موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٢ يونيو / حزيران ٢٠٢٤

الرُّوح القُدُس وحلوله يوم العَنْصَرة

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
أحَد العَنْصَرة: الرُّوح القُدُس وحلوله يوم العَنْصَرة (يوحنا 15: 26-27؛ 16: 1-15)

أحَد العَنْصَرة: الرُّوح القُدُس وحلوله يوم العَنْصَرة (يوحنا 15: 26-27؛ 16: 1-15)

 

النَّص الإنجيلي (يوحنا 15: 26-27؛ 16: 1-15)

 

26 ومَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي 27 وأَنتُم أَيضًا تَشهَدون لأَنَّكُم مَعي مُنذُ البَدْء. 12 لا يَزالُ عِنْدي أَشْياءُ كثيرةٌ أَقولُها لَكم ولكِنَّكُم لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها. 13 فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث 14 سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه. 15 جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي ولِذلكَ قُلتُ لَكم إِنَّه يأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه.

 

 

مقدمة

 

نحتفل اليوم بعيد العَنْصَرة الذي يختتم الزَّمن الفصحى بعد خمسين يومًا من أحد القيامة. يرمز خمسين يومًا إلى ملء الزَّمن الذي يكتمل فيه السرُّ الفصحي. ويتكلم إنجيل أحد العَنْصَرة في ملء الزَّمن عن وعد يسوع بحلول الرُّوح القُدُس على الرُّسل والتَّلاميذ الآخرين الذين كانوا مجتمعين للصَّلاة مع مريم العذراء في العليَّة، وبلغ "عدَدُهم نَحوَ مِائَةٍ وعِشرين" (أعمال الرسل 1: 14-15)، وذلك كي يُثبِّتهم في الخلاص والقداسة والشَّهادة (يوحنا 15: 26-27؛ 16: 1-15). اليوم نحن مدعوُّون لقبول فيض الروّح لتكون أجسادنا هياكل الرُّوح القدس فيقودنا إلى المسيح. ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: وقائع النَّص الإنجيلي (يوحنا 15: 26-27؛ 16: 12-15)

 

26 ومَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي

 

