موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٤ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢١

"المُلك" و"الملكوت" بين كاتب سفر صموئيل الأول ويوحنا الإنجيلي

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
"المُلك" و"الملكوت" بين كاتب سفر صموئيل الأول ويوحنا الإنجيلي

"المُلك" و"الملكوت" بين كاتب سفر صموئيل الأول ويوحنا الإنجيلي

 

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (صم 8: 1- 22؛ يو 18: 28- 40)

 

الـمُقدِّمة

 

نتابع أيها القُراء الأفاضل معًا، سلسلة مقالاتنا الكتابية فيما بين العهديّن. في العهد الأول سنتأمل تضرع صموئيل لبني إسرائيل ليتراجعوا عن قرارهم بمطالبتهم ملك يسود عليهم (1صم 8: 1- 8). أما بنصّ العهد الثاني، وهو من الإنجيل الرابع، سنسمع صوت يسوع وهو يُفرغ الملوكية الأرضية من معناها الـمُزيف الـُمرتبط بالماديّات والتَسلّط، مُعلنًا الملكوت الجديد. هدف مقالنا هو الفصّل بين الـمعنيين الـمُلك الأرضي والملكوت الإلهي. لذا سننطلق من مرحلة هامة وهي نشأة الملوكية لدى بني إسرائيل بهدف التوصل إلى ملء الـمُلك الإلهي الذي تجلى في إعلان يسوع سر الـملكوت قبل عبوره من هذا العالم.

 

كثيراً ما يتكرر لفظ ملك سواء لدى بني إسرائيل أم للشعوب المُجاورة، لذا سنبحث معًا سبب مطالبة بني إسرائيل بتنصيب "ملك" عليهم. ثمَّ سنتعرف على مساؤي طلبهم هذا، الذي إنطلق في حقبة آخر قاضي على بني إسرائيل، صموئيل. الجهل والرفض وعدم الإعتراف، من قِبل الشعب، بالرّبّ كملك على شعبه، أزّاد حاله سواءً فنجد إنه يعاني من فقدان هويته كشعب مُـختار من الرّبّ، إذ هو ليس كالشعوب الأخرى، فهو لا يُقدّر هذا التميز الإلهي له. إلا أن هذا الـمُلك البشري دام لعدة قرون، ثم يساعدنا كشف يسوع الجديد على إكتشاف الملكوت الأبدي مع يسوع الذي إفتتحه بسريّ تجسده وقيامته.

 

 

1. بدء فترة الـُملوكية (1صم 8: 1- 6)

 

بالتأني لقراءتنا للإصحاح الثامن بسفر صموئيل الأول نجد أن رغبة الشعب بوجود ملكً عليهم. تتضح هذه الرغبة عندما توجه شُيوخُ إِسْرائيلَ نحو صموئيل قائلين: «إِنَّكَ قد شِختَ، وابناكَ لا يَسيرانِ في سُبُلكَ. فأَقِمَ الآنَ علَينا مَلِكًا يَقْضي بَينَنا كسائر الأُمَ» (8: 5). بهذا الطلب نظر هذا الجيل إلى الشعوب المُجاورة، وتلمّس ما ينقصه ماديًا، وهو الملك المرئي والمنظور على عرشه. ولم يتذكر المسيرة التي عاشها الرّبّ مع شعبه بالماضي. وهنا نتأكد من حالة فقدان الشعب المـُختار من الرّبّ لقيمة "العهد" الذي قطعه مع البطاركة وموسى والقضاة من بعده. لذا سنتتبع بعض النقاط الهامة التي ستساعدنا على التعرّف على الظروف التي نشأت فيها الملوكيّة في عهد صموئيل بالعهد القديم وبالتواصل سنكتشف عن السرّ الجديد الـمُعلن من يسوع لدى يوحنّا.

