موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٦ مارس / آذار ٢٠٢٤

النُّمو الرُّوحي ومَثَل الزَّرْع وحَبَّة الخَرْدَل

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد الحَادي عَشْر للسَّنة: النُّمو الرُّوحي ومَثَل الزَّرْع وحَبَّة الخَرْدَل (مرقس 4: 26-34)

الأحَد الحَادي عَشْر للسَّنة: النُّمو الرُّوحي ومَثَل الزَّرْع وحَبَّة الخَرْدَل (مرقس 4: 26-34)

 

النَّص الإنجيلي (مرقس 4: 26-34)

 

26 وقال ((مَثَلُ مَلَكوتِ اللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ يُلْقي البَذْرَ في الأَرض. 27 فسَواءٌ نامَ أو قامَ لَيلَ نَهار، فالبَذْرُ يَنبُتُ ويَنمي، وهو لا يَدري كيفَ يَكونُ ذلك. 28 فَالأَرضُ مِن نَفسِها تُخرِجُ العُشبَ أَوَّلًا، ثُمَّ السُّنُبل، ثُمَّ القَمحَ الَّذي يَملأُ السُّنبُل. 29 فما إِن يُدرِكُ الثَّمَرُ حتَّى يُعمَلَ فيه المِنجَل، لِأَنَّ الحَصَاد قد حان)). 30 وقال: ((بِماذا نُشَبِّهُ مَلَكوتَ الله، أَو بِأَيِّ مَثَلٍ نُمَثِّلُه؟ 31 إِنَّه مِثلُ حَبَّةِ خَرْدَل: فهِيَ، حينَ تُزرَعُ في الأَرض، أَصغَرُ سائرِ البُزورِ الَّتي في الأَرض. 32 فإِذا زُرِعَت، اِرتَفَعَت وصارَت أَكبَرَ البُقولِ كُلِّها، وأَرسَلَت أَغْصانًا كَبيرة، حتَّى إِنَّ طُيورَ السَّماءِ تَستَطيعُ أَن تُعَشِّشَ في ظِلِّها)).

 

 

مقدمة

 

ضَرب يسوع مَثَل الزَّرْع الذي ينمو ومَثَل حَبَّة الخَرْدَل شارحًا للنَّاس قوَّة المَلكوت الخِفْيَّة في نموه وانتشاره.  فإنَّ قوَّة المَلكوت لا تظهر في معجزات المسيح فحسب، إنّما أيضًا في تعليمه، ولاسيما من خلال الأمْثَال (مرقس 4: 26-34). ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: تحليل وقائع النَّص الإنجيلي (مرقس 4: 26-34)

 

 

26 وقال: مَثَلُ مَلَكوتِ اللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ يُلْقي البَذْرَ في الأَرض

 

تشير عبارة "قال" إلى طريقة الأمْثال مع إشارة خاصة إلى مسؤوليَّة السَّامعين.  ومن الأرجح أنَّ المسيح قال هذا المَثَل للجَمع كلِّه وهو يُخاطبهم من السَّفينة.  أمَّا عبارة " مَثَلُ مَلَكوتِ اللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ يُلْقي البَذْرَ في الأَرض" فتشير إلى مَثَل الزَّرْع الذي ينمو في الخِفْيَّة، وهو مَثَل انفرد مرقس الإنجيلي بتدوينه (مرقس 4: 26-29). أمَّا عبارة " مَلَكوتِ اللهِ " فتشير إلى حُكم الله كمِلك وسلطانه على النَّاس الذين يُطيعون إرادته من قلوبهم فيُصبحون رعايا مملكته الرُّوحيَّة. فهو عمل الله في الإنسان من أجل نمو الإيمان بداخله (مرقس 1: 14-15). ويدعو متى الإنجيلي "مَلَكوتِ اللهِ" بعبارة "ملكوت السَّماوات" تمشيًا مع تقاليد الأسلوب الرَّبّاني. ومَلَكوتِ اللهِ هو حقيقة سرِّيَّة لا يستطيع أن يُطلعنا على طبيعتها إلاَّ يسوع وحده، وذلك من خلال كرزاته ومعجزاته، وتدل هذه العبارة أيضًا على حياة التَّقوى في القلب (متى 6: 33)، وعلى النِّظام الذي أتى المسيح ليؤسِّسه (متى 4: 17)، وعلى مجد المسيح وسلطانه (متى 16: 28)، وعلى سلطان الله على الكلِّ (متى 6: 10) وعلى الحالة السَّماويَّة (متى 8: 11). والمُعجزات التي تصحب كرازته هي علامات لقيام المَلكوت. وعند مجيء ملكوت الله ينقضي تَسلُّط إبليس، والخطيئة، والموت، على البشر، كما صرَّح يسوع المسيح: " إِذا كُنتُ أَنا بِروحِ اللهِ أَطرُدُ الشَّياطين، فقد وافاكُم مَلكوتُ الله" (متى 12: 28). أمَّا عبارة " رَجُلٍ " فتشير إلى الزَّارع نفسه (يوحنا 4: 36) حيث يقوم دوره في الزَّرْع في البداية والحَصَاد في النِّهاية (مرقس 4: 29).  وهو يرمز للمسيح نفسه أو للمُبشِّر بالإنجيل أيضًا. أمَّا عبارة " يُلْقي " في الأصل اليوناني βάλῃ (بصيغة الماضي التَّام) فتشير إلى تكلُّم يسوع بصيغة الماضي للدلالة على اكتمال العمل، على خلاف الأنبياء الذين يتكلمون بصيغة المستقبل كما ورد في نبوءة حزقيال "إِنِّي سآخُذُ مِن ناصِيَةِ الأَرزِ العالي لأَغرِسَها" (حزقيال 17: 22). ومن هذا المنطلق، فإن حديث يسوع هو كشف ووحي، أمَّا حديث الأنبياء فإشارة وتلميح. أمَّا عبارة " يُلْقي البَذْرَ " فتشير إلى حركة طبيعيَّة، حركة أمل ومُجازفة، أخّاذة وغامضة، هل ينمو الزَّرْع؟ أمَّا عبارة " البَذْرَ " في الأصل اليوناني σπόρος (معناها الزَّرْع) فتشير إلى الحُبوب التي زُرعت في الأرض، وحيث أنَّ البَذْر هي هبة من الرَّبّ، لا يمكن أن تكون غير مثمرة. وهي ترمز إلى كلمات الله وتعاليمه ووصاياه، أمَّا عبارة " الأَرض" فتشير إلى الإطار الذي أعدتَّه العِناية الإلهيَّة لحياة الإنسان، كما جاء في المزامير "سماء السَّماوات للرَّبّ والأرض جعلها لبني البشر" (مزمور 115: 16). وتتوقف حياة الإنسان كليًّا على الخيرات الكامنة في الأرض وعلى خِصْب تُربتها. فلا عجب أن نرى الأرض وخيراتها الماديَّة تُشغل مكانًا هامًا في الوحي: فهي تشترك مع الإنسان في كلّ تاريخ الخلاص، منذ البدء وحتّى انتظار الملكوت الآتي. وهكذا أصبحت الأرض إشارة إلى طبيعة البشر بعد أن صارت خليقة جديدة (1 قورنتس 5: 7). والأرض ترمز إلى قلب الإنسان أو البشر عامة.

 

27 فسَواءٌ نامَ أو قامَ لَيلَ نَهار، فالبَذْرُ يَنبُتُ ويَنمي، وهو لا يَدري كيفَ يَكونُ ذلك

 

تشير عبارة "سَواءٌ نامَ أو قامَ لَيلَ نَهار" إلى عدم مشاركة المُزارع في عمليَّة النُّمو، لأنَّ لا شأن له في ذلك، وهو يجهل مـا يتمُّ أثناء هذه الفترة، إنَّما يجب عليه أن ينتظر ويصبر، كما ما ورد في تعليم يعقوب الرَّسول "أُنظُروا إلى الحارِثِ كَيفَ يَنتظِرُ غَلَّةَ الأَرضِ الثَّمينة فيَصبِرُ علَيها حتَّى يَجنِيَ باكورَها ومُتأَخِّرَها" (يعقوب 5: 7). الصَّبر يرتبط بالانتظار، والانتظار يتطلب الثِّقة بالأرض والبَذر، أي الحبوب التي زرعت في الأرض، وحيث أنَّ البَذر هي هِبة من الرَّبّ، ولا يمكن أن تكون غير مثمرة. وكما أنَّ الزَّارع مدعوٌّ إلى الثِقة بالأرض وعليه ألاَّ يفقد الصَّبر إن لم تظهر النَّتائج له في الحال كذلك على المُبشر بالكلمة الإلهيَّة بعد أن يزرع الحق في آذان النَّاس وقلوبهم أن يتكل على الله لكي يُحيي ذلك الزَّرْع ويجعله مثمرًا كما يشاء. أمَّا عبارة " فالبَذْرُ يَنبُتُ ويَنمي " فتشير إلى قدرة حَبَّة القمح التي تطلع وتنمو وحدها بأمر الله، لا بأمر زارعها. يا لها من قوة تعمل لإنبات البِذْرَة. هكذا كلمة الله التي يسمعها الإنسان أو يقرأها في الإنجيل تُنتج التَّوبة والإيمان والقداسة بفعل الرُّوح القدس. وما على المُبشِّر بالكلمة الإلهيَّة بعد أن يزرع الحق في قلوب النَّاس إلاَّ الاتكال على الله بصبر الذي يجعل هذا الزَّرْع مُثمرًا. كما أن البَذُرَة، يتحقق من ذاته، ولا يُحقِّقه البشر كذلك الملكوت ذاته الكامن في التَّاريخ، لان قوة الملكوت الخَفْيَّة تنمو إلى زمن قيام ملكوت الله النِّهائي المُمثَّل بالحَصَاد. ملكوت الله هو عمل إلهي لا يتوقف، وغير ظاهر، مستقل وعجيب. أمَّا عبارة "هو لا يَدري كيفَ يَكونُ ذلك" فتشير إلى عدم معرفة الزَّارع سرّ الإنماء والنُّضوج، وبالتَّالي عدم السَّيطرة، والجهل بمصير البَذر لان نمو الزَّرْع لا يقوم إلاَّ بفضل الوسائط كالمطر وضوء الشّمس وحرارتها، وهذه ليست في سلطان الزَّارع. إنّه لا يملك أي شيء، ولا يستطيع أن يفعل أيّ شيء كي يجعل البَذر تنضج. فالبَذْر ينبت وينمو تلقائيًا، ولكن دون الكشف عن سرّ قوّته، ودون إظهار تطوّره البطيء والأكيد. وفترة نمو الزَّرْع طويلة، وتتمّ بعيدًا عن الأعين، وفي سرِّيَّة تامة في جوف التُّربة في عمل خَفي حيث الزَّارع ينام ليله الطويل مُطمئن البال، دون أن يساوره أي قلق، ولا معرفة له في عمليَّة النُّمو.  إنها فترة النُّمو والتَّغييرات العجيبة، إنه زمن حاسم، زمن عمل الله، فلا مجال لخيبة الأمل ولا الاضِّطراب ولا لنفاذ الصَّبر. إنها فترة انتظار واثق: فالزَّارع ينتظر بصبر ثمار عمله، يملأه الرَّجاء بمَحَبَّة الله. وتقع عمليَّة النُّمو بين الزَّرْع والحَصَاد؛ ولا يقاس النُّمو بما نعرف أو لا نعرف، إنما نحن أمام الإيمان الذي يعرف أن ينتظر، لأن مسئوليه النمو والإثمار هي مسئولية الله نفسه وليس الزارع الخادم، كما قال بولس الرسول: "لَيسَ الغارِسُ بِشَيء ولا السَّاقي، بل ذاكَ الَّذي يُنْمي وهو اللّه" (1قورنتس 3: 7). كما أنَّ النَّاس لا يروا نمو البَذُرَة بشكل ظاهر للعيان كذلك ملكوت الله ينمو من غير أن يلاحظه كثيرون، ولا يكشف هذا النُّمو إلا الإيمان. وهنا يعُلن مرقس الإنجيلي أن النُّمو الرُّوحي عملٌ تدريجيٌ مستمرُ إلى أن يبلغ نهايته في الحَصَاد.  فهذه الآية هي إشارة واضحة لعمل الروح القدس في الكنيسة والإنسان، فالروح القدس هو المسئول عن النمو الرُّوحي في حياة كل منَّا، ولهذا تنمو البذار في القلب ويتجاوب معها الإنسان.

 

28 َالأَرضُ مِن نَفسِها تُخرِجُ العُشبَ أَوَّلًا، ثُمَّ السُّنُبل، ثُمَّ القَمحَ الَّذي يَملأُ السُّنبُل

 

تشير عبارة "الأَرضُ مِن نَفسِها تُخرِجُ" إلى عمل الأرض التي تعمل بصورة آليَّة. فالأرض تثمر من تلقاء نفسها، بطريقة غير منظورة حيث أنَّ عمل الزَّارع يقتصر على فلاحة الأرض وخدمتها وطرح البذور وسقيها إن اقتضى الأمر.  فهناك أمور لا تتعلق بمجهود الفلاح؛ النُّمو يعمل لوحده وهو بحاجة إلى الوقت الّذي يُتيح للبذور أن تنمو. كم هذا عظيم. وفي هذا الأمر لا يشير المَثَل هنا إلى قدرة الطبيعة، إنَّما يشير إلى عمل الله. إذ يفعل الله ما لا يراه الإنسان جاعلاً الأرض تُحيي البَذْر وتُنبته وتُنمِّيه إلى الكمال، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "أنا غَرَستُ وأَبُلُّسُ سَقى، ولكِنَّ اللهَ هو الَّذي أَنْمى" (1 قورنتس 3: 6). ولكن هذا لا ينفي وجوب اتِّخاذ الإنسان الوسائل للحصول على الحَصَاد الرُّوحي "اعمَلوا لِخَلاصِكم بِخَوفٍ ورِعدَة " (فيلبي 2: 12). وهكذا القلب البشري لا يستطيع أن يأتِ بشيء من القداسة من تلقاء ذاته، لكنَّه إذا اتخذ الوسائط التي عيَّنها الله، أتى الله وحده بالنَّتيجة.  أمَّا عبارة "العُشبَ أَوَّلًا، ثُمَّ السُّنُبل، ثُمَّ القَمحَ الَّذي يَملأُ السُّنبُل " فتشير إلى الدَّرجات الثَّلاثة في نمو النَّبات، وهي سلسلة من العجائب الطبيعة تبدأ في الخِفْيَّة عندما يُلقي الفلاح البَذْر في الأرض: نمو العشب، ثم السُّنبل ثم القمح. النُّمو نفسه غير منظور، لكنَّ نتائجه ظاهرة. كذلك النُّمو نفسه في المؤمن غير منظور، ولكن أثماره ظاهرة، وهي "المَحَبَّة والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإيمان والوَداعةُ والعَفاف" (غلاطية 5: 22-23).  ويشير يسوع هنا إلى القوَّة التي بها نؤمن أنَّ الله يعمل ليتحوّل زَرْعنا حَصَادا. فالنمو الروحي في حياة الإنسان هو نمو تدريجي، وليس انقلابًا وتغييرًا في لحظة. فيبدأ كنبات بسيط في بداية التوبة، وبعد ذلك سنابل، أي الأعمال الصالحة، ثم يصير قمحًا أي ثمرا ناضجا ثابتا، وكذلك هو مصدر غذاء روحي لآخرين.  أمَّا عبارة " العُشبَ " فتشير إلى أوَّل انشقاق البَذْر وظهور الأوراق فوق الأرض وفيه حياة البَذْر. أمَّا عبارة "السُّنُبل" فتشير إلى جزء من النَّبت فيه الثَّمر كسَّنابل الحنطة والشّعير وغيرها، والمُراد به هنا نبتة القمح.  أمَّا عبارة "القَمحَ " فتشير ما هو المُعدٌّ للحَصَاد. يعمل الزَّارع في الزَّرْع وبعد الحَصَاد، وأمَّا ما بين الزَّرْع والحَصَاد فهو في يد الله. في هذا المَثَل يدعو يسوع المؤمنين إلى الثِقة بعمل الله في البَذْر وفي الأرض معًا.  والثِقة تتطلب انتظار مراحل النُّموّ المُختلفة: “العُشبَ أَوَّلًا، ثُمَّ السُّنُبل، ثُمَّ القَمحَ الَّذي يَملأُ السُّنبُل". لتكن لدينا الثِقة بحضور الله الخَفيّ وملكوته. إن تعليم الإنجيل يحمل قوته في ذاته. فالمُبشر يزرع كلمة الله، والله يجعلها فعاَّلة مثمرة لخلاص النُّفوس، وهذا أعظم شرف للإنسان فأول واجباته العمل مع الله كما يقول بولس الرَّسول " نَحنُ عامِلونَ مَعًا في عَمَلِ الله"(1 قورنتس 3: 9).  

 

29 فما إِن يُدرِكُ الثَّمَرُ حتَّى يُعمَلَ فيه المِنجَل، لِأَنَّ الحَصَاد قد حان

 

 تشير عبارة " فما إِن يُدرِكُ الثَّمَرُ " إلى كمال النضج. والمقصود انتشار ملكوت الله على قلوب الناس. أمَّا عبارة "يُدرِكُ" في الأصل اليوناني παραδοῖ (معناه يسمح، يهب، يمنح) فتشير إلى عدم معرفة الإنسان كيف يتمّ سرّ نُّضوج الثمر. ينبت البَذْر وينمو، ولكن دون الكشف عن سرّ قوّته، ودون إظهار تطوّره البطيء والأكيد. إنَّها صورة رائعة: الثَّمر هو الذي يمنح ذاته للإنسان، والإنسان لا يفعل شيئًا؛ إنه لا يعمل بل يقبل الثَّمر. الزَّرْع هو الذي يقوم بكل شيء: فهو الذي ينبت، وهو الذي ينمو، وهو الذي ينضج، وهو الذي يهب نفسه للإنسان في الحَصَاد. أمَّا عبارة "حتَّى" في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال) فتشير إلى السُّرعة. إنه زمن يدعو للعجلة، حان الوقت (مرقس 1: 15). أمَّا عبارة "يُعمَلَ" في الأصل اليوناني ἀποστέλλει) فتشير إلى الفعل المَبني للمجهول، ولا يذكر الحاصد، بل يُذكر آلة الحَصَاد، وهي المنجل. أمَّا كلمة "المِنجَل" فتشير إلى آلةٌ يدويَّة نصف دائرية تستخدم كسكين لحشِّ الكلاء أو لحَصْدِ الزَّرْع هذا ما رآه يوئيل النَّبي القائل أَعمِلوا المِنجلَ فإنَّ الحَصَاد قد بَلغَ" (يؤيل 4: 13). فالله يأخذ بعض المؤمنين عندما يستعدّون، ويترك البعض مدة على الأرض، كما أعلن بولس الرَّسول (فيلبي 1: 23-23).  أمَّا عبارة "الحَصَاد" فتشير إلى عمليَّة جني المحصول الزَّراعي بهدف استخدامه، فان ما يُزرع يُحصد. ولكن استعارة "الحَصَاد" كثيرًا ما وردت في الكتاب المقدس للإشارة إلى الدَّينونة الأخيرة، كما ورد في سفر أشعيا (63: 3)، وفي سفر الرُّؤيا "أَرسِلْ مِنجَلَكَ واحصُدْ" (رؤيا 14: 15). أمَّا عبارة " قد حان " في الأصل اليوناني παρέστηκεν فتشير إلى صيغة الماضي التَّام وفي ذلك إشارة إلى الوقت الذي يدنو ويبقى ويستمر. فالأرض والزَّراع والبَذْر بحاجة إلى الوقت للبلوغ زمن الحَصَاد. إنها مرحلة ثبات وليست مرحلة عابرة. زمن الحَصَاد طويل ولكنه في نفس الوقت زمن يجب انتهازه واغتنامه. ويقتصر دور التَّلميذ على إعلان البشارة والحَصَاد.

 

30 وقال: بِماذا نُشَبِّهُ مَلَكوتَ الله، أَو بِأَيِّ مَثَلٍ نُمَثِّلُه؟

 

عبارة "مَثَلٍ" في الأصل اليوناني παραβολή (معناها حرفيًا وضع شيئين جنبًا إلى جنب بقصد المُقارنة) تشير إلى إيضاح الحق في المجال الرُّوحي من خلال قصة في المجال الأرضي أو الطبيعي. أما عبارة " مَلَكوتَ الله " فتشير هنا إلى حضور المسيح في العَالَم، كما جاء في إنجيل لوقا "ها إِنَّ مَلكوتَ اللهِ بَينَكم" (لوقا 17: 21). فهو بالفعل قد قال: "إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقامًا"(يوحنا 14: 23).  وتعلق الطوباويَّة تيريزا الكالكوتيّة: "لا يوجد عَالَمان، واحد ملموس وآخر روحي، إنّما هناك عَالَم واحدٌ: ملكوت الله "في الأرضِ كما في السَّماء" (متى 6: 10)" أمَّا عبارة "بِأَيِّ مَثَلٍ نُمَثِّلُه" في الأصل اليوناني   ἐν τίνι αὐτὴν παραβολῇ θῶμεν (معناها حرفيًا في أي مَثَل نضعه) فتشير إلى اهتمام يسوع بمخاطبة النَّاس على قدر عقولهم من خلال تشابيه وأمثالا تُؤثر في قلوبهم.  من المحبَّذ أن يسير المُبشِّر على خطى المسيح في كرازة الإنجيل. وباختصار، يدعو يسوع بمَثَل الزَّرْع إلى الثِقة بمسيرة الملكوت، فهو يفعل فعله منذ الآن في قلوب البشر، وإن بدأ صغيرًا. ففي النِّهاية سيكون نموه عجيبًا.