تشير عبارة "المُؤَيِّدُ" في الأصل اليوناني παράκλητος (الباراقليط معناها حرفيا جِوار المَدْعو، أي الشخص الذي يُدعى ليكون بجانبك) إلى المَدعو للمساعدة، هو حاضر بالقرب من الإنسان من أجل إعانته وتعزيته وإسناده والشَّهادة له. وفي الأصل الباراقليط، شخص يثق به المتهم، يدعوه ليكون بجانبه، يقترح عليه الكلمات التي يقولها، يدعمه، ويرافقه، لكنه لم يكن يقوم بالأشياء بدلاً منه. في العصور القديمة أصبح الباراقليط مصطلح قانوني للدلالة على شخص له دور في المحاكم لصالح المتهم. إنَّه المحامي أو المدافع أو الشَفيع أو المعزِّي. وقد وردت كلمة الباراقليط خمس مرات فقط، أربع مرّات في الإنجيل (يوحنا 14: 17، 16: 16؛ 17: 16؛ 19: 14؛ 26: 14)، ومرة واحدة في رسالته الأولى (1 يوحنا 2: 1-2). والباراقليط هو الرُّوح القُدُس الذي يساعدنا أن نستفيد من فداء المسيح لكي نخلص. والخلاص يكمن في تجديد طبيعتنا فنصبح "خَلْقًا جَديدًا" (2 قورنتس 5: 17) " حتَّى يُصوَّرَ فيناِ المسيح" (غلاطية 4: 19). ولذلك يهدف الرّوح ليس لتجديد قلوبنا الباطنيّة فحسب إنما كلّ ما ينتمي للأرض ويحيا عليها لحمل رّوح الله كما جاء في المزامير "تُرسِلُ رُوحَكَ فيُخلَقون وتُجَدِّدُ وَجهَ الأَرض" (مزمور 104: 30). أمَّا عبارة "رُوحُ الحَقِّ" فتشير إلى الرُّوح القُدُس الذي يشهد فينا للمسيح الذي هو "الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة"(يوحنا 14: 6)، فالرًّوح يشهد للنَّاس بالحقيقة الغائبة عنهم. أمَّا عبارة "المُنبَثِقُ "باليونانيَّة ἐκπορεύεται(معناها يخرج أو يصدر إلى الداخل ) فتشير إلى الانبثاق  عن طريق الإرادة وبالتحديد صدور الرُّوح القُدُس من الآب بالطَّبيعة الإلهيَّة. وهذا التَّعبير خاص بالرُّوح القُدُس. وأمّا الابن فخرج من الآب ἐκ τοῦ θεοῦ ἐξῆλθον بالولادة عن طريق العقل (يوحنا 8: 42). ومن السياق لا يتكلم النصَّان عن صدور الابن والرُّوح من الأزل، بل عن إرسالهما في الزمان إلى العالم. ويصرّح مجمع اللاتران الرابع (1215): "الآب الذي يلد، والابن الذي يُولد، والروح القدس الذي ينبثق"(D. 432). ولادة الابن الأزلية من الآب ورد ذكرها في المزمور "أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ" (2: 7) والرسالة إلى العبرانيين (1:5).  وهنا يظهر مساوة الابن للآب في الجوهر على ولادته الأزلية.  أمَّا عبارة “رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب" فتشير إلى الروح الذي ينبثق من الآب، كما نقول في قانون الإيمان، ويرتبط بالمسيح المُمجّد ارتباطًا وثيقا (يوحنا 16: 5-15) حيث يرسله المسيح إلى الكنيسة (يوحنا 16: 7) كما ورد في الكتاب المقَدّس "الرُّوح القُدُس الَّذي أَفاضَه علَينا وافِرًا بِيَسوعَ المسيحِ مُخَلِّصِنا" (طيطس3: 6). وهو روح الابن أيضًا، إذ يقول الرَّسول " أَنَّ اللهَ أَرسَلَ رُوحَ ابنِه إلى قُلوبِنا، الرُّوحَ الَّذي يُنادي: أَبَّا، يا أَبتِ " (غلاطية 4: 6)؛ ومن هنا نجد أنّ الرُّوح القُدُس يصدر عن إرادة الآب والابن أو عن محبتهما المتبادلة، بينما الابن مولود عن عقل الآب. أمَّا عبارة "أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب" فتشير إلى إرسال الرُّوح القُدُس الذي ُهو مُرسل من الآب من جهة، كمدبِّر الخلاص والتَّقديس، ومُرسل من الابن من جهة أخرى بكونه قد دفع المسيح الثّمن على الصَّليب لكي يستقر الرُّوح في الإنسان ويجد فيه بِرّ المسيح. ويعلق القديس أمبروسيوس "انظروا وحدتهما، فإن من يرسله الآب يرسله الابن أيضًا". فهذا يثبت ألوهيَّة المسيح (يوحنا 16: 7) فقد قال سابقًا " الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي " (يوحنا 14: 26) فكما يرسل الآب الرُّوح القُدُس يرسله الابن أيضًا. أمَّا عبارة "هُو يَشهَدُ لي" فتشير إلى مُهمَّة الرُّوح القُدُس الذي يشهد للمسيح أمام التَّلاميذ، وبواسطتهم يشهد أمام العَالَم، كما يعلن يسوع: "فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه.  جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي ولِذلكَ قُلتُ لَكم إِنَّه يأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه (يوحنا 16: 13-15). فالآب يشهد للمسيح والمسيح يشهد للآب والروح يشهد للمسيح.  يشهد روح الحق للابن من خلال عطاياه ونعمته على المؤمنين، ومن خلال التَّلاميذ وكرازتهم للقيام بأعمال هي بحدِّ ذاتها تصير شَهادة للمسيح. وتقوم الشَّهادة في الإقرار بحقيقة حادث ما، بالطريقة الرسمية التي تطلبها الظروف. لكن مفهوم الشَّهادة يتسع خاصة في اتَجاه يبتعد عن المجال القانوني، وتأخذ الشَّهادة قيمة دينية محضة. إنّ الرجل الصَّالح ينال الشَّهادة الحسنة ممن يعرفