موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (يوحنا 14: 23-29)
((إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً. 24 ومَن لا يُحِبُّني لا يَحفَظُ كَلامي. والكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني. 25 قُلتُ لَكُم هذه الأَشياءَ وأَنا مُقيمٌ عِندكم 26 ولكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم. 27 السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم. فلا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم ولا تَفْزَعْ. 28 سمِعتمُوني أَقولُ لَكم: أَنا ذاهِبٌ، ثُمَّ أَرجعُ إِلَيكمُ. لو كُنتُم تُحِبُّوني لَفَرِحتُم بِأَنِّي ذاهِبٌ إِلى الآب لأَنَّ الآبَ أَعظَمُ مِنِّي. 29 لقَد أَنبَأتُكم مُنذُ الآنَ بِالأَمرِ قَبلَ حُدوثِه حَتَّى إِذا حَدَثَ تُؤمِنون. 30 لن أُطيلَ الكَلامَ عَلَيكُم بَعدَ ذلك لأَنَّ سيِّدَ هذا العالَمِ آتٍ ولَيسَ لَه يَدٌ علَيَّ.
مُقَدِّمَةٌ
يَصِفُ نَص إِنْجِيلُ يُوحَنَّا (يُوحَنَّا 14: 23–29)، فِي الأَحَدِ السَّادِسِ لِلفِصْحِ، خِطَابَ يَسُوعَ فِي لَحْظَةِ وَدَاعِهِ لِتَلاَمِيذِهِ فِي العَشَاءِ الأَخِيرِ، مُبَيِّنًا طَبِيعَةَ مَلَكُوتِهِ، وَمُحَدِّدًا شُرُوطَهُ القَائِمَةَ عَلَى حِفْظِ الوَصَايَا، لِنَيْلِ السَّلَامِ رَغْمَ الِاضْطِرَابِ الَّذِي يُعَانُونَ مِنْهُ بِسَبَبِ إِعْلَانِ رَحِيلِهِ القَرِيبِ عَنْهُمْ. وَمِنْ هُنَا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ البَحْثِ فِي وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ وَتَطْبِيقَاتِهِ.
أولا: وَقَائَع النَّصُّ الإنْجيلي (يوحنا 14: 23-31)
23 أَجابَه يسوع: إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً
تُشِيرُ عِبَارَةُ "أَجَابَهُ يَسُوعُ" إِلَى تَوْجِيهِ الكَلاَمِ إِلَى يَهُوذَا (لَا الإِسْخَرْيُوطِيِّ)، الَّذِي أَبْدَى دَهْشَتَهُ مِنْ يَسُوعَ الذي يُظْهِرُ ذَاتَهُ لِتَلاَمِيذِهِ دُونَ العَالَمِ. وَيَهُوذَا هَذَا هُوَ أَخُو يَعْقُوبَ (رَاجِعْ لُوقَا 6: 16)، وَأَحَدُ أَقْرِبَاءِ يَسُوعَ حَسَبَ الجَسَدِ (رَاجِعْ مَتَّى 13: 55)، وَهُوَ نَفْسُهُ كَاتِبُ رِسَالَةِ يَهُوذَا. وَمِنْ خِلَالِ هَذَا السُّؤَالِ، يُوَجِّهُ يَسُوعُ جَوَابَهُ لَا إِلَى يَهُوذَا فَقَط، بَلْ إِلَى جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، حِينَ يَقُولُ: "إِذَا أَحَبَّنِي أَحَدٌ، حَفِظَ كَلاَمِي". أَمَّا عِبَارَةُ "إِذَا" فَتُشِيرُ إِلَى تَرْكِيبٍ شَرْطِيٍّ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّخُولَ فِي شَرِكَةِ الْحَيَاةِ مَعَ اللَّهِ، مَشْرُوطٌ بِالْمَحَبَّةِ الحَقِيقِيَّةِ الَّتِي تَظْهَرُ فِي حِفْظِ كَلاَمِ الْمَسِيحِ وَقَبُولِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَنَا. وَتُبَيِّنُ جُمْلَةُ "إِذَا أَحَبَّنِي أَحَدٌ، حَفِظَ كَلاَمِي" إِمْكَانِيَّةَ التَّحَقُّقِ، إِذْ إِنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ الشَّرْطُ الأَسَاسي الَّذِي تَنْبَعُ مِنهُ الطَّاعَةُ الكَامِلَةُ لِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَهِيَ المَدْخَلُ إِلَى الشَّرِكَةِ الرُّوحِيَّةِ مَعَ الثَّالُوثِ. وَقَدْ أَكَّدَ يَسُوعُ هَذَا التَّلاَزُمَ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالطَّاعَةِ بِقَوْلِهِ: "الَّذِي يُحِبُّنِي يَحْفَظُ وَصَايَايَ" (يُوحَنَّا 15: 21). وَهَكَذَا، تَكْمُنُ شَهَادَةُ مَحَبَّتِنَا الحَقِيقِيَّةِ لِلرَّبِّ يَسُوعَ فِي الْعَمَلِ بِوَصَايَاهُ. فَالْمُؤْمِنُونَ يُحِبُّونَ، وَيُطِيعُونَ، فَيَرَوْنَ يَسُوعَ؛ أَمَّا العَالَمُ، فَبِمَا أَنَّهُ لَا يُحِبُّهُ، فَإِنَّهُ يَرْفُضُ كَلاَمَهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبْصِرَهُ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ قَائِلًا: "لَا يَكْفِي أَنْ نَقْتَنِي الوَصَايَا فَقَط، بَلْ نَحْتَاجُ إِلَى حِفْظِهَا". وَحِفْظُ كَلاَمِ الرَّبِّ لَا يَعْنِي تَخْزِينَ المَعْلُومَاتِ أَوْ مُجَرَّدَ تَذَكُّرِهَا، كَمَا لَا يَقْتَصِرُ عَلَى فَهْمِهَا أَوْ تَحْلِيلِهَا، بَلْ يَقْتَضِي تَطْبِيقَهَا وَتَحْوِيلَ المَعْرِفَةِ إِلَى حَيَاةٍ. وَهُنا، نَستَذْكِرُ مَا قَالَهُ جُبْرَان خَلِيل جُبْرَان فِي قَصِيدَتِهِ "المَوَاكِبِ": "أَعْطِنِي النَّايَ وَغَنِّ، وَانْسَ مَا قُلْتُ وَقُلتَ، إِنَّمَا النُّطْقُ هَبَاءٌ، فَأَفْدِنِي مَا فَعَلْتَ". َالكَلاَمُ قَدْ يَتَبَخَّرُ، أَمَّا الأَفْعَالُ فَتَبْقَى، كما يقول المَثل الللاتيني. وَتُعْلِنُ الأَفْعَالُ عَنْ صِدْقِ الْمَحَبَّةِ. إِذًا، نَحْنُ نَكُونُ أَحِبَّاءَ الرَّبِّ عِنْدَمَا نَعْمَلُ بِوَصَايَاهُ، وَنُتَرْجِمُ كَلِمَاتِهِ إِلَى حَيَاةٍ فَعَلِيَّةٍ مَلْمُوسَةٍ. فَالمَحَبَّةُ الْمَسِيحِيَّةُ لَيْسَتْ شُعُورًا عَاطِفِيًّا، بَلْ نَمَطُ حَيَاةٍ قَائِمٌ عَلَى الطَّاعَةِ الْكَامِلَةِ. وَقَدْ جَسَّدَ يَسُوعُ هَذَا بِنَفْسِهِ حِينَ صَلَّى فِي الْجَسْمَانِيَّةِ قَائِلًا: "يَا أَبَتِ، إِنْ أَمْكَنَ الأَمْرُ، فَلْتَبْتَعِدْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ. وَلَكِنْ لَا كَمَا أَنَا أَشَاءُ، بَلْ كَمَا أَنْتَ تَشَاءُ!" (مَتَّى 26: 39). فَمَن يُحِبُّ، يَبْقَى أَمِينًا لِكَلِمَةِ الْمَسِيحِ حَتَّى النِّهَايَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "فَأَحَبَّهُ أَبِي" فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْآبَ يُحِبُّ الابْنَ، وَمَنْ يُحِبُّ الابْنَ يَدْخُلُ فِي دَائِرَةِ مَحَبَّةِ الْآبِ، فَيَحْيَا فِي قَلْبِ الثَّالُوثِ. وَتَعْنِي عِبَارَةُ "كَلَامِي" هُنَا تَعَالِيمَ يَسُوعَ وَوَصَايَاهُ، كَمَا وَرَدَ فِي السِّيَاقِ ذَاتِهِ: "إِذَا كُنتُمْ تُحِبُّونِي، حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ" (يُوحَنَّا 14: 15). أَمَّا عِبَارَةُ "حَفِظَ كَلَامِي"، فَلَا تَعْنِي مُجَرَّدَ حِفْظٍ ذِهْنِيٍّ، بَلْ تَعْنِي وَضْعَ الْكَلِمَةِ فِي الْقَلْبِ وَالْعَمَلَ بِهَا. وَحِينَ يَقُولُ: "نَأْتِي إِلَيْهِ"، فَإِنَّمَا يُشِيرُ إِلَى الْآبِ وَالِابْنِ مَعًا، وَهَذَا يُبْرِزُ وَحْدَانِيَّتَهُمَا، إِذْ لَا يُمْكِنُ الفَصْلُ بَيْنَ حُضُورِ الْآبِ وَحُضُورِ الابْنِ. وَقَدْ أَعْلَنَ بُولُسُ الرَّسُولُ هَذَا الحُضُورَ الثَّالُوثِيَّ قَائِلًا إِلَى أَهْلِ قُورِنْتُسَ: "لْتَكُنْ نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ، وَشَرِكَةُ الرُّوحِ الْقُدُسِ مَعَكُمْ جَمِيعًا" (2 قُورِنْتُسَ 13: 13). فَمَعْنَى كَلاَمِ الرَّبِّ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ أُظْهِرَ ذَاتِي لَكَ، فَاعْمَلْ بِمَا يُحِبُّهُ الْآبُ. حِينَئِذٍ نَأْتِي إِلَيْكَ، وَنُقِيمُ عِندَكَ، وَتَكُونُ لِي الْحَيَاةُ فِيكَ، وَلَكَ الْحَيَاةُ فِيَّ. أَمَّا عِبَارَةُ "مُقَامًا" فَتُشِيرُ إِلَى حُضُورِ اللَّهِ وَسُكْنَى الْآبِ وَالِابْنِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا وَرَدَ فِي رُؤْيَا 3: 20، حَيْثُ يَجْعَلُ اللَّهُ – الْآبُ وَالِابْنُ وَالرُّوحُ الْقُدُسُ – مِنْ قَلْبِ الإِنسَانِ الْمُؤْمِنِ مَسْكَنًا وَهَيْكَلًا مُقَدَّسًا لَهُ. وَهَكَذَا يُصْبِحُ كُلُّ إِنسَانٍ مَدْعُوًّا لِيَجْعَلَ مِنْ رُوحِهِ مَقَرًّا لِحُضُورِ اللَّهِ. وَبِذَٰلِكَ، لَمْ يَعُدْ هَيْكَلُ أُورْشَلِيمَ هُوَ المَوْضِعَ الوَحِيدَ لِحُضُورِ اللَّهِ، بَلْ صَارَ قَلْبُ المُحِبِّينَ، الَّذِينَ يَحْفَظُونَ وَصَايَا يَسُوعَ المَسِيحِ، هُوَ المُقَامُ الحَقِيقِيُّ لِلَّهِ. وَقَدْ عَبَّرَ بُولُسُ الرَّسُولُ عَنْ هَذَا اَلمفهُومِ قَائِلًا: "نَحْنُ هَيْكَلُ اللَّهِ الحَيِّ، كَمَا قَالَ اللَّهُ: سَأَسْكُنُ بَيْنَهُمْ، وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ، وَأَكُونُ إِلَهَهُمْ، وَيَكُونُونَ شَعْبِي" (2 قُورِنتُس 6: 16، رَاجِعْ أَيْضًا إِرْمِيَا 3: 33). وَيُؤَكِّدُ بُطْرُسُ الرَّسُولُ هَذِهِ الحَقِيقَةَ بِقَوْلِهِ: "أَنتُمْ أَيْضًا، شَأْنَ الحِجَارَةِ الحَيَّةِ، تُبْنَوْنَ بَيْتًا رُوحِيًّا، فَتَكُونُونَ جَمَاعَةً كَهَنُوتِيَّةً مُقَدَّسَةً، كَيْمَا تُقَرِّبُونَ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةً يَقْبَلُهَا اللَّهُ عَنْ يَدِ يَسُوعَ المَسِيحِ" (1 بُطْرُس 2: 5). وَيُعَلِّقُ القُدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسُ عَلَى هَذَا الحُضُورِ الإِلَهِيِّ قَائِلًا: "هَذِهِ السَّكَنَى هِيَ سَكَنَى رُوحِيَّةٌ، تَتَحَقَّقُ دَاخِلِيًّا فِي الذِّهْنِ، وَتَجْلِبُ بَرَكَةً أَبَدِيَّةً لِلَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا". وَفِي هَذِهِ الآيَةِ، يُجِيبُ يَسُوعُ بِصُورَةٍ غَيْرِ مُبَاشِرَةٍ عَلَى سُؤَالِ يَهُوذَا (تَدَّاوُس)، بِأَنَّهُ هُوَ وَأَبُوهُ يُقِيمانِ بِوَجْهِ نِهَائِيٍّ فِي مَنْ يُحِبُّهُ وَيَحْفَظُ وَصَايَاهُ. وَهَكَذَا يَتَحَقَّقُ حُلْمُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ عَاشُوا فِي العَهْدِ القَدِيمِ، وَسَأَلُوا: "فَإِنَّهُ هَلْ يَسْكُنُ اللَّهُ حَقًّا عَلَى الأَرْضِ؟" (1 مُلُوك 8: 27). وَيُجِيبُ يَسُوعُ أَيْضًا عَلَى سُؤَالِ تَلاَمِيذِ يُوحَنَّا: "أَيْنَ تُقِيمُ؟" (يُوحَنَّا 1: 38)، فَيُظْهِرُ لَنَا هُنَا الجَوَابَ النِّهَائِيَّ عَلَى سُؤَالِ مَكَانِ إِقَامَةِ اللَّهِ: لَيْسَ فِي مَوْضِعٍ مَادِّيٍّ، بَلْ فِي قَلْبِ المُحِبِّينَ. هَذَا اَلْمفهُومُ يُؤَكِّدُهُ بُولُسُ الرَّسُولُ مَرَّةً أُخْرَى: "فَنَحْنُ هَيْكَلُ اللَّهِ الحَيِّ، كَمَا قَالَ اللَّهُ: أَسْكُنُ بَيْنَهُمْ، وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ، وَأَكُونُ إِلَهَهُمْ، وَيَكُونُونَ شَعْبِي" (2 قُورِنتُس 6: 16). وَبِذَٰلِكَ يُقِيمُ اللَّهُ عَهْدًا مَعَ الإِنسَانِ، يَقُومُ عَلَى أَمَانَةِ اللَّهِ لِلْإِنسَانِ بِمَحَبَّتِهِ وَعِنَايَتِهِ، وَأَمَانَةِ الإِنسَانِ لِلَّهِ بِسَمَاعِ كَلِمَتِهِ وَحِفْظِ وَصَايَاهُ؛ وَهَذَا مَا يَضْمَنُ لِلْإِنسَانِ الحَيَاةَ الحَقِيقِيَّةَ وَالسَّعَادَةَ، وَيُسْهِمُ فِي تَقْدِيسِ العَائِلَةِ وَالْمُجْتَمَعِ وَالوَطَنِ. فَمَن يَسْتَضِيفُ اللَّهَ فِي قَلْبِهِ عَلَى الأَرْضِ، يَسْتَضِيفُهُ اللَّهُ فِي سَمَائِهِ إِلَى الأَبَدِ. وَهَكَذَا نَجِدُ فِي هَذِهِ الآيَةِ إِجَابَةَ يَسُوعَ عَلَى سُؤَالِ يَهُوذَا تَدَّاوُس (رَاجِعْ يُوحَنَّا 14: 22)، الَّذِي هُوَ أَخُو يَعْقُوبَ وَكَاتِبُ الرِّسَالَةِ، وَهِيَ أَنَّ يَسُوعَ سَيُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ وَلَكِنْ لَيْسَ بِالْجَسَدِ كَمَا كَانَ يَفْهَمُ يَهُوذَا، بَلْ ظُهُورًا رُوحِيًّا لَا يُعْطَى إِلَّا لِمَنْ يُحِبُّهُ وَيَحْفَظُ وَصَايَاهُ. ذَٰلِكَ لِأَنَّ يَهُوذَا لَمْ يُدْرِكْ أَنَّ الظهُورَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الرَّبُّ لَيْسَ ظُهُورًا مَلَكِيًّا سِيَاسِيًّا عَلَى أُورْشَلِيمَ، بَلْ هُوَ مَلِكٌ فِي القُلُوبِ، وَظُهُورٌ بِالرُّوحِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ. إِذًا، يُظْهِرُ يَسُوعُ فِي جَوَابِهِ الطَّبِيعَةَ الحَقِيقِيَّةَ لِمَلَكُوتِهِ، وَيُحَدِّدُ شُرُوطَ هَذَا الظهُورِ: اَلْمَحَبَّةُ وَحِفْظُ الوَصَايَا. فَالإِيمَانُ الَّذِي يَطْلُبُهُ يَسُوعُ مِنَّا، لَيْسَ مُبْنِيًّا عَلَى الخَوْفِ أَوْ الدَّهْشَةِ، بَلْ عَلَى الحُبِّ الصَّادِقِ، لِأَنَّ حِفْظَ الكَلَامِ هُوَ التَّطْبِيقُ العَمَلِيُّ لِلْمَحَبَّةِ الإِلَهِيَّةِ. وَأَمَّا عِبَارَةُ "فَنَجْعَلُ لَنَا عِندَهُ مُقَامًا" فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ الحُضُورَ الإِلَهِيَّ فِي قَلْبِ المُؤْمِنِ هُوَ حُضُورٌ دَائِمٌ لَا وَقْتِيٌّ، وَلَا يَشْعُرُ بِهِ إِلَّا مَنْ يَخْتَبِرُهُ بِصِدْقٍ فِي أَعْمَاقِهِ. فَقَدْ كَانَ اللَّهُ يَسْكُنُ فِي العَهْدِ القَدِيمِ بَيْنَ شَعْبِهِ فِي الخَيْمَةِ وَالهَيْكَلِ (رَاجِعْ خُرُوج 25: 8 وَ29: 45)، أَمَّا فِي العَهْدِ الجَدِيدِ، فَقَدِ اتَّخَذَ مِنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ هَيْكَلًا لَهُ (رَاجِعْ لُوقَا 17: 20 وَ1 قُورِنتُس 3: 16)، وَبَاتَتْ حَيَاةُ المُؤْمِنِ مُتَّحِدَةً بِاللَّهِ. وَهَذَا هُوَ ثَوَابُ المُحِبَّةِ وَالطَّاعَةِ: فَاللَّهُ يَسْكُنُ مَعَ المُؤْمِنِ عَلَى الأَرْضِ، وَالمُؤْمِنُ يَسْكُنُ مَعَ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ. فِي هَذِهِ الآيَةِ يَرْبِطُ يَسُوعُ المُحِبَّةَ الحَقِيقِيَّةَ بِحِفْظِ كَلَامِهِ، أَيِ التَّجَاوُبِ العَمَلِيِّ مَعَ تَعَالِيمِهِ. فَالْمُحِبَّةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَشَاعِرَ، بَلْ اِلْتِزَامٌ بِطَاعَةِ الإِنجِيلِ. هَذِهِ الطَّاعَةُ تَفْتَحُ بَابَ السَّكَنَى الإِلَهِيَّةِ: "يَأْتِي إِلَيْهِ أَبِي وَنُقِيمُ عِندَهُ". هَذَا تَعْبِيرٌ عَنْ الشَّرَاكَةِ مَعَ الثَّالُوثِ، الَّتِي تَبْدَأُ فِي الزَّمَنِ الحَاضِرِ وَتَكْتَمِلُ فِي الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ.
24. ومَن لا يُحِبُّني لا يَحفَظُ كَلامي. والكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني
تُشِيرُ عِبَارَةُ "مَن لا يُحِبُّنِي" إِلى الإِنْسَانِ الَّذِي يَرْفُضُ يَسُوعَ، وَيَرْفُضُ، بِالتَّالِي، كَلِمَتَهُ وَتَعَالِيمَهُ، لِأَنَّهُ يَنْجَرِفُ فِي تَيَّارِ مَحَبَّةِ العَالَمِ وَمَلَذَّاتِهِ، وَيَتَنَكَّرُ لِلَّهِ وَكَلِمَتِهِ. وَقَدْ عَبَّرَ يَعْقُوبُ الرَّسُولُ عَنْ هَذِهِ القَطِيعَةِ قَائِلًا: "أَلا تَعْلَمُونَ أَنَّ صَدَاقَةَ العَالَمِ عَدَاوَةٌ لِلَّهِ؟ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ صَدِيقًا لِلْعَالَمِ، أَقَامَ نَفْسَهُ عَدُوًّا لِلَّهِ" (يَعقُوب 4: 4). وَأَمَّا عِبَارَةُ "لَا يَحْفَظُ كَلَامِي" فَتَدُلُّ عَلَى غِيَابِ الطَّاعَةِ، فَالَّذِي لَا يُحِبُّ المَسِيحَ لَا يُطِيعُهُ، لِأَنَّهُ "لَا طَاعَةَ حَيْثُ لَا مَحَبَّةَ". وَهُنَا يُقَدِّمُ يَسُوعُ جَوَابًا عَلَى سُؤَالِ يَهُوذَا: "يَا رَبُّ، مَا الأَمْرُ حَتَّى إِنَّكَ تُظْهِرُ نَفْسَكَ لَنَا، وَلَا تُظْهِرُهَا لِلْعَالَمِ؟" (يُوحَنَّا 14: 22)، فَيُبَيِّنُ أَنَّ العَالَمَ لَا يُحِبُّهُ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرَاهُ، وَلَا أَنْ يَنَالَ إِعْلَانَهُ الذَّاتِيَّ. وَأَمَّا عِبَارَةُ "الكَلِمَةُ الَّتِي تَسْمَعُونَهَا لَيْسَتْ كَلِمَتِي، بَلْ كَلِمَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي"، فَتُبَيِّنُ أَنَّ يَسُوعَ يَرْفَعُ كَلِمَاتِهِ إِلَى مُسْتَوَى الرِّسَالَةِ الإِلَهِيَّةِ، فَكَلامُهُ لَيْسَ تَعْلِيمًا بَشَرِيًّا، بَلْ إِعْلَانٌ صَادِرٌ عَنِ الآبِ نَفْسِهِ. فَمَنْ يَرْفُضُ كَلَامَ يَسُوعَ، فَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ يَرْفُضُ كَلَامَ الآبِ، لِأَنَّ كَلَامَ يَسُوعَ هُوَ كَلَامُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَهُ. وَبِذَلِكَ، يُؤَكِّدُ يَسُوعُ أَنَّ الطَّاعَةَ لَهُ هِيَ طَاعَةٌ لِلآبِ، وَالرَّفْضُ لَهُ هُوَ رَفْضٌ لِلَّهِ نَفْسِهِ. فَالعَالَمُ لَيْسَ مُسْتَعِدًّا لِرُؤْيَةِ الآبِ وَالابْنِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ الجَوْهَرِيَّ لِذَلِكَ هُوَ المَحَبَّةُ، وَالمَحَبَّةُ تَفْتَرِضُ الطَّاعَةَ لِكَلِمَةِ اللهِ، وَهَذَا مَا يَرْفُضُهُ العَالَمُ، لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يُحِبَّ، وَلَا أَنْ يُطِيعَ، بَلْ يُفَضِّلُ أَنْ يَبْقَى فِي ظُلْمَةِ رَغَبَاتِهِ وَمَصَالِحِهِ. فَعِبَارَةُ "لَيْسَتْ كَلِمَتِي" تُعَبِّرُ عَنْ وَحْدَةِ الرِّسَالَةِ بَيْنَ الآبِ وَالابْنِ، فَكَلَامُهُمَا وَاحِدٌ فِي الجَوْهَرِ وَالمَصْدَرِ، وَمَنْ يَقْبَلْ كَلَامَ المَسِيحِ، يُكَرِّمِ الآبَ، وَيَدْخُلْ فِي شَرَاكَةِ المَحَبَّةِ وَالطَّاعَةِ، فَإِنَّ الكَلِمَةَ الإِلَهِيَّةَ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ إِعْلَانٌ عَنْ إِرَادَةِ الآبِ مِنْ خِلَالِ الاِبْنِ المُتَجَسِّدِ، مِمَّا يُظْهِرُ الطَّاعَةَ الكَامِلَةَ الَّتِي يَحْيَاهَا يَسُوعُ نَفْسُهُ.
25. قُلتُ لَكُم هذه الأَشياءَ وأَنا مُقيمٌ عِندكم
تُشِيرُ عِبَارَةُ "قُلتُ لَكُم هذِهِ الأَشْيَاءَ" إِلَى جَمِيعِ التَّعَالِيمِ وَالوَصَايَا الَّتِي قَدَّمَهَا يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ خِلَالَ حَيَاتِهِ العَلَنِيَّةِ مَعَهُم. فَهُوَ يُذَكِّرُهُم بِأَنَّ مَا قَالَهُ لَهُم لَيْسَ وَلِيدَ اللَّحْظَةِ، بَلْ هُوَ ثَمَرَةُ حَيَاةٍ وَتَعْلِيمٍ وَجِيرَةٍ مُقَدَّسَةٍ. وَأَمَّا عِبَارَةُ "وَأَنَا مُقِيمٌ عِندَكُم" فَتُشِيرُ إِلَى وُجُودِ يَسُوعَ الجَسَدِيِّ بَيْنَ تَلَامِيذِهِ، أَيْ أَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا بِشَخْصِهِ، يُعَلِّمُ وَيُرْشِدُ وَيُوَجِّهُهُم مُبَاشَرَةً. وَلَقَدِ اخْتَارَ يَسُوعُ أَنْ يُودِعَهُم كَلِمَةَ الحَيَاةِ وَهُمْ بَعْدُ مَعَهُ بِالجَسَدِ، لِكَيْ تَكُونَ الكَلِمَةُ أَمَانَةً مَحْفُوظَةً فِيهِم، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ الرُّوحُ القُدُسُ الَّذِي سَيُعَمِّقُ الفَهْمَ، وَيُذَكِّرَهُم بِمَا قَالَهُ لَهُم، وَيُوَاصِلَ عَمَلَ التَّعْلِيمِ الإِلَهِيِّ فِي الكَنِيسَةِ. فَهٰذَا الحُضُورُ الجَسَدِيُّ لَيْسَ هُوَ الهَدَفَ النِّهَائِيَّ، بَلْ هُوَ مَرْحَلَةٌ تَأْسِيسِيَّةٌ لِحُضُورٍ جَدِيدٍ بِالرُّوحِ، يَبْدَأُ بَعْدَ القِيَامَةِ، وَيَتَجَدَّدُ فِي الكَنِيسَةِ وَفِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ عَبْرَ الزَّمَنِ.
26. ولكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "ٱلْمُؤَيِّدِ" فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ παράκλητος (ٱلْبَارَاقْلِيط)، إِلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَقَدْ وَرَدَتْ هٰذِهِ ٱللَّفْظَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (14: 16، 26؛ 15: 26؛ 16: 7)، وَتَشِيرُ كُلُّهَا إِلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَمَرَّةً وَاحِدَةً فِي رِسَالَةِ يُوحَنَّا ٱلْأُولَى (1 يُوحَنَّا 2: 1) تُشِيرُ إِلَى ٱلْمَسِيحِ. وَفِي ٱللُّغَةِ ٱلْآرَامِيَّةِ، تُقَابِلُهَا ٱلْكَلِمَةُ מנחמנא (مْنَحَمْنَا) أَيْ ٱلْمُعَزِّي، وَٱلْمَعْنَى ٱلْحَرْفِيُّ لِلَّفْظَةِ ٱلْبَارَاقْلِيط هُوَ "ٱلَّذِي يُدْعَى لِيَقِفَ إِلَى جَانِبِ ٱلآخَرِ"، وَبِشَكْلٍ خَاصٍّ لِلدِّفَاعِ عَنْهُ، كَمَا يَفْعَلُ ٱلْمُحَامِي فِي ٱلْمَحْكَمَةِ، وَلِذٰلِكَ دُعِيَ "ٱلْمُعِينَ" لِأَنَّهُ يُعِينُ ٱلْإِنْسَانَ فِي ضَعْفِهِ، وَ"ٱلشَّفِيعَ" لِأَنَّهُ يَشْفَعُ فِينَا أَمَامَ عَدَالَةِ ٱلآبِ مِنْ أَجْلِ ٱلْخُطَاةِ (رَاجِعْ 1 يُوحَنَّا 2: 1)، وَ"ٱلْمُعَزِّيَ" لِأَنَّهُ يَعِدُ بِٱلْمَغْفِرَةِ وَيُوَاسِي ٱلْحَزَانَى عَلَى خَطَايَاهُمْ، وَقَدْ أَكَّدَ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ هٰذِهِ ٱلشَّفَاعَةَ قَائِلًا: "ٱلرُّوحُ نَفْسُهُ يَشْفَعُ لَنَا بِأَنَّاتٍ لَا تُوصَف" (رُومَةَ 8: 26)، كَمَا أَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لَا يَكْتَفِي بِٱلْعَزَاءِ فَقَطْ، بَلْ يُقَوِّي ٱلتَّلَامِيذَ أَيْضًا بِإِعْلَانِ طَبِيعَةِ يَسُوعَ وَعَمَلِهِ وَمَجْدِهِ، فَهُوَ يَكْشِفُ أَعْمَاقَ شَخْصِ ٱلْمَسِيحِ وَيَجْعَلُنَا نُحِبُّهُ وَنَشْهَدَ لَهُ، وَتُشِيرُ عِبَارَةُ "ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ" إِلَى ٱلْأَقْنُومِ ٱلثَّالِثِ مِنَ ٱلثَّالُوثِ ٱلْأَقْدَسِ، ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ ٱلآبُ نِيَابَةً عَنِ ٱلِٱبْنِ بَعْدَ صُعُودِهِ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، لِيُوَاصِلَ رِسَالَتَهُ عَلَى ٱلْأَرْضِ، فَهُوَ أَقْنُومُ ٱلْمَحَبَّةِ وَٱلتَّقْدِيسِ، وَقَدْ وُصِفَ بِـ"ٱلْقُدُّوسِ" لِأَنَّهُ يُقَدِّسُ قُلُوبَ ٱلنَّاسِ (رَاجِعْ فِيلِبِّي 2: 12)، وَيُكَرِّسُ ٱلْكَنِيسَةَ لِتَكُونَ عَرُوسًا لِلْمَسِيحِ بِلَا عَيْبٍ، وَهٰذَا مَا يُؤَكِّدُهُ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ فِي خِتَامِ رِسَالَتِهِ ٱلثَّانِيَةِ إِلَى أَهْلِ قُورِنْتُس: "وَلْتَكُنْ نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ ٱللَّهِ، وَشَرِكَةُ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مَعَكُمْ جَمِيعًا" (2 قُورِنْتُس 13: 13).
• يُبَكِّتُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ ٱلْعَالَمَ عَلَى ٱلْخَطِيئَةِ وَٱلْبِرِّ وَٱلدَّيْنُونَةِ (يُوحَنَّا 16: 8).
• يَشْهَدُ لِلْمَسِيحِ (يُوحَنَّا 15: 26).
• يُعِينُ ٱلرُّسُلَ فِي ٱلْكِرَازَةِ، وَيَهْدِي ٱلنَّاسَ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ وَٱلْإِيمَانِ.
• يُعَلِّمُنَا كَيْفَ نُصَلِّي (رُومَةَ 8: 26–27).
• يُعَلِّمُنَا كُلَّ مَا يَخُصُّ ٱلْمَسِيحَ: مَجْدَهُ، وَمَحَبَّتَهُ، وَطَبِيعَتَهُ، وَعَمَلَهُ ٱلْفِدَائِيَّ، فَيُكَوِّنُ فِينَا رُؤْيَةً صَحِيحَةً تَقُودُنَا إِلَى مَحَبَّتِهِ وَٱلْإِيمَانِ بِهِ (يُوحَنَّا 16: 14).
• يُرَافِقُ ٱلْكَنِيسَةَ وَٱلتَّلَامِيذَ، وَيُدَافِعُ عَنْهُمْ حِينَ يَتَّهِمُهُمُ ٱلْعَالَمُ، تَمَامًا كَمَا كَانَ ٱلْمَسِيحُ حَاضِرًا مَعَهُمْ.