 

31 إنَّه مَثلُ حَبَّةِ خَرْدَل: فهِيَ، حينَ تُزرَعُ في الأَرض، أَصغَرُ سائرِ البُزورِ الَّتي في الأَرض

 

تشير عبارة " حَبَّةِ خَرْدَل " إلى حَبَّة تَنبت نباتًا بَرِّيًا، أو تُزرع في البساتين للاستفادة من بذورها. ونجد مَثَلَ حبة الخردل إنجيل متى (متى 31:13-32) وفي إنجيل لوقا (6:17) كانت تنمو في بريّة فلسطين وعلى ضفاف نهر الأردن في أحجام كبيرة حتى يبلغ عُلوها مترين ونصف، فتجثم الطيور على أغصانها لالتقاط الحَب. وكان الرَّبّانيون اليهود يستخدمون حَبَّة الخَرْدَل للإشارة لأصغر شيء. وصار مَثَلا مشهورًا لديهم. "إِن كانَ لَكم مِنَ الإيمان قَدْرُ حَبَّةِ خَرْدَل قُلتُم لِهذا الجَبَل: اِنتَقِلْ مِن هُنا إلى هُناك، فيَنتَقِل، وما أَعجَزَكُم شيء" (متى 17: 20). يُستوحى المَثَل من سفر أشعيا النَّبي " أَغرِسُه فيُنشِئُ أَفْنانًا ويثمِرُ ثَمَرًا ويَصيرُ أَرزًا جَليلًا " (حزقيال 17: 23).

 

32 فإِذا زُرِعَت، اِرتَفَعَت وصارَت أَكبَرَ البُقولِ كُلِّها، وأَرسَلَت أَغْصانًا كَبيرة، حتَّى إِنَّ طُيورَ السَّماءِ تَستَطيعُ أَن تُعَشِّشَ في ظِلِّها

 

تشير عبارة "إِذا زُرِعَت، اِرتَفَعَت " إلى اندفاع لا يُمكن مقاومته، ويعشيه كل واحد من دون أن يكون سيدَ الأمر، بل مشاهدًا فقط، وهذا هو حال الملكوت أيضًا. أمَّا عبارة "صارَت أَكبَرَ البُقولِ كُلِّها" فتشير إلى التَّباين بين صِغر الحَبَّة، وهي مدفونة في الأرض، وكِبر النَّبات في نهاية نموّه، وذلك للدلالة على قوَّة ملكوت الله الذي تعمل قدرته في الخِفاء من خلال أعمال يسوع وتعليمه. ومن هذا المنطلق، نستطيع أن نفهم عمليَّة النُّمو الرُّوحي من خلال مقارنته بنمو حَبَّة الخَرْذل البطيء، ولكن أكيد أن المفاجأة في المَثَل ليست في النِّهايَّة بل في البداية: لا يقول المَثَل كيف تصير البداية الصَّغيرة ملكوتًا، ولا يقول إلامَ يُشبه ملكوت، ولا يقول متى يأتي الملكوت.  بل المَثَل يدعو إلى ضرورة حتميَّة ووعد أكيد يقودان البداية الصَّغيرة إلى عظمة الاكتمال، وهكذا المَثَل يخفي بقدر ما يكشف. ويعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس: " الرَّبّ يسوع قد زرع حَبَّة الخَرْدَل في حديقته. أخذت جذورها عندما وعد الآباء بالملكوت، لقد أفرخت مع الأنبياء، وكبرت مع الرُّسل، وأصبحت الشّجرة الكبيرة الّتي امتدت أغصانها الّتي لا عدّ لها في الكنيسة، وأغدقت عليها هباتها"(العظة 98). أمَّا عبارة " طُيورَ السَّماءِ" فتشير إلى الحيوانات الطائرة التي بلغ عددها نحو 348 نوعًا في فلسطين، وهي ترمز للأمم الذين آمنوا ودخلوا تحت ظلال الكنيسة. ويستوحي المَثَل هنا من سفر دانيال "إلى أَغْصانِها تَأوي طُيورُ السَّماء " (دانيال 4: 9). أمَّا عبارة "إنَّ طُيورَ السَّماءِ تَستَطيعُ أَن تُعَشِّشَ في ظِلِّها" فتشير إلى الأمم الذين سيأويهم الملكوت في نهاية الأزمنة، كما ورد في سفر حزقيال "في أَغْصانِها عَشَّشَت، جَميعُ طُيورِ السَّماء. وفي ظِلِّها سَكَنَت جَميعُ الأُمَمَ الكَثيرة" (حزقيال 31: 6). والواقع، تُستخدم حبوب الخَرْدَل كغذاء للحَمام في فلسطين، فالطيور تأتى إليها وتأوي فيها وتشبع من حُبوبها، ففيها غذاءٌ لها. وفي رؤية متى الإنجيلي يدعو هذا المَثَل الإنسان إلى أن يرى، من خلال حياة يسوع الوضيعة، مجده بعد القيامة (متى 13: 31-32). أمَّا في رؤية إنجيل لوقا فيعبّر المَثَل عن انتشار الملكوت الذي لا يعرف حدًا (لوقا 13: 18-19). ويعلق العلامة أوريجانوس:" ملكوت الله الحاضر فينا، بينما نستمرّ في التَّقدّم، سيبلغُ كمالَه حين يتحقّق كلام الرَّسول بولس: "بعد أن أخضعَ المسيحُ كلَّ شيءٍ تحتَ قَدَمَيه"، "سيَخضَعُ الابنُ نفسُه لذاكَ الذي أخضَعَ له كلَّ شيء، ليكونَ اللهُ كلَّ شيء في كلِّ شيء" (1قورنتس 15: 28)" (مقالة عن الصَّلاة). ليتنا نزرع في قلوبنا حَبَّة الخَرْدَل هذه لكي تُصبح شجرة معرفة الخير والشّرّ (التَّكوين 2: 9)، فتنمو إلى العُلى، رافعةً معها أفكارنا نحو السَّماء.    

 

33 وكانَ يُكَلِّمُهُم بِأَمْثالٍ كَثيرةٍ كهذِه، لِيُلْقِيَ إِلَيهم كلِمةَ الله، على قَدرِ ما كانوا يَستَطيعونَ أَن يَسمَعوها.

 

تشير عبارة "يُكَلِّمُهُم بِأَمْثالٍ كَثيرةٍ" إلى أمثال كثيرة لم يذكر مرقس سوى ثلاثة منها: مَثَل الزَّارع (4: 1-20) ومَثَل السِّراج (4: 21-23) ومَثَل حَبَّة الخرذل (4: 32). أمَّا متى فذكر سبعة منها في الفصل الثَّالث عشر: مَثَل الزَّارع (13: 3-23) ومَثَل الزؤان (13: 24-30)، ومَثَل حَبَّة الخرذل (13: 31-32) ومَثَل الخَميرة (13: 33-35) ومَثَل الكنْز واللؤلؤة (13: 44-46) ومَثَل الشّبكة (13: 50) مَثَل الجديدة القديم (13: 51-52).  تهدف هذه الأمثال ليس للإيضاح فحسب، إنما أيضًا لإيقاظ الضَّمير وتحريكه وللتفكير الجدّي.  ومن هنا يُمكن أن نستنتج أنَّ يسوع يُكلم الجموع بالأمثال لسببين: السَّبب الأول من أجل أن يعرف التَّلاميذ أسرار الملكوت، كما صرّح لتلاميذه " لأَنَّكم أُعطيتُم أَنتُم أَن تعرِفوا أَسرارَ مَلكوتِ السَّمَوات (متى 13: 10-15). أمَّا السَّبب الثَّاني فهو لإيصال وحي أسرار الله إلى السَّامعين، كما ما ورد في تعليم متى الإنجيلي " أَتَكَلَّمُ بِالأَمثال وأُعلِنُ ما كانَ خَفِيًّا مُنذُ إِنشاءِ العَالَم" (متى 13: 34). أمَّا عبارة " لِيُلْقِيَ إِلَيهم كلِمةَ الله "فتشير إلى غرض التَّعليم بالأمثال ومبدأه، حيث أعلنت طبيعة الملكوت للنَّاس عن طريقة المُقارنة لا عن طريق التَّعريف. أمَّا عبارة "على قَدرِ ما كانوا يَستَطيعونَ أَن يَسمَعوها" فتشير إلى أساليب اختار يسوع ما يناسب قدرة سامعيه واستعدادهم للفهم لاكتشاف المعنى الحقيقي لأقواله وتعاليمه. فالمسيح بلَّغ سامعيه صفات ملكوته وتأثيرها في قلوبهم تدريجيًا بتشابيه بسيطة، وهذا ما كان يفعله بولس الرَّسول مع مسيحي قورنتس "إِنِّي، أَيُّها الإِخوَة، لم أَستَطِعْ أَن أُكَلِّمَكُم كَلامي لأُناسٍ روحِيِّين، بل لأَناسٍ بَشَرِيِّين، لأَطفالٍ في المسيح. قد غَذَوتُكُم بِاللَّبَنِ الحَليبِ لا بِالطَّعام، لأَنَّكُم ما كُنتُم تُطيقوَنه ولا أَنتُم تُطيقونَه الآن" (1 قورنتس 3: 1-2).