 

 

2. أسباب مطالبة الشعب بملك (8: 7)

 

الأولى: جَهْلُ الشعب بـمُلك الرّبّ عليهم، حينما أبلغ صموئيل الله بطلب الشعب إذ يجيبه: «اِسمَعْ لِكَلام الشَّعْبِ في كُل ما يَقولونَ لَك، فإِنَّهم لم يَنبُذوكَ أَنتَ، بل نَبَذوني أَنا مِن مُلْكي علَيهم». رفض البشري للإلهي، ليس عن وعي بالطبع ولكن عن جهل. الشعب في القِدم لم يعرف حقيقة الهه الذي حرره وغذاه في البرية بالمن والسلوى أي إنه قام بدوره الأبويّ والأموميّ معهم. ثم نمى أفراد الشعب تحت نظر الرّبّ مهيًأ لهم الأرض الموعود بها وهي الّتي تدّر لبنلاً وعسلاً. مانحًا إياهم الكلمات العشر لتكون نور لهم في حياتهم. هذا الشعب في راحته وطمأنينته. نسيّ الجوهري لحياته وهو علاقته بالرّبّ وبدأ يطالب بـملك بشري ليحارب عنه متناسيًا ما فعله الهه من أجله بماضيه.  

 

الثانية: الإلحاح بتتويج ملك (8 :6. 19- 20) إلحاح شيوخ بني إسرائيل، بتتويج ملك يسودهم ليصيروا كباقي الشعوب، حينما فَقَدَّ الشعب علاقته بالرّبّ كإله، شعر بأنه شعب عادي وغير متميز إذ قال «أَقِم علَينا مَلِكًا». عندما ساء هذا الطلب في عيني صموئيل إستمر الشعب مُلحًا مما يؤكد فقدان هويته. وعلينا تذّكر السبب الحقيقي الذي لأجله إختار الرّبّ شعبه: «لا لأِنَّكم أَكثَرُ مِن جَميع الشَّعوبِ تَعَلَّقَ الرّبّ بِحُبِّكم واخْتارَكم، فأَنتُم أًقَلُّ مِن جميعَ الشَّعوب، بل لِمَحبَةِ الرّبّ لَكم ومُحافَظتِه على القَسَم الَّذي أَقْسمَ بِه لآَبائِكم أَخرَجَكُمُ الرّبّ بِيَدٍ قَوِّية وفَداكَ مِن دارِ العُبودِيَّة» (تث 7: 7- 8). مخاطر الملوكية البشرية بالرغم من إستياء صموئيل لطلب هذا الشعب إلا إنه قام بدوره كقاضي يخاف الرّبّ مُعلنًا لهم مساؤي قرارهم (8: 10- 18) معاونًا إياهم للتفكير إلا أن الشعب إستمر في الإلحاح في طلبه.

 

 

3. قرار الرّبّ (8: 21- 22)

 

في نهاية الإصحاح يروي الكاتب على مسامعنا القرار الإلهي ويفاجئنا بقوله: «اِسمع لِكَلامِهم ووَلِّ علَيهم مَلِكًا». هنا بالرغم من أن رفض الشعب للرّبّ ولسيادته علانية بالرغم من إن الرّبّ أحبه وإختاره إلا إنه يفضل ألا يُجبره بل يكون له كامل الحرية. تتجلي المفاجأة وهي طاعة الرّبّ لشعبه. قساوة قلب الشعب تؤثر على الرّبّ وتنتصر محبته له بتركه حراً. على ضوء هذا التحليل والعناصر السابقة التي نَّوُهنّا عليها سبقًا سنتابع قرأتنا للنصّ اليوحنّاوي (18: 33- 37). بالرغم من مرور العصور إلا أن تكرار الجهل والرفض من قبل البشريين نحو الإله يستمر حتى يومنا هذا. والسبب في هذا الرفض هو أن الذاكرة البشرية ضعيفة لا تتذكر أعمال الرّبّ في التاريخ البشري بقدر ما تتطلب الراحة وتأمين الأفضل بقدرتها البشرية، وهنا يكمن الخطأ الأكبر.

