موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٣ يوليو / تموز ٢٠٢٢

الصَّلاة الرَبيَّة والدعوة إلى تلاوتها

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد السابع عشر من زمن السنة: الصَّلاة الرَبيَّة والدعوة إلى تلاوتها (لوقا 11: 1-13)

الأحد السابع عشر من زمن السنة: الصَّلاة الرَبيَّة والدعوة إلى تلاوتها (لوقا 11: 1-13)

 

النص الإنجيلي (لوقا 11: 1-13)

 

1 وكانَ يُصلِّي في بَعضِ الأَماكِن، فلَمَّا فَرَغَ قالَ لَه أَحَدُ تَلاميذِه: ((يا ربّ، عَلِّمنا أَن نُصَلِّيَ كَما عَلَّمَ يوحنَّا تَلاميذَه)). 2 فقالَ لَهم: ((إِذا صَلَّيتُم فَقولوا: أَيُّها الآب لِيُقَدَّسِ اسمُكَ لِيأتِ مَلَكوتُكَ. 3 أُرزُقْنا خُبزَنا كَفافَ يَومِنا 4 وأَعْفِنا مِن خَطايانا فإِنَّنا نُعْفي نَحنُ أَيضاً كُلَّ مَن لنا عليه ولا تَترُكْنا نَتَعرَّضُ لِلَّتجرِبَة)). 5 وقالَ لَهم: ((مَن مِنكم يَكونُ لَه صَديقٌ فيَمْضي إِلَيه عِندَ نِصفِ اللَّيل، ويَقولُ له: يا أَخي، أَقرِضني ثَلاثَةَ أَرغِفَة، 6 فقَد قَدِمَ عَلَيَّ صَديقٌ مِن سَفَر، ولَيسَ عِندي ما أُقَدِّمُ لَه، 7 فيُجيبُ ذاك مِنَ الدَّاخلِ: لا تُزعِجْني، فالبابُ مُقفَلٌ وأَولادي معي في الفِراش، فلا يُمكِنُني أَن أَقومَ فأُعطِيَكَ. 8 أَقولُ لَكم: وإِن لم يَقُمْ ويُعطِه لِكونِه صَديقَه، فإِنَّه يَنهَضُ لِلَجاجَتِه، ويُعطيهِ كُلَّ ما يَحتاجُ إِلَيه. 9 ((وإِنَّي أَقولُ لَكم. اِسأَلوا تُعطَوا، اُطلُبوا تَجِدوا، اِقرَعوا يُفتَحْ لَكم. 10 لأَنَّ كُلَّ مَن يَسأَلُ ينال، ومَن يَطلُبُ يَجِد، ومَن يَقرَعُ يُفتَحُ له. 11 فأَيُّ أَبٍ مِنكُم إِذا سأَلَه ابنُه سَمَكَةً أَعطاهُ بَدَلَ السَّمَكَةِ حَيَّة؟ 12 أَو سَأَلَهُ بَيضَةً أَعطاهُ عَقرَباً؟ 13 فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه)).

 

 

مقدمة

 

يتناول لوقا الإنجيلي تعليم يسوع لتلاميذه حول "الصَّلاة الرَبيَّة " كمثال صلاتهم، لدعوتهم إلى تلاوتها بلَجاجَة ٍ وحبٍ وإيمان، علما أنَّ هذا التعليم يصدر عن اختباره الشخصي. لم يكتفِ يسوع انه علم تلاميذه كيف عليهم أن يصلوا، بل هو نفسه صلَّى (لوقا 11: 1-13)، فأصبحت صلاته الربِّية نموذجا ومقياسًا لكل صلاة بل تحوي كل الصلوات. وما أوفر معانيها وأروعها. فهي تدعونا أن نرى في الله أبانا من دون أن نغض النظر عن القريب والآخر. إنها تدخلنا في قطبي الحياة المسيحية: مجد لله وخلاص البشر، حيث نطلب من الله بعد كشف اسمه القدوس وعمله وملكوته أن يساعدنا في حاجتنا إلى الخبز والمغفرة والتجربة.  ويعلق توما الأكويني " الصَلاة الربيِّة هي أكمل الصلوات " بل "هي حقا خلاصة الإنجيل كله" (ترتليانوس الصلاة 1، 6). صلاة يسوع هي صلاة الأخ البكر التي تجمعنا بالآب كأبناء، وهي صلاة الأخوة التي توحِّدنا في الأخوَّة. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 11: 1-13)

 

1 وكانَ يُصلِّي في بَعضِ الأَماكِن، فلَمَّا فَرَغَ قالَ لَه أَحَدُ تَلاميذِه: ((يا ربّ، عَلِّمنا أَن نُصَلِّيَ كَما عَلَّمَ يوحنَّا تَلاميذَه)).

 

تشير عبارة "يُصلِّي" إلى لقاء يسوع مع الآب (إنجيل لوقا 10: 21) وغالبا ما يذكر لوقا "صلاة يسوع"، فقد خصَّص يسوع في حياته وقتاً كبيراً للصلاة خاصة: عند معموديته (لوقا 3: 21) وصلاته في التجربة (5: 16) وقبل تعيينه الاثني عشر رسولا (لوقا 6: 12) وفي خلوته (لوقا 9: 18) وعند تجلَّيه (9: 28-29) وفي مواقفه الصعبة (لوقا 23: 34). فالمسيح كإنسان كان يحتاج للصلاة، وكنائب عن البشرية يرفع الصلاة عنا، ويقدِّم لنا نموذجًا في الصلاة بل أصبح قدوة حية في الصلاة أمام تلاميذه ولتواصلنا مع الله الآب. أمَّا عبارة "في بَعضِ الأَماكِن" فتشير إلى منطقة بيريه أثناء سفر يسوع من الجليل إلى أورشليم دون ذكر اسم الموضع ولا موقعه. أمَّا عبارة "فلَمَّا فَرَغَ" فإنها تشير إلى عدم مقاطعة التلاميذ لصلاة يسوع احتراما وإدراكا أن ما من أمر مستعجل وضروري مثل الصلاة. أمَّا عبارة " قالَ لَه أَحَدُ تَلاميذِه" فتشير إلى نائب عن باقي التلاميذ، لأنَّه قال:" عَلِّمنا" لا عَلِّمني. أمَّا عبارة "عَلِّمنا أَن نُصَلِّيَ " فتشير إلى سؤال أساسي من قبل التلاميذ، لأنه من الضروري أن يشعر الإنسان داخل نفسه بالرغبة في بناء علاقة مع الله الذي يستجيب صلاته وطلباته، خاصة لدى مشاهدتهم يسوع وشعورهم بالعلاقة القائمة بين يسوع والله في صلاته. فرغبوا أن يدخلوا هم أيضا في مثل هذه العلاقة، فطلبوا من يسوع أن يُعلِّمهم الصلاة.  والجدير بالذكر أنَّ التلاميذ ما طلبوا من يسوع بعد صنع العجائب: يا رب علمنا أن نصنع عجائب. ولا بعد خطاباته البارعة: يا رب، علّمنا فنَّ الخطابة. لكنهم بعد ما رأوه يصلي، طلبوا منه: يا رب! علّمنا أن نصلّي! فيسوع عّلم تلاميذه الصلاة من خلال مثاله الحي (لوقا 9: 28) وتعليمه (متى 6: 9-13).  وكان الربَّانيون يعلمون اليهود أن يصلوا ثلاث مرات في النهار، وكان الفِريسيِّون يصلون صلوات طويلة معيَّنة. ولاحظ التلاميذ أن صلاة المسيح خلاف الصلوات التي علَّمها الربَّانيون والصلوات التي مارسها الفريسيُون في زوايا الأزقة والشوارع.  الرب يسوع وحده قادر أن يُعلمنا كيف نصلّي ويُقِّدرنا على تقديم الصلاة. والصلاة هي العلاقة بين الله والإنسان تساعدنا على التعرّف على ما تحمله قلوبنا تجاه الرّبّ واللقاء به كشخص حيّ لفهم مشيئته تعالى والتمتع بحياة الشَّركة معه. فلا عجب أن يوصي بولس الرسول تلميذه طيموتاوس بالصلاة: "أُريدُ أَن يُصَلِّيَ الرِّجالُ في كُلِّ مَكانٍ رافِعينَ أَيدِياً طاهرة، مِن غَيرِ غَضَبٍ ولا خِصام" (1طيموتاوس 2: 8). أمَّا عبارة "كَما عَلَّمَ يوحنَّا تَلاميذَه" فتشير إلى ما ورد "إِنَّ تَلاميذَ يوحنَّا يُكثِرونَ مِنَ الصَّومِ ويُقيمونَ الصَّلوات" (لوقا 5: 33). وانفرد لوقا الإنجيلي بذكر تعليم يوحنا المعمدان الصلاة لتلاميذه وحفظ الصوم وتقديم طلبات كسائر الربَّانيين.