 

34 ولَم يُكَلِّمْهُم مِن دُونِ مَثَل، فَإِذا انفَرَدَ بِتَلاميذِه فَسَّرَ لَهم كُلَّ شَيء.

 

تشير عبارة "يُكَلِّمْهُم" إلى يسوع الذي يُكلّم الجمع، ولكنَّهم لم يكونوا مستعدِّين لتقبُّل حقيقة الإنجيل. أمَّا التَّلاميذ فاستطاعوا أن يذهبوا إلى ابعد من ذلك، أمَّا عبارة "فَسَّرَ لَهم كُلَّ شَيء" فتشير الأمثال في إنجيل مرقس إلى اللغز، فان سرّها لا يُكشف لجميع السَّامعين بل إلى التَّلاميذ فقط على انفراد، لأنَّهم تعلّقوا بيسوع وأرادوا أن يفهوا تعاليمه مستفسرين عنها " فَسِّرْ لَنا مَثَل زُؤانِ الحَقْل" (متى 13: 36).

 

 

ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (مرقس 4: 26-34)

 

بعد دراسة تحليل وقائع النَّص الإنجيلي في مَثَل الزَّرْع الذي ينمو ولا نعرف كيف نما، ومَثَل حَبَّة الخَرْدَل التي صارت شجرة (مرقس 4: 26-34)، يمكننا استنتاج النِّقاط المشتركة في المَثَلين، وهو النُّمو. والمغزى من ذلك هو النُّمو الرُّوحي: نمو كلمة الله، ونمو المسيحي في الكنيسة ومراحل نمو الملكوت:

 

1. نمو كلمة الله

 

من أجل إتمام خطة الخلاص أرسل الله إلى العَالَم ابنه يسوع مملوءً نعمة وحقًا، وخاضعًا لسُنن الوضع البشري. يبدأ "كطفل بنمو في القوة والحكمة" (لوقا 2: 40). وأعلن تدريجيًا للبشر، بكلمته، سرَّ رسالته، وسرَّ شخصه، واصطدم بمقاومة متصاعدة حتى تبدو ساعة انتصار الظلمة، كما صرّح يسوع بذلك إلى عُظَماءِ الكَهَنَة وقادَةِ حَرَسِ الهَيكَلِ والشّيوخ يقوله: "كُنتُ كُلَّ يَومٍ مَعَكم في الهَيكَل، فلَم تَبسُطوا أَيدِيَكُم إِليَّ، ولكِن هذه ساعتُكم! وهذا سُلطانُ الظَّلام!" (لوقا 22: 53) إلا أنَّه في تلك السَّاعة بالذَات أكمل يسوع عمله، بالغًا بمحبته إلى اقصى الحدود، وأعلن للبشر عن مدى مَحَبَّة الآب لهم "إِنَّ اللهَ أَحبَّ العَالَم حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة" (يوحنا 3: 16). وكما أن حَبَّة الحنطة التي تقع في الأرض تموت لتأتي بثمار كثيرة" (يوحنا 12: 24)، هكذا يبذل الرَّاعي الصَّالح نفسه لكي يهب خرافه فيض الحياة (يوحنا 10: 11).

 

وُلد الملكوت من يسوع المسيح الذي زرع كلمة الله في قلب كلّ إنسان. إنَّ كلمة الله تعمل عملها في قلوب البشر إذا ما أتيحت لها الفرصة في ظروف مؤاتيه، وذلك بالطريقة عينها التي بها "الأَرضُ مِن نَفسِها تُخرِجُ الثَّمر (مرقس 4: 28). فان النُّمو الرُّوحي هو عمل الله الخاص ، ولا يتوقف على تعب الإنسان وجهده، كما جاء في سفر المزامير "إنْ لم يَبنِ الرَّبّ البيتَ فباطلًا يتعبُ البنَّاؤون" (مزمور127: 1)، ويوضّح ذلك أشعيا النَّبي بقوله: "كما يَنزِلُ المَطَرُ والثَّلجُ مِنَ السَّماء ولا يَرجِعُ إلى هُناك دونَ أَن يُروِيَ الأَرض ويَجعَلَها تُنتِجُ وتُنبِت لِتُؤتِيَ الزَّارعَ زَرعًا والآكِلَ طَعامَّا فكذلك تَكونُ كَلِمَتي الَّتي تَخرُجُ مِن فمي: لا تَرجِعُ إِلَيَّ فارِغة بل تُتِمُّ ما شِئتُ وتَنجَحُ فيما أَرسَلْتُها لَه" (أشعيا 55: 10 -12). وهذا العمل هو من وظيفة الرُّوح القُدُس.  وهو ناجمٌ عن قدرته الإلهيَّة الخِفْيَّة.

 

ينحصر العمل البشري في أمرين: أوَّلهما الزَّرْع وثانيهما الحَصَاد (يوحنا 4: 35)؛ أمَّا ما هو بين هذين الأمرين فهو عمل الله والثِّقة به تعالى، كما يؤكد ذلك بولس الرَّسول: "أنا غَرَستُ وأَبُلُّسُ سَقى، ولكِنَّ اللهَ هو الَّذي أَنْمى"(1 قورنتس 3: 6).  فالإنسان يعرف قوة عمل الله الخالق وعلامة بركته في النُّمو والنُّضج، كما جاء في سفر التَّكوين "ما دامَتِ الأَرض فالزَّرْعُ والحَصَاد ...لا تَبطُلُ أبدًا" (التَّكوين 8: 22) ويقول بولس الرَّسول "فلَيسَ الغارِسُ بِشَيء ولا السَّاقي، بل ذاكَ الَّذي يُنْمي وهو اللّه" (1قورنتس 3: 7).   