أمَّا عِبَارَةُ "يُرْسِلُهُ ٱلآبُ بِٱسْمِي" فَتُشِيرُ إِلَى ٱلرِّبَاطِ ٱلثَّالُوثِيِّ، إِذْ إِنَّ ٱلآبَ هُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ، وَٱلٱبْنَ هُوَ ٱلَّذِي يَطْلُبُ، وَٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ هُوَ ٱلْمُرْسَلُ. وَهَذَا يُظْهِرُ وِحْدَةَ ٱلْمَشِيئَةِ ٱلْإِلٰهِيَّةِ، وفَاعِلِيَّةَ صَلَاةِ يَسُوعَ وَوَسَاطَتِهِ، وسُلْطَانَ ٱلٱبْنِ ٱلَّذِي قَالَ: "مَا طَلَبْتُمُوهُ بِٱسْمِي أَفْعَلُهُ" (يُوحَنَّا 14: 13–14). وَهٰذَا ٱلإِرْسَالُ ٱلْإِلٰهِيُّ هُوَ أَيْضًا عَلَامَةُ صِدْقِ ٱلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ، كَمَا قَالَ بُولُسُ: "فَلَنَا كَشَفَهُ ٱللَّهُ بِٱلرُّوحِ، لِأَنَّ ٱلرُّوحَ يَفْحَصُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى عَنْ أَعْمَاقِ ٱللَّهِ" (1 قُورِنْتُس 2: 10). فَإِرْسَالُ ٱلرُّوحِ هُوَ نَقْلُ حَيَاةِ ٱللَّهِ إِلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ، وَثَمَرُهُ هُوَ ٱلسَّلَامُ، ٱلتَّقْدِيسُ، ٱلْمُصَالَحَةُ، ٱلْمَحَبَّةُ، شِفَاءُ ٱلنَّفْسِ وَٱلْجَسَدِ، وَٱلِاسْتِنَارَةُ فِي ٱلْحَقِّ. أَمَّا عِبَارَةُ "بِٱسْمِي" فَتَعْنِي أَنَّ ٱلرُّوحَ يُرْسَلُ بِسُلْطَانِ يَسُوعَ، وَكَٱمْتِدَادٍ لِرِسَالَتِهِ. فَكَمَا جَاءَ يَسُوعُ بِٱسْمِ ٱلْآبِ (يُوحَنَّا 5: 43)، كَذَلِكَ يَأْتِي ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ بِٱسْمِ ٱلِٱبْنِ، لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ، وَٱسْتِجَابَةً لِصَلَاتِهِ (يُوحَنَّا 14: 16). قَالَ ٱلْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: "لَا يَسْكُنُ ٱلرُّوحُ فِي إِنْسَانٍ دُونَ ٱلْآبِ وَٱلِٱبْنِ، وَلَا ٱلِٱبْنُ دُونَ ٱلْآبِ وَٱلرُّوحِ، وَلَا ٱلْآبُ دُونَهُمَا. سُكْنَاهُم غَيْرُ مُنْفَصِلٍ". فِي هٰذِهِ ٱلْآيَةِ، يُقَدِّمُ يَسُوعُ وَعْدًا صَرِيحًا بِأَنَّهُ وَإِنْ غَابَ بِٱلْجَسَدِ، فَلَنْ يَتْرُكَنَا يَتَامَى، بَلْ يُرْسِلُ إِلَيْنَا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ، لِيَكُونَ مَعَنَا إِلَى ٱلْأَبَدِ، وَيُرَافِقَنَا فِي طَرِيقِ ٱلْإِيمَانِ، وَيَجْعَلَنَا نَعِيشُ شَرِكَةَ ٱلثَّالُوثِ. وَيُعَلِّقُ ٱلْبَابَا فِرَنسِيس عَلَى هٰذَا ٱلْوَعْدِ قَائِلًا: "مَعَ ٱقْتِرَابِ لَحْظَةِ ٱلصَّلِيبِ، يُطَمْئِنُ يَسُوعُ ٱلرُّسُلَ بِأَنَّهُمْ لَنْ يَبْقَوْا وَحْدَهُمْ: سَيَكُونُ مَعَهُمْ دَائِمًا ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ، ٱلْبَارَاقْلِيطُ، ٱلَّذِي سَيَعْضُدُهُمْ فِي رِسَالَةِ حَمْلِ ٱلْإِنْجِيلِ إِلَى ٱلْعَالَمِ كُلِّهِ". أَمَّا عِبَارَةُ "هُوَ يُعَلِّمُكُمْ جَمِيعَ ٱلْأَشْيَاءِ" فَتُشِيرُ إِلَى وَعْدِ يَسُوعَ لِتَلَامِيذِهِ بِأَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ سَيُعِينُهُمْ عَلَى فَهْمِ شَخْصِيَّتِهِ ٱلْإِلٰهِيَّةِ، وَٱكْتِشَافِ مَعْنَى أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ إِدْرَاكًا تَدْرِيجِيًّا، بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُ مَرَاحِلَ نُضْجِهِمُ ٱلْإِيمَانِيِّ. وَٱلْمَقْصُودُ بِـ"جَمِيعِ ٱلْأَشْيَاءِ" لَيْسَ كُلَّ أَنْوَاعِ ٱلْعُلُومِ وَٱلْمَعَارِفِ ٱلْبَشَرِيَّةِ – كَٱلْفَلْسَفَةِ أَوِ ٱلرِّيَاضِيَّاتِ – بَلْ كُلَّ مَا يَخُصُّ أُمُورَ ٱلْخَلَاصِ وَٱلْإِيمَانِ، أَيْ مَا يَرْتَبِطُ بِٱلْمَسِيحِ وَمَلَكُوتِهِ. كَمَا يَقُولُ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ: "ٱلرُّوحُ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَعْمَاقَ ٱللَّهِ" (1 قُورِنْتُس 2: 10). فَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يُكَوِّنُ فِينَا حَيَاةَ ٱلْبُنُوَّةِ لِلآبِ، وَيُرَبِّينَا عَلَى ٱلطَّاعَةِ لِلْمَشِيئَةِ ٱلْإِلٰهِيَّةِ. وَيُعَلِّقُ ٱلْبَابَا فِرَنسِيس عَلَى ذٰلِكَ قَائِلًا: "إِنَّ ٱلرَّبَّ يَدْعُونَا ٱلْيَوْمَ لِنَفْتَحَ قُلُوبَنَا عَلَى عَطِيَّةِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، كَيْ يَقُودَنَا فِي دُرُوبِ ٱلتَّارِيخِ. فَهُوَ، يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، يُعَلِّمُنَا مَنْطِقَ ٱلْإِنْجِيلِ، مَنْطِقَ ٱلْمَحَبَّةِ ٱلْمُضْيَافَةِ”. أَمَّا عِبَارَةُ "يُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ" فَتُشِيرُ إِلَى وَظِيفَةٍ ثَانِيَةٍ لِلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَهِيَ ٱلتَّذْكِيرُ الْفَعَّالُ بِكَلَامِ يَسُوعَ، أَيْ:
• استِحضارُ تَعالِيمِهِ،
• وتَفْسِيرُ أَبعادِها الرُّوحِيَّةِ،
• وتَطْبِيقُها عَمَلِيًّا فِي حَيَاةِ المُؤْمِنِينَ.
فَالرُّوحُ لَا يُعِيدُ بِبَسَاطَةٍ سَرْدَ الْكَلِمَاتِ، بَلْ يُعَمِّقُ الْفَهْمَ اللَّاهُوتِيَّ وَالرُّوحِيَّ لِأَعْمَالِ الْمَسِيحِ وَتَعَالِيمِهِ. كَمَا فِي يُوحَنَّا 2: 22: "تَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ هَذَا، فَآمَنُوا بِالْكِتَابِ وَالْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَهَا يَسُوعُ". وَأَيْضًا يُوحَنَّا 12: 16 "لَمْ يَفْهَمْ تَلاَمِيذُهُ هَذَا أَوَّلًا، وَلَكِنْ لَمَّا مُجِّدَ يَسُوعُ، تَذَكَّرُوا أَنَّ هَذَا كُتِبَ عَنْهُ". وَيُعَلِّقُ الْبَابَا فَرَنْسِيس: "مُهِمَّةُ الرُّوحِ الْقُدُسِ هِيَ أَنْ يُذَكِّرَ، أَيْ أَنْ يُفْهِمَ تَمَامًا، وَيَقُودَ إِلَى تَطْبِيقِ تَعَالِيمِ يَسُوعَ بِشَكْلٍ مَلْمُوسٍ". الرُّوحُ لَا يُعْلِنُ إِنْجِيلًا جَدِيدًا، بَلْ يُرَسِّخُ إِنْجِيلَ يَسُوعَ، هَذَا الْوَعْدُ يُؤَكِّدُ: صِدْقُ العَهْدِ الجَدِيدِ، إِذْ إِنَّ الرُّوحَ هُوَ مِنْ أَلْهَمَ كُتَّابَهُ، ووَحْدَةُ تَعْلِيمِ الْكَنِيسَةِ مَعَ الإِنْجِيلِ، لِأَنَّ الرُّوحَ هُوَ الضَّامِنُ لِاسْتِمْرَارِيَّةِ تَعْلِيمِ الْمَسِيحِ فِيهَا. يَقُولُ البابَا غَرِيغُورْيُوسُ: "يَهَبُكُم المعرفةَ، لِأَنَّهُ يَعْرِفُ مَا هُوَ خَفِيٌّ". فالرُّوحُ القُدُسُ لَا يُقدِّمُ رِسَالَةً جَدِيدَةً، بَل يَنقُلُ وَيُشْرِحُ إِنْجِيلَ يَسُوعَ، لِيُصْبِحَ حَيًّا فِي قَلْبِ الْكَنِيسَةِ. التَّذْكِيرُ الْحَيُّ: الرُّوحُ يَكْتُبُ فِي الْقُلُوبِ. الرُّوحُ لَيْسَ مَجَرَّدَ "ذَاكِرَةِ تَسْجِيلٍ"، بَل هُوَ صُورَةٌ حَيَّةٌ لِمَا نَطَقَ بِهِ يَسُوعُ: يَرْبِطُ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ، وَيُحَوِّلُ مَا كَانَ "قِيلَ" إِلَى مَا "يُعَاشُ" الْيَوْمَ. فالرُّوحُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيَّ، بَعْدَ نَحْوِ خَمْسِينَ سَنَةً مِنْ صُعُودِ الرَّبِّ، يَكْتُبُ بِإِنْجِيلِهِ الْغَنِيِّ وَالْعَمِيقِ، إِذْ ذَكَّرَهُ الرُّوحُ بِمَا قِيلَ وَفُعِلَ. وَيُعَلِّقُ القُدِّيسُ أَوْغُسْطِينُوسُ: "إِنَّ الثَّالُوثَ القُدُوسَ كُلَّهُ يُعَلِّمُ وَيَتَكَلَّمُ (يُوحَنَّا 6: 45)، وَلَكِنَّهُمْ غَيْرُ مُنفَصِلِينَ". الوَعْدُ المُضَاعَفُ فِي يُوحَنَّا 14: 26. فِي هَذِهِ الآيَةِ، يُقَدِّمُ يَسُوعُ وَعْدًا مُزْدَوَجًا:
• تَعْلِيمُ الرُّوحِ القُدُسِ – وَقَدْ تَمَّ هَذَا بِشَكْلٍ وَاضِحٍ فِي سَفَرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ، حَيْثُ نَرَى الْكَنِيسَةَ تَنْمو بِإِرْشَادِ الرُّوحِ.
• تَذْكِيرُ تَعَالِيمِ يَسُوعَ – وَهُوَ مَا تَجَسَّدَ بِوُضُوحٍ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، الْمَكْتُوبِ بِإِلْهَامِ الرُّوحِ. وَهَذَا الوَعْدُ هُوَ البُرْهَانُ القَاطِعُ عَلَى كَمَالِ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، إِذْ إِنَّهَا ثَمَرَةُ عَمَلِ الرُّوحِ القُدُسِ مِنْ خِلَالِ كُتَّابِهَا، الَّذِينَ كَانُوا شُهُودًا لِلْمَسِيحِ وَمُسْتَجِيبِينَ لِإِلْهَامِ السَّمَاءِ. بِاخْتِصَارٍ، الرُّوحُ القُدُسُ، الَّذِي يَرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِ يَسُوعَ، هُوَ المُعَلِّمُ الدَّاخِلِيُّ، يَذْكُرُ التَّلاَمِيذَ بِكَلَامِ الرَّبِّ وَيُعَمِّقُ فَهْمَهُمْ لَهُ. هَذَا يَعْنِي أَنَّ التَّعْلِيمَ الْمَسِيحِيَّ لَيْسَ مَجَرَّدَ نَقْلٍ حَرْفِيٍّ، بَلْ عَمَلٌ مُسْتَمِرٌّ لِلرُّوحِ فِي قَلْبِ الْكَنِيسَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ. هَل نَفْتَحُ المَجَالَ لِعَمَلِ الرُّوحِ القُدُسِ؟ غَالِبًا مَا نَعِيشُ التَّدَيُّنَ الشَّكْلِيَّ وَنَنْسَى أَنَّ الرُّوحَ القُدُسَ حَاضِرٌ لِيُعَلِّمَ وَيُذَكِّرَ وَيُحَرِّكَ قُلُوبَنَا. فَلْنَطْلُبْ حُضُورَهُ الفَعَّالَ فِينَا، خَاصَّةً عِندَ قِرَاءَةِ الكِتَابِ المَقْدَسِ أَوْ اتِّخَاذِ قَرَارَاتٍ مُهِمَّةٍ.
27. السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم. فلا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم ولا تَفْزَعْ
تُشيرُ عِبَارَةُ "السَّلَامَ" إِلَى مِلْءِ الحَيَاةِ الإِلَهِيَّةِ، وَإِلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ وَالهُدُوءِ فِي القَلْبِ، حَتَّى وَسَطَ الضِّيْقَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ، كَمَا يَقُولُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "نُضَايِقُ مِن كُلِّ جِهَةٍ وَلَكِن لَا نُقْهَرُ" (2 قُورِنْثُوسَ 4: 8). هَذَا السَّلَامُ لَيْسَ مُجَرَّدَ رَاحَةٍ نَفْسِيَّةٍ، بَل هُوَ عَطِيَّةٌ فَائِقَةٌ لِلطَّبِيعَةِ، أَنْجَزَهَا المَسِيحُ بِسَفْكِ دَمِهِ عَلَى الصَّلِيبِ، إِذِ افْتَدَانَا وَأَعَادَنَا إِلَى شَرِكَةِ اللهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَسْتُودِعُكُمْ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ ἀφίημι تَعْنِي "أَتْرُكُ، أُودِعُ، أُسَلِّمُ"، وَهِيَ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ يَسُوعَ، وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى المَوْتِ، يَتْرُكُ لِتَلاَمِيذِهِ مِيرَاثًا: سَلاَمَهُ الخَاصَّ. وَقَدْ سَلَّمَ المَسِيحُ فِي لَحْظَةِ مَوْتِهِ كُلَّ شَيْءٍ:
• نَفْسَهُ لِلآبِ (لُوقَا 23: 46)،
• جَسَدَهُ لِيُوسُفَ الرَّامِي،
• ثِيَابَهُ لِلْجُنُودِ،
• أُمَّهُ لِيُوحَنَّا،
• وَسَلاَمَهُ لِتَلاَمِيذِهِ. كَمَا قَالَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "إِنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا" (أَفَسُس 2: 14)
تُشيرُ عبارةُ "أُعطيكُم" إلى أنَّ السَّلامَ عطيَّةٌ إلهيَّةٌ مُباشرةٌ من يَسُوعَ، هِبَةٌ لا يُمكِنُ للعالمِ أَنْ يَمْنَحَها ولا أَنْ يَنْزِعَها. هو سَلاَمٌ نَبَويٌّ وَعَدَ به إشَعْيَا: "يُدْعى اسْمُه... رَئِيسَ السَّلاَمِ" (إشَعْيَا 9: 5-6). إنَّه سَلاَمٌ يَنبَعُ مِنْ عَمَلِ الرُّوحِ القُدُسِ فِي قَلْبِ الإِنسَانِ، وَالطَّاعَةِ الكَامِلَةِ لِلْآبِ، وَالاتِّحَادِ العَمِيقِ بِشَخْصِ المَسِيحِ القَائِمِ. ويُعلِّقُ القُدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسُ: "لَقَدْ تَرَكَ الرَّبُّ يَسُوعُ لَنَا السَّلاَمَ قَبْلَ ذَهَابِهِ إِلَى الآبِ، لِكَيْ نُحِبَّ بَعْضَنَا بَعْضًا عَلَى هَذِهِ الأَرْضِ... وَسَيُعْطِينَا سَلاَمَهُ فِي الْمَجِيءِ الْأَخِيرِ". تُعَبِّرُ كَلِمَةُ "سَلاَمِي" عَنْ سَلاَمٍ فَرِيدٍ يَخُصُّ يَسُوعَ وَحْدَهُ، لا يَشْبَهُ سَلاَمَ العَالَمِ. إِنَّهُ عَهْدٌ بَيْنَ المَسِيحِ وَكَنِيسَتِهِ، سَلاَمٌ مُبْنِيٌّ عَلَى الثِّقَةِ الكَامِلَةِ، لا عَلَى الظُّرُوفِ المُتَقَلِّبَةِ. هو: سَلاَمُ الضَّمِيرِ، سَلاَمُ الثِّقَةِ فِي الخَلاصِ، سَلاَمٌ يَحْمِي التَّلاَمِيذَ وَقْتَ الاضطِهَادِ (يُوحَنَّا 16: 33)، سَلاَمٌ لا يَضْعُفُهُ المَرَضُ (رُومَة 1: 7)، وَلا يَسْلِبُهُ الفَقْرُ (رُومَة 8: 6)، وَلا يُبِيدُهُ المَوْتُ (رُومَة 14: 7). "أمَّا عِبَارَةُ "لا كَمَا يُعْطِي العَالَمُ" فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ سَلاَمَ العَالَمِ عَادَةً مَا يَكُونُ:
• مُجَرَّدُ اتِّفَاقٍ مُؤَقَّتٍ أَوْ هُدْنَةٍ،
• سَلاَمٌ هَشٌّ يُبْنَى عَلَى المَصَالِحِ وَالْاِمْتِيَازَاتِ،
• سَلاَمٌ زَائِفٌ يُخَدِّرُ الضَّمَائِرَ وَلَا يُشْفِي الجِرَاحَ.