 

2 فقالَ لَهم: ((إِذا صَلَّيتُم فَقولوا: أَيُّها الآب لِيُقَدَّسِ اسمُكَ لِيأتِ مَلَكوتُكَ.

 

تشير عبارة "إِذا صَلَّيتُم فَقولوا" إلى صلاة نموذجية يوصي بها يسوع في رفعها إلى الله كما هي، وهي صادرة عن صلاته هو.  وهذه مرة ثانية علّم يسوع تلاميذه الصَّلاة الرَبيَّة. والمرة الأولى كانت قبل هذه بنحو سنتين وهو يعظ على الجبل (متى 6: 9-13). وتكريرها دليل على أهميتها. ويعلق التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية " هذه الصلاة التي تأتينا من يسوع هي حقا وحيدة: إنها "من الرب، إنه معلم صلاتنا" (رقم 2765).  انه يعلم أبناء الله أن يصلوا إلى أبيهم.  أمَّا عبارة "الآب" فتشير إلى الآب السماوي (متى 11:25)، إلى الله الذي ليس عظيما وقدوسا فقط، بل إنه إلهٌ شخصي ٌومُحبٌّ أيضا؛ يدعونا يسوع أن نتحلى بروح البنوة نحو الله. فالله الآب لعب دورا أساسي في العهد القديم كخالق وفادي لأبنائه الذين عرفوه: فكان يُعلمهم (يشوع بن سيراخ (30: 3) ويُباركهم (التكوين 27: 27-30) ويؤدِّبهم (يشوع بن سيراخ 30: 21) ويُحبَّهم (2 صموئيل 19: 1). أمَّا لفظة الآب في مفهوم يسوع فهو الآب بالمعنى الحقيقي (لوقا 1: 31) وكان يناديه "أَبَّا، يا أَبَتِ (مرقس 14: 36) مما يدلُّ على علاقة حميمة ومباشرة (يوحنا 5: 19-20) مما جعل يسوع الوسيط بين الله والبشر (لوقا 10: 21-22). ولفظة "الآب" توحي بالقرب والثقة والحنان والعطاء، لانَّه يحسن الاستجابة لأبنائه، كما صرّح يسوع "مَن مِنكُم إِذا سأَلَهُ ابنُهُ رَغيفاً أَعطاهُ حَجَراً، أَو سأَلَه سَمَكَةً أَعطاهُ حَيَّة؟  فإِذا كُنْتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعْطُوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكُم، فما أَولى أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات بِأَن يُعْطِيَ ما هو صالِحٌ لِلَّذينَ يَسأَلونَه!" (متى 7: 9-11).  فهذا الدعاء الافتتاحي، نجده في مطلع صلوات يسوع (لوقا 22: 42، 23: 34). بهذا اللقب علم يسوع تلاميذه أن يخاطبوا أباهم المشترك، وهو واحد، وهو قريب من البشر قُرْب الأب من أبنائه (متى 23: 9).  وفي كل مرة يصلي المسيحي يصير كابن الله وصديقه، كما فعل إبراهيم وموسى والأنبياء. وفي الواقع، لا يستطيع أحد أن يصلي هذه الصلاة بحق إلاَّ إذا كان ابنًا لله أي المولود ثانية من الماء والروح القدس.  أمَّا عبارة "لِيُقَدَّسِ" فتشير إلى اعتبار اسمه باحترام مقدس. وبما أنَّ الله هو القدوس المثالي، فلا تعني العبارة انه يُضاف شيء إلى قداسته، بل تدل على أنَّ الإنسان يعترف بقداسة الله ويُمجّد اسمه (يوحنا 12: 28) لأنه من يجرؤ على نطق اسم الآب القدوس بشفاه نجسة؟  كما ورد في نبوءة أشعيا " كانَ هذا يُنادي ذاكَ ويَقول: ((قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوس، رَبُّ القُوَّات، الأَرضُ كُلُّها مَمْلوءَةٌ مِن مَجدِه)) ... فقُلتُ: ((وَيلٌ لي، قد هَلَكتُ لِأَنَّي رَجُلٌ نَجِسُ الشَّفَتَين" (أشعيا 6: 3-5). ولتقديس الله أو اسمه هناك طريقتان: الأولى بالطاعة لوصاياه، والثانية الاعتراف بسلطته عليه (أحبار 22: 23). ويُعلن الأنبياء أنَّ الله يكشف عن قداسته بظهوره كالدّيان العادل والمُخلّص على عيون جميع الأمم كما جاء في نبوءة أشعيا " يَتَعالى رَبُّ القُوَّاتِ بِالقَضاء ويَتَقَدَّسُ الإِلهُ القُدُّوسُ بِالبِرّ"(أشعيا 5: 16).  أمَّا صيغة المجهول " يُقَدَّسِ" فتشير في الدين اليهودي إلى طريقة غير مباشرة على عمل الله دون ذكر اسمه (متى 5: 6).  إن الله وحده يستطيع أن يتجلى هو نفسه في قدرته ومجده وبرّه ونعمته لجميع الناس. ونستطيع أن نقدس اسم الله من خلال احتراسنا في استخدام الاسم، لأننا إذا استخدمناه باستخفاف، فإننا نتجاهل قداسة الله.  أمَّا عبارة "اسمُكَ " فتشير إلى اسم الله. ولا فرق بين اسم الله والله نفسه، أو بالأحرى بين اسم الله وشخصه بصفته محور العبادة. وهو لفظ كتابي مألوف يدلّ بإجلال على كيانه، وميزة الله وجوهره وما هو في حقيقته؛ ويستخدم خاصة في النصوص الطقسية. أمَّا عبارة "لِيُقَدَّسِ اسمُكَ" فهي مأخوذة من سفر حزقيال (20: 41) وتعني أن الله يُظهر مجده بتطهير شعبه من خطاياه وتخليصه.  أمَّا عبارة "لِيأتِ مَلَكوتُكَ" فتشير إلى اقترب الملكوت في الكلمة المتجسد، وفي الإنجيل، في موت المسيح وقيامته، وملكوت الله يأتي منذ العشاء المقدس وفي الإفخارستيا، انه في وسطنا. ويأتي الملكوت في المجد عندما يعيده المسيح إلى آبيه السماوي. أن ملكوت الله الذي يحلّ على الأرض كلها عندما يُبطل آخر عدو عند رجوع الرب (1قورنتس 15: 24-28)؛ وهذه الطلبة مقتبسة من النبي أشعيا " ما أَجمَلَ على الجِبالِ قَدَمَيِ المُبَشِّر المُخبِرِ بِالسَّلامِ المُبَشِّرِ بِالخَير المُخبِرِ بِالخَلاص القائِلِ لِصِهْيون: ((قد مَلَكَ إِلهُكِ)) "(أشعيا 52: 7). وقد أعلن الله ملكوته في عهده مع إبراهيم (لوقا 13: 28) وهو قائم بمُلك المسيح على قلوب المؤمنين (لوقا 17: 21) وسيُكمل عندما يقضي على كل شر ويُؤسس سماء جديدة وأرضا جديدة (لوقا 6: 10). لذا فإن مجيء الملكوت يقتضي توبة الإنسان وإكرام اسم الله القدوس. نحن بحاجة إلى أن يأتِ ملكوت الله، ملكوت السلام والحياة، لان ممالك الأرض تُولد العنف والموت. أمَّا عبارة " مَلَكوتُكَ " في الأصل اليوناني βασιλεία σου (معناها ملكية"(اسم مجرد)، أو "مملكة" أم "ملكوت"(اسم حسي)، أو "المُلك"(مصدر فعل فتشير إلى برٌّ وسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس" (رومة 17:14) وتشير أيضا إلى مجيء ملكوت الله النهائي بعودة المسيح كما جاء في رسالة بولس الرسول " مُنتَظِرينَ السَّعادَةَ المَرجُوَّة وتَجَلِّيَ مَجْدِ إِلهِنا العَظيم ومُخَلِّصِنا يسوعَ المسيحِ " (طيطس 2: 13).