 

 

4. الملكوت بين مؤيد ومعارض (يو 8: 39- 40)

 

في الحوار مع بيلاطس، يكشف يسوع عن هويته الحقيقية، ويشهد لرسالته، بحسب رواية يوحنا الإنجيلي. في هذا الحوار يبحث يسوع أن يُيقظ ضمير بيلاطس. إذ يحتار بيلاطس في قراره بين رؤساء اليهود بين براءة يسوع حينما يقول: «"إِنِّي لا أَجِدُ فيه سَبَباً لاتِّهامِه. لكِن جَرَتِ العَادَةُ عِندكُم أَن أُطلِقَ لَكم أَحَداً في الفِصْح. أَفتُريدونَ أَن أُطلِقَ لَكمُ مَلِكَ اليَهود؟"  فعادوا إِلى الصِّياح: "لا هذا، بل بَرْأَبَّا!"» (18: 39- 40). فهو بقوله هذا يؤيد يسوع ولكن إذ لم يصغي لكلام الرؤساء الدينين لن يحافظ على عرشه لذا أعلن بدأ الحكم على يسوع. وهناكعنصر لاهوتي هام يختلف فيه الفكر اليوحناوي عن باقي الإنجيلييّن، هو إن بيلاطس سمح بأن يتم جلد يسوع، أمام الجمع، ليؤكد على إنه ليس له أيّ سلطان ملكي، إذ يُعاقب أمام الجميع. وبالفعل حَكَّمَ بيلاطس بالجلدّ كعقاب ليسوع لئلا يـحُكم عليه بالموت (راج يو 19: 4- 6، 12).  أدرك بيلاطس أنه سيخسر عرشه متى خالف رؤساء الشعب الذين أرسلوا يسوع ليتخلصوا منه فيصيروا حلفاء لـمّن يحتل أرضهم وهو القيصر الروماني. مِن هذه اللحظة بدأ بيلاطس في التراجع عن الدفاع عن "قضية يسوع البرئ"، ليحافظ على سلطته ويتم الـحُكم على يسوع بالصلب تنفيذاً لإرادة رؤساء الشعب (راج يو 19: 12).

 

 

5. تكرار الرفض (يو 19: 19)

 

من جديد لدى يوحنّا، نسمع رفض الشعب ليسوع، بعد رفض بيلاطس، مُحَرَّضًا من ذوي السلطة قائلاً: «لا هذا، بل بَرْأَبَّا!». يتعتم ضمير بيلاطس ويقرر الحكم على يسوع النهائي بالموت وهذا الرفض النهائي. بينما يحاول يسوع أن يُيقظ ضمير بيلاطس، إذ به ينجح في إعلان الملكوت الجديد قائلاً: «لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم. لَو كانَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم لَدافعَ عَنِّي حَرَسي لِكي لا أُسلَمَ إِلى اليَهود. ولكِنَّ مَملَكَتي لَيسَت مِن ههُنا» (8: 36). وبهذا الإعلان إفتتح يسوع في جسده ملكوت أبدي وليس مُلك بشري بذاته. أهدى يسوع لعالمنا ملكوت جديد لم يعرفه قبلاً. هذا الإعلان الجديد، يتناقض مع فكر الـمُلوكية الأرضية الذي يستعبد كثيرين من ذوي السلطات والبشر. إن مصدر هذا الملكوت الجديد هو "الحقيقة". فالحقيقة تكشف، في لاهوت الكتاب المقدس، ليس فقط البطلان أو اللاحقيقة بل تُظهر الخداع. الحقيقة الكتابية هي الّتي تُقدم كما هي في جوهرها وتستمر كما تظهر. عكس الحقيقة هو ما يخدعنا، وما يجعلنا نؤمن به بينما الحقيقة شئ آخر. هكذا بيلاطس الذي إعتقد إنه ذو سلطان ونفوذ، إلا إنه في حقيقة الأمر مُخادع ومرتدي قناع ومستعبد للسلطة والسياسة ولا يهتم بالضعفاء والمتألمين بالعالم. لذا مدعويين أن نقطع صلتنا بالخداع، والمصالح الغامضة والتي تنزع منا الحياة. يدعونا يسوع بهذا الإعلان اليوم بالقبول بلدخول في ملكوته الجديد وبالتوقف عن روح السيادة والتَّمَلُك، بحرية لقبوله أو لرفضه.

