موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مقدّمة
القُراءّ الأفاضل، تقودنا نصوص العهدين في مقالنا هذا، وفي هذا الوقت بالتحديد، إلى تجديد الاهتمام بحدث الضيافة والترحيب بمَن يطّرق على باب بيتنا أو على باب حياتنا في دائرة العلاقات اليوميّة. الضيافة حقيقة نعيشها! نحن نعيشها بالتقاليد، ونعيشها أيضًا من خلال التعليم والتربية الّذين نتلقاهم في أسرنّا. من أهم مخاطر حياتنا اليوميّة، في بعض الأحيان، الشَّك المتزايد في الآخر، بسبب الاختلاف في المستوى الاجتماعي أو العلمي أو الاقتصادي الـمُتغيرين والمشاكل الجديدة التي تظهر يومًا بعد يوم. إلّا أنّ هذه المخاطر تجعلنا نشك في حياتنا وتجعلنا نتساءل هل تتميز حياتنا بفضيلة ضيافة واستقبال الآخر؟ أو أمضيافون حقًا نحن؟ وقدّ يمكننا القول بوضوح، نعم إننا مضيافون، أو معترفين بالتقصير فنقول: ليس كما يجب! إلا أنّ ما تشهد به النصوص الكتابيّة التّي سنتوقف عليها اليوم ستساعدنا على العثور على إجابات لهذه التساؤلات. ففي العهد الأوّل سنتوقف أمام ضيافة إبراهيم بسفر التكوين لأشخاص مجهولة (18: 1-10). أما بالعهد الثاني سنتوقف أمام امرأتين استقبلن يسوع كصديق للأسرة بحسب لوقا (10: 38-42). هذين النصين يضعانا في أزمة اليوم ويجعلانا نفكر في أهمية الضيافة بالنسبة لنّا، والدوافع الكامنة وراءها. بل يمكننا التوقف للتفكير في الثروة الّتي يمكن أن يوفرها الآخرين لحياتنا الّذين نرحب بهم أو الآخرين الّذين يُرحب بنا.
1. مفتاح الضيافة: الدعوة (تك 18: 1- 5أ)
لا تكمن المشكلة الحقيقية للضيافة في الاستعداد أو عدم الاستعداد لضيافة شخص ما، وهو أمر لا غنى عنه. تقديم المساعدة المادية، هذا لا يزال ضئيلًا جدًا بحيث لا يمكن أن نطلق عليه "ضيافة" وفقًا للكتاب المقدس ووفقًا لحياة وتعاليم يسوع. بالنص الأوّل بسفر التكوين، تعكس ضيافة إبراهيم وجه الإنسان الـمُرحب بالرّبّ، دون أنّ يعرف هويته الحقيقية، وفي بعض الأحيان يُشعرنا النص بأنّه يجبره على البقاء معه. تكاد تكون سمة من سمات الضيافة، هو ترحيب الـمِضياف إذ يعرض على العابر بالتوقف عند منزله. يبدو أن إبراهيم كان بحاجة إلى الحجاج الثلاثة وليس العكس، ونفهم ذلك من خلال ما يعلنه كاتب سفر التكوين القائل:
وتَراءى الرَّبُّ لَه عِندَ بَلُّوطِ مَمْرا، وهو جالِسٌ بِبابِ الخَيمَة، عِندَ احتداد النَّهار. فرفَعَ عَينَيه ونَظَر، فإِذا ثَلاثَةُ رِجالٍ واقِفونَ بِالقُربِ مِنه. فلَمَّا رَآهُم، بادرَ إِلى لِقائِهم مِن بابِ الخَيمَة وسَجَدَ إِلى الأَرض. وقال: "سَيِّدي، إِن نِلتُ حُظْوَةً في عَينَيكَ، فلا تَجُزْ عن عَبدِكَ، فيُقَدَّمَ لكم قَليلٌ مِنَ الماء فتَغسِلونَ أرجُلَكم وتَستَريحونَ تَحتَ الشَّجَرة، وأُقدِّمَ كِسرَةَ خُبْزٍ فتُسنِدونَ بِها قُلوبَكم ثُمَّ تَمْضونَ بَعدَ ذلك، فإِنَّكم لِذلِك جُزتُم بِعَبدِكم" (18: 1- 5).