 

3 أُرزُقْنا خُبزَنا كَفافَ يَومِنا

 

تشير عبارة "أُرزُقْنا" في الأصل اليوناني δίδου (معناها أعطي) إلى ثقة الأبناء الذين ينتظرون كل شيء من آبيهم " لأَنَّه يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار (متى 45:5). يعلق القدّيس قِبريانُس "لم يشأ يسوع المسيح، أن تكون الصلاة فرديّة وخاصّة، فيُصَلّي كلّ واحد منّا لنفسِهِ فقط. فنحن لا نقول "أرزقني خُبزي كفافَ يومي". فمَن يصلّي لا يطلبُ شيئًا له وحده، كما أنّه لا يطلبُ من الله أن يُنجّيه لوحدِهِ من التجربة ومن الشرّير. الصلاة الربية هي صلاة مشتركة وجماعيّة، وحين نصلّي إنّما نَتَضرّعُ لا لفردٍ واحدٍ بل للجميع، لأنّنا كلّنا واحد"(الصلاة الربيّة). وهو يعطي جميع الأحياء " طعامَهم في أَوانِه" (المزامير 107: 27). ويعلق التعليم المسيحي " أرزُقْنا هي التعبير عن العهد: فنحن له وهو لنا، ولأجلنا"(بند 2828). أمَّا عبارة " خُبزَنا " إلى هبة الله للإنسان، لان الخبز هو مصدر قوّة له (مزمور 103: 14 -15)، وعلامة بركة (مزمور 132: 15) ووسيلة أساسية للحياة لدرجة أن العوز إلى الخبز يرادف الحرمان من كل شيء (عاموس 4: 6). ولذلك ففي الصلاة التي يعلمها المسيح لتلاميذه، يبدو الخبز شاملاً لكل الهبات التي نحن في احتياج إليها (لوقا 11: 3)، خاصة الحكمة (تثنية الاشتراع 8: 3)؛ وبالإضافة إلى هذا، اتخذه السيّد المسيح علامة لأعظم هباته لنا أي رمز إلى خبز الحياة والإفخارستيا (مرقس 14: 22). أمَّا عبارة "خُبزَنا كَفافَ يَومِنا" فتشير إلى خبز المادي ورمز الاحتياجات المادية والسماوية (متى 6: 11) وخبز لكل يوم، بناء على كلمة كفافَ، لانَّ لوقا ينظر إلى الحياة المسيحية التي تمتد يوما بعد يوم "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفسهِ ويَحمِلْ صَليبَهُ كُلَّ يَومٍ ويَتبَعْني."(لوقا 9: 23)؛ وهذه النظرة أقرب إلى الواقع اليوناني منها إلى الواقع الفلسطيني (متى 6: 34). وهناك تفسير من آباء الكنيسة يرى في هذه الطلبة إشارة إلى خبز الإفخارستيا، لا بل إلى كلمة الله، فيُعلق العلامة ترتليانوس (160 -220) بقوله "المسيح هو خبزنا، لأنه هو الحياة، والخبز هو الحياة. يقول السيِّد: " أَنا خُبزُ الحَياة " (يوحنا 6: 35)، يسبق ذلك قوله: " خُبزَ اللهِ هُوَ الَّذي يَنزِلُ مِنَ السَّماء" (يوحنا 6: 33). ولذلك فان يسوع يدعو تلاميذه إلى طلب ما يحتاجون إليه من الطعام المادِّي والروحي يوما بعد يوم، مع التيقُّن من أن الله يُرزقهم إيَّاه كل يوم، كما انه أطعم بني إسرائيل في البرية بالمنّ المُعطى كفاف يومهم.  بهذه الطلبة نعترف أن َّالله هو مُعيننا والمتكفل بنا، وأننا نتكل على الله كل يوم ليُمدَّنا بكل ما يرى أننا في حاجة إليه. أمَّا عبارة "كَفافَ" في الأصل اليوناني ἐπιούσιον فتشير إلى تكرار لكلمة "اليوم" لتثبيتنا في ثقة "بلا تحفظ". وإذا أخذت بمعناها الوضعي، فهي تعني ما هو ضروري للحياة، وبمعنى أوسع كل خير كاف للعيش. وإذا أُخِذت حرفيا فهي تدل مباشرة على خبز الحياة، جسد المسيح الذي دونه لا حياة لنا في أنفسنا (يوحنا 6: 53 -56).  ويعلق القدِّيس باسيليوس "إن هذه الصلاة التي علَّمنا إيَّاها السيِّد تعني التزامنا بالالتجاء لله، لنُخبره كل يوم عن احتياجات طبيعتنا اليوميَّة". وهذه الطلبة في إنجيل متى هي "أُرْزُقْنا اليومَ خُبْزَ يَومِنا" (متى 6: 11) لها نفس المعنى في إنجيل لوقا وهو طلب ما تحتاج أجسادنا إليه في كل وقت حاضر.

 

4 وأَعْفِنا مِن خَطايانا فإِنَّنا نُعْفي نَحنُ أَيضاً كُلَّ مَن لنا عليه ولا تَترُكنا نَتَعرَّضُ لِلَّتجرِبَة.

 

تشير عبارة "أَعْفِنا" في الأصل اليوناني ἄφες وفي العبرية סְלַח  (معناها يغفر خاص بالله) إلى إنهاء الإلزام بتنفيذ العقوبة الصادر بحقّنا  حكم بسبب  ديوننا (يشوع بن سيراخ  3: 27) ؛ إن الدَيْن في لغة الكتاب المقدس هو واجب قانوني وتجاري بين البشر، وكان هذا الالتزام ذا شأن عظيم جداً في العالم القديم، فيعرّض لفقدان الحرية كما جاء في مَثلِ مَلِكٍ أَرادَ أَن يُحاسِبَ خَدَمَه "لَم يَكُن عندَ الخادم ما يُؤَدِّي بِه دَينَه، فَأَمَرَ مَولاهُ أَن يُباعَ هو وامرأَتُه وأَولادهُ وجَميعُ ما يَملِك لِيُؤَدَّي دَينُه"(متى 18: 23-35).وقد استعمل الدين اليهودي الديون لوصف موقف الإنسان من الله، وهو مدين له وعاجز عن الوفاء، وفي هذه الحالة تدل الاستعارة "أَعْفِنا" على أن الأنسان خاطئ (لوقا 13: 2-4). وتحملنا هذه الصلاة على الطلب إلى الله أن يُعفينا من ديوننا له أي من خطايانا. والغفران هو النعمة بكل معنى الكلمة، بما أننا عاجزون عن تكفير خطايانا. والغفران في نظر الله هو نسيان الخطيئة " أمَّا مَعاصِيَّ وخطايا شَبابي فلا تَذكُرْ بل على حَسَبِ رَحمتكَ اْذْكُرني مِن أَجلِ صَلاحِكَ يا رَبِّ"(مزمور 25: 7). ومغفرة الخطايا في العهد الجديد مرتبطة بالسيد المسيح (متى 9: 1-8) خاصة بموته (لوقا 23: 34)، وهذه المغفرة هي قلب التبشير في الكنيسة التي استلمت سلطة الحل والربط (متى 15: 19). أمَّا عبارة "خَطايانا" في الأصل اليوناني   ἁμαρτίας (معناها وهو عدم الإصابة) مشتقة من العبرية חַטּאתֵנוּ معناها خطايا) فتشير إلى الآثام التي عبّر عنها لوقا بالكلمة الشائعة بين الأمم.  ومتى الإنجيلي عبَّر عنها باللفظة الشائعة عند اليهود في الأصل اليوناني ὀφείλημα (معناها ذنوبنا) مشتقة من العبري חבוֹתֵינוּ معناها ديوننا) فتشير إلى استعارة الدَّين؛ أمَّا عبارة "فإِنَّنا نُعْفي نَحنُ أَيضاً كُلَّ مَن لنا عليه" فتشير إلى الغفران. والغفران في إنجيل لوقا يشتمل على الحياة المسيحية كلها، في حين الغفران في إنجيل متى يجعله في زمن الغفران الأخوي في اللحظة التي تسبق الصلاة.  يربط يسوع ربطا وثيقا بين غفران الله خطايانا وواجباتنا نحو إخوتنا، وفقا لموضوع العهد أن الله يمنحنا غفرانه إن غفرنا لإخوتنا "طوبى لِلرُّحَماء، فإِنَّهم يُرْحَمون" (متى: 7)، وهذا الغفران الأخوي لا يكتسب لنا الغفران ولا يستحقه، بل يشهد لصدق طلبنا، وهذا ما يدلُّ عليه إنجيل متى باستعمال الصيغة في الماضي " وأَعْفِنا مِمَّا علَينا فَقَد أَعْفَينا نَحْنُ أَيْضاً مَن لنا عَلَيه" (متى 6: 12)؛ ومبدأ الغفران غير قابل للفصل عن التبرير بالإيمان.  إن قبول الغفران يتضمن الإدراك أنَّ المسيح احتمل آلام عقاب الخطيئة على الصليب.  وهذا يعني أننَّا لا نستطيع أنْ نستوجب عقابا آخر. لذلك ينبغي أن نُظهر الغفران للجميع كما جاء في تعليم يسوع "أَفما كانَ يجِبُ عليكَ أَنتَ أَيضاً أَن تَرحَمَ صاحِبَكَ كما رحِمتُكَ أَنا؟" (متى 18: 32-35)؛ وإذا أبينا أن نغفر للآخرين، فإنه تعالى لن يَغفر لنا. لماذا؟ لأننا عندما لا نغفر للآخرين، فإننا ننكر أنَّنا خطأة مثلهم وأننا بحاجة إلى غفران الله. وغفران الله لخطايانا ليس نتيجة مباشرة لغفراننا للآخرين، ولكنه يقوم على أساس إدراكنا معنى الغفران كما جاء في تعليم بولس الرسول "لْيَصفَحْ بَعضُكم عن بَعضٍ كما صَفَحَ الله عنكم في المسيح" (أفسس 4: 32).  لذلك لا حقٌ لنا أن نتوقع مغفرة الله لمخالفاتنا على شريعته إذا لم نغفر لإخوتنا البشر إساءتهم لنا. ومغفرتنا لإخوتنا لا تجعل لنا حقا في أن مغفرة الله خطايانا. غفران الله لنا هي علامة أننا قمنا بالشرط الذي لا بدَّ منه لغفران خطايانا. ولا يمكن الإنسان أن يغفر كما يغفر الله، لأنه عندما يغفر الله ينزع جرم الخطيئة من قلب الإنسان، وأمَّا الإنسان فمغفرته بان لا يبغض المسيء إليه ولا يطلب الانتقام منه، بل يرغب في خيره.  فالمغفرة هو أسلوب جديد لمواجهة الشر. باختصار، طلبتنا للعفو مِن خَطايانا لن تستجاب إلا إذا لبَّينا المطلب الثاني وهو "فإِنَّنا نُعْفي نَحنُ أَيضاً كُلَّ مَن لنا عليه". فالمحبة لا يمكن تقسيمها " إِذا قالَ أَحَد: ((إِنِّي أُحِبُّ الله)) وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه"(1 يوحنا 4: 20).  أمَّا عبارة "لا تَترُكْنا نَتَعرَّضُ لِلَّتجرِبَة" في الأصل اليوناني εἰσενέγκῃς (معناها لا تدخلنا في التجربة) فتشير إلى طلب من الله أن لا يدعنا نستسلم للتجربة، بل أن يساعدنا أن ننتصر عليها. فالتجربة تُثبت حريتنا، وقد خضع لها يسوع نفسه. ليست التجربة هنا "الامتحان" الذي اخضع الله له إبراهيم (التكوين 22: 1) وشعبه (خروج 15: 25). إنها التجربة التي بها يحاول الشيطان أن يُهلك فيها من تصيبه (1 قورنتس 7: 5) ولذلك لا يُقال ابدأ في العهد الجديد إن الله يجرّب، لكن الله يستطيع أن يضع حدا للتجربة (متى 4: 1)، وقد وعد الله ألاّ يسمح أن نُجرب فوق ما نحتمل (1 قورنتس 10: 13).  فتلميذ يسوع يطلب من الله أن لا يسمح له الوقوع في التجربة كما جاء في قول يسوع لبطرس "اسهروا وصَلُّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبَة" (متى 26: 41)، وان يُجنبه التجربة التي لا يقوى على تحمّلها؛ وبعبارة أخرى لا تدعنا ندخل في تجربة أي أنقذنا من الدخول في أفكار المُجرِّب ومن التواطؤ معه، أو الوقوع في التجربة بحسب تعبير بولس الرسول " أمَّا الَّذينَ يَطلُبونَ الغِنى فإِنَّهم يَقَعونَ في التَّجرِبَةِ والفَخِّ وفي كَثيرٍ مِنَ الشَّهَواتِ العَمِيَّةِ المَشؤُومَةِ الَّتي تُغرِقُ النَّاسَ في الدَّمارِ والهَلاك" (1 طيموتاوس 6: 9).