 

 تأتي كلمة الله المغروسة في القلوب ثمرًا كثيرًا (لوقا 8: 11 و15)، وفي الطريق التي يختارها الله، والوقت التي يشاء، كما جاء في نبوءة أشعيا " تَكونُ كَلِمَتي الَّتي تَخرُجُ مِن فمي: لا تَرجِعُ إِلَيَّ فارِغة بل تُتِمُّ ما شِئتُ وتَنجَحُ فيما أَرسَلْتُها لَه"(أشعيا 55: 11). ولذلك يُعبر لوقا الإنجيلي عن نجاح الكنيسة النَّاشئة، تارةً عن تزايد عدد المؤمنين، كما ورد في سفر أعمال الرُّسل "كانَت جَماعاتُ الرِّجالِ والنِّساءِ تَزْدادُ عَدَدًا فتَنضَمُّ إلى الرَّبّ بِالإيمان فانضَمَّ في ذلكَ اليَومِ نَحوُ ثَلاثَةِ آلافِ نَفْس" (أعمال 5: 14)، وتارةً عن نمو الكلمة "كانت كلِمَةُ اللهِ تَنْمو تنَتَشر" (أعمال 12: 24). وهكذا أصبحت حَبَّة الأمس الصَّغيرة شجرة باسقة، وممتدة فروعها حتى أقاصي الأرض. وهذه دعوة لنا لنكون لنا تفاؤل وثقة في نجاح كلمة الله في النِّهاية.

 

نستنتج مما سبق أنَّ ملكوت الله يرتبط بموضوع مُلك يسوع أحدهما بالآخر بارتباط وثيق، لأنَّ المسيح المَلك هو ابن الله، ذاته ومكانته في وسط سرِّ الملكوت.  ويمرُّ الملكوت في المراحل الثَّلاث المتتابعة: حياة يسوع الأرضيَّة، زمن الكنيسة، وإتمام الأمور بشكلٍ كاملٍ نهائي في السماء.  

 

2. نمو المسيحي داخل الكنيسة

 

كما نمت كلمة الله، يسوع المسيح، كذلك ينمو كل مسيحي.  يشبه ملكوت الله حَبَّة حيَّة يزرعها الله في النَّفس فتنمو ببطء وبشكل خفيًّ، لكنَّها تستمر في النُّمو. فالنُّمو سُنّة الحياة المسيحيَّة أسوةً بحياة البشريَّة. فعلى المسيحي أن يظلّ ساعيًا نحو الغاية على مثال القديس بولس الرَّسول " يَهُمُّني أَمرٌ واحِد وهو أَن أَنْسى ما ورائي وأَتَمطَّى إلى الأَمام فأَسْعى إلى الغاية (فيلبي 3: 13-14)، وأن يشتاق إلى الانتقال من الطفولة الرُّوحيَّة إلى الكمال (1 قورنتس 3: 1-2).

 

يتلقى المؤمن دعوة إلى الثِقة من خلال تعارض بين صِغر الحَبَّة في البداية وكُبرها في النِّهاية (متى 13: 31-32). فالملكوت بدأ صغيرًا في يسوع، ولكنَّه نما في زمن مرقس الإنجيلي فصار شجرة كبيرة. إن قوة ملكوت الله تعمل في الخِفاء عِبرَ أعمال يسوع وتعليمه، بانتظار أن تعمل في تلاميذه الضُّعفاء والمُضطَهَدين. وهذا الملكوت يمتد إلى جميع الأمم (حزقيال 17: 23، 31: 6). وهكذا "إنّ المسيحيّين بالنِّسبة إلى هذا العَالَم هم كالرُّوح بالنِّسبة إلى الجَسد" (الرسالة إلى دِيوغنيتُس).

 

لا يكون نمو المسيحي بطريقة انفراديَّة، إنما في الجماعة الكنسيَّة حيث يتأصل "كحجارة حيَّة".  لأنَّ الكنيسة هي نواة الملكوت وأداته. وبينما المسيحي ينمو من أجل الخلاص، يتمَ بناء البيت الرُّوحاني الذي هو الكنيسة، كما أوضح ذلك القديس بطرس الرَّسول "أَنتم شأنَ الحِجارَةِ الحَيَّة، تُبنَونَ بَيتًا رُوحِيًا فَتكونونَ جَماعَةً كَهَنوتيَّة مُقدَّسة" (1 بطرس 2: 5)، لذلك فإن يحثُّ الرَّسول بولس المسيحيِّين على النُّموّ في الإيمان (2 قورنتس 10: 15)، وفي معرفة الله، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "لِتَسيروا سيرةً جَديرةً بِالرَّبّ تُرْضيهِ كُلَّ الرِّضا وتُثمِروا كُلَّ عَمَلٍ صالِح وتَنْموا في مَعرِفَةِ الله" (قولسي 1: 10).

 

أراد الزَّارع أن يزرع حَبَّة الخَرْدَل في حقله لا من اجل أن تعيش لنفسِها، بل أن تنمو؛ أرادها أن تنمو لا لتزهو بنفسها وتتعالى على غيرها، بل لتأوي إليها الطُّيور وتعشّش في ظِلّها. فما يريده الله من حضورنا هو أن نكون لأجل الآخرين، لا أن نتقوقع على ذواتنا، ونصير غاية في حدّ ذاتها. يُريدنا الله أن نكون وسيلة ليبني بنا ملكوته، ملكوت المَحَبَّة والسَّلام والقداسة والعدل. استخدم يسوع حَبَّة الخَرْدَل أصغر الحبوب لتمثيل "مملكته". قد تبدو المملكة ورعاياها قلائل غير مهمِّين الآن، لكن في النهاية سيكونون أقوياء من خلال قوة الله. ويُعلق العلامة بطرس خريزولوغُس: "إنّ الرَّبّ يسوع المسيح هو الملكوت: على طريقة حَبَّة الخَرْدَل، لقد "زرِع في الأرض"، أي جسد العذراء مريم. ثمّ نما وأصبح شجرة الصَّليب الّتي غمرت الأرض بكاملها" (العظة 98).

 

هذا التَّقدم في معرفة الله هو أولًا نموٌ في نعمته، كما جاء في تعليم بطرس الرَّسول "انمُوا في النِّعمَةِ وفي مَعرِفَةِ رَبِّنا ومُخَلِّصِنا يسوعَ المسيح" (2 بطرس 3: 18)، لأن الفضل الأول في هذا يرجع إلى الرَّبّ، أمَّا الرُّسل، فلئن كانوا عاملين حقًا مع الله، فإنهم يغرسون ويَسقون فقط، والله الذي يُنمي كما يوضّح القديس بولس الرَّسول "أنا غَرَستُ وأَبُلُّسُ سَقى، ولكِنَّ اللهَ هو الَّذي أَنْمى. فلَيسَ الغارِسُ بِشَيء ولا السَّاقي، بل ذاكَ الَّذي يُنْمي وهو اللّه"(1 قورنتس 3: 6-7). والله هو الذي يُعطي كلَّ واحدٍ من المؤمنين أن ينمو نحو المسيح الذي هو رأسهم، بممارسة المَحَبَّة الحقيقيَّة، وأن يُسهم في بيان جسد المسيح السِّري أي الكنيسة، كما يؤكد ذلك بولس الرَّسول "هو الَّذي أَعْطى بَعضَهم أَن يَكونوا رُسُلًا وبَعضَهم أَنبِياء وبَعضَهم مُبَشِّرين وبَعضَهم رُعاةً ومُعلِّمين، لِيَجعَلَ القِدِّيسينَ أَهْلًا لِلقِيامِ بِالخِدمَة لِبِناءِ جَسَدِ المسيح" (أفسس 4: 11-12).