ويُعلّقُ القديسُ يوحَنَّا الذَّهَبِيَّ الفَم: "ما يُعطيه العالَمُ يَمَسُّ الجَسَدَ وَيُحَدُّ بِالزَّمَنِ، أما سَلاَمُ المَسِيحِ فِيحْتَضِنُ كِيَانَ الإِنسَانِ بِكَامِلِهِ". سَلاَمُ المَسِيحِ لَا يَعْرِفُ الزَّوَالَ، لِأَنَّهُ سَلاَمُ النِّعْمَةِ، لَا الظَّرْفِ. أما عِبَارَةُ "فَلَا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ" فَهِيَ هُنا تَأْتِي جَوَابًا عَلَى خَوْفِ التَّلامِيذِ، الَّذِينَ اضْطَرَبُوا لِسَمَاعِهِمْ أَنْ أَحَدًا سَيُخُونُهُمْ، وَآخَرَ سَيَنْكُرُهُ، وَأَنَّ يَسُوعَ سَيُفَارِقُهُمْ وَيُسَلَّمُ لِلْمَوْتِ. لَكِنَّ يَسُوعَ يُطَمْئِنُهُمْ: "أَنَا ذَاهِبٌ، ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَيْكُمْ" (يُوحَنَّا 14: 28). هُوَ ذَاهِبٌ لِيُعِدَّ لَهُمْ مَوْضِعًا، لِيَأْخُذَهُمْ إِلَيْهِ، وَهُوَ ذَاهِبٌ لِيَسْتَلِمَ المُلْكُوتَ لِحِسَابِهِمْ. وَيُعَلِّقُ الذَّهَبِيُّ الفَم: "سَلاَمُ المَسِيحِ أَبَدِيٌّ، لَا قُوَّةَ فِي هَذَا العَالَمِ تُنْزِعُهُ مِنْ قَلْبِ مَن يَتَمَسَّكُ بِهِ". أما عِبَارَةُ "لَا تَفْزَعْ" فَتُشِيرُ إِلَى الفَزَعِ الَّذِي هُوَ رَدَّةُ فِعْلٍ لِلْخَوْفِ مِنَ المَجْهُولِ، وَالمَوْتِ، وَالخَيْبَةِ. لَكِنَّ المَسِيحَ يَقُولُ: لَا تَخَافُوا، أَنَا مَعَكُمْ، فَمَصْدَرُ الطُّمَأْنِينَةِ لَا غِيَابُ الأَلَمِ بَلْ حُضُورُ اللهِ. يَقُولُ البابَا فَرِنْسِيس: "أَنْ نَعِيشَ بِسَلاَمٍ مَعَ يَسُوعَ، يَعْنِي أَنْ نَحْمِلَ هَذِهِ التَّجْرِبَةَ فِي دَاخِلِنَا، حَتَّى وَسَطَ المِحَنِ. وَهَذَا لَا نَفْهَمُهُ إِلَّا إِذَا كَانَ الرُّوحُ القُدُسُ حَاضِرًا فِينَا". أما "قُلُوبُكُمْ" فَتُشِيرُ فِي المَفْهُومِ الكِتَابِيِّ إِلَى القَلْبِ الَّذِي هُوَ مَرْكِزُ الكِيَانِ الإِنسَانِيِّ، لَا العَاطِفَةِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا العَقْلِ، وَالإِرَادَةِ، وَالرُّوحِ. فِي العِبْرِيَّةِ: לְבָבְ (لِبَابْ)، أَيْ الإِنسَانُ كُلُّهُ فِي عُمُقِهِ. يَقُولُ تَثْنِيَةُ الإِشْتِرَاعِ 6: 5 "فَأَحِبَّ الرَّبَّ إِلٰهَكَ بِكُلِّ قَلْبِكَ". هَذَا السَّلاَمُ الَّذِي يَهَبُهُ يَسُوعُ هُوَ التَّعْزِيَةُ الخَامِسَةُ فِي خِطَابِهِ الوَدَاعِيِّ، بَعْدَ أَنْ وَعَدَ تَلامِيذَهُ بِـ:
1. اجتِماعُهُم به في السَّماءِ (يُوحَنَّا 14: 2–3).
2. قِيَامُهُم بِأَعْمَالٍ أَعْظَمَ (يُوحَنَّا 14: 12).
3. استِجَابَةُ صَلَاتِهِمْ (يُوحَنَّا 14: 13–14).
4. إِرْسَالُ المُعَزِّي (يُوحَنَّا 14: 26).
5. وَهَا هُوَ الآنَ يُعْطِيهِمْ سَلاَمَهُ (يُوحَنَّا 14: 27).
بِإِخْتِصَارٍ، سَلاَمُ يَسُوعَ لَيْسَ مُجَرَّدَ غِيَابِ الصِّرَاعَاتِ، بَلْ هُوَ ثَمَرَةٌ حُضُورِهِ فِي قَلْبِ الإِنسَانِ، سَلاَمٌ يَنْبَعُ مِنَ الثِّقَةِ بِاللَّهِ رَغْمَ الآلَامِ وَالِاضْطِرَابَاتِ. السَّلاَمُ المَسِيحِيُّ هُوَ عَلاَمَةُ قِيَامَةِ الرَّبِّ، وَهُوَ عَطِيَّةٌ تُمَيِّزُ المُؤْمِنَ الحَقِيقِيَّ.
28. سمِعتمُوني أَقولُ لَكم: أَنا ذاهِبٌ، ثُمَّ أَرجعُ إِلَيكمُ. لو كُنتُم تُحِبُّوني لَفَرِحتُم بِأَنِّي ذاهِبٌ إلى الآب لأَنَّ الآبَ أَعظَمُ مِنِّي
"تُشيرُ عِبَارَةُ "أَرجِعُ إِلَيْكُم" إِلَى عَوْدَةِ يَسُوعَ إِلَى تَلامِيذِهِ، لَا فَقَطْ بَعْدَ قِيَامَتِهِ بِالجَسَدِ، بَلْ أَيْضًا عَبْرَ: حُضُورِهِ مَعَهُمْ بِالرُّوحِ القُدُسِ، وَمَجِيئِهِ إِلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ عِندَ مَوْتِهِ (فِيلِبِّي 1: 23)، وَعَوْدَتِهِ ٱلْمَجِيدَةِ فِي مَجِيئِهِ ٱلثَّانِيِ (1 تِسَالونيقي 4: 17). إِنَّهَا عَودَةٌ تَتِمُّ عملَ الخَلاصِ الَّذِي بَدَأَ فِي الفِصْحِ، فَتَغْمُرُ تَلاَمِيذَهُ بِعَطَايَا السَّلاَمِ وَالفَرَحِ. وَمِنْ خِلَالِ هَذِهِ العَودَةِ، لَا تَعُودُ حَيَاتُهُمْ مَلِكًا لَهُمْ، بَلْ تَصْبِحُ حَيَاةً مُتَّحِدَةً بِاللَّهِ فِي شَرَاكَةٍ دَائِمَةٍ مَعَ الآبِ وَالابْنِ وَالرُّوحِ القُدُسِ. "لَوْ كُنتُمْ تُحِبُّونَنِي لَفَرِحْتُمْ بِأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ" فِي هَذَا القَوْلِ، لَا يُنْكِرُ يَسُوعُ مُحَبَّةَ تَلاَمِيذِهِ لَهُ، لَكِنَّهُ يُشِيرُ إِلَى نَقْصِ كَمَالِهَا، إِذْ حَزِنُوا لِفِرَاقِهِ عِوَضًا أَنْ يَفْرَحُوا لِعَوْدَتِهِ إِلَى مَجْدِ الآبِ. فَالمُحَبَّةُ الحَقِيقِيَّةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِأَنَانِيَّةِ الحُضُورِ، بَلْ بِفَرَحِ إِتْمَامِ مَشِيئَةِ الآبِ. ذَهَابُ يَسُوعَ إِلَى الآبِ يَعْنِي:
• تَمَامُ رِسَالَتِهِ،
• وَبِدَايَةُ شَفَاعَتِهِ السَّمَاوِيَّةِ،
• وَإِرْسَالُ الرُّوحِ القُدُسِ لَهُمْ. وَكُلُّ هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ فَرَحٍ لَا حُزْنٍ.
هَل نَتحَوَّلُ مِنَ الحُزْنِ إِلَى الفَرَحِ؟ التَّلاميذُ حَزِنُوا عِندَ سَمَاعِهِمْ خَبَرَ رَحِيلِ يَسُوعَ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا أَنَّ هَذَا الحُزْنَ هُوَ تَمْهِيدٌ لِفَرَحٍ أَعْظَمَ. نَحْنُ أَيْضًا، حِينَ نَخْسِرُ شَيْئًا مِنْ أَجْلِ المَسِيحِ، فَإِنَّنَا نَرْبَحُ أَكْثَرَ مِمَّا نَظُنُّ، إِنْ وَثِقْنَا بِهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ" فَتُشِيرُ إِلَى رَحِيلِ يَسُوعَ عَبْرَ المَوْتِ وَالقِيَامَةِ ثُمَّ الصُّعُودِ إِلَى الآبِ. بِذِهَابِهِ إِلَى الآبِ: يَثَبِّتُ الابْنُ فِي المَجْدِ الَّذِي كَانَ لَهُ مُنْذُ الأَزَلِ (يُوحَنَّا 17: 5)، وَيَشْفَعُ فِي التَّلامِيذِ وَالْكَنِيسَةِ، وَيُرْسِلُ الرُّوحَ القُدُسَ لِيُكْمِلَ رِسَالَتَهُ عَلَى الأَرْضِ. أَمَّا عِبَارَةُ "الآبُ أَعْظَمُ مِنِّي" فَتُعَدُّ مِنْ أَعْمَقِ العِبَارَاتِ اللاهُوتِيَّةِ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا. وَتُفْهَمُ كَمَا يَلِي: الآبُ أَعْظَمُ مِنَ الابْنِ مِنْ حَيْثُ الوَظِيفَةِ وَالمَوْقِعِ فِي التَّدْبِيرِ الخَلاَصِيِّ، لَا مِنْ حَيْثُ الجَوْهَرِ الإِلٰهِيِّ: الابْنُ أَطَاعَ حَتَّى المَوْتِ (فِيلِبِّي 2: 8). وَهُوَ فِي حَالَةِ تَجَسُّدِهِ وَتَوَاضُعِهِ، صَارَ كَمَا مِنْ هُوَ أَدْنَى مِنَ الآبِ. لَكِنَّ مِنْ حَيْثُ الجَوْهَرِ وَالطَّبِيعَةِ، الآبُ وَالابْنُ مُتَسَاوِيَانِ: "أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ" (يُوحَنَّا 10: 30). "فِيهِ يَحِلُّ جَمِيعُ كَمَالِ الأُلُوهِيَّةِ حُلُولًا جَسَدِيًّا" (كُولُوسِي 2: 9). يُوَضِّحُ بُولُسُ الرَّسُولُ ذَلِكَ فِي فِيلِبِّي 2: "هُوَ الَّذِي فِي صُورَةِ اللَّاهُوتِ، لَمْ يَعُدَّ مُسَاوَاتَهُ لِلَّهِ غَنِيمَةً، بَلْ تَجَرَّدَ مِنْ ذَاتِهِ". فَالابْنُ فِي تَجَسُّدِهِ خَضَعَ، لَكِنْ فِي لاهُوتهِ هُوَ مَسَاوٍ لِلآبِ تَمَامًا. وَيَقُولُ القُدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ: "مَا قَالَهُ يَسُوعُ عَنْ عَظَمَةِ الآبِ إِنَّمَا قَالَهُ مِنْ حَيْثُ بَشَرِيَّتِهِ، لَا مِنْ حَيْثُ لاهُوتهِ". "الآبُ أَعْظَمُ مِنِّي" لَيْسَتْ إِنْكَارًا لِلاهُوتِ الابْنِ، بَلْ إِشَارَةٌ إِلَى تَوَاضُعِهِ فِي التَّجَسُّدِ، وَلَحْظَةِ تَدْبِيرِهِ الفِدَائِيِّ. وَعَوْدَةُ المَسِيحِ إِلَى مَجْدِ الآبِ هِيَ يَنْبُوعُ كُلِّ بَرَكَةٍ لِلْكَنِيسَةِ: فِي عَطَايَا الرُّوحِ، وَفِي التَّقْدِيسِ، وَفِي رَجَاءِ المَجْدِ الآتِي. رَحِيلُ يَسُوعَ لَا يَعْنِي فُقْدَانًا، بَلْ هُوَ شَرْطٌ لِحُضُورٍ أَعْمَقَ وَأَشْمَلَ، مِنْ خِلالِ الرُّوحِ القُدُسِ. صُعُودُهُ إِلَى الآبِ هُوَ إِعْلَانٌ لِانْتِصَارِهِ، وَهُوَ يُمَهِّدُ لِفَرَحِ القِيَامَةِ فِي قُلُوبِ التَّلامِيذِ.
29. لقَد أَنبَأتُكم مُنذُ الآنَ بِالأَمرِ قَبلَ حُدوثِه حَتَّى إِذا حَدَثَ تُؤمِنون
تُشيرُ عِبَارَةُ "أَنبَأتُكُم" إِلَى أَنَّ يَسُوعَ قَدْ أَعْطَى تَلامِيذَهُ إِعْلَانَاتٍ سَابِقَةً عَنِ الأُمُورِ الَّتِي سَتَجْرِي لَهُمْ وَلَهُ، لِيَفْهَمُوا أَنَّ مَجْرَى الْأَحْدَاثِ لَا يَسِيرُ عَشْوَائِيًّا، بَلْ هُوَ ضِمْنَ مَخْطَّطٍ إِلٰهِيٍّ مُحْكَمٍ، وَأَنَّ حَيَاتَهُمْ وَرِسَالَتَهُمْ هِيَ فِي يَدِ الرَّبِّ. أَمَّا عِبَارَةُ "الْآنَ" فَتُشِيرُ إِلَى اللَّحْظَةِ الْحَرِجَةِ الَّتِي تَسْبِقُ رَحِيلَ يَسُوعَ، إِذْ كَانَ عَلَى وَشَكِ الْمُضِيِّ فِي طَرِيقِ الْآلامِ وَالْمَوْتِ. وَهَذَا التَّوْقِيتُ يُبَيِّنُ أَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَتَفَاجَأْ بِالْأَحْدَاثِ، بَلْ هُوَ يَسْبِقُهَا بِإِرَادَةٍ حُرَّةٍ وَيُهَيِّئُ لَهَا بِكَلِمَةِ النُّبُوَّةِ. أَمَّا فِي عِبَارَةِ "قَبْلَ حُدُوثِهِ حَتَّى إِذَا حَدَثَ تُؤْمِنُونَ" فَيُظْهِرُ الرَّبُّ يَسُوعُ: سُلْطَانًا نَبَوِيًّا يُعْلِنُ بِهِ مَا سَيَجْرِي لَهُ مِنْ مَوْتٍ وَقِيَامَةٍ وَصُعُودٍ وَإِرْسَالِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَحَنَانًا رَاعَوِيًّا إِذْ لَا يَتْرُكُ تَلامِيذَهُ فِي حَيْرَةٍ أَوْ اضْطِرَابٍ عِندَ حُدُوثِ تِلْكَ الْأَحْدَاثِ، بَلْ يُعِدُّهُمْ بِالْإِيمَانِ. فَحِينَ تَقَعُ هَذِهِ الْأُمُورُ، لَا يَكُونُ وَقْعُهَا صَدْمَةً، بَلْ تَأْكِيدًا لِمَا سَبَقَ أَنْ أَعْلَنَهُ لَهُمْ، فَيَزْدَادُونَ إِيمَانًا، وَيَثْبُتُونَ فِيهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "بِالْأَمْرِ قَبْلَ حُدُوثِهِ" فَتُشِيرُ هُنَا خُصُوصًا إِلَى آلَامِ يَسُوعَ وَمَوْتِهِ وَدَفْنِهِ. فَتِلْكَ الْأَحْدَاثِ سَتَظْهَرُ مَأْسَاوِيَّةً فِي الظَّاهِرِ، لَكِنَّ إِعْلَانَ يَسُوعِ الْمُسْبَقِ عَنْهَا يُحَوِّلُهَا إِلَى عَلاَمَةِ خَلاَصٍ، وَيُزِيلُ سَبَبَ الشَّكِّ مِنْ قُلُوبِهِمْ. أَمَّا عِبَارَةُ "تُؤْمِنُونَ" فَلَا تَعْنِي فَقَطِ الاسْتِمْرَارَ فِي الْإِيمَانِ، بَلْ أَيْضًا نُمُوَّهُ وَتَعْمِيقُهُ. فَالإِيمَانُ هُنَا هُوَ الإِيمَانُ بِأَنَّ يَسُوعَ حَقًّا هُوَ رَسُولُ الْآبِ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِكُلِّ مَا سَيَجْرِي لَهُ، وَمَا يَجْرِي هُوَ ضِمْنَ تَدْبِيرِ الْخَلاَصِ. وَلَوْلَا هَذَا الإِعْلَانِ الْمُسْبَقِ، لَكَانَ تَلامِيذُهُ فِي خَطَرِ الشَّكِّ وَالانْهِيَارِ عِندَ رُؤْيَتِهِ لَهُ مَصْلُوبًا وَمُهَانًا، لَكِنَّ النُّبُوَّةَ تُثَبِّتُ قُلُوبَهُمْ، وَتُقِيمُهُمْ فِي رَجَاءِ الْقِيَامَةِ. بِاخْتِصَارٍ، الرَّبُّ يَسُوعُ لَا يَتْرُكُنَا فِي ظَلاَمِ الْمُفَاجَأَاتِ، بَلْ يُنِيرُ أَمَامَنَا الطَّرِيقَ، وَلَوْ كَانَ طَرِيقَ الصَّلِيبِ. وَكَلِمَتُهُ تَسْبِقُ الْأَحْدَاثِ لِتُهَيِّئَ الإِيمَانَ، وَتُثَبِّتَ الرَّجَاءَ. وَالإِيمَانُ الْحَقُّ لَا يَقُومُ عَلَى مُجَرَّدِ الحَوَاسِّ، بَلْ عَلَى الاسْتِمَاعِ لِلْكَلِمَةِ وَالْوَثُوقِ بِهَا قَبْلَ أَنْ نَرَاهَا تَتَحَقَّقُ.