 

5 وقالَ لَهم: ((مَن مِنكم يَكونُ لَه صَديقٌ فيَمْضي إِلَيه عِندَ نِصفِ اللَّيل، ويَقولُ له: يا أَخي، أَقرِضني ثَلاثَةَ أَرغِفَة،

 

تشير عبارة " مَن مِنكم يَكونُ لَه صَديقٌ " إلى أسلوب يسوع في استخدام الأسئلة في تعليمه، وهو أسلوب تربوي (لوقا 10: 26) إذ يقارن يسوع الإنسان الّذي يصلي بمَن يلجأ إلى صديقه لدرجة أنه يتجرأ على الذهاب إليه ليلاً ليطلب منه طعامًا يقدمه لضيف غير متوقع؛ أمَّا عبارة "صَديقٌ" في الأصل اليوناني φίλος فتشير إلى الصاحب الصادق الود كما صرّح الحكيم بن سيراخ " الصَّديقُ الأَمينُ لا يُعادِلُه شَيء وقيمَتُه لا يُقَدَّرُ لَها ثَمَن" (سيراخ 6: 15)، لأنه " الصَّديقُ يُحِبّ في كلِّ حين" (أمثال 17: 17)، فتصير الحياة بهيجة على يديه (أمثال 15: 17). وأعطى يسوع لهذه الصداقة وجها حسنا: فقد أحب الشاب الغني (مرقس 10: 21) وأظهر عاطفته تجاه لعازر، (يوحنا 11: 3). أمَّا عبارة " أَقرِضني " فتشير إلى طلب للحصول على خبز الجسد. ويعلق القدّيس مقاريوس الراهب المصريّ "لا يشعرُ المتسوّل بأيّ إحراج في أن يقرعَ الباب ويسألَ: وإن لم يعطِه أحدٌ شيئًا، يدخلُ إلى المنزل ويطلبُ بمزيد من قلّة الإحراج، خبزًا أو لباسًا أو حذاءً في سبيل راحة جسده. هو لا يرحلُ إن لم يحصلْ على شيء ما، حتّى لو تمّ طرده"(العظة 16، المجموعة الثالثة). أمَّا عبارة "ثَلاثَةَ أَرغِفَة" فتشير بحسب ثيوفلاكتيوس بطريرك بلغاريا إلى إشباع احتياجات جسد الإنسان ونفسه وروحه"؛ أمَّا القديس أوغسطينوس فيرى في هذه الأرغفة الثلاث تعبير عن إيماننا الثالوثي". ويرى آخرون في رقم (3) إشارة للثالوث فنحن نشبع بمعرفتنا وعلاقتنا بالثالوث. فالروح يُثبتنا في الابن، والابن يحملنا لأحضان الآب؛ والبعض الآخر يرى في رقم (3) إشارة للقيامة، فنحن نشبع بجسد المسيح القائم من الأموات في اليوم الثالث.

 

6 فقَد قَدِمَ عَلَيَّ صَديقٌ مِن سَفَر، ولَيسَ عِندي ما أُقَدِّمُ لَه. 7 فيُجيبُ ذاك مِنَ الدَّاخلِ: لا تُزعِجْني، فالبابُ مُقفَلٌ وأَولادي معي في الفِراش، فلا يُمكِنُني أَن أَقومَ فأُعطِيَكَ. 8 أَقولُ لَكم: وإِن لم يَقُمْ ويُعطِه لِكونِه صَديقَه، فإِنَّه يَنهَضُ لِلَجاجَتِه، ويُعطيهِ كُلَّ ما يَحتاجُ إِلَيه.

 

تشير عبارة "يُعطِه لِكونِه صَديقَه" إلى يسوع الذي يعطي مثل الصديق كي يكشف وجه الآب. أمَّا عبارة "يُعطيهِ كُلَّ ما يَحتاجُ إِلَيه" فتشير إلى صديق لا يُلبِّي ما طُلب منه عن صداقة، بل ليرتاح منه شأنه في ذلك شان القاضي الظالم (لوقا 18: 4-5). فلا يعني هذا الكلام أنَّ الله يتصرف هكذا معنا، أو انه يستجيب لنا تفاديا لإزعاجنا له، بل كما يُعلق القديس أوغسطينوس "إن كان الشخص النائم التزم إن يعطي قسرًا بعد إزعاجه من نومه لذاك الذي يسأله، فكم بالأحرى إن يُعطى أكثر ذاك الذي لا ينام، بل يُيقظنا من نومنا لكي نسأله إن يعطينا؟"؛ فالكلام يُبيّن طيبة الله وسخاءَه بحجة أولى. "فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ" (لوقا 11: 13). ومن هذا المنطلق، فان هذا المثل يُبرز موقف الله الذي يستجيب، لأنه عادلٌ وصالح وأب.

 

9 وإِنَّي أَقولُ لَكم. اِسأَلوا تُعطَوا، اُطلُبوا تَجِدوا، اِقرَعوا يُفتَحْ لَكم.