 

يتطلب نمو المسيحي اتحادًا متزايدًا بالمسيح كي يَبلُغَ القامةَ التّي تُوافِقُ كَمالَ المسيح. فينبغي على كل مؤمن أن يَصغر لكي يَعظم المسيح، كما صرّح يوحنا المعمدان "لا بُدَّ له مِن أَن يَكبُر. ولا بُدَّ لي مِن أن أَصغُر" (يوحنا 3: 30)، وذلك لكي تبنى الكنيسة في الرَّبّ، وفي الرُّوح، وترتفع هيكلًا مقدسًا يسكن فيه الله (أفسس 2: 21-22).

 

نستنتج مما سبق أنَّه ينبغي على تلاميذ يسوع أن ينموا على الدَّوام في المعرفة والمَحَبَّة، كما يظهر من دُعاء بولس الرَّسول لهم: "ما أَطلُبُ في الصَّلاة هو أَن تَزْدادَ مَحبَّتُكم مَعرِفةً وكلَّ بصيرةٍ زِيادةً مُضاعَفة" (فيلبي 1: 9). ويُعلق البابا القديس يوحنّا بولس الثَّاني "لن يكون هناك نموٌّ حقيقيّ إنسانيّ في السّلام والعدل، في الحقيقة والحرّيَّة، من دون وجود الرَّبّ يسوع المسيح وقدرته في الخلاص" (حديثه إلى شباب التَّشيلي بتاريخ 02/04/1987).

 

3. نمو ملكوت الله في العَالَم

 

تُقدِّم الأمثال الملكوت كحدٍ نهائي للنُّمو التَّدريجي: مَثَل الزَّرْع الذي ينمو (مرقس 4: 26-29).  "فَالأَرضُ مِن نَفسِها تُخرِجُ العُشبَ أَوَّلًا، ثُمَّ السُّنُبل، ثُمَّ القَمحَ الَّذي يَملأُ السُّنبُل" وذلك بفضل القوة الكامنة في داخلها (مرقس 4: 28). ونموّ البَذُرَة التي تصبح سنبلًا مثقّلًا، بل شجرة (متى 13: 23 و32)، ونموّ الخمير في العجين (متى 13: 33). وهكذا بهاء ملكوت الله ينبعث من بداية صغيرة كما تنبعث الشّجرة من حَبَّة الخرذل.  فبفضل الله يُمكننا أن نعتبر الحَبَّة وعدًا بالشّجرة، والبداية الصَّغيرة وعدًا بالملكوت. أن الملكوت بدأ بزرة، ويبلغ في ملء الزَّمن طور الاكتمال.

 

يُشبه ملكوت الله البَذْر، ذلك لأنَّ الملكوت مبدأٌ داخليٌ، "ملكوت الله في داخلكم" فهو مبدأ إلهي داخل النَّفس يتطوَّر إلى تبديل شخصيَّة الإنسان كلها. وهو مبدأ إلهي الذي يعمل في المجتمع إلى أن ينسجم هذا المجتمع مع الإرادة الإلهيَّة، وفي هذا المعنى يكون يسوع هو "الرَجُلٍ الذي يُلْقي البَذْرَ في الأَرض". فلقد ادخل الله إلى العَالَم مبدأ جديدًا يعمل مدى العصور والأجيال إلى أن يبلغ طور الكمال. ولا نقدر أن نتجاهل تلك القوَّى الهائلة الصَّامتة التي تعمل في العَالَم لانتصار الخير والقضاء على الشّر، كما تعمل البَذُرَة النَّاشطة المستكينة في قلب الأرض.

 

ملكوت الله هو الهدف الذي يتّجه نحوه كلٌّ نموٍ روحيٍ، ويتم بقوَّة جاذبيته. وبما أن المَثَل الزَّرْع ومَثَل حَبَّة الخَرْدَل يشيران إلى مراحل نمو الملكوت، فإن هناك مُهلة ما بين افتتاح الملكوت في التَّاريخ، وبين تحقيقه كاملًا. والآن لا يزال الملكوت في جهاد عنيف، لان هناك من يمنع انتشاره، كما صرّح يسوع: "مُنذُ أَيَّامِ يُوحنَّا المَعْمَدانِ إلى اليَومِ مَلَكوتُ السَّمواتِ يُؤخَذُ بِالجِهاد، والمُجاهِدونَ يَختَطِفونَه" (متى 11: 12).

 

بعد قيامة يسوع هناك مدة زمنيَّة بين دخوله المجد وبين عودته ديَّانًا. وهذا الزَّمن هو زمن تأدية الشِهادة "الرُّوحَ القُدُسَ يَنزِلُ علَيكم فتَنَالون قُدرَةً وتكونونَ لي شُهودًا في أُورَشَليمَ وكُلِّ اليهودِيَّةِ والسَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض (أعمال 1: 8)، وهو أيضًا زمن بناء الكنيسة.

 

في ختام ذاك الزَّمن سيأتي الملكوت في كلّ ملئه "إِذا رَأَيتُم هذِه الأُمورَ تَحدُث، فاعلَموا أَنَّ مَلكوتَ اللهِ قَريب. (لوقا 21: 31): فيه يتم الفصح، وتُقام الوليمة الإسكاتولوجيَّة "فإني أقول لكم: لن أَشرَبَ بَعدَ اليَومِ مِن عَصيرِ الكَرمَةِ حتَّى يَأتيَ مَلَكوتُ الله" (لوقا 22: 18)، ويأتي المدعوُّون من كل صَوب، ويتَّكئون مع الآباء "سَوفَ يَأتي النَّاسُ مِنَ المَشرِقِ والمغرِب، ومِنَ الشَّمالِ والجَنوب، فيجِلسونَ على المائِدَةِ في مَلَكوتِ الله"(لوقا 13: 29). فالمؤمنون مدعوُّون "ليرثوا" هذا الملكوت، وقد بلغ تمامه، كما صرَّح يسوع "تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم"(متى 25: 34)، وذلك بعد قيامتهم وتبدّل أجسادهم (1 قورنتس 15: 50). وريثما يتم ذلك يبتهل المؤمنون لمجيئه بدعائهم: "لِيَأتِ مَلَكوتُكَ" (متى 6: 10).

 

لا يكفَّ المسيحيون عن الاستعداد لمجيء ربِّهم، راجين أن يمنحهم الله أن يكونوا في ذلك اليوم دون ما لوم، كما يظهر من دعاء بولس الرَّسول "عَسى أَن يَزيدَ الرَّبّ ويُنمِيَ مَحَبَّة بَعضِكم لِبَعْضٍ ولِجَميعِ النَّاسِ على مِثالِ مَحَبَّتِنا لَكم، ويُثبِّتَ قُلوبَكم فلا يَنالَها لَومٌ في القَداسةِ في حَضرَةِ إِلهِنا وأَبينا لدى مَجيءِ رَبِّنا يسوعَ المسيح يُواكِبُه جَميعُ قِدِّيسيه" (1 تسالونيقي 3: 12-13). لذلك مطلوب من المسيحيين أن يستجيبوا لرغبة المسيح، ألا وهي أن يشاهد "كنيسة تزفَ إليه إذ ذاك " وكلها بهاء (أفسس 5: 27).

 

 

الخُلاصة

 

انفرد مرقس الإنجيلي في تسجيل مَثَل الزَّرْع الذي ينمو لوصف الملكوت. وهذا المَثَل مُوجّه بشكل خاص إلى الفَعلة في كرْم الرَّبّ لتأكيد لهم النَّجاح من تعبهم في ذلك الحقل، ويُعلمهم أن هذا النَّجاح متوقف على بركة الله لا على تعبهم كما جاء في قول بولس الرَّسول " أنا غَرَستُ وأَبُلُّسُ سَقى، ولكِنَّ اللهَ هو الَّذي أَنْمى. فلَيسَ الغارِسُ بِشَيء ولا السَّاقي، بل ذاكَ الَّذي يُنْمي وهو اللّه"(1 قورنتس 3: 6-7). فمثل الزارع الذي لا يدرك كيف تنمو البذرة يعلمنا أنَّ الله هو العامل حتى وإن كانت الكرازة كبذرة في وسط الأرض يحيط بها ظلام الجهل والخطيئة. 

