موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١١ مايو / أيار ٢٠٢١

القيامة فرح الإنسان ومصدر بهجته

بقلم :
الأب انطونيوس مقار ابراهيم - لبنان
الأب أنطونيوس مقار إبراهيم، راعي الأقباط الكاثوليك في لبنان

الأب أنطونيوس مقار إبراهيم، راعي الأقباط الكاثوليك في لبنان

 

هذا هو اليَومُ الَّذي صَنَعَه الرَّبُّ فلنبتَهِجْ ونَفرَحْ فيه مز 118/24

 

هذا ما نردّده دائمًا في صلواتنا واحتفالاتنا: إعلان الفرح بمحبّة الله للإنسان والبهجة بخلاصه وفدائه الذي وهبه لنا. "اليوم الذي صنعه الربّ"هو:  يوم إعلان البشارة بتجسّده، حينما أعلن الملاك قائلاً "ها إنّي أبّشركم بفرحٍ عظيم يكون لجميع الشعب". ويوم دُعي إلى عُرس قانا الجليل وبارك المياه فصارت خمرًا طيّبة وأبهج الحضور، ويوم جَالَ في المدن والقرى يعمل المعجزات محوّلاً حالات الألم الى راحة والمرض الى شفاء والجوع الى شبع والموت الى حياة. هي هذه سمة من سمات قيامة الربّ من بين الأموات: إعطاؤنا حياة البهجة والفرح والنور والأمل والرجاء. كنّا فى حالة حزن وكآبة وظلام وبؤسٍ ويأس وهذا كُلّه تبدّل بقيامة الربّ.

 

خلاص المسيح المُقدَّم لنا على الصليب والمُعلَن بقيامته صار لنا مصدر سعادةٍ حقيقيّة ومسرّة دائمة وأعطى حياتَنا معناها. هذه البهجة هـي إحساس الإنسان بالنصرة والغلبة بغفران خطاياه كلّها. وليس خلاصنا من أجل استحقاقٍ شخصيّ أو بطولة روحيّة ولكنّ الربّ حبًّا بنا، رفع عنَّا خطايانا،  وحَمَلَ آثامنا في ذاته وصار "حملَ الله الحامل خطايا العالم، الذي بجُرحهِ شُفينا. وتأديبُ سلامنا عليه.

 

قبل أن يسير في درب الصليب، أعلن الرب يسوع لتلاميذه هذا السرَّ العظيم قائلا: ”المرأة تحزن وهي تلد لأنّ ساعتها أتت، ولكنْ، متى ولدت الطفل لا تعود تذكر الشدّة لسبب الفرح لأنّ إنسانًا ولد فى العالم. فأنتم كذلك، عندكم الآن حزن. ولكنّي سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم يو ١٦: ٢١ ، وها هم تلاميذ الربّ بالفعل، يفرحون من بعد قيامته ”إذ إنّهم قد رأوا الربّ" (يو ٢٠: ٢٠)

 

الفرح الحقيقيّ بقيامة يسوع هو فرحٌ مستمرٌ؛ لم ينقطع عند التلاميذ ولا عندنا نحن ينقطع مدى الحياة حتى في الأوقات الحالكة والظروف القاسية والضيقات الشديدة والتجارب الصعبة. الأرض برمّتها، تواجه اليوم أوبئةً وأمراضًا مثل وباء الكورونا الذي يفتك بالبشريّة ومع ذلك كلّه، تبقى البهجة بالقيامة أعمقَ من أن تحدّها المشاعر البشريّة وأكبر من أن يحتويها الإنسان. بل هي التي تحتوينا في ذاتها نحن كأولاد لله، حتى تحوّلنا إلى فرح حقيقيّ لا لنا نحن فقط، فتجعلنا سببَ فرحٍ للآخرين أيضًا وهنا تكمن مسؤوليّةٌ كبيرة موضوعةٌ على عاتقنا لئلّا نصير حجر عثرةٍ للآخرين إن نحن شوّهنا فداء المسيح لنا وطمسنا خلاصه لنا بغلبته على الموت وقيامته منه ليمنحنا لؤلؤتين ثمينتين أيّ مغفرة الخطايا والحياة الأبدية مغع الثالوث الإله الواحد.

 

هكذا، نجد القدّيس بولس الرسول في السجن، مكبّلًا بالقيود والسلاسل الحديديّة فضلاً عن شوكة الجسد لكنّ الفرح الدّاخليّ لا يفارقه سواء في سلوكه أو في كتاباته. فكتب الرسالة إلى أهل فيلبّي وهو فى السجن يطلب منهم أنِ "افرحوا في الربّ كلّ حين وأقول أيضًا أفرحوا"  (فى ٤: ٤)

 

ما تزرعه فينا القيامة هو الفَرَح الّذي دُعيَ إليه الأنبياء؛ الفَرَحُ بخَلاصِ الله. إنَّ الكثيرَ من النَّصوص الكتابيّة الّتي تَدعو إلى الفَرَح تُفسَّر مِن قِبَل آباء الكنيسة في ضَوء قيامَة المَسيح، حيثُ يَكون الفَرَحُ فرحًا بقيامةِ المَسيح. "إفرَحوا مع أُورَشَليم وابتَهِجوا بِها يا جَميعَ مُحِبِّيها سُرُّوا معَها سُرورًا يا جَميعَ النائِحينَ علَيها" (أش 66/10). فيَومَ القيامة هو اليَوم الموعود الّذي بِهِ يَظهرُ تَدخُّل الله النهائيّ الّذي يُغيّر الأمور كُلّها.