 

تشير عبارة " اِسأَلوا، اُطلُبوا، اِقرَعوا " إلى أننا لا نسأله فقط بأفكارنا أو نيَّاتنا الداخليَّة، وإنما أيضًا بشفاهنا كما بأعمالنا وتلمح هذه العبارة أيضا إلى طلب يسوع منا أن نثابر في صلواتنا لله؛ أمَّا عبارة "تُعطَوا، و" يُفتَحْ لَكم" فتشير إلى صيغة المجهول وهي طريقة للدلالة على عمل الله من دون ذكر اسمه. وهنا يعلن يسوع بشكل رسمي أن الله يستجيب الدعاء ويؤكد ذلك مرارا وتكرارا.

 

 10 لأَنَّ كُلَّ مَن يَسأَلُ ينال، ومَن يَطلُبُ يَجِد، ومَن يَقرَعُ يُفتَحُ له.

 

تشير هذه الآية إلى الإلحاح كي نسأل ونطلب ونقرع، لأن الله يريد أن يعطينا. فالمرء يجب أن يأتي إلى الله كفقير مُعوز، فالصلاة قبل كل شيء إقرار بالفقر والحاجة.

 

11 فأَيُّ أَبٍ مِنكُم إِذا سأَلَه ابنُه سَمَكَةً أَعطاهُ بَدَلَ السَّمَكَةِ حَيَّة؟

 

تشير عبارة "السَّمَكَةِ" إلى نوع من حيواناتٌ مائيَّةٌ قحفيَّة خيشوميَّة التنفُّس عديمةُ الأصابع في أطرافها. وهي رمز للخصب والحياة والسعادة، وأحيانا للحكمة؛ وأمَّا العلامة أوريجانوس فيرى فيها حب التعلُّم. وفي الفن اليهودي كانت السمكة رمزا للقيامة وللماء الحيّ. وسيستمر الرمز مع السيد المسيح. الرسم الأول للسمكة يعود تاريخ إلى عام 192 في روما. لفظة سمكة في اليونانية ΙΧΘΥΣ هي أول كل حرف لخمس كلمات Ἰησοῦς Χριστός, Θεοῦ Υἱός, Σωτήρ)، ومعناها «يسوع المسيح ابن الله المُخَلِص». ورمز السمكة من الرموز الهامة التي كان يستخدمها المسيحيون وقت الاضطهاد. ويُعلق ترتليانوس: إننا سمك صغير أشبه بسمكتنا الكبيرة يسوع المسيح؛ وُلدنا في الماء بالمعمودية ولن يكون خلاصنا إلا ببقائنا داخل الماء".  وأمَّا عبارة "حَيَّة" في الأصل اليوناني ὄφις وفي العبرية נָּחָש (معناها حنش) فتشير إلى حيوان يزحف على بطنه (تكوين 1: 3)، لها رأس وذنب (تكوين 15: 3)، لكن ليس لها أطراف. تسمى اسماً شاملاً والحية موجودة في البرية والمناطق المأهولة، وعلى الطرق، وفي السياج، وعلى الصخور، وفي الجدران (تكوين 17: 49). وهي رمز الحياة والخصوبة أو الحكمة لشعوب المجاورة للشعب العهد القديم وكانت تُعد حيوان مقدس. أمَّا في الكتاب المقدس فهي رمز للشيطان المُجرب "كانتِ الحيَّةُ أَحيَلَ جَميعِ حَيَواناتِ الحُقولِ الَّتي صنَعَها الرَّبُّ الإِله" (التكوين 3: 1) ومقاومة لله (تثنية الاشتراع 8: 15) والإنسان كما يقول الحكيم يشوع بن سيراخ "لا سَمَّ شرمِن سَم الحيَة" (سيراخ: 15) وهي المجربة (التكوين 3: 1-5)، لذلك فهي ملعونة من الله (التكوين 3: 14) والسلطة الذي يعطيها السيد يسوع المسيح لرسله على دوس الحيات رمز إلى الانهزام النهائي على قوة الشر (لوقا 10: 18-20).

 

12 أَو سَأَلَهُ بَيضَةً أَعطاهُ عَقرَباً؟

 

تشير عبارة "بَيضَةً" إلى ما يضعه الطيور والدواجن، وهي ترمز إلى الحياة حيث يخرج ممَّا يبدو جسمًا جامدًا طائرًا فيه حياة، ويقابلها العقرب التي تحطَّم حياة الإنسان. وأمَّا العقرب فهي دابة صغيرة سامة كثيرة الأنواع تلسع بإبرة في طرف ذنبها وهي ترمز إلى الموت. وفي الواقع تُعتبر البيضة في الحضارات المصريَّة والكلدانية والفارسيَّة رمزا إلى الحياة. أمَّا عبارة "أَعطاهُ عَقرَباً" فتشير إلى التعارض بين البيضة والعقرب. ويستوحي لوقا ذكر الحيَّات والعقارب من كلام يسوع "وها قَد أولَيتُكم سُلطاناً تَدوسونَ بِه الحَيَّاتِ والعَقارِب وكُلَّ قُوَّةٍ لِلعَدُوّ، ولَن يَضُرَّكُم شَيء" (لوقا 10: 19) وهذا ما يُضفي على التعارض شيئا من القوة. أمَّا القديس أوغسطينوس فيرى " أن الخبز هو المحبَّة، والسمكة هي الإيمان، والبيضة هي الرجاء، فإننا نطلب من أبينا السماوي أن نحب ونؤمن ونترجَّى". بمعنى آخر الخبز يُشير إلى المحبَّة، يقابله الحجر الذي يشير إلى قسوة القلب، والسمكة التي تشير إلى الإيمان تقابلها الحيَّة التي تشير إلى الجحود بالإيمان حيث خدعت الحيَّة حواء بمكرها وأفسدت ذهنها عن النقاوة كما وضح ذلك بولس الرسول إلى أهل قورنتس " أَخشَى علَيكُم أَن يَكونَ مَثَلُكُم مَثَلَ حَوَّاءَ الَّتي أَغوَتْها الحَيَّةُ بِحيلَتِها، فتَفسُدَ بَصائِرُكُم وتَتَحَوَّلَ عَن صَفائِها لَدى المَسيح"(2 قورنتس 11: 2-3).

 

13 فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه)).

 

تشير عبارة "الأَشرارَ" إلى صفة مرتبطة لغويا بالتعارض القائم بين الأمور الصالحة التي يعطيها الآباء الأرضيون وصلاح الآب السماوي.  فعبارة "الأَشرارَ" ليست حُكما أخلاقيا في فساد الإنسان، أي لا تعني أن الوالدين "أشرار" بقدر ما يشير إلى وجه الله تعالى، وهو الواهب الصالحات لأبنائه من غير حساب؛ أمَّا عبارة " فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ " فتشير إلى إعلان يسوع عن أبوة الله الّتي تتجاوز الأبوة البشرية.  أمَّا عبارة "الرُّوحَ القُدُسَ" في الأصل اليوناني πνεῦμα ἅγιον فتشير إلى العطية المثالية العظمى التي أشار إليها لوقا (53) مرة في سفر أعمال الرسل. فالروح هو مصدر الحياة والسلام والسعادة. وهو عطية تنطوي على كل العطايا الجيدة الأخرى (متى 7: 19)؛ وعد يسوع تلاميذه بالروح القدس (يوحنا 14: 26) وسلَّمهم إياه على الصليب (يوحنا 19: 30)، ووهبه إلى الكنيسة بعد قيامته (يوحنا 20: 22). وكان الروح القدس يرافق الرسل الذين كانوا يبلغونه إلى الآخرين بوضع الأيدي (أعمال الرسل 19: 6). وكان المؤمنون ينالون الروح القدس كمبدأ حياة جديدة (رومة 5: 5) ومحامي (يوحنا 14: 16-26) وكفيل للوحدة المسيحية (أعمال الرسل 19: 31). أمَّا عبارة" لِلَّذينَ يسأَلونَه" فتشير إلى للذين يدعونه بالصلاة.  فأكبر تلبية لدعاء الطلب هي هبة الروح القدس الذي وحده روح الشركة، الذي يُثبِّتنا في الابن الوحيد منطلقًا بنا إلى حضن الآب السماوي.  ويُعلق القدّيس مقاريوس الراهب المصريّ " نحن الذين نسعى للحصول على الخبز السماوي الحقّ لنقوّي أنفسنا، والذين نتوق إلى ارتداء لباس النور السماويّ، وإلى انتعال حذاء الرُوح غير الماديّ الذي يُريح النفس الخالدة، كم حريّ بنا الانتظار بحزم وبإيمان وبحبّ، أمام باب الله الرُّوحيّ، نقرعه ونطلب بإصرار تامّ أن نكون أهلاً للحياة الأبديّة"(العظة 16، المجموعة الثالثة).