30. لن أُطيلَ الكَلامَ عَلَيكُم بَعدَ ذلك لأَنَّ سيِّدَ هذا العالَمِ آتٍ ولَيسَ لَه يَدٌ علَيَّ
تُشيرُ عِبَارَةُ "لَن أُطِيلَ الكَلاَمَ عَلَيْكُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ" إِلَى أَنَّ مَا تَبَقَّى مِنْ حَيَاةِ يَسُوعَ الزَّمَنِيَّةِ لَا يَتَعَدَّى بُضْعَ سَاعَاتٍ، فَهُوَ يَتَهَيَّأُ لِمُوَاجَهَةِ سَاعَةِ الْآلامِ، وَقَدْ آنَ أَوَانُ الصَّمْتِ الْمُهِيبِ، حَيْثُ تَنْتَهِي مَرْحَلَةُ التَّعْلِيمِ بِالْكَلِمَةِ، وَتَبْدَأُ مَرْحَلَةُ التَّعْلِيمِ بِالْفَعْلِ، بِالصَّلِيبِ. أَمَّا عِبَارَةُ "سَيِّدَ هَذَا الْعَالَمِ" فَتُشِيرُ إِلَى إِبْلِيسَ، الَّذِي يُدْعَى فِي هَذَا السِّياقِ "رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ"، وَهُوَ تَعْبِيرٌ وَرَدَ فِي يُوحَنَّا (6: 7)، كَمَا فِي رِسَائِلِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "رَئِيسُ سُلْطَةِ الْهَوَاءِ" (أَفْسُس 2: 2)، وَ"إِلٰهُ هَذَا الدَّهْرِ" (2 قُورِنْثُوس 4: 4). وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الْفَمِ: "لَقَدْ دُعِيَ إِبْلِيسُ سَيِّدًا لِلْعَالَمِ، لَا بِحَقٍّ، بَلْ لِأَنَّ الْخُطَاةَ قَدْ أَسْلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَيْهِ". فَإِبْلِيسُ هُوَ الْقُوَّةُ الْمُضَادَّةُ لِلَّهِ، وَهُوَ الْعَدُوُّ الْمُتَرَبِّصُ، وَقَدْ دَخَلَ فِي يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيِّ (يُوحَنَّا 13: 27)، وَيَتَهَيَّأُ الآنَ لِيُشَنِّ هُجُومَهُ الْأَخِيرَ عَلَى يَسُوعَ. لَكِنَّ مَا يَحْدُثُ لَيْسَ انْتِصَارًا لِلشَّيْطَانِ، بَلْ جُزْءٌ مِنْ التَّدْبِيرِ الإِلٰهِيِّ، إِذْ يُسْمَحُ لَهُ بِالْعَمَلِ فِي وَقْتِ الْآلامِ، لَا لِيَنْتَصِرَ، بَلْ لِيُهْزَمَ. أَمَّا عِبَارَةُ "لَا لَهُ يَدٌ عَلَيَّ" فَتُشِيرُ هَذِهِ الْعِبَارَةُ إِلَى حَقِيقَةٍ عَظِيمَةٍ: الشَّيْطَانُ لَا يَمْلِكُ عَلَى يَسُوعَ سُلْطَانًا، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْانْتِصَارِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ يَسُوعَ: بِلَا خَطِيئَةٍ (يُوحَنَّا 8: 46: "مَن مِنْكُمْ يُثْبِتُ عَلَيَّ خَطِيئَةً؟")، وَهُوَ كَامِلُ الْقُدَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ، وَلَا يَخْضَعُ لِسُلْطَانِ الشَّرِّ. وَهَكَذَا، لَا يَخْضَعُ يَسُوعُ لِلْآلامِ كَضَحِيَّةٍ مَغْلُوبٍ عَلَى أَمْرِهَا، بَلْ يُوَاجِهُهَا بِحُرِّيَّةٍ طَوْعِيَّةٍ نَابِعَةٍ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالطَّاعَةِ الْكَامِلَةِ لِلْآبِ: "طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ بِمَشِيئَةِ الَّذِي أَرْسَلَنِي، وَأَنْ أُتِمَّ عَمَلَهُ" (يُوحَنَّا 4: 34). بِقُبُولِ يَسُوعَ الْآلامَ وَالْمَوْتَ، وَبِقِيَامَتِهِ مِنْ بَيْنِ الْمَوْتَى، تَتَحَقَّقُ الْهَزِيمَةُ الْكُبْرَى لِإِبْلِيسَ: "الْيَوْمَ يُطْرَدُ سَيِّدُ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الْخَارِجِ" (يُوحَنَّا 12: 31). فَآلامُ الْمَسِيحِ لَا تَكُونُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ، بَلْ ثَمَرَ حُرِّيَّةِ الابْنِ الطَّائِعِ لِمَشِيئَةِ الآبِ، وَالَّذِي أَحَبَّ حَتَّى النِّهَايَةِ. بِاخْتِصَارٍ، يَسُوعُ يُعَلِّمُنَا فِي الصَّمْتِ مَا لَمْ يَقُلْهُ بِالْكَلَامِ: فِي لَحْظَةِ الظَّلَامِ، يَلْمَعُ نُورُ الطَّاعَةِ. إِبْلِيسُ لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى الْمَسِيحِ، وَلَا عَلَى مَنْ يَتَّحِدُ بِهِ بِالْإِيمَانِ. آلَامُ يَسُوعَ لَا تَكُونُ هَزِيمَةً بَلْ نَصْرًا، لَا إِذْلَالًا بَلْ تَمْجِيدًا. وَطَاعَةُ يَسُوعَ هِيَ تَعْبِيرٌ مَلْمُوسٌ عَنْ مَحَبَّتِهِ لِلْآبِ، وَهِيَ الدَّعْوَةُ لَنَا أَيْضًا أَنْ نَحْيَا بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، لَا بِالْخَوْفِ وَالانْقِيَادِ لِلشَّرِّ.
31. وما ذلِكَ إِلاَّ لِيَعرِفَ العالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآب وأَنِّي أَعمَلُ كما أَوصاني الآب. قوموا نَذْهَبْ مِن ههنا
تُشيرُ عِبَارَةُ "لِيَعْرِفَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الْآبَ" إِلَى أَنَّ يَسُوعَ، مِنْ خِلاَلِ قَبُولِهِ لِلْآلامِ وَالْمَوْتِ، يُظْهِرُ مُحَبَّتَهُ الْكَامِلَةَ وَالطَّوْعِيَّةَ لِلْآبِ. فَصَلِيبُهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ نَتِيجَةٍ لِخِيَانَةٍ أَوْ مُؤَامَرَةٍ، بَلْ هُوَ فَعْلُ حُبٍّ حُرٍّ، يُعْلِنُ فِيهِ يَسُوعُ لِلْعَالَمِ أَنَّهُ يُحِبُّ الْآبَ وَيُطِيعُهُ حَتَّى الْمَوْتِ. وَقَدِ اخْتَبَرَ يَسُوعُ كُلَّ التَّجَارِبِ كَمَا جَاءَ فِي الرِّسَالَةِ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ: "قَدِ امْتُحِنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَنَا، مَا عَادَا الْخَطِيَّةَ" (عِبْرَانِيِّينَ 4: 15)، وَمَعَ ذَٰلِكَ، انْتَصَرَ عَلَيْهَا بِحُبِّهِ الْكَامِلِ وَالطَّاعَةِ الْمُطْلَقَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "وَأَنِّي أَعْمَلُ كَمَا أَوْصَانِيَ الْآبُ" فَتُشِيرُ إِلَى الطَّاعَةِ الْكَامِلَةِ لِيسُوعَ لِمَشِيئَةِ الْآبِ مِنْ بَدَايَةِ حَيَاتِهِ إِلَى نِهَايَتِهَا: مِنَ التَّجَسُّدِ فِي حَشَا الْعَذْرَاءِ، إِلَى الْخُضُوعِ لِلشَّرِيعَةِ، وَتَكْمِيلِ كُلِّ بَرٍّ، وَاحْتِمَالِ التَّجَارِبِ وَالْإِهِانَاتِ وَالْآلامِ، وَصُولًا إِلَى مَوْتِهِ الْكُفَّارِيِّ لِأَجْلِ خَلاَصِ الْعَالَمِ. إِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ يُنَفِّذُ خُطَّةً شَخْصِيَّةً، بَلْ كَانَ يُتِمُّ إِرَادَةَ الْآبِ بِمَحَبَّةٍ وَحُرِّيَّةٍ، فَكَانَ كُلُّ مَا عَمِلَهُ تَعْبِيرًا عَنْ تِلْكَ الطَّاعَةِ الْبَنَوِيَّةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "قُومُوا نَذْهَبْ مِنْ هُنَا" فَتُشِيرُ إِلَى خِتَامِ خِطَابِ يَسُوعَ الْوَدَاعِيِّ فِي الْعَلِّيَّةِ، وَبِدْءُ تَحَرُّكِهِ نَحْوَ بَسْتَانِ الزَّيْتُونِ حَيْثُ سَيُسَلَّمُ وَيَبْدَأُ دَرْبُ الصَّلِيبِ. هَذِهِ الْعِبَارَةُ تُظْهِرُ وَعْيَ يَسُوعَ الْكَامِلِ لِمَا سَيَأْتِي، وَقَبُولَهُ الطَّوْعِيَّ لِلْآلامِ. لَمْ يَكُنْ يُقَادُ إِلَى الْمَوْتِ مُجْبَرًا، بَلْ يَذْهَبُ إِلَيْهِ كَمَنْ يَذْهَبُ إِلَى عُرْسِ الْحُبِّ الإِلٰهِيِّ، لِيُقَدِّمَ ذَاتَهُ ذَبِيحَةَ مُحَبَّةٍ. كَمَا قَالَ الإِنْجِيلِيُّ: "فَخَرَجَ يَسُوعُ مَعَ تَلاَمِيذِهِ، وَعَبَرَ وَادِي قَدْرُونَ، وَكَانَ هُنَاكَ بُسْتَانٌ دَخَلَهُ هُوَ وَتَلاَمِيذُهُ" (يُوحَنَّا 18: 1). بِاخْتِصَارٍ، فِي هَذَا الْخِتَامِ الْمُهِيبِ لِلْخِطَابِ الْوَدَاعِيِّ، يَرْبِطُ يَسُوعُ الْمُحَبَّةَ بِالطَّاعَةِ، وَالطَّاعَةَ بِالْفِدَاءِ. وَيُظْهِرُ يَسُوعُ كَابْنٍ يُحِبُّ أَبَاهُ لَا بِالْكَلاَمِ، بَلْ بِالْعَمَلِ وَالطَّاعَةِ حَتَّى الْمَوْتِ. وَصَمْتُ يَسُوعَ فِي آلَامِهِ لَيْسَ ضُعْفًا، بَلْ قُوَّةَ حُبٍّ يُعْلِنُهَا لِلْعَالَمِ. "قُومُوا نَذْهَبْ" لَيْسَتْ فَقَطْ دَعْوَةً لِلْحَرَكَةِ الْجَسَدِيَّةِ، بَلْ أَيْضًا دَعْوَةً لِلتَّلاَمِيذِ أَنْ يَسِيرُوا مَعَهُ فِي دَرْبِ الْبَذْلِ، إِذْ يَبْدَأُ الْآنَ زَمَنُ الشَّهَادَةِ وَالاتِّحَادِ بِالْمُصْلُوبِ.
ثانياً: تَطبيقاتُ النَّصِّ الإِنجيلي (يوحنّا 14: 23–31)
اِنطِلاقًا مِنْ هَذِهِ المُلَاحَظَاتِ الوُجِيزَةِ حَوْلَ وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (يُوحَنَّا 14: 23–29)، يُمْكِنُنَا أَنْ نَسْتَنْتِجَ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ خِطَابِ سَيِّدِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ فِي وَدَاعِهِ فِي الْعَشَاءِ الْأَخِيرِ، حَيْثُ يُشَدِّدُ عَزَائِمَ تَلاَمِيذِهِ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى مُحَبَّتِهِ بِحِفْظِ وَصَايَاهُ، لِكَيْ يَنَالُوا السَّلاَمَ الَّذِي لَا يُعْطِيهِ الْعَالَمُ. وَمِنْ هُنَا نَبْحَثُ فِي نُقْطَتَيْنِ: المُحَبَّةِ لِيَسُوعَ، وَنَيْلِ السَّلاَمِ.
1) مَحَبْتْنا ليسوع (يوحنا 14: 23)
أ) أهمّيّةُ المَحبَّةِ في حياةِ التِّلميذ
حَثَّ يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ عَلَى الْمُحَبَّةِ الصَّادِقَةِ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الْمُحَبَّةِ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ فِي هَذَا النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ، مِمَّا يُظْهِرُ مَكَانَتَها الْمَرْكَزِيَّةَ فِي خِطَابِ الْوِدَاعِ. يَسُوعُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ فِي لَحَظَاتِهِ الْأَخِيرَةِ مَعَهُمْ، لَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ شَيْئًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُحِبُّوهُ. فَالْمُحَبَّةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ عَاطِفَةٍ، بَلْ هِيَ رِبَاطُ حَيَاةٍ وَعَلَاقَةٍ وَشَرِكَةٍ.
الحبّ هنا ليس مجرد حقيقة عاطفية، بل يدل على التعلّق بشخص، والمعرفة العميقة.
تتَّصِفُ الْمَحبَّة الصَّادِقُة بِالْخُضُوعِ الْحُرِّ لِمَنْ نُحِبُّهُ. فَمَتَى أَحَبَبْنَا أَحَدًا، نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتَخَلَّى بِحُرِّيَّةٍ عَنْ آراءِنَا الذَّاتِيَّةِ، وَنَسْعَى لِنَتَوَاءَمَ مَعَ رَغَبَاتِهِ، وَنُصْبِحُ كَأَنَّ رَغْبَتَهُ هِيَ رَغْبَتُنَا. الْمُحَبَّةُ تُحَرِّكُ قُلُوبَنَا وَعُقُولَنَا وَأَفْكَارَنَا، وَتَقُودُ كُلَّ أَعْمَالِنَا. إِنَّ مُحَبَّةَ الرَّبِّ هِيَ الْوَسْمُ الَّذِي يُمَيِّزُ تَلْمِيذَ الْمَسِيحِ، لِأَنَّ التَّلْمِيذَ لَا يَتَّبِعُ فَقَطْ تَعَالِيمًا، بَلْ يُشْبِهُ مُعَلِّمَهُ الإِلَهِيَّ، ذَاكَ الَّذِي جَوْهَرُ كِيَانِهِ هُوَ الْمُحَبَّةُ (1 يُوحَنَّا 4: 8). فَالْمَسِيحِيُّ لَا يُقَاسُ بِمَدَى مَعْرِفَتِهِ، بَلْ بِمَدَى مُحَبَّتِهِ: "بِهَذَا يَعْرِفُ النَّاسُ جَمِيعًا أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ أَحْبَبْتُمْ بَعْضَكُمْ بَعْضًا" (يُوحَنَّا 13: 35).
المُحَبَّةُ لَا تَأْتِي نَتِيجَةً لِلطَّاعَةِ، بَلْ هِيَ مَصْدَرُ كُلِّ طَاعَةٍ وَكُلِّ تَقَيُّدٍ بِشَرِيعَةِ الرَّبِّ: مَنْ يُحِبُّ يُطِيعُ، لَا خَوْفًا، بَلْ حُبًّا. وَمَنْ يُطِيعُ حُبًّا، يَحْيَا حُرًّا. الطَّاعَةُ بِلَا مُحَبَّةٍ تُصْبِحُ عَبْئًا، أَمَّا الطَّاعَةُ الَّتِي تَنْبَعُ مِنَ المُحَبَّةِ، فَهِيَ عَلاَمَةُ البَنُوَّةِ الحَقِيقِيَّةِ. فِي هَذَا النَّصِّ، يَعْرِضُ يَسُوعُ المُحَبَّةَ: لَا كَمَجَالٍ عَاطِفِيٍّ، بَلْ كَمِنْهَاجِ حَيَاةٍ وَمِقْيَاسِ تَلْمِيذَةٍ. تَلْمِيذُ الْمَسِيحِ الحَقِيقِيُّ هُوَ مَنْ يُحِبُّ، فَيُطِيعُ، فَيَسْكُنُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ، وَيَحْيَا فِي سَلاَمٍ لَا يُنْزَعُ. لَا يَكْفِي أَنْ نَقُولَ إِنَّنَا نُحِبُّ يَسُوعَ، بَلْ أَنْ نَحْفَظَ كَلِمَتَهُ فِي حَيَاتِنَا اليَوْمِيَّةِ: فِي تَعَامُلِنَا مَعَ الآخَرِ، فِي صِدْقِنَا، فِي غُفْرَانِنَا، وَفِي التِّزَامِنَا الأخْلَاقِيِّ. هَذِهِ هِيَ الْعَلاَمَةُ الْمَلْمُوسَةُ لِلمُحَبَّةِ.
ب) حاجَةُ الإِنسانِ إِلى المَحبَّةِ
الإِنسَانُ مَخْلُوقٌ عَلَى صُورَةِ اللهِ، وَاللهُ مَحَبَّةٌ (1 يوحنّا 4: 8)، لِذَلِكَ فَالحُبُّ لَيْسَ زِينَةً تُكَمِّلُ وُجُودَهُ، بَلْ هُوَ جَوْهَرُ كِيَانِهِ، وَشَرْطُ نُمُوِّهِ وَسَلَامِهِ الدَّاخِلِيِّ. فهُنَاكَ حَاجَةٌ جَوْهَرِيَّةٌ وَعَمِيقَةٌ فِي قَلْبِ الإِنسَانِ، هِيَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَلْبُ مُمْتَلِئًا بِالْمُحَبَّةِ. فَالْقَلْبُ الْخَالِي مِنَ الْمُحَبَّةِ: يَنْغَلِقُ عَلَى ذَاتِهِ، وَيَتَقَوَّقَعُ فِي أَنَانِيَّتِهِ، وَيَعِيشُ فِي خَوْفٍ دَائِمٍ. لَكِنَّ الَّذِي يَمْلَأُ الْقَلْبَ بِالْمُحَبَّةِ، هُوَ الرَّبُّ يَسُوعُ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَالَ: "كَمَا أَحَبَّنِي الْآبُ، فَكَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا" (يُوحَنَّا 15: 9). يَسُوعُ لَا يَطْلُبُ مِنَّا مُحَبَّةً لَا نَمْلِكُهَا، بَلْ: يَمْنَحُنَا مُحَبَّتَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَدْعُونَا أَنْ نُحِبَّهُ بِالْمُحَبَّةِ نَفْسِهَا الَّتِي أَوْدَعَهَا فِينَا.