 

لقد قام المسيح وأعطانا نحن أيضًا أن نقوم معه، لأنّنا نؤمن بهِ وبقدرتهِ على إقامة الأموات، فصارت القيامة هي الانتصار والغلبة لكلّ مؤمن. قام يسوع ليحيا ويملك على قلوب المؤمنين، وليعطي معنىً لحياتنا وسط المآسي الكبرى. وقام أيضًا لنحيا معه، وهو يُشرِكُنا دائمًا في الحياة الجديدة عن طريق علامات أسرار الكنيسة. أَّمّا اللهُ، وَهُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، فَبِسَبَبِ مَحَبَّتِهِ العَظِيمَةِ الَّتِي أحَبَّنَا بِهَا، وَ إذْ كُنَّا نَحْنُ أيْضاً أمْوَاتاً بالذُّنُوبِ، أَحْيَانَا مَعَ المَسِيحِ، إنَّمَا بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخلَّصُونَ، وَ أَقَامَنَا مَعَهُ وَ أجْلَسَنَا مَعَهُ فِي الأمَاكِن السَّمَاوِيَّةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (أف 2: 4- 7)

 

علينا أن نعلن هذه القيامة مقرنين القول بالعمل، والمطلوب هنا أن نلبَسَ المسيح، كما أشار لنا القدّيس بولس بقوله أنتم الذين اعتمدتم بالمسيح، المسيح قد لبستم "أي أن نحيا بحسب مفاعيل القيامة، هذا كلّه يتمّ باختيارنا الحياة، فالحياة مُعطاةٌ لكلّ إنسانٍ ليعيشها بملئها، أولم يقل المسيح "أتيت لتكون لكم الحياة ولتكن أفضل"؟  والله يطلب منّا أن ننظر إلى الحياة كما ينظر إليها هو، وملء الحياة مع المسيح، فالحياة لي، يقول الرسول بولس، هي المسيح والموت ربحٌ لي. والحياة والربح يتحقّقان أكثر فأكثر بقبول الصليب في حياتنا وبالإيمان الثابت بمحبّة ربّنا لنا فيهبنا الحكمة والنعمة لتخطّي المصاعب التي نواجه في كّل لحظة من لحظات حياتنا ولو هي مرّت علينا بثقلها، لم تستطع أن تنتزع منّا لا فرحنا العميق ولا سلامنا الداخليّ.

 

القيامة هي أن نعلن أنّ المسيح حيٌّ، وأن نقوم معه لنحيا معه حيث يكون هو، في جدّةِ الحياة. كلٌّ منّا مدعوٌّ كي يكتشف مجدَّدًا في المسيح الحيّ ربًّا فاديًا يزيل عنّا الأنانيّة والكبرياء والأهواء الرديئة والتشبّث بالرأي والتسلّط والتحجّر في الأفكار. علينا أن ندعوه دائماً ليأتي إلينا كي يُمسكَ بيدنا فيُنهِضَنا ويقيمَنا معه. إنّ الربّ يدعونا للنهوض، فلا نستسلمنّ لشروط بشريّتنا الضعيفة، بل لنرفعنَّ نظرنا إليه واثقين بكلمته،"أنا هو الطريق والحقّ والحياة" (يو 14: 6)، فهو ليس إله الأموات، بل إله الأحياء (مت 22: 32) و"خلقتَنا لك يا ربّ، وقلبنا لن يرتاح حتّى يستقرّ فيك" (ق. أغسطينوس).

 

 

وكم هو وخيمٌ شرُّ الأنانيّة. أولادها الحزنُ والهمُّ والخَوف والقلقُ والحرمان من الاتّحاد بالمسيح، بينما الخروج من الذات إلى الآخر، في عطاءٍ ومحبّة، هو الطريق إلى الفرح والشجاعة وهدوء البال وولوجِ قلبِ المسيح. ”مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أع ٢٠: ٣٥). هكذا تكون أعمالُ المحبة وأفعالُ الرحمة التي نقدّمها إلى الفقير واليتيم والغريب والسجين والمريض .. وكل إنسان محتاج بالرغم من التعب، الطريقَ إلى السعادة.  