 

 

ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 11: 1-13)

 

انطلاقا من هذه الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (لوقا 11: 1-13) نستنتج انه يتمحور حول الصَّلاة الرَبيَّة مُبيّناً مضمونها والدعوة إلى تلاوتها بتكرار بلجاجة وأمانة لله لاستجابة صلاتنا

 

1) مضمون الصَّلاة الرَبيَّة (لوقا 11: 2-4):

 

طلب أحد التلاميذ من يسوع أن يُعلمهم كيف يُصلون، فعلَّم يسوع تلاميذه الصَّلاة الرَبيَّة، التي تعتبر قلب تعليم الإنجيل ونموذجا لصلواتنا. ويوجد تشابه بين الصَّلاة الرَبيَّة والصلوات اليهودية في معناها ومبناها.  وقد ورد الصَّلاة الرَبيَّة في إنجيلي لوقا ومتى، ولكن في صيغتين مختلفتين تبعا لبيئة الجماعات المسيحية الأولى واستعمالها في كنائس مختلفة مما يدل على الأمانة لفكر يسوع أكثر من ترديدهم لكلماته. وهي نموذج لكل صلاة.  فصيغة "الصَّلاة الرَبيَّة "في إنجيل متى هي أفضل إيقاعا وعباراتها أكثر صيغة سامية، وهي تشمل سبعة طلبات؛ في حين في إنجيل لوقا يوجد خمسة طلبات وهي الأقدم.

 

الطلبة الأولى: " أَيُّها الآب (لوقا 11: 2)

 

علّمنا يسوع أن نخاطب الربّ "أبانا" كونه خالق ومبدع لكلّ ما قد صنع، وهو المصدر الأولّ لكلّ شيء، وهو السلطة الأسمى، وهو أبٌ أزليّ في علاقته بابنه الوحيد الّذي هو ابن في العلاقة المتبادلة بينه وبين الآب فقط (متّى 11، 27). وتنبثق عنه كلّ أبوّة (أفسس 3، 14-15).  ويعلق ترتليانوس" إن تعبير الله الآب لم يكشف قط لاحد. وعندما سأل موسى نفسه الله من هو، سمع اسما أخر. ولنا كشف هذا الاسم في الابن، لان هذا الاسم يقتضي اسم الآب الجديد" (في الصلاة 3).

 

وبهذا الدعاء علم يسوع تلاميذه أنهم أبناء ألآب، وهم إخوة بعضهم مع بعض.  ويعلق التعليم المسيحي الكاثوليكي "نستطيع أن نعبد الآب، لأنه جعلنا نولد ولادة جديدة لحياته، إذ تبنَّانا كأولاده في ابنه الوحيد" (بند 2782). فنحن نولد في يسوع المسيح ولادة ثانية، ونصبح أبناء الربّ بالتبنّي (يوحنّا 1، 12-13؛ 3،3). وإننا نستطيع الاقتراب من الربّ أبينا بثقة وجرأة، لأنّ يسوع المسيح قد فتح لنا الطريق إلى السماء بواسطة موته وقيامته. ويُعلق القديس بطرس كريزولوغ، " متى يتجاسر ضعف كائن قابل للموت على أن يدعو الله أبا، إلاَّ عندما تنعش الإنسان في صميمه القدرة التي من العلاء" (عظات، 71). وهكذا فان حالة المُصلي مستمدة من الابتهال إلى الله بصفته آب. وهذا الابتهال هو فعل إيمان، وهبة ذات من شأنها إدخال الإنسان في نطاق المحبة. فلا معنى للصلاة من دون الإيمان، ولا وجود للإيمان بالله ألاب من دون السعي إلى لقائه بالصلاة.  ويعلق القديس أوغسطينوس" أبانا: هذا الاسم يبعث فينا في آنٍ واحدٍ الحب والتعلق في الصلاة، وأيضا رجاء الحصول على ما سنطلبه " (في عظة الرب على الجبل 2، 4، 16).

 

إن الصَّلاة الرَبيَّة وضعت "للذين قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله" (يوحنا 1: 12). فلا نستطيع إن نصلِّي كما ينبغي ما لم نُدرك أولًا مركزنا بالنسبة لله الآب، فقد اختارنا أبناء الله، نحدِّثه من واقع بنوَّتنا التي نلناها كهبة مجانيَّة في مياه المعموديَّة؛ ويُعلق القديس كيرلس الاورشليمي بقوله " يا لعظمة حب الله للبشر! فقد منح الذين ابتعدوا عنه وسقطوا في هاوية الرذائل غفران الخطايا، ونصيبًا وافرًا من نعمة، حتى أنهم يدعونه أبًا". فجوهر الصَّلاة الرَبيَّة هو الاتصال بالله الآب. من يحب الله يحيا معه ويصلِّي إليه دوما كأب.  ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم بقوله "أي شرف أعظم من أن يقف الإنسان أمام الله".  لذلك يقول لك القديس أمبروسيوس "ارفع نظرك إلى آبيك الذي افتداك بابنه، وقل: أبانا" (الأسرار 5، 19). فعلينا أن "نتذكر عندما ندعو الله "أبانا"، انه من واجبنا أن نسلك سلوك أبناء الله" كما يقول القديس غريغوريوس النصي (الصلاة الربيّة، 2).

 

الطلبة الثانية: " لِيُقَدَّسِ اسمُكَ "

 

في لغة الكتاب المقدس، لا فرق بين اسم الله والله نفسه، أو بالأحرى بين اسم الله وشخصه وبصفته محور العبادة. وحين نقول إن الله "لِيُقَدَّسِ اسمُكَ"، نعني أنه تعالى يُظهر مجده بتطهير شعبه من خطاياه وبتخليصه ونعترف به قدوسا، ونعامله بطريقة مقدسة، ونسأله أن يكشف عن نفسه كما هو، أي قدوس.  ويعلق القديس قبريانس " من يستطيع تقديس الله ما دام هو الذي يُقدِّس؟ ولكننا نستوحي هذا الكلام "كونوا قِدِّيسين، فإِنِّي أَنا قُدُّوس"(أحبار 44:11) (الصلاة الربيِّة 12).

 

وكشف لنا يسوع اسم الله القدوس في صلاته الكهنوتية: يا أَبَتِ القُدُّوس" (يوحنا 17: 11)، وهو يدعونا إلى القداسة كما يصرّح بولس الرسول "فإِنَّ اللهَ لم يَدْعُنا إِلى النَّجاسة، بل إِلى القَداسة. (1 تسالونيقي 7:4). وفي الواقع، يتعلق تقديس اسمه تعالى بين الأمم بحياتنا وصلاتنا. نطلب أن يقدس اسم الله هذا فينا بحياتنا، لأننا إذا عشنا عيشة حسنة يبارك الاسم الإلهي. ولكن إذا عشنا عيشة سيئة جدَّف عليه بحسب كلام الرسول: " يُجَدَّفُ بِاسمِ اللهِ بَينَ الوَثَنِيِّينَ وأَنتُمُ السَّبَب" (رومة 2: 24). "نحن نطلب من خلال هذه الطلبة إن يتقدَّس اسم الله فينا" كما يقول القديس كيرلس الاورشليمي. فطلبتنا إليه أن يتقدس اسمه يدخلنا في تدبيره الإلهي " ذلِك بِأَنَّه اختارَنا فيه قَبلَ إِنشاءِ العالَم لِنَكونَ في نَظَرِه قِدِّيسينَ بِلا عَيبٍ في المَحبَّة" (أفسس 4:1). فنحن نصلي لنستحق أن يكون في نفوسنا من القداسة بمقدار ما هو اسم الهنا قدوس. ويُعلق العلامة أوريجانوس على هذه الطلبة بقوله "إن الوثنيِّين يُجدّفون على اسم الله إذ ينسبونه للأصنام، وكأنَّ الصلاة هنا هي صرخة الكنيسة لله أن ينزع العبادة الوثنيَّة عن العالم ليُعرف اسمه مقدَّسا في كل البشريَّة." باختصار، عندما نطلب أن "يتقدس اسمك"، ندخل في صميم الله أي تقديس اسمه الذي كشف لموسى ثم في يسوع-بنا وفينا، كما في كل أمةٍ وفي كل إنسانٍ.