بِهَذِهِ الْمُحَبَّةِ الإِلٰهِيَّةِ: نَلْتَزِمُ بِوَصَايَاهُ، وَنَعِيشُ بِمُوجِبِ شَرِيعَتِهِ الْمُقَدَّسَةِ، وَنُحَوِّلُ أُسْلُوبَ كِيَانِنَا وَعَمَلِنَا، وَنُغَيِّرُ رُؤْيَتَنَا وَسُلُوكَنَا. فَالْمُحَبَّةُ لَا تُجَمِّلُ حَيَاتَنَا فَقَطْ، بَلْ تُجَدِّدُهَا مِنَ الدَّاخِلِ، وَتَدْفَعُنَا إِلَى كُلِّ طَاعَةٍ حُرَّةٍ وَفَرِحَةٍ.
الْمُحَبَّةُ لَا تَكُونُ اِمْتِيَازًا لِلنُّخَبَةِ، بَلْ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لِكُلِّ إِنسَانٍ: هِيَ سِرُّ الْحُرِّيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَقُوَّةُ التَّغْيِيرِ الْحَقِيقِيِّ، وَالدَّافِعُ إِلَى الْاِلْتِزَامِ الْعَمِيقِ بِكَلِمَةِ اللَّـهِ. فَمَنْ يُحِبُّ، يُطِيعُ... وَمَنْ يُطِيعُ، يَسْكُنُ اللَّـهُ فِيهِ.
ج) عَلامةُ المَحبَّة – عَيشُ الوَصايا
الْعَلامَةُ الْحِسِّيَّةُ وَالْحَقِيقِيَّةُ لِمَحَبَّةِ الإِنسَانِ لِلَّهِ لَا تَكْمُنُ فِي الْعَواطِفِ وَلَا فِي التَّصْرِيحَاتِ، بَلْ فِي عَيْشِ الْوَصَايَا. فَمَحَبَّتُنَا لِلَّهِ لَيْسَتْ نَظَرِيَّةً أَوْ مُجَرَّدَ شُعُورٍ وَجْدَانِيٍّ، إِنَّمَا هِيَ مَحَبَّةٌ عَمَلِيَّةٌ، تَتَجَسَّدُ فِي أَنْ نَحْيَا حَسَبَ وَصَايَاهُ، وَنَصُونَ تَعَالِيمَهُ فِي سُلُوكِنَا الْيَوْمِيِّ. فَالْوَصِيَّةُ الَّتِي أَعْطَاهَا يَسُوعُ كَخُلَاصَةٍ لِكُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: وَصِيَّةُ الْمَحَبَّةِ (رَاجِعْ يُوحَنَّا 13: 34). الْمَحَبَّةُ الْمَسِيحِيَّةُ لَيْسَتْ عَاطِفَةً وَقْتِيَّةً، بَلْ هِيَ حَيَاةٌ مِنْ الطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ. وَلِهَذَا، فَالْسَّبِيلُ إِلَى مَحَبَّةِ يَسُوعَ، هُوَ حِفْظُ وَصَايَاهُ وَطَاعَتُهُ.
الطَّاعَةُ لَيْسَتْ تَقِيِيدًا، بَلْ هِيَ الطَّرِيقُ إِلَى الْحَيَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَإِلَى الثَّبَاتِ فِي الْمَحَبَّةِ. وَكَمَا قَالَ الرَّسُولُ يُوحَنَّا فِي رِسَالَتِهِ الْأُولَى: "مَن قَالَ: إِنِّي أَعْرِفُهُ، وَلَمْ يَحْفَظْ وَصَايَاهُ، كَانَ كَاذِبًا، وَلَمْ يَكُنِ الْحَقُّ فِيهِ" (1 يُوحَنَّا 2: 4).
الحُبُّ وَالتَّضْحِيَةُ أَسَاسُ الطَّاعَةِ. إِنَّ مَحَبَّةَ الرَّبِّ تَتَجَلَّى فِي حِفْظِ وَصَايَاهُ وَالعَمَلِ بِهَا.وَمَنْ أَحَبَّ، بَذَلَ؛ لِأَنَّ الحُبَّ يَتَنَاقَضُ مَعَ الأَنَانِيَّةِ، الَّتِي هِيَ مَحَبَّةُ الذَّاتِ.وَحِفْظُ الوَصَايَا هُوَ: طَاعَةٌ، وَتَضْحِيَةٌ، وَرَفْضٌ لِلإِرَادَةِ الشَّخْصِيَّةِ،كَمَا قَالَ يَسُوعُ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَنِي، فَلْيَزْهَدْ فِي نَفْسِهِ" (لُوقَا 9: 23). فَهُوَ زُهْدٌ بِالذَّاتِ مِنْ أَجْلِ حَيَاةٍ أَسْمَى، وَطَرِيقٌ إِلَى الاِتِّحَادِ بِالمَسِيحِ.
الطَّاعَةُ تَبْدَأُ مِنَ الأَمَانَةِ فِي الأُمُورِ الصَّغِيرَةِ. فَحِفْظُ كَلِمَةِ المَسِيحِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى تِلَاوَةِ صَلَوَاتٍ آلِيَّةٍ، أَوْ القِيَامِ بِبَعْضِ الفُرُوضِ الخَارِجِيَّةِ، بَلْ هُوَ فِعْلُ إِرَادَةٍ حُرَّةٍ وَقَوِيَّةٍ، نَسْمَعُ فِيهِ الكَلِمَةَ وَنَعْمَلُ بِهَا، فَنُتَرْجِمُ الإِيمَانَ إِلَى أَمَانَةٍ يَوْمِيَّةٍ فِي التَّفَاصِيلِ الصَّغِيرَةِ، تَمَامًا كَمَا تُشَيَّدُ الأَبْنِيَةُ العَظِيمَةُ مِنْ حِجَارَةٍ صَغِيرَةٍ. لِأَنَّ سَمَاعَ الكَلِمَةِ دُونَ العَمَلِ بِهَا، لَا يُثْمِرُ فِي الحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ، بَلْ يُشْبِهُ بَيْتًا بُنِيَ عَلَى الرَّمْلِ.
فَالطَّاعَةُ لَيْسَتْ وَاجِبًا ثَقِيلًا، بَلْ هِيَ بُرْهَانُ حُبٍّ صَادِقٍ، وَثَمَارُهَا هِيَ الْحُرِّيَّةُ وَالسَّلاَمُ. وَيُعَلِّقُ التَّعْلِيقُ الْقُدِّيسُ أَوْغُسْطينوس : "الَّذِي عِندَهُ (وَصَايَايَ) فِي ذَاكِرَتِهِ وَيَحْفَظُهَا فِي حَيَاتِهِ؛ الَّذِي عِندَهُ فِي شَفَتَيْهِ وَيَحْفَظُهَا سُلُوكِيًّا؛ الَّذِي عِندَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَيَحْفَظُهَا فِي الْعَمَلِ؛ الَّذِي عِندَهُ فِي الْأَعْمَالِ وَيَحْفَظُهَا بِالْمُثَابَرَةِ – مِثْلُ هَذَا يُحِبُّنِي. بِالْعَمَلِ يُعْلَنُ الْحُبُّ، وَبِالتَّطْبِيقِ، بِغَيْرِ ثَمَرٍ، يَكُونُ مُجَرَّدَ الاسْمِ لِلْحُبِّ." الْمَحَبَّةُ الْحَقَّةُ تُعْلَنُ بِالْأَفْعَالِ لَا بِالْأَقْوَالِ. وَهِيَ عَلاَمَةُ تَلْمِيذِ يَسُوعَ لَيْسَتِ الْمَعْرِفَةُ وَلَا الْمَشَاعِرُ، بَلْ الطَّاعَةُ الْمُتَجَسِّدَةُ. مَنْ يَحْفَظُ وَصَايَا يَسُوعَ، يُعْلِنُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَيَصِيرُ إِنْجِيلًا حَيًّا فِي هَذَا الْعَالَمِ.
د) عَمَلُ المَحبَّة – رِباطُ الإِيمانِ والسُّكنى الإِلَهيَّة
تُنشِئُ الْمَحَبَّةُ رِبَاطًا وَثِيقًا بَيْنَ يَسُوعَ وَالتَّلْمِيذِ الأَمِينِ لِوَصَايَاهُ. غَيْرَ أَنَّ يَسُوعَ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ الآبِ، فَوُجُودُ الْوَاحِدِ لَا يُعْقَلُ دُونَ الآخَرِ، كَمَا قَالَ: "أَنَا وَالْآبُ وَاحِدٌ" (يُوحَنَّا 10: 30). لِذَا، يَعِدُ يَسُوعُ بِمَجِيءِ الآبِ وَالابْنِ مَعًا إِلَى قَلْبِ التَّلْمِيذِ الَّذِي يَحْفَظُ كَلَامَهُ: "إِذَا أَحَبَّنِي أَحَدٌ، حَفِظَ كَلَامِي، فَأَحَبَّهُ أَبِي، وَنَأْتِي إِلَيْهِ، فَنَجْعَلُ لَنَا عِندَهُ مُقَامًا" (يُوحَنَّا 14: 23).
نَعَم! إِنَّ يَسُوعَ يَسْكُنُ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَفْتَحُونَ لَهُ أَبْوَابَ قُلُوبِهِمْ طَوْعًا، وَعَنْ حُبٍّ وَقَنَاعَةٍ وَرِضًا. لَكِنَّهُ لَا يُظْهِرُ ذَاتَهُ إِلَّا لِمَن يُحِبُّهُ بِصِدْقٍ، لِأَنَّهُ يَحْتَرِمُ حُرِّيَّةَ الإِنسَانِ، وَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى الْحُبِّ، إِذْ لَا إِكْرَاهَ فِي الْعَلَاقَةِ الْحَيَّةِ. فَالْحُبُّ يُمْنَحُ، لَا يُنْتَزَعُ؛ وَيُكافَأُ، لَا يُفْرَضُ.
يُحَذِّرُ السَّيِّدُ الْمَسِيحُ مِنْ مُحَبَّةِ هَذَا الْعَالَمِ وَمُبَاهِجِهِ الْبَاطِلَةِ، لِأَنَّهَا تُحْرِمُ الإِنسَانَ مِنْ حِفْظِ كَلَامِ اللَّهِ، وَتُحَوِّلُهُ إِلَى عَبْدٍ لِلظُّلْمَةِ، لَا ابْنٍ لِلنُّورِ؛ فَيُصْبِحُ فِي شَرِكَةٍ مَعَ الشَّيْطَانِ لَا مَعَ الْمَسِيحِ. وَمَن لَا يَحْفَظُ الْوَصَايَا، يَرْفُضُ لَيْسَ فَقَطِ الْابْنَ، بَلْ الآبَ أَيْضًا. كَمَا قَالَ الْقُدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الْفَمِ: "مَن لَا يَحْفَظُ الْوَصَايَا لَا يُحِبُّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ فَقَطِ، لَكِنَّهُ لَا يُحِبُّ الآبَ أَيْضًا؛ وَإِنْ كَانَتْ دَلَالَةُ الْحُبِّ هِيَ الاِسْتِمَاعُ لِلْوَصَايَا، فَمَن يَسْمَعُهَا لَا يُحِبُّ الْابْنَ فَقَطِ، بَلْ يُحِبُّ مَعَهُ أَبَاهُ أَيْضًا".
لَقَدْ أَدْخَلَ يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ فِي عَالَمِ الإِيمَانِ العَمِيقِ، وَجَعَلَ هَذَا الإِيمَانَ يَتَجَلَّى فِي الحُبِّ؛ لِأَنَّ حُضُورَ الآبِ وَالابْنِ وَالرُّوحِ القُدُسِ فِي قَلْبِ التَّلْمِيذِ هُوَ ثَمَرَةُ حُبِّهِ وَأَمَانَتِهِ. وَهَذَا الحُضُورُ لَيْسَ نَظَرِيًّا، بَلْ حَقِيقِيٌّ، وَعَدٌ إِلَٰهِّيٌّ لِلتَّلْمِيذِ الَّذِي يُحِبُّ: "إِذَا أَحَبَّنِي أَحَدٌ، حَفِظَ كَلَامِي" (يُوحَنَّا 14: 23). وَهَكَذَا الإِيمَانُ يُصْبِحُ حُبًّا، وَالحُبُّ حُضُورًا.
وَجُذُورُ الحُبِّ وَالطَّاعَةِ مَوْجُودَةٌ فِي العَهْدِ القَدِيمِ. مَا يَطْلُبُهُ يَسُوعُ فِي العَهْدِ الجَدِيدِ هُوَ استِمْرَارِيَّةٌ لِمَا أَوْصَى بِهِ اللَّهُ فِي العَهْدِ القَدِيمِ: "أَحِبِّ الرَّبَّ إِلَهَكَ بِكُلِّ قَلْبِكَ، وَكُلِّ نَفْسِكَ، وَكُلِّ قُوَّتِكَ" (تثْنِيَةُ اشْتِرَاعٍ 6: 5). فَحِفْظُ الكَلَامِ، وَأَمَانَةُ التَّلْمِيذِ لَهُ، يَضْمَنَانِ لَهُ صَدَاقَةً حَيَّةً مَعَ اللَّهِ، لَا كَفِكْرَةٍ، بَلْ كَشَرِكَةٍ مَعَ الأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ فِي عُمُقِ حَيَاتِهِ وَسُلُوكِهِ. مَن يُحِبُّ يَسُوعَ، يُكَرِّمُ الآبَ. وَمَن يَحْفَظُ الكَلَامَ، يَسْكُنُ اللَّهُ فِيهِ. وَمَن يَرْفُضُ الطَّاعَةَ، يَفْقِدُ الشَّرِكَةَ. فَالمَحَبَّةُ لَيْسَتْ شُعُورًا، بَلْ شَرِكَةٌ حَيَّةٌ وَسُكْنَى إِلٰهِيةٌ. هَلْ نَعِيشُ فِي شَرِكَةٍ مَعَ الثَّالُوثِ؟ حِينَ نَحْفَظُ كَلَامَ اللَّهِ، يَسْكُنُ اللَّهُ فِيهِ. فَلْيَكُنْ قَلْبُنَا "هَيْكَلًا" لِلثَالُوثِ الأَقْدَسِ، لَا مَكَانًا لِعَبَثِ الْخَطِيئَةِ أَوِ الاسْتِقْلَالِيَّةِ عَنْ مَشِيئَةِ الرَّبِّ.
ه) سُكنى يسوع في نَفْسِ المُحِبّ
يَعْلَمُ يَسُوعُ أَنَّ سَاعَةَ رَحِيلِهِ قَدْ اقْتَرَبَتْ، وَأَنَّ تَلاَمِيذَهُ يَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الرَّحِيلِ عَلَى أَنَّهُ فُرَاقٌ نِهَائِيٌّ وَذَهَابٌ إِلَى الْمَوْتِ. لَكِنَّ يَسُوعَ، الْمُعَزِّي وَالرَّاعِي، لَا يَتْرُكُهُمْ يَتَامَى، بَلْ يُعْلِنُ حُبَّهُ لَهُمْ بِحُضُورِهِ الذَّاتِيِّ، فِي أَقْنُومِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، قَائِلًا: "أَنَا ذَاهِبٌ، ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَيْكُمْ" (يُوحَنَّا 14: 28). فَالفُرَاقُ الجَسَدِيُّ هُوَ شَرْطٌ لِحُضُورٍ جَدِيدٍ، أَعْمَقَ، وَأَكْمَلَ: حُضُورٌ حَمِيمٌ وَسِرِّيٌّ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، حَيْثُ يَتَجَلَّى يَسُوعُ لَا كَمُعَلِّمٍ خَارِجِيٍّ، بَلْ كَسَاكِنٍ فِي الدَّاخِلِ، كَأُلْفَةٍ إِلٰهِيةٍ تُقِيمُ فِي الْقَلْبِ. الْمَسِيحُ، بَعْدَ قِيَامَتِهِ وَصُعُودِهِ، لَا يَظْهَرُ لِلْجَمِيعِ بِالْجَسَدِ، بَلْ يَسْكُنُ فِي الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ (يوحنا 14: 23). فِي هَذَا الْحُضُورِ السِّرِّيِّ، لَا يَكُونُ التَّلْمِيذُ مُجَرَّدَ تَابِعٍ، بَلْ مُضَيِّفًا لِلَّهِ: هَيْكَلًا حَيًّا لِلْآبِ وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. فَاللَّهُ لَا يَسْكُنُ فِي هَيْكَلٍ مِنْ حِجَارَةٍ، بَلْ فِي قَلْبِ الإِنسَانِ الْمُحِبِّ، كَمَا يَقُولُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ أَجْسَادَكُمْ هِيَ هَيْكَلُ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَهُوَ فِيكُمْ قَدْ نِلْتُمْهُ مِنَ اللَّهِ؟" (1 قُورِينْتُس 6: 15). الدَّعْوَةُ الإِنْجِيلِيَّةُ، إِذًا، هِيَ دَعْوَةٌ إِلَى: قَبُولِ كَلَامِ الْمَسِيحِ، وَحِفْظِ وَصَايَاهُ، فَتَكُونُ النَّتِيجَةُ: "يُحِبَّهُ الآبُ، وَنَأْتِي إِلَيْهِ، وَنَجْعَلُ لَنَا عِندَهُ مُقَامًا" (يُوحَنَّا 14: 23). إِنَّهُ وَعْدٌ عَظِيمٌ: أَنْ يُصْبِحَ الإِنسَانُ مَوْضِعَ رَاحَةٍ لِلَّهِ، وَمَسْكَنًا لِحُضُورِهِ. كَمَا يُرَنِّمُ صَاحِبُ الْمَزَامِيرِ: "هَذَا هُوَ مَكَانُ رَاحَتِي إِلَى الْأَبَدِ، هَهُنَا أَسْكُنُ، لِأَنِّي اشْتَهَيْتُهُ" (مَزْمُورُ 132: 14). وَفِي هَذَا السِّياقِ يَقُولُ الْقِدِّيسُ بَرْنَارْدُسُ الرَّاهِبُ: "أَيُّ مَكَانٍ فِي دَاخِلِنَا أَهْلٌ لِهَذَا الْمَجْدِ؟ أَيُّ مَوْضِعٍ يَكْفِي لِاسْتِقْبَالِ جَلَالِهِ؟ رُبَّمَا يُمْكِنُنِي أَنْ أُقَدِّمَ فِي دَاخِلِي "عُلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً مُهَيَّأَةً"، يَأْكُلُ فِيهَا مَعَ تَلاَمِيذِهِ (مَرْقُس 14: 15)، أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ "مَا يَضَعُ عَلَيْهِ رَأْسَهُ" (مَتَّى 8: 20) (العِظَةُ 27). حَيْثُ يَسْكُنُ اللَّهُ، هُنَاكَ سَلاَمُ الْمَسِيحِ الْحَقِيقِيُّ. وَحَيْثُ تُفْتَحُ الْقُلُوبُ بِحُبٍّ، هُنَاكَ يُقِيمُ الْآبُ وَالِابْنُ وَالرُّوحُ. وَالسَّمَاحُ لِلَّهِ بِالْسُّكْنَى، هُوَ بَدَايَةُ كُلِّ سَلاَمٍ، وَكُلِّ قُدَاسَةٍ.