 

 

6. جوهر الملكوت الجديد (18: 37- 39)

 

يتضح من نهاية يسوع المؤلمة أن ملكوته صعب الدخول فيه، بل الخطر هو الإعتقاد إنه مستحيل، وهذا غير صحيح. علينا فقط البحث عن الحقيقة في الفقر، التواضع، والإنتباه من خطر السيادة الخادع والـمُذل. يدعونا الملكوت الجديد للسير في طريق الفقر الإختياري والتواضع الحقيقي مثل يسوع. اليوم، حينما نتمسك بالحقيقة، ستتكلم الحقيقة ذاتها عنا. ويقول يسوع لنا عن هذا الملكوت: «فإِنِّي مَلِك. وأَنا ما وُلِدتُ وأَتَيتُ العالَم إِلاَّ لأَشهَدَ لِلحَقّ. فكُلُّ مَن كانَ مِنَ الحَقّ يُصْغي إِلى صَوتي» (18: 37). إذن كمؤمنين علينا الإعتراف بالحق لنستحق تبعيته. فمَن يعترف بصدق بهذه الحقيقة يصير ليسوع تلميذاً فَمَن يعترف به كملك عليه، سيعبر الكثير من التجارب مثل يسوع الملك. بحسب قول كاتب سفر الرؤيا: «يَسوعَ المسيحِ الشَّاهِدِ الأَمين والبِكْرِ مِن بَينِ الأَموات وسَيِّدِ مُلوكِ الأَرْض لِذاكَ الَّذي أَحَبَّنا فحَلَّنا مِن خَطايانا بِدَمِه، وجَعَلَ مِنَّا مَملَكَةً مِنَ الكَهَنَةِ لإِلهِه وأَبيه، لَه المَجدُ والعِزَّةُ أَبَدَ الدُّهور، آمين» (رؤ 1: 5- 6) هذا هو إذن ما يفعله الملك لشعبه، يحرره. ملكوت يسوع يخدمنا ويحررنا من العبودية للشرير وللموت الأبدي. ومن جديد يأتي القرار الإلهي بالعهد الجديد بالسماح بموت إبنه فاتحًا بقيامته الملكوت الجديد أمام كل البشرية.

 

 

الخُلاّصْة

 

قدمنا في هذا المقال تفسير بسيط عن الفرق بين روح المُلك التي تنتمي لروح سيادة العالم. وبين الملكوت الجديد الذي أعلنه يسوع قبل محاكمته. الملكوت الجديد وصل إلى حدّ إنه تمَّ  كُتابة لوحة على الصليب الذي هو بمثابة عرش يسوع الـملك الأبدي بلغات عصره الثلاث العِبرِيَّةِ واللاَّتينَّيةِ واليُونانِيَّة: »يسوعُ النَّاصِريُّ مَلِكُ اليَهود« (19: 19). يوجد اليوم كثير من التلاعب في حياتنا كمؤمنين بين السيادة والملكوت، بين الحاضر والماضي وبين الرفض والقبول. عبَّرَّ يسوع عن حبه للبشرية بالماضي من خلال بذل حياته، حررنا وجعلنا مملكة وكهنة.

 

نحن اليوم لسنا أفضل من بني إسرائيل ولسنا أفضل من اليهود في عصر يسوع. فقد نتأرجح بين السيادة البشرية والملكوت الإلهي. وقد تمر الأوقات فنجدد الرفض وأحيانًا نعترف بخطأنا ونطلب أن يسود مُلك الله علينا. وهذا بفضل عمله الخلاصي على الصليب، الذي إفتتح  الملكوت لتمجيد الآب. نعم، فتح يسوع الملكوت بشكل دائم لأجل كلاً منّا لنتنعم من الآن وهنا بالملكوت من خلال إقامة علاقة حقة معه. لذا نختتم مقالنا باكتشاف الإتمام من خلال المقطع اليوحنّاويّ بإعلانه لتحقيق الوعد الذي قطعه الله للآباء بسفر خروج: «ستكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة» (19 :6) لهذا السبب، لن يتحدث العهد الجديد عن طبقة كهنوتية، بل سيُدعى الشعب كله داخل الإطار الكهنوتي، لأنه إتحد مع رئيس الكهنة الواحد، وهو المسيح، الذي هو الملكوت بشخصه. وفتحنا على مُلك الله الآب اللانهائي.