 

يعلن المَثَل لنا أيضًا أنَّ النُّمو الرُّوحي عمل تدريجي مستمر لبلوغ نهايته في حَصَاد من البلوغ الرُّوحي. ونستطيع أن نفهم عمليَّة النُّمو الرُّوحي بمقارنته بنمو النَّبات البطيء ولكنه أكيد. واستخدم مرقس مَثَل آخر عن الملكوت، وهو مَثَل حَبَّة الخرذل ليوضِّح أنَّه وإن كانت المسيحيَّة لها بدايات صغيرة إلاَّ أنَّها ستنمو وتنتشر إلى كل العَالَم. والواقع، أن كنيسة المسيح بدأت بالضُعف ونمت نموًا كبيرًا إلى أقاصي المسكونة.  قُدَّمت الكرازة في البداية لأشخاص قليلين وفي نطاق ضيق لكنَّها اتسعت في تأثيرها وامتَّدت إلى كل الأمم والشُّعوب.

 

يحتوي الإنجيل في ذاته قوة نمو عظيمة، "إِنَّ كَلامَ اللهِ حَيٌّ ناجع " (عبرانيّين 4: 12) 12)، كلمة الله قويّة، كما يصرّح ارميا النَّبي " أَلَيسَت كَلِمَتي كالنَّار، يَقولُ الرَّبّ وكالمِطرَقَةِ الَّتي تُحَطِّمُ الصَّخْر؟" (إرميا 23: 29).  يبقى علينا إن نصبر ولا نشك. والنُّمو بحاجة إلى الإيمان الذي يعرف أن ينتظر وان يصبر.

 

يُشدِّد مَثَل الزَّرْع الذي ينمو على أن عمل المسيح الخلاصي الذي بدأ في العَالَم سوف يصل إلى كماله دون أي شك وبصورة مؤكدة. أمّا من جهة النَّاس فيُطلب منهم الإيمان والثِقة والصَّبر. الإيمان بالقوة التي بها يعمل الله ليتحوَّل زرعنا حَصَادا. نحن لا ندرك عمله، لأنَّه عمل إلهي.

 

ويعلمنا مَثلُ حَبَّةِ الخَرْدَل ألاَّ نرتبك إن رأينا الكرازة في بدايتها صغيرة للغاية كحَبَّةِ الخَرْدَل، فإنها تصير كشجرة تملأ المسكونة، تأوي بين أغصانِها طيورُ السَّماء، وتستظلَّ تحتها حيواناتُ البَرِّيَّة. وكما تنمو حَبَّة الخرذل في التُّراب بأمر الله، لا بأمر زارعها، كذلك ملكوت الله يتنامى فينا بأمر الله لا بأمر النَّاس. فنحن مدعوُّون إلى الإيمان بالقوة الكامنة في هذا الملكوت الذي بشَّر به المسيح. وما دمنا في دار الغربة عن الرَّبّ، فان الرَّبّ فينا كحَبَّة خَرْدَل صغيرة ضعيفة لكن نموها محتوم بأمر الله.

 

المفروض أن نحتفظ بالرَّجاء حيث أنّ من أهمّ سمات هذا العصر اليأس والخوف: يأس من الكنيسة ويأس من العَالَم، وخوف في الحاضر وخوف من المستقبل. هذه هي الرُّوح الّتي تُسيطر على العَالَم، اليأس والتَّشاؤم. لكن لا تستطيع هذه الرُّوح أن تتغلّب على من يُؤمن بالرَّبّ. قد يحزن المؤمن ويتألم من جراء الخطيئة، ولكنّه لن ييأس. يجب أن نتحلّى بالصَّبر، كما ينبغي أن نستبدل قلقنا وتسرّعنا بالتَّأنّي والصَّبر خاضعين لإرادة الرَّبّ.

 

إن أردْنا أن نعرفَ السَّلام عند عودته، علينا أن نبذل جهدنا لاستقبال مجيء يسوع بإيمان ومَحَبَّة، ولنبقَ مُخلصين لأعماله التي أرانا وعلّمنا إيّاها. ولتنمو قلوبنا بمَحَبَّة الرَّبّ ولنندمج مع الله في الشّركة التي تُشكل المَلكوت عندما يأتي ابن الإنسان في مجده ليدين العَالَم (متى 25: 3-31)، عندئذ سوف يملك الله، لأن الشّركة معه ستصير كاملة؛ فيصبح الله الكلَّ في الكلِّ" كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "متى أُخضِعَ لَه كُلُّ شَيء، فحينَئِذٍ يَخضَعُ الاِبْنُ نَفْسُه لِذاكَ الَّذي أَخضَعَ لَه كُلَّ شيَء، لِيكونَ اللّهُ كُلَّ شَيءٍ في كُلِّ شيَء " (1 قورنتس 15: 28).

 

 

دعاء

 

نرجوك يا إلهنا، اجعلنا أرضًا صالحة نقبل كلامك فنعرفك ونُحبَّك لكي يكون فرحنا فيك. وإذا لم يكن ممكنًا أن يصل حُبّنا إلى الملء في هذه الحياة، اجعلنا ننمو كل يوم حتى نصل إلى الملء. ولتكبر فِيَّنا معرفتُك في هذه الحياة ولتكتمل في اليوم الأخير؛ وليكبر فِيَّنا حُبُّكَ وليكن كاملًا في الحياة الآتية ليكون فرحنا الآن بسبب رجائنا، كبيرًا وتامًا في الحياة الحقيقيَّة. أيها الإله الواحد في ثلاثة أقانيم، المُبارك إلى دهر الدَّهور. آمين

 

 

قصة واقعية: نمو كلمة الله في الإنسان بفضل الله

 

قال في حفل أقيم لكاهن وقور حضره أحد تلاميذه السابقين، قال تلميذه له: لطالما زرتني وافتقدتني، وكنت آخذ كلامك بسخرية، ولطالما احتملتني لمدة سنوات، وإذا حضرت احدى مساقاتك كنت أسخر من كل ما أسمعه، ولطالما أتعبتك في مناقشات حول صحة الفلسفات الإلحادية. وسافرت للخارج. وهناك وأنا وحدي كانت كلماتك ترن بشدة في أعماقي، وحولتني تدريجيًا إلى الكنيسة وهناك وصلت لأعلى درجات الخمة الكهنوتية. لقد نمت الكلمات بطريقة سرية، مع أن الكاهن المعلم كان يائسًا من إصلاح هذا التلميذ الذي كان يظنه في طريقه للإلحاد. حقًا "فلَيسَ الغارِسُ بِشَيء ولا السَّاقي، بل ذاكَ الَّذي يُنْمي وهو اللّه" (1 قورنتس 3: 7). ولكن على الكاهن المعلم أن يصبر. وفي النهاية سيأتي الملائكة كحاصدين قادمين بالمنجل السماوي يحصدون لحساب ملكوت الله ثمارًا مفرحة. وقد يشير المنجل للحصاد الآن على الأرض، فكل من نمت داخله البذار يخطفه منجل الله ليترك خدمة العالم ويبدأ في خدمة الله وكنيسته، مثل هذا التلميذ.