2) سَلامُ المسيح لتلاميذه (يوحنا 14: 28-31)
أ) طُمَأنِينَةٌ فِي قَلْبِ العَاصِفَةِ
يَتَكَلَّمُ يَسُوعُ عَنِ السَّلَامِ فِي الوَقْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ تَلَامِيذُهُ يَعِيشُونَ القَلَقَ وَالِاضْطِرَابَ، لِأَنَّهَا السَّاعَةُ الَّتِي فِيهَا يَمْضِي إِلَى الأَلَمِ وَالمَوْتِ. وَفِي وَسَطِ هٰذَا التَّهْدِيدِ، يَفْتَحُ يَسُوعُ فَمَهُ لَا لِيُعْلِنَ النِّهَايَةَ، بَلْ لِيُعَزِّيَهُمْ، قَائِلًا: "السَّلَامَ أَسْتَوْدِعُكُمْ، وَسَلَامِي أُعْطِيكُمْ" (يُوحَنَّا ١٤: ٢٧). بِهٰذِهِ الكَلِمَاتِ، بَعَثَ يَسُوعُ الطُّمَأْنِينَةَ فِي قُلُوبِ تَلَامِيذِهِ، وَأَزَالَ أَسْبَابَ الخَوْفِ وَالقَلَقِ، وَأَعَادَ لَهُمُ الأَمَانَ وَالثِّقَةَ. وَقَدْ رَأَى الآبَاءُ فِي هٰذِهِ العَطِيَّةِ أَكْثَرَ مِنْ مُجَرَّدِ رَاحَةٍ نَفْسِيَّةٍ، بَلْ "صُورَةَ المَسِيحِ" نَفْسَهَا تُرْسَمُ فِي قَلْبِ المُؤْمِنِ. كَمَا يُعَلِّقُ القِدِّيسُ كُولُومْبَانُس: "كَتَبَ مُوسَى فِي الشَّرِيعَةِ: قَالَ اللهُ: لِنَصْنَعِ الإِنسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَمِثَالِنَا (تَكْوِين 1: 26). دَعُونَا لَا نَرْسُمُ صُورَةً غَرِيبَةً، بَلْ لِنَسْمَحْ لِلرَّبِّ يَسُوعَ المَسِيحِ أَنْ يَرْسُمَ فِينَا صُورَتَهُ. وَقَدْ رَسَمَهَا عِنْدَمَا قَالَ: السَّلَامَ أَسْتَوْدِعُكُمْ، وَسَلَامِي أُعْطِيكُمْ". (التَّعْلِيم 11: 1–4).
سَلَامُ المَسِيحِ لَيْسَ كَسَلَامِ العَالَمِ. سَلَامُ الإِنْجِيلِ لَيْسَ فِكْرَةً مُجَرَّدَةً، وَلَا مُجَرَّدَ نَتِيجَةٍ لِمُبَادَرَاتٍ أَخْلَاقِيَّةٍ أَوْ اِجْتِمَاعِيَّةٍ. إِنَّهُ خِبْرَةٌ عَمِيقَةٌ لِلْعَيْشِ فِي حُبِّ المَسِيحِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ يَسُوعُ حِينَ قَالَ: "اُثْبُتُوا فِي مَحَبَّتِي" (يُوحَنَّا 15: 9)، وَ"لَا أُعْطِي أَنَا كَمَا يُعْطِي العَالَمُ" (يُوحَنَّا 14: 27). سَلَامُ العَالَمِ مُؤَقَّتٌ، هَشٌّ، مَشْرُوطٌ. أَمَّا سَلَامُ يَسُوعَ، فَهُوَ أَبَدِيٌّ، يُثْمِرُ قَدَاسَةً وَبِرًّا، وَلَا تُنْزِعُهُ قُوَّةٌ، لِأَنَّهُ هُوَ سَلَامُنَا (أَفَسُس 2: 14). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ: "مَا دَامَ السَّلَامُ يَشْمَلُكُمْ، فَمَا الَّذِي يَضُرُّكُمْ مِنَ العَالَمِ؟". سَلَامُ المَسِيحِ كَنْزٌ لَا يُثَمَّنُ، كَمَا قَالَ القِدِّيسُ الرَّاهِبُ الرُّوسِيُّ سِيرَافِيمُ السَّارُوفِيُّ: "لَيْسَ هُنَاكَ أَفْضَلُ مِنَ السَّلَامِ فِي رَبِّنَا يَسُوعَ المَسِيحِ. هٰذَا السَّلَامُ، هٰذَا الكَنْزُ النَّفِيسُ، قَدْ تَرَكَهُ رَبُّنَا يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ". فَالسَّلَامُ الَّذِي تَرَكَهُ يَسُوعُ هُوَ عَطِيَّةٌ مَجَّانِيَّةٌ، عَرْبُونُ حُضُورِهِ، وَبُرْهَانُ مَحَبَّتِهِ، وَخِبْرَةُ الخَلَاصِ الحَاضِرِ وَالمَوْعُودِ. فِي هٰذَا السَّلَامِ، نُؤْمِنُ بِأَنَّهُ هُوَ، وَفِيهِ، نَرَاهُ كَمَا هُوَ (1 يُوحَنَّا 3: 2). لِأَنَّ اللهَ، فِي يَسُوعَ المَسِيحِ، أَعْلَنَ السَّلَامَ وَجَعَلَهُ رَبًّا لِلْعَالَمَيْنِ (رُؤْيَا 11: 15). فِي زَمَنِ القَلَقِ، يَهَبْنَا المَسِيحُ سَلَامَهُ. فِي عَالَمٍ يُمَزِّقُهُ العُنْفُ، يُقِيمُ المَسِيحُ فِينَا صُورَةَ المَحَبَّةِ. فِي وَجْهِ المَوْتِ، يُؤَكِّدُ لَنَا يَسُوعُ أَنَّهُ هُوَ سَلَامُنَا. فَلْنَحْفَظْ وَصَايَاهُ، وَلْنَثْبُتْ فِي مَحَبَّتِهِ، لِنَسْكُنَ فِي سَلَامِهِ الأَبَدِيِّ.
ب) سَلامُ المسيح يَختلِفُ عن سَلامِ العالَم
إِنَّ سَلَامَ يَسُوعَ المَسِيحِ يَخْتَلِفُ كُلِّيًّا عَنِ السَّلَامِ الَّذِي يُمْنَحُهُ العَالَمُ. فَسَلَامُ العَالَمِ غَالِبًا مَا يَكُونُ قَائِمًا عَلَى العُنْفِ، وَالحَرْبِ، وَفَرْضِ السَّيْطَرَةِ. لَقَدْ طَلَبْنَا السَّلَامَ مِنْ صُنَّاعِ القَرَارِ الدُّوَلِيِّ، فَصَدَّرُوا لَنَا الحُرُوبَ وَالمَآسِي. طَلَبْنَا مِنَ المُجْتَمَعِ الدُّوَلِيِّ أَنْ يَرْفَعَ الظُّلْمَ عَنَّا، وَأَنْ يُمْنِحَنَا ضَمَانَاتٍ لِلْحَيَاةِ بِكَرَامَةٍ، فَازْدَادَ قَلَقُنَا وَاضْطِرَابُنَا. يُقَالُ إِنَّ عَدَدَ اتِّفَاقِيَّاتِ السَّلَامِ فِي العَالَمِ، مِنْ سَنَةِ 2400 ق.م. حَتَّى اليَوْمِ، بَلَغَ ١٣٤ اتِّفَاقِيَّةً!
فَأَيْنَ هُوَ السَّلَامُ؟ إِذَا ظَنَنَّا أَنَّ السَّلَامَ الحَقِيقِيَّ يُمْكِنُ أَنْ يُمْنَحَهُ البَشَرُ، فَسَنُصَابُ بِالخَيْبَةِ. سَلَامُ العَالَمِ كَثِيرًا مَا يُنْتِجُ أَعْمَالَ الجَسَدِ، كَمَا يَقُولُ بُولُسُ الرَّسُولُ:"الزِّنَى، وَالدَّعَارَةُ، وَالفُجُورُ، وَعِبَادَةُ الأَوْثَانِ، وَالسِّحْرُ، وَالعَدَاوَاتُ، وَالخِصَامُ، وَالحَسَدُ، وَالسُّخْطُ، وَالمُنَازَعَاتُ، وَالشِّقَاقُ، وَالتَّشَيُّعُ، وَالسُّكْرُ، وَالقَصْفُ". (غَلاطِيَّة 5: 19–21). سَلَامُ العَالَمِ مُؤَقَّتٌ، هَشٌّ، يَتَغَيَّرُ حَسَبَ المَصَالِحِ وَالمُسَاوَمَاتِ.
سَلَامُ المَسِيحِ: خِبْرَةٌ رُوحِيَّةٌ وَحُضُورٌ إِلَهِيٌّ. سَلَامُ المَسِيحِ هُوَ لَيْسَ فِكْرَةً مُجَرَّدَةً، وَلَا نَتِيجَةً لِمُبَادَرَاتٍ إِنْسَانِيَّةٍ أَوِ اِجْتِمَاعِيَّةٍ، بَلْ يَنْشَأُ مِنْ خِبْرَةِ العَيْشِ فِي مَحَبَّةِ المَسِيحِ، وَحِفْظِ وَصَايَاهُ. السَّلَامُ الإِنْجِيلِيُّ لَا يُسْتَوْرَدُ، وَلَا يُشْتَرَى، وَلَا يُبَاعُ. إِنَّهُ سَلَامٌ يَنْبُعُ مِنْ حُضُورِ اللهِ فِي القَلْبِ، وَمِنْ عَمَلِ الرُّوحِ القُدُسِ. إِنَّهُ سَلَامُ المَحَبَّةِ، َالتَّضْحِيَةِ، وَالوَدَاعَةِ، وَالعَدَالَةِ، وَالكَرَامَةِ الإِنْسَانِيَّةِ. سَلَامُ المَسِيحِ يُبَدِّلُ دَاخِلَ التَّلَامِيذِ، وَيُحَوِّلُ العَالَمَ إِلَى وَاحَةِ سَلَامٍ حَقِيقِيٍّ، وَيُرَافِقُ الكَنِيسَةَ المُنْطَلِقَةَ فِي وَسَطِ عَالَمٍ يَرْفُضُهَا وَيُضْطَهِدُهَا.
الكَنِيسَةُ، وَهِيَ تَزْرَعُ قِيَمَ الإِنْجِيلِ، تُنْتِجُ ثِمَارَ الرُّوحِ القُدُسِ، وَتُعْلِنُ أَنَّ السَّلَامَ مُمْكِنٌ فَقَطْ حَيْثُ يُوجَدُ اللهُ. كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ المَزَامِيرِ: "الرَّبُّ يُبَارِكُ بِالسَّلَامِ شَعْبَهُ" (مَزْمُور 29: 11). هٰذَا السَّلَامُ هُوَ عَطِيَّةٌ مَجَّانِيَّةٌ، مِنَ النِّعَمِ المَسِيحَانِيَّةِ الَّتِي أَنْبَأَ بِهَا الأَنْبِيَاءُ: إِشَعْيَا: "وَيُدْعَى اسْمُهُ... رَئِيسَ السَّلَامِ" (إِشَعْيَا 9: 5)، حِزْقِيَال (34: 25)، مِيخَا (5: 4)، زَكَرِيَّا (9: 10). وَقَدْ صَارَ هٰذَا السَّلَامُ مُمْكِنًا عَبْرَ طَاعَةِ الإِبْنِ لِلآبِ، وَتَحْقِيقِهِ الخَلَاصَ، رَغْمَ مُقَاوَمَةِ "سَيِّدِ هٰذَا العَالَمِ" – إِبْلِيسَ.
سَلَامُ يَسُوعَ يُبْعِدُ كُلَّ خَوْفٍ وَاضْطِرَابٍ. وَكَمَا يَقُولُ القِدِّيسُ الرَّاهِبُ الكَبُّوشِيُّ بِيُّو:"الاضْطِرَابُ لَا يَكُونُ أَبَدًا مِنَ اللهِ، بَلْ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَكَوْنُ اللهِ هُوَ رُوحُ سَلَامٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْطِي سِوَى الصَّفَاءِ". وَمَنْ يَطْلُبُ السَّلَامَ مِنَ اللهِ، يَنَالُ ثِمَارَهُ كَمَا ذَكَرَ بُولُسُ: "المَحَبَّةُ، وَالفَرَحُ، وَالسَّلَامُ، وَالصَّبْرُ، وَاللُّطْفُ، وَكَرَمُ الأَخْلَاقِ، وَالإِيمَانُ، وَالوَدَاعَةُ، وَالعَفَافُ" (غَلاطِيَّة 5: 22–23)). بِاخْتِصَارٍ: سَلَامُ العَالَمِ يُخَدِّرُ، بَيْنَمَا سَلَامُ المَسِيحِ يُحْيِي. سَلَامُ العَالَمِ يُبَاعُ، وَسَلَامُ المَسِيحِ يُعْطَى مَجَّانًا. سَلَامُ المَسِيحِ يُقِيمُ فِي القَلْبِ المُؤْمِنِ، وَيَحْفَظُهُ فِي القَدَاسَةِ وَالبِرِّ. فَلْيَكُنْ رَجَاؤُنَا فِي يَسُوعَ، لَا فِي مُعَاهَدَاتِ البَشَرِ، وَفِي مَلَكُوتِ اللهِ، لَا فِي تَحَالُفَاتِ الأَرْضِ.هُوَ سَلَامُنَا. هُوَ رَجَاؤُنَا. هُوَ رَبُّنَا.
ج) سَلامُ المسيح ثمرةُ ذَبيحَتِهِ الفِصحيَّة
فِي مَنْظُورِ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيِّ، سَلَامُ المَسِيحِ هُوَ ثَمَرَةٌ مُبَاشِرَةٌ لِذَبِيحَتِهِ عَلَى الصَّلِيبِ،كَمَا قَالَ الرَّبُّ نَفْسُهُ: "قَدْ كَلَّمْتُكُم بِهٰذَا لِتَكُونَ لَكُمُ السَّلَامُ فِيَّ. فَتَكُونُ لَكُمْ فِي العَالَمِ شِدَّةٌ، وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا غَلَبْتُ العَالَمَ!" (يُوحَنَّا 16: 33). لَقَدْ حَقَّقَ يَسُوعُ السَّلَامَ الحَقِيقِيَّ بِدَمِهِ عَلَى الصَّلِيبِ: "وَبِهِ صَالَحَ بِذَاتِهِ كُلَّ شَيْءٍ، لِمَّا جَعَلَ بِدَمِ صَلِيبِهِ السَّلَامَ" (كُولُوسِّي 1: 20). وُلِدَ السَّلَامُ مِنَ الاِنْتِصَارِ عَلَى المَوْتِ عَلَى الصَّلِيبِ. كَشَفَ يَسُوعُ شَرَّ البَشَرِيَّةِ، وَوَضَعَ النَّاسَ أَمَامَ خَطَايَاهُمْ، إِذْ قَالَ الكِتَابُ: "سَيَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ طَعَنُوا" (يُوحَنَّا 19: 37)، وَانْتَصَرَ عَلَى الخَطِيئَةِ وَالشَّرِّ، وَعَلَى آخِرِ عَدُوٍّ لَنَا: المَوْتِ. السَّلَامُ هُوَ أَوَّلُ عَطِيَّةٍ مِنَ القَائِمِ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ. إِنَّهُ المُصَالَحَةُ "الشَّامِلَةُ"، مَعَ الآبِ وَفِيمَا بَيْنَنَا، الَّتِي يُحَقِّقُهَا يَسُوعُ مِنْ خِلَالِ قِيَامَتِهِ، وَمِنْ خِلَالِ صُعُودِهِ إِلَى الآبِ (يُوحنا 14: 28). لِذَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الرُّوحَ يُذَكِّرُنَا بِالسَّلَامِ، وَيَمْلَؤُنَا بِالسَّلَامِ.