 

الطلبة الثالثة "لِيأتِ مَلَكوتُكَ"

 

"ليأت ملكوتك" هي دعوة إلى الله لمجيء ملكوته، وهذا الملكوت يحقَّق عمليا بخلاص البشر كما يقول صاحب المزامير " قولوا في الأمَم: ((الرَّبُّ مَلَكَ)) (مزمور 97: 10)، لذلك ليس في هذه الطلبة اهتمام بانتصار سياسي أو ديني، ويُعلق العلامة ترتليانوس فيقول "رغبتنا هي إن يُسرع ملكنا بالمجيء فلا تمتد عبوديَّتنا في هذا العالم".  فالمسيح يُعلم تلاميذه بهذه الطلبة أن يُعترف بالله في قدرته ومجده، لكن مجده هو في خلاصنا كما يُعلق القديس ايرينيوس " مجد الله في أن يحيا الإنسان". ولذلك فإنَّ الطلبات الثلاثة الأولى تطالب في آن واحد بمجد الله وخلاص البشر. فلا مجد لله إلاّ في خلاص البشر، ولا خلاص للبشر إلاَّ في مجد الله.  وبعد هذه الطلبات الأساسية الثلاثة يُعلّم يسوع تلاميذه أن يطلبوا منه بثقة الأشياء الّتي يحتاجوها في الحياة اليومية كي يعيشوا كأبنائه.  بهذا الطلب نقصد خصوصا عودة المسيح والمجيء الأخير لملكوت الله. ونصلي أيضا لأجل نمو ملكوت الله في حياتنا.

 

الطلبة الرابعة "أُرزُقْنا خُبزَنا كَفافَ يَومِنا "(لوقا 11: 3)

 

الإنسان بحاجة إلى الخبز. والآب الذي يعطينا الحياة لا يستطيع ألاَّ يعطينا الغذاء الضروري للحياة، وكل الخيرات المادية والروحية. لذا يدعونا يسوع إلى أن نطلب بثقة، يوما بعد يوم ما نحتاج إليه من الطعام، لان الله أفضل بكثير من جميع آباء الأرض، مع انه ما من أحد منهم " إِذا سأَلَهُ ابنُهُ رَغيفاً أَعطاهُ حَجَراً،"(متى 7: 9).  وتُستعمل في هذه الطلبة صيغة المتكلم في الجمع، فتجمع المؤمنين الأفراد في جماعة واحدة. إن تدبير الله يومي مستمر، وليس تدبيراً وقتياً، ولا يمكننا أن نخزن عطايا الله ثم نقطع اتصال به تعالى. ويعلق القديس قبريانس "إن الله يعد من يطلبون ملكوته وبِرَّه بإعطائهم كل شيء زيادة. فكل شيء هو لله. ومن له الله لا ينقصه شيء إذا لم يبتعد هو عن الله" (الصلاة الربية،21). وفي هذه الطلبة نعبر، بالاشتراك مع إخوتنا، عن ثقتنا البنوية بابينا السماوي أن يعطينا “خبزنا"، أي ليس الغذاء المادي الضروري لمعيشتنا جميعا، إنما أيضا خبز الحياة أي كلمة الله وجسد المسيح.

 

الطلبة الخامسة "وأَعْفِنا مِن خَطايانا فإِنَّنا نُعْفي نَحنُ أَيضاً كُلَّ مَن لنا عليه ولا تَترُكنا نَتَعرَّضُ لِلَّتجرِبَة". (لوقا 11: 4). 

 

الإنسان ليس بحاجة إلى خبز فقط، إنما إلى مغفرة خطاياه أيضا، لانَّ الخطايا هي العقبة الحقيقية القائمة بين الله وبيننا. لذا جعل الربّ يسوع من خلال طلبة الغفران حجر الأساس في علاقتهم بالله. فإنّ الله قد غفر خطايانا؛ ومن ثمّ لا بدّ أن نغفر نحن أيضاً لكلّ من أساء إلينا.  فاذا أردنا مغفرة خطايانا دون مسِّ كرامتنا فإن يسوع يطلب منا أنْ نغفر لأخوتنا قبل طلب مغفرة الله لنا.  فإن كنّا لا نغفر فهذا دليل أننا لم نفهم بأنّنا نحن أنفسنا بحاجة للغفران. وعليه فإن صلاة يسوع تشمل أمراً، وهو أن نطلب من الربّ أن يغفر لنا بما يتناسب مع مغفرتنا للّذين أساءوا إلينا. ولذلك يتوجب علينا أن نسامح بعضنا بعضًا حتى نستطيع أن نطلب منه غفرانًا لخطايانا الكثيرة.

 

الإنسان ليس بحاجة إلى خبز ومغفرة خطاياه فقط، وإنما إلى المساعدة في التجربة أيضا. " لا تَترُكنا نَتَعرَّضُ لِلَّتجرِبَة" ومن الصعب ترجمة اللفظة اليونانية بكلمة واحدة: فهي تعني "لا تسمح بالدخول في" كما جاء في تعليم يسوع لتلاميذه "إِسهَروا وصَلُّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبَة."(متى 26: 41)، "لا تدعنا نسقط في التجربة" كما جاء في تعليم يعقوب الرسول " إِذا جُرِّبَ أَحَدٌ فلا يَقُلْ: ((إِنَّ اللهَ يُجَرِّبُني)). إِنَّ اللهَ لا يُجَرِّبُه الشَّرُّ ولا يُجَرِّبُ أَحَدًا، " (يعقوب 1: 13). إن الله يريد تحريرنا من التجربة.

 

يعلم المسيح تلاميذه أن يصلُّوا كي لا يدخلوا في تجربة، لكن إن دخل أحد في التجربة فيلزمه أن يطلب من الرب قوَّة اِحتمال لتتحقِّق فيه كلمة الرب فلا يستسلم إليها "الَّذي يَثبُتُ إلى النِّهاية فذاكَ الَّذي يَخلُص"(متى 10: 22). فالرب لا يجرّبنا إنَّما يسمح للشيطان بتجربتنا كما حدث مع المسيح.  يميِّز العلامة ترتليانوس بين التجربة التي هي سماح من الله، و"امتحان" لأجل تزكيتنا، أمَّا عدو الخير أي الشيطان فيجُرِّبنا بمعنى أنه يخدعنا، "وهنا نصلِّي كي لا ندخل في تجربة بمعنى أن يسندنا ضد حِيَل إبليس وخدائعه. لنسأل الرب أن يحفظنا من كل شر وإذا سمح بالتجربة فليحفظنا من اليأس.

 

يُعلمنا يسوع أن نطلب من الله أن لا يدعنا نستسلم للتجربة التي تتثبَّت فينا حريتنا. ويعلق العلامة أوريجانوس " التجربة تعلمنا أن نعرف أنفسنا، وهكذا تكشف لنا بؤسنا، وتوجب علينا أن نشكر لله الخيرات التي أظهرتها لنا التجربة" (في الصلاة 29، 15، 17).

 

وباختصار، يؤكِّد العلامة ترتليانوس إن الصَّلاة الرَبيَّة هي الأساس الذي وضعه السيِّد المسيح لصلواتنا؛ تحتوي في مضمونها على مجد الله بقولنا "أبانا"، وعلى شهادة الإيمان بقولنا "يتقدَّس اِسمك"، وعلى تقديم الطاعة بقولنا "لتكن مشيئتك"، وعلى الرجاء بالقول "خبزنا كفافنا"، وعلى المعرفة الكاملة لخطايانا (لديوننا) بقولنا "وأَعْفِنا مِن خَطايانا فإِنَّنا نُعْفي نَحنُ أَيضاً كُلَّ مَن لنا عليه ". وعلى الرعب الشديد من التجربة بطلب الحماية بقولنا"ولا تَترُكنا نَتَعرَّضُ لِلَّتجرِبَة". 

 

وعليه فإن صَلاة الربيِّة تتوجه إلى الله الآب أولا لطلب تقديس اسمه ومجيء ملكوته وتحقيق إرادته، ولكنها صلاة تطلب أيضا الخبز (الإفخارستيا)، ثم المغفرة بعد إتمام المصالحة مع أبناء الآب الواحد، وأخيرا تطلب من الله كي يُنقذنا من تجربة الأزمنة الأخيرة التي يصعب تحمّلها (لوقا 18: 1-7).

 

وخلاصة الصلاة الربيِّة هي الاقتراب إلى الله أبًا، وطلب ثلاثة أمور وهي تمجيد اسم آبينا السماوي وإتيان ملكوته وتتميم مشيئته.  ثم طلب ثلاثة أمور لنا، وهي طعامنا اليومي والمغفرة التي نحتاج إليها كل يوم، والنجاة من الشيطان. ويقترن إحدى هذه الطلبات بشرط وهوان نغفر لغيرنا.

 

وفي هذه الطلبة الخامسة نلتمس لإساءاتنا رحمة الله التي لا تستطيع دخول قلبنا ما لم نغفر لأعدائنا على مثال المسيح وبعونه. نطلب إلى الله أيضا ألا يسمح بان نسير في الطريق الذي يؤدِّي إلى الخطيئة. ونطلب أخيرا بان يظهر الله الغلبة، التي قد نالها المسيح على "رئيس هذا العالم"، على إبليس الذي يقاوم شخصيا الله وتصميمه الخلاصي.