 

هَذا هو اليومُ الذي صَنَعَهُ الرَّبُّ فَلْنَبتَهِجُ ونَفرحْ فيه". هذا هو اليَومُ الّذي لَم يَكُن مِثلَه مِن قَبلُ ولا آخرَ يَليهِ. هذا هو العيدُ الكَبير الّذي بِه تَفتَخِرُ كُلُّ الأعياد(...). تعالَ أيُّها اليَوم الجديد الّذي به فَنى سُلطان الليل القديم (...). يا مُفرِّحَ الحزانى يا جامِعَ المُشتّتين، يا مُقرِّبَ البَعيدين(..يعقوب السروجي)

 

اليوم تبتهج الملائكة وتفرح القوّات السمائيّة لأجل خلاص الجنس البشريّ. فإن كان هناك فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب، فبالأولى كثيرًا يكون هذا الفرح بخلاص البشريّة كلّها. اليوم تحرّر الجنس البشريّ من قبضة الشيطان وأُعيد الإنسان الى رتبته الأولى، بما  أنّ المسيح انتصر على الموت.

 

يقول صاحب الغبطة البطريرك إبراهيم إسحق في رسالته لعيد القيامة هذا إنَّ قيامة المسيح هي قلب الإنجيل وخُلاصتُه. قام المسيح لننال نحن ثمار خلاصه أيّ غفران خطايانا والحياة الجديدة في الروح القدس. يتجدّد حدث القيامة كلّ يوم في الكون والكنيسة وفي قلب الناس وأحداث الحياة اليوميَّة، لأنَّ المسيح الذي قام "هو هو أمس واليوم وإلى الأبد". (عبر 13: 7)

 

إنّ النجاح والانتصار في كفاح الحياة والنهوض بعد الوقوع، والتغلُّب على اليأس والفشل وشرور الناس، هذا كلّه لن يكون إلا بعد ألم ومعاناة. وبنفس المقدار فإنّ القيامة الروحيَّة يسبقها ألم: فالقيامة من الخطيئة تستلزم جهاد مسيرة التوبة، والقيامة من البغض والحقد يسبقها الصراع من أجل المسامحة والصفح، والقيامة من الكسل والرذيلة تفترض الاجتهاد المستمرّ.

 

إنّني لا أخاف بعد ولا أرتعب من شيء فأنّي أستطيع كّل شيء في المسيح الذي يقوّيني، فلا أنظر إلى ضعفي، لكنّني أتطلّع الى قوّة ذاك الذي صار لي سندًا وعونًا، أتطلّع الى ذلك الذي هزم الموت ونزع طغيانه. اليوم يسود الفرح والابتهاج الروحيّ المسكونةكلّه. 

 

المسيحيّ هو مثل حبّة الحنطة التي حكى عنها المسيح في الإنجيل، لا تثمر إلا إذا دُفنت في الأرض. فمن قبر المسيح ينبع الانتصار والفرح والغلبة، ومن كان في المسيح فهو خليقة جديدة (2 كو 5 :17) متجدّدة دومًا. قيامة المسيح تجديدٌ وكلّ تجديدٍ في قلب المؤمن هو قيامة.

 

يتابع غبطته قائلاً: إنّ الاحتفال بعيد القيامة هو أن نترك أنفسنا نتحوَّل بهذا التَّحرير الآتي من الرَّبّ القائم، هو اختبار النُّور بعد ظلام اللَّيل. الاحتفال بعيد القيامة هو الإيمان بقيامة المسيح، بقيامتك أنت، أيّ أن يكون لك نصيب في هذه القيامة.

 

تبدأ هذه القيامة بقبول الخروج من انغلاقنا على همومنا وأحزاننا الخاصّة، بتحرُّرنا من خوفنا من أنفسنا ومن الآخرين، من حقدنا وكراهيتنا، من عنفنا المُتجسّد في أشكالٍ كثيرةٍ...ودخول عالمَ النُّور والقيامة المُتمثّل في قبول ذواتنا والآخرين، في الاهتمام بالآخر خصوصًا الأكثر احتياجًا، في بناء عالم العدالة والسَّلام، في الإيمان بأنْ ليس بالعنف وقوَّة السّلاح يحيا الإنسان. بل طوبى للودعاء لأنَّهم يرثون الأرض، ولصانعي السَّلام لأنَّهم أبناءَ الله يُدعون، ويتمثّل في العمل من أجل تحقيق ذلك كلّه.

 

نختم أحبّائي بتلبية دعوة أبينا البطريرك إبراهيم للصلاة متَّحدين مع قداسة البابا فرنسيس، ومع كلّ الكنائس التي تحتفل بعيد القيامة. نرفع صلاتنا من أجل عالمنا الذي نعيش فيه، لكي يسكب الله رحمته ونعمته على كل البشريَّة، فيتوقَّف خطر الوباء ويعمَّ الخير والسلام، نُصلِّي طالبين للمرضى شفاءً، وللموتى رحمة، وللحزانى عزاءً، ولكلِّ مَنْ له تعب في مواجهة الأخطار ولمساندةِ المحتاجين شجاعةً وقوَّة.

 

نصلّي من أجل وطننا الحبيب مصر، ولبنان ومن أجل المسؤولين وكلّ مَن يحمل المسؤوليّة بأمانة لينعم الربّ عليهم بالصحّة والعافية ولأجل أن يتعافى لبنان كي يتخطّى الأزمات التي تعصف به، ويقومَ من محتنه ليعود الأمان والسلام للجميع.

 

المسيح قام بالحقيقة قام