يعلمنا الأدب الروائي كتابيًا، بأنّ هناك بعض المعطيات نعلمها نحن كقراء، ولا يعلمها الشخص الكتابي الّذي بالنص. فنحن نعلم أنّه الرّبّ هو الضيق الّذي يطرق على حياة إبراهيم، أمّا إبراهيم يتعامل مع الله الغير مرئي فهو يحاوره فقط، ولا يعلم إنّه هو العابر أمامه في صورة الثلاث حُجاج. من خلال الأفعال الّتي يتمها والحوار الذّي يعود على إبراهيم يكشف لنا أنّ سمة الضيافة يُعبر عنها بالضيافة سواء بالقول أو بالفعل. فقد يكون احتياج إبراهيم لزيارة هذا العابر فيقول أقوى وكأنّه يقول: "أنا هو الّذي بحاجة إلى الآخر، وليس الآخر هو الـمُحتاج إلىّ". نعم أحتاج ليتوقف الآخر بمنزلي، لأشاركه حياتي وممتلكاتي.
2. سَخَّاء الإنسان ثمرة حب الرّبّ (تك 18: 5ب- 10)
العطاء هو مفتاح للضيافة، بما أنّ الضيافة هي تعبر عن السخاء الإنساني فقد وُلِدَّت الحياة (البشرية) من كرم وسخاء الضيافة (الإلهيّة). حياة إبراهيم وسَّارة، في هذا الوقت، كانت عقيمة حتى بادرة حُسن الضيافة هذه، الّتي أعلنت الخبر السَّار وهو أنّ حياتهما ستؤتي ثمرتها. عندما استضافا العابرين الثلاثة الذين مروا بهما في أشد ساعات النهار حرارة. نعلم تفكير الشيخين إبراهيم وسارة بأن ّليس لحياتهم مستقبل، ولا نسل. أما بالنسبة للرّبّ فهناك مستقبل بفضل هذه الضيافة الفائقة العادة والفريدة من نوعها.
بقبول الرّبّ للتوقف بقوله: «اِفعَلْ كَما قُلتَ» (تك 10: 5ب)، أصغي إلى احتياج إبراهيم وهنا يفاجئنا الكاتب بأن إبراهيم أسرع بعمل وليمة (راج تك 18: 6- 8) وليس كما قال قبلاً بأنّه سيعد لهم القليل من الخبز والماء. والغريب إنّه بالرغم من غناه وكثرة خدمه إلا إن النص يشير إلى خدمته لهم بذاته، وهو دور العبد: «هو واقِفٌ بِالقُربِ مِنهم تَحتَ الشَّجرة» (تك 18: 8). إبراهيم في استقباله العابرين المجهولين يعطي ذاته وهي سمة أخرى من سمات الضيافة. كم من المرات ندرك أن الرّبّ وليس شخص ما هو الّذي يطرق باب بيتنا؟ وبالنهاية يعلن الضيف ما ينتظره من القدم إبراهيم وسارة معًا وهو المستقبل المنتظر قائلاً: «سأَعودُ إِلَيكَ في مِثْلِ هذا الوَقْت، وَيكونُ لِسارةَ اَمرَأَتِكَ اَبنٌ» (تك 18: 10).
3. إستقبال الأختين (لو 10: 38- 42)
على ضوء ضيافة إبراهيم نجد أن امرأتين، من أصل يهودي، رحبن بيسوع بالنص اللُوقاوي. مما يكشف ترحيب مرثا ومريم ليسوع عن جوانب أخرى من حُسن الضيافة وهو سمة الاستماع. نرى بوضوح في مريم تلك الخدمة، فالمساعدة المادية الّتي تقدمها مرثا ليست كافية للضيافة الأصيلة لا توجد ضيافة بدون استماع الضيف. الـمُصطلح المستخدم "استقبلت مرثا يسوع في بيتها" في الّلاهوت اللُوقاوي، تم استخدام هذا اللفظ مرات قليلة (راج لو 19: 6؛ أع 17: 7)، فهو يعبر عن لفتة الترحيب بالمنزل بجميع الواجبات التي تنطوي عليها الضيافة.
