60).