 

2) الدعوة إلى تلاوة الصَّلاة الرَبيَّة بإلحاح (لوقا 11: 5-8)

 

إن كان السيِّد قد قدَّم لنا نموذجًا حيًا للصلاة، فإنه إذ يطلب منَّا إن نصلِّي بلجاجة، ليس لأنه يستجيب لكثرة الكلام، بل لنتعلَّم كيف نقف أمامه وندخل معه في صلة حقيقيَّة حتى تتغير طبيعتنا. وأراد يسوع أن يُعلم تلاميذه اللجاجة في الصلاة لذلك ذكر لهم مثل "الصديق اللجوج (لوقا 11: 5-8)، وفيه ثلاثة أشخاص يجب تمييزهم: المضيف: "من منكم يكون له صديق" وليس عنده شيء يقدّمه لضيفه، وصديقه المجاور ولديه الخير الكثير، والثالث ضيفه الصديق الذي جاءه وبه حاجة وجوع. إن غاية هذا المثَل الأولى أن يحثُنا على اللجاجة في الصلاة حتى يُستجاب لنا، فإننا نلاحظ هنا إن السيِّد المسيح يقدِّم الأب صديقًا للبشريَّة. كأن السيِّد المسيح يطالبنا إن نلجأ إليه كصديق إلهي حقيقي، في كل وقت، حتى في منتصف الليل، نتوسَّل إليه ليُمدِّنا بالخبز السماوي المُشبع للنفس والجسد. وإن كان الله يقدِّم نفسه صديقًا لنا نسأله في منتصف الليل ليهبنا خبزًا سماويًا من أجل الآخرين القادمين إلينا أيضًا في منتصف الليل، فإن السيِّد المسيح حسب هؤلاء أيضًا أصدقاء لنا؛ فنحن نطلب من الصديق الإلهي لأجل أصدقائنا في البشريَّةونلاحظ في هذا المثل أن المضيف يطلب لأجل آخر جاء ليزوره، وهذا يعلمنا أن نصلي لأجل الآخرين. هذه هي من دوافع المحبة في المسيحية.

 

الرب يُشجعنا على المثابرة والإلحاح في الصلاة (لوقا 11: 5-10)، لكنه يُدين التكرار الضحل لكلمات لا تُرفع من قلب صادق مُخلص، إن المثابرة والإلحاح في الصلاة تصنع الكثير لتغيير قلوبنا وعقولنا وأذهاننا، ويُعلق القديس أوغسطينوس "إن الحث الذي يقدِّمه لنا إنما هو لأجلنا". إنّ المثابرة والإلحاح في الصلاة تصنع الكثير لتغيير قلوبنا وعقولنا وأذهاننا. فمن المفيد أن نصلّي كما لو أنّ الاستجابة تعتمد على صلاتنا، وإن كنّا واثقين أنّ الاستجابة تعتمد على الربّ، والإلحاح في الصلاة يعيننا على أن ندرك عمل الربّ عندما نراه.

 

وكم ينبغي أن نُصلى إلى أن يتمّ الاستماع إلينا. يجب الالتجاء إلى الربّ بذات الصلاة حتّى ولو لمدّة عام، أو عشرة أعوام، أو عشرين أو خمسين عاماً. وعندما يتمّ منح النعمة المطلوبة، حينها يكون وقت التوقّف عن طلبها. ويبدأ وقت طلب نعم أخرى ورفع صلوات أخرى. إنّ قوّة الإصرار لا تأتي من قلوبنا، بل تأتي من الروح القدس الّذي يسكن فينا.

 

3) أمانة الله في استجابة صلاتنا (لوقا 11: 11-13)

 

إنّ الرب أمينُ دائماً، فهو يُعطينا، ليس فقط ما نحتاج، بل أكثر ممّا نتوقّع بكثير، لأنه آب لنا. ويُبين يسوع أمانة الله في الاستجابة لصلاتنا بطرحه السؤال على تلاميذه "فأَيُّ أَبٍ مِنكُم إِذا سأَلَه ابنُه سَمَكَةً أَعطاهُ بَدَلَ السَّمَكَةِ حَيَّة؟ أَو سَأَلَهُ بَيضَةً أَعطاهُ عَقرَباً؟ (لوقا 11: 11-12). إذا كان الآباء الأرضيُّون الصالحون حتى وهم يخطئون يعاملون أبناءهم معاملة حسنة، فكم بالحري أبونا السماوي الذي يعامل أبناءه معاملة أفضل ويمنحهم العطايا الصالحة خاصة الروح القدس "فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه)). (لوقا 11: 13). يُعطينا الربّ الروح القدس دون حساب كي نستطيع أن نشاركه في حياته وفرحه. والروح القدس هو أعظم وأهم عطية يهبها الله لنا وقد نشأت الكنيسة بعطية من الروح القدس (أعمال الرسل 2: 1-4).

 

ولماذا يريدنا الربّ يسوع أن نطلب الروح القدس من الآب؟  فالروح القدس ينتزع الرغبات والنزوات البشريّة من قلبنا ويضع مكانها الرغبات الإلهيّة.  إنه سلام قلوبنا ونفوسنا، وأفكارنا، ورغباتنا. فبوجود الروح القدس معنا، نكون في سلام الرغبات وسلام القلب، وسلام المشاعر والإرادة. من يكون في السلام، يطلب شيئاً واحداً من الربّ: أن تتمّ مشيئته في حياته.  ومن هنا نفهم كلمات يسوع " فلا تَهْتَمُّوا فَتقولوا: ماذا نَأكُل؟ أو ماذا نَشرَب؟ أو ماذا نَلبَس؟   فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إلى هذا كُلِّهفَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه " (متى 6: 31-33). فمن يريد أن يصلي فليقف أمام الآب بروح البنوة ويدعوه أبًا له. 

 

لقد علمنا الرب كيف نصلي وعلمنا أيضًا ماذا نسأله لكي يعطينا. أنه يعلم ما نحتاج إليه قبل أن نطلب منه، ولكنه يريدنا أن نسأل، ونطلب، ونقرع، ونتضرع بلجاجة حتى حينما يستجيب لنا نقدِّر قيمة عطاياه ونفرح بها. ولنتعلم أن نطلب من الله لكي يعمل روحه القدوس فينا ويقودنا إلى معرفته، وإلى إتمام مشيئته في حياتنا، وإلى تقديم نفوسنا وأجسادنا ذبيحة حبٍ لمجد اسمه وانتشار ملكوته وإلى محبة أخوتنا. " ليحل الروح القدس علينا ويُطهرنا" كما جاء في صلاة القديس غريغوريوس أسقف نصيص. فهل نتقدّم من الآب السماوي واثقين من رحمته وفضله ونعمه؟

 

 

خلاصة

 

أودع يسوع تلاميذه "الصَّلاة الرَبيَّة جوابا عن طلبهم " يا ربّ، عَلِّمنا أَن نُصَلِّيَ (لوقا 11: 1). وتسمى "الصلاة الربية"، لأنها تأتي من الرب يسوع، معلم صلاتنا ومثالها. وتعتبر "الصَّلاة الرَبيَّة " الصلاة المسيحية الأساسية وملخّص الإنجيل كله وهي صلاة جامعة لكل صلاة، مستوفية لجميع شروط الصلاة المستجابة عند الله. وهي صلاة دعاء وطلب. دعاء لمجد الله، وطلب لكل وسيلة إلى الله. فهي صلاة لكل زمان ومكان وكل جيل وكل موقف وظرف.

 

علمتها الكنيسة مع قانون الإيمان للداخلين في الدين المسيحي بالعماد منذ أقدم العصور. ثم أدخلتها منذ القرن الرابع في قانون القداس الإلهي، على أنها أروع صلاة يستعد بها الكاهن والمؤمنون للاستعداد في ذبيحة المسيح والمناولة القربان الأقدس.

 

ومن شروط هذه الصلاة هي أن يكرِّرها الإنسان على الله بحب وإيمان وتواضع كما فعل الصديق اللجوج في طلب الخبز من صديقه في الليل.  باختصار نصلي الصَّلاة الرَبيَّة كي نُمجد الله في صلاتنا، ونصلي من أجل حاجاتنا اليومية، ونصلي طالبين معونته في صراعاتنا اليومية خاصة في تجاربنا كما أوصانا يسوع "صلُّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبَة (لوقا 22: 40)

 

 

دعاء

 

"أيّها الآب السماوي، لقد منحتني العقل كي أعرفك، والإرادة كي أخدمك، والقلب كي أحبّك.  امنحني اليوم نعمة الروح القدس كي أُغيّر مشيئتي بحسب مشيئتك القدّوسة، وأقبل ما تمسح به فتكون مقاصدي وأفعالي مرضية لديك.  وساعدني أن أكون مسامحاً تجاه قريبي، كما أنت تجاهي.  واجعلنا أداة تمجيد على مثالك. آمين.