استضافت مرثا، يسوع بشكل يختلف عن استقبال مريم الّتي «جَلَسَت عِندَ قَدَمَي الرَّبِّ تَستَمِعُ إِلى كَلامِه» (لو 10: 39). معنى جلوس مريم عند قدمي يسوع، ذات مغزى هام، إنه مكان التلميذ. تضع مريم بضيافتها في مكانة التلميذ. هذا الوضع كان مستحيلاً في المدارس اليهوديّة في زمن يسوع. بينما انغمست مرثا بضيافتها، في أمور كثيرة بالعمل الخدمي واضعة أفعالها وخدماتها في المركز. وحينما عاتبت يسوع عن عدم اهتمامه بتركها وحدها في أعمال الخدمة. وطلبت صراحةً من يسوع أن يأمر مريم أن تساعدها. تأتي إجابة يسوع كاشفة التعارض بين الأشياء الكثيرة الّتي تقوم بها بينما هو شيء واحد فقط ضروري. ويُقيّم يسوع سلوك مريم قائلاً: «فَقدِ اختارَت مَريمُ النَّصيبَ الأّفضَل، ولَن يُنزَعَ مِنها» (لو 10: 42). ما هو "النصيب الأفضل" الذي اختارته مريم؟ الاستماع إلى يسوع الّذي يشبه الاستماع إلى الشريعة! إن ضيافة المسيح في حياة المرء من خلال الإصغاء هو ما يستمر في رسالة الكنيسة والمسيحيين. إذا كان هناك ترحيب بالمسيح في أولئك الذين يعظون بالإنجيل، فعندئذ حتى أولئك الذين يستمعون إلى كلمته يمكنهم أن يرحبوا بسر المسيح في حياتهم. ضيافة الأختين ليسوع متميزتين إلا أنّ هناك ضيافة أهم وهي الحضور أمام المعلّم بروح التلميذ.
الخلَّاصة
موضوع الضيافة هو هام جداً يكفي التفكير باستقبال الرّبّ لنا في كل مرة نطرق على أبوابه في الصلاة. كشفت لنا ضيافة البطريرك الأوّل للحجاج العابرين بالعهد الأوّل (18: 1- 10)، وبشكل تدريجي توصلنا لفعل الحب الذي ظهر بالعهد الثاني (لو 10: 38- 42) مما كشف عن دور التلميذة مريم الّتي فتحت مجال جديد للضيافة من خلال الأصغاء والجلوس عند قدمي المعلّم. نودّ أن نستعين في ختام مقالنا ببعض كلمات بحسب الإنجيل المتّاوي والتي تلخص مفهوم الضيافة الحقيقي على لسان يسوع حينما قال: «كُنتُ غَريباً فآويتُموني [...] متى رأَيناكَ غريباً فآويناك [...] الحقَّ أقول لكم: كُلّما صنعتم شيئًا من ذلك لواحد من إخوتي هؤلاء الصّغار، فليّ قد صنعتموه» (مت 25: 35- 40). مدعوين أيها القراء الأحباء أن نُفكر في هذه الكلمات الّتي تفتح أمامنا مجال جديد لضيافتنا سواء للرّبّ أم للآخرين. فقد نكون نحن الأكثر احتياجًا وقد يكون وقت الضيافة هو وقت لمعايشة السينودس الكنسي وهو "السير معًا". دُمتم بقلوبكم وحياتكم المفتوحة للرّبّ وللآخرين مضيافين ومنفتحين على كل مَن يطرق باب حياتكم وبيوتكم.