بِالمَوْتِ، صَالَحَ بَيْنَ اللهِ وَالإِنْسَانِ، وَوَحَّدَ البَشَرَ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ. لَمْ يَعُدْ سَلَامُ يَسُوعَ مُرْتَبِطًا بِبَقَائِهِ الجَسَدِيِّ، بَلْ بِانْتِصَارِهِ الرُّوحِيِّ عَلَى العَالَمِ. لَمْ يَأْتِ المَسِيحُ لِيُلْغِيَ الحُرُوبَ، بَلْ لِيُقَدِّمَ سَلَامًا آخَرَ، هُوَ السَّلَامُ الفِصْحِيُّ،
الَّذِي يَلِي النَّصْرَ النِّهَائِيَّ، كَمَا جَاءَ فِي (لُوقَا 24: 36): "وَقَفَ يَسُوعُ بَيْنَهُمْ وَقَالَ لَهُم: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ!" هٰذَا السَّلَامُ تُرَافِقُهُ: عَطِيَّةُ الرُّوحِ القُدُسِ، وَسُلْطَةُ غُفْرَانِ الخَطَايَا (يُوحَنَّا 20: 19–23)، كَخِتْمٍ لِلْعَهْدِ الجَدِيدِ، وَعَرْبُونٍ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ.
تَرَكَ يَسُوعُ سَلَامَهُ كَتُرَاثٍ لِتَلَامِيذِهِ الَّذِينَ تَرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعُوهُ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ:"إِنَّهُ يَتْرُكُهُمْ لَا فِي حُزْنٍ وَمَرَارَةٍ، بَلْ فِي سَلَامٍ، لِيَهَبَهُمْ مِيرَاثًا ثَمِينًا: هُوَ سَلَامُهُ! هُوَ نَفْسُهُ سَلَامُنَا"(رَاجِع أَفَسُس 2: 14: "أَوْرَثَنَا ذَاتَهُ سَلَامًا لَنَا"). سَلَامٌ لَا يُعَكِّرُهُ اضْطِهَادٌ، وَلَا ظُلْمَةٌ. سَلَامُ يَسُوعَ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَقَلُّبِ الظُّرُوفِ، وَلَا يَضْطَرِبُ فِي وَجْهِ الأَلَمِ وَالشَّدَائِدِ. كَمَا يَقُولُ بُولُسُ الرَّسُولُ:"فَلَمَّا بُرِّرْنَا بِالإِيمَانِ، حَصَلْنَا عَلَى السَّلَامِ مَعَ اللهِ، بِرَبِّنَا يَسُوعَ المَسِيحِ... وَنَفْتَخِرُ بِشَدَائِدِنَا، لِأَنَّ الشِّدَّةَ تَلِدُ الثَّبَاتَ، وَالثَّبَاتَ يَلِدُ فَضِيلَةَ الِاخْتِبَارِ، وَفَضِيلَةَ الِاخْتِبَارِ تَلِدُ الرَّجَاءَ،وَالرَّجَاءَ لَا يُخَيِّبُ صَاحِبَهُ، لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ أُفِيضَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ القُدُسِ" (رُومَة 5: 1–5).
السَّلَامُ وَعْدٌ لِلْعَهْدِ الجَدِيدِ وَخِتْمٌ لِلْخَلَاصِ. سَلَامُ المَسِيحِ هُوَ خِتْمُ العَهْدِ الجَدِيدِ، يُخْتَمُ بِدَمِهِ الكَرِيمِ عَلَى الصَّلِيبِ.
هُوَ وَعْدٌ قَاطِعٌ بِالطُّمَأْنِينَةِ المُطْلَقَةِ: "سَمِعْتُم أَنِّي قُلْتُ لَكُم: أَنَا ذَاهِبٌ، ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَيْكُم. لَو كُنتُم تُحِبُّونَنِي، لَفَرِحْتُمْ بِأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ" (يُوحَنَّا 14: 28). هٰذَا السَّلَامُ هُوَ قِمَّةُ العَطَاءِ المَسِيحَانِيِّ، عَلَامَةُ مَلَكُوتِ اللهِ المُنْتَظَرِ، وَتَتْوِيجٌ لِلنُّبُوءَاتِ: "لِأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ لَنَا وَلَدٌ... وَدُعِيَ اسْمُهُ: عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلَهًا جَبَّارًا، أَبَا الأَبَدِ، رَئِيسَ السَّلَامِ" (إِشَعْيَا 9: 5).
السَّلَامُ "سَلَامِي" – كَمَا دَعَاهُ يَسُوعُ. لِهٰذَا السَّلَامِ، يُعْطِي يَسُوعُ اسْمًا خَاصًّا: "سَلَامِي" (يُوحَنَّا 14: 27). سَلَامٌ لَا يُشْبِهُ أَيَّ سَلَامٍ آخَرَ، لِأَنَّهُ: سَلَامُ الخَلَاصِ، سَلَامُ الصَّلِيبِ وَالقِيَامَةِ، سَلَامُ الرُّوحِ القُدُسِ وَغُفْرَانِ الخَطَايَا، سَلَامٌ يُقِيمُ فِي القَلْبِ، وَلَا يَتْرُكُهُ إِلَى الأَبَدِ. أَيْنَ نَبْحَثُ عَنِ السَّلَامِ؟ هَلْ نَبْحَثُ عَنِ السَّلَامِ فِي المَالِ، أَوِ الصِّحَّةِ، أَوِ النَّجَاحِ الِاجْتِمَاعِيِّ؟ أَمْ نَبْحَثُ عَنْهُ فِي حِضْنِ الرَّبِّ القَائِمِ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ؟ سَلَامُ المَسِيحِ لَا يُشْتَرَى، وَلَا يُقْهَرُ، بَلْ يُمْنَحُ هِبَةً لِمَنْ يَثِقُ بِهِ. السَّلَامُ هُوَ أَوَّلُ عَطِيَّةٍ مِنَ القَائِمِ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ. إِنَّهُ المُصَالَحَةُ "الشَّامِلَةُ"، مَعَ الآبِ وَفِيمَا بَيْنَنَا، الَّتِي يُحَقِّقُهَا يَسُوعُ مِنْ خِلَالِ قِيَامَتِهِ، وَمِنْ خِلَالِ صُعُودِهِ إِلَى الآبِ (يُوحنا 14: 28). لِذَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الرُّوحَ يُذَكِّرُنَا بِالسَّلَامِ، وَيَمْلَؤُنَا بِالسَّلَامِ.
د) حِفظُ الوَصايا طَريقُ السَّلام
السَّبِيلُ الحَقِيقِيُّ إِلَى السَّلَامِ، كَمَا يُعَلِّمُنَا يَسُوعُ، لَا يَقُومُ عَلَى المُبَادَرَاتِ السِّيَاسِيَّةِ أَوِ التَّفَاهُمَاتِ البَشَرِيَّةِ، بَلْ يَنْبُعُ مِنْ حِفْظِ كَلِمَةِ اللهِ وَوَصَايَاهُ. فَالرَّبُّ نَفْسُهُ يَقُولُ: "إِذَا كُنتُم تُحِبُّونَنِي، حَفِظتُم وَصَايَايَ" (يُوحَنَّا 14: 15)، وَ"مَنْ تَلَقَّى وَصَايَايَ وَحَفِظَهَا، فَذَاكَ الَّذِي يُحِبُّنِي" (يُوحَنَّا 14: 21). فَمِنْ خِلَالِ مَحَبَّتِنَا المَسِيحِيَّةِ المُتَرْجَمَةِ بِطَاعَةِ الكَلِمَةِ، نَبْلُغُ سَلَامَ المَسِيحِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ.
حِفْظُ الوَصَايَا هُوَ مَدْخَلٌ لِلْعَهْدِ الجَدِيدِ، وَعَلَامَةُ شَعْبِ اللهِ. بِحِفْظِ الوَصَايَا، يُحَقِّقُ اللهُ فِينَا وَعْدَهُ الأَزَلِيَّ، كَمَا أَنْبَأَ حِزْقِيَالُ النَّبِيُّ:"أَقْطَعُ لَهُمْ عَهْدَ سَلَامٍ... وَأَجْعَلُ مَقْدِسِي فِي وَسَطِهِمْ لِلأَبَدِ" (حِزْقِيَال 37: 26). وَهَكَذَا، يُصْبِحُ حِفْظُ الوَصَايَا شَرْطًا لِشَرِكَةِ السَّلَامِ الإِلَهِيِّ، حَيْثُ يَسْكُنُ اللهُ فِي وَسَطِ شَعْبِهِ الطَّائِعِ، وَيَمْنَحُهُم طُمَأْنِينَةً أَبَدِيَّةً.
السَّلَامُ هُوَ عَلَامَةُ الهُوِيَّةِ المَسِيحِيَّةِ. يُعَلِّقُ البَابَا فِرَنسِيس:"المَسِيحِيُّ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُعْلِنَ حَرْبًا أَوْ يُبَرِّرَهَا، دُونَ أَنْ يَخْسَرَ هُوِيَّتَهُ كَمَسِيحِيٍّ. طُوبَى لِفَاعِلِي السَّلَامِ، لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ يُدْعَوْنَ" (عِظَة، البْرَازِيل، 11 أَيَّار 2007). فَالمَسِيحِيُّ هُوَ صَانِعُ سَلَامٍ لِأَنَّهُ يَحْيَا الوَصِيَّةَ الجَدِيدَةَ، لَا بِالقَوْلِ بَلْ بِالعَمَلِ، وَيَصِيرُ سَفِيرًا لِلهِ وَسَطَ عَالَمٍ مُنْقَسِمٍ. يَقُولُ مَارْتِن لُوثَر: "نَحْنُ نُحَاوِلُ أَنْ نَفْهَمَ الأَسْرَارَ الخَفِيَّةَ، لَكِنَّنَا لَسْنَا قَادِرِينَ عَلَى مُمَارَسَةِ أَبْسَطِ الوَصَايَا: ’أَحْبِبْ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ!‘ فَهَلْ نَبْنِي بَيْتًا بِلَا أَسَاسٍ؟ وَهَلْ نَقْدِرُ أَنْ نُشَيِّدَ السَّلَامَ دُونَ مَحَبَّةِ الآخَرِ؟"
السَّلَامُ يَبْدَأُ مِنَ القَلْبِ، وَالقَلْبُ لَا يَعْرِفُ السَّلَامَ إِلَّا حِينَ يُسَلِّمُ ذَاتَهُ لِكَلِمَةِ اللهِ، فَيَحْيَاهَا بِأَمَانَةٍ، وَمَحَبَّةٍ، وَبَذْلٍ. حِفْظُ الوَصَايَا هُوَ طَرِيقُ السَّلَامِ، وَمَحَبَّةُ اللهِ لَا تُفْصَلُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَالسَّلَامُ هُوَ ثَمَرَةُ الحُبِّ الأَمِينِ الَّذِي يَعْمَلُ بِمَا يَسْمَعُ.
الخُلاصة – سَلامُ المسيح وَعَهدُهُ الأبديّ
عرِضُ الفَصلُ الرّابِعُ عَشَرَ مِن إِنجِيلِ يُوحَنّا حِوارًا عَمِيقًا بَيْنَ يَسُوعَ وَتَلَامِيذِهِ، يَبدَأُ بِسُؤَالِ تُومَا، فَيُجِيبُهُ الرَّبُّ بِكَشْفِ طَرِيقِ الحَيَاةِ:"أَنا هُوَ الطَّرِيقُ وَالحَقُّ وَالحَيَاةُ" (يُوحَنَّا 14: 6)، ثُمَّ يَأْتِي سُؤَالُ فِيلِبُّسَ، فَيُعْلِنُ يَسُوعُ رُؤْيَتَهُ لِلآبِ وَمُسَاوَاتَهُ بِهِ (يُوحَنَّا 14: 8–21)، وَأَخِيرًا يَسْأَلُ يَهُوذَا، فَيَكْشِفُ لَهُ يَسُوعُ سِرَّ المَحَبَّةِ، وَضَرُورَةَ حِفْظِ الوَصَايَا، وَعَطِيَّةَ السَّلَامِ وَالرُّوحِ القُدُسِ (يُوحَنَّا 14: 22–26).
السَّلَامُ غَايَةُ قَلْبِ الإِنسَانِ وَثِمَارُ الوَصَايَا. إِنَّ الإِنسَانَ يَشْتَاقُ مِن أَعْمَاقِ قَلْبِهِ إِلَى السَّلَامِ، وَلَكِنَّ هٰذَا السَّلَامَ لَا يُكْتَسَبُ مِنَ العَالَمِ، بَلْ يُمْنَحُ مِنَ المَسِيحِ، حِينَ يُصْغِي إِلَيْهِ وَيَحْفَظُ وَصَايَاهُ. وَهٰكَذَا يُتِمُّ وَعْدَهُ لِتَلَامِيذِهِ لَيْلَةَ آلَامِهِ:
"السَّلَامَ أَسْتَوْدِعُكُم، وَسَلَامِي أُعْطِيكُم" (يُوحَنَّا 14: 27). فَهٰذَا السَّلَامُ لَيْسَ مُجَرَّدَ عَاطِفَةٍ، بَلْ هُوَ الإِرْثُ الَّذِي أَوْرَثَهُ لَنَا السَّيِّدُ، وَعَلَيْهِ تَرْتَبِطُ المَوَاهِبُ الإِلَهِيَّةُ، وَالنِّعَمُ الخَلَاصِيَّةُ، وَوَعْدُ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ.
إِن كُنَّا وَرَثَةَ المَسِيحِ، فَلْنَحْفَظْ سَلَامَهُ. قَالَ الرَّبُّ: "طُوبَى لِلسَّاعِينَ إِلَى السَّلَامِ، فَإِنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ" (مَتَّى 5: 9). فَإِذَا كُنَّا أَبْنَاءَ اللهِ، يَتَوَجَّبُ عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ صَانِعِي سَلَامٍ، ذَوِي قُلُوبٍ طَيِّبَةٍ، وَبُسَطَاءَ، مُتَّحِدِينَ بِالمَحَبَّةِ، فِي تَوَافُقٍ تَامٍّ، وَفِكْرٍ وَاحِدٍ فِي المَسِيحِ. لِأَنَّ وَرَاءَ كُلِّ هَمٍّ وَاضْطِرَابٍ، يُقِيمُ سَلَامُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ إِدْرَاكٍ، وَيَحْفَظُ قُلُوبَنَا وَأَفْكَارَنَا فِي المَسِيحِ يَسُوعَ (رَاجِع فِيلِبِّي 4: 6–7).
قَبْلَ رَحِيلِهِ، اسْتَوْدَعَنَا يَسُوعُ سَلَامَهُ، لَا لِنُبْقِيَهُ حَبِيسَ قُلُوبِنَا، بَلْ لِنَصِيرَ رُسُلَ سَلَامٍ لِلْعَالَمِ، مِنَارَةً لِلرَّجَاءِ، وَعَلَامَةً لِحُضُورِ اللهِ فِي وَسَطِ البَشَرِ. فَأَيُّ سَلَامٍ نَحْمِلُ؟ إِنَّهُ سَلَامُ يَسُوعَ المَسِيحِ، الَّذِي هُوَ مَصْدَرُهُ، وَمُنْحَدِرٌ مِن جَوْهَرِهِ، وَحُضُورُهُ سَلَامٌ بِحَدِّ ذَاتِهِ.
جَوْهَرُ رِسَالَةِ السَّلَامِ هُوَ مُصَالَحَةُ الإِنسَانِ مَعَ اللهِ. جَاءَ يَسُوعُ لِيُزِيلَ سُلْطَانَ الخَطِيئَةِ عَنِ الإِنسَانِ، وَيُعِيدَ إِلَيْهِ الحَالَةَ الأُولَى مِنَ السَّلَامِ مَعَ اللهِ، وَمَعَ ذَاتِهِ، وَمَعَ أَخِيهِ الإِنسَانِ. هُوَ الَّذِي دُعِيَ "رَئِيسَ السَّلَامِ" (إِشَعْيَا 9: 5)،
وَ"حَمَلَ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيئَةَ العَالَمِ" (يُوحَنَّا 1: 29)، الَّذِي "ذُبِحَ لأَجْلِ خَلَاصِنَا" (رُؤْيَا 5: 6).
فِي زَمَنِ الفِصْحِ، يَدْعُونَا الرَّبُّ لِنَعِيشَ هٰذَا "السَّلَامَ القَائِمَ مِنَ المَوْتِ"، سَلَامًا مِن نَوْعٍ جَدِيدٍ، لَيْسَ كَمَا يُعْطِيهِ العَالَمُ، بَلْ كَمَا يَفِيضُ مِنْ حُضُورِهِ فِي دَاخِلِنَا. وَلِأَنَّ يَسُوعَ لَا يَتْرُكُنَا يَتَامَى، بَلْ يُرْسِلُ لَنَا الرُّوحَ القُدُسَ، يُمْكِنُنَا أَنْ نَسِيرَ فِي دَرْبِ الحَيَاةِ مُطْمَئِنِّينَ، مَمْلُوئِينَ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَسَلَامِهِ، أُمَنَاءَ لِكَلِمَتِهِ.
دُعاءٌ
يا يَسوعُ، يا رَئيسَ السَّلامِ،
أَسكُنْ في قُلوبِنا،
وارسُمْ فينا صُورتَكَ،
وأَسكِبْ فينا سَلامَكَ الَّذي لا يَزولُ،
لِنَصيرَ شُهودًا لِسَلامِكَ في عالَمٍ يَتَعطَّشُ إِلَيكَ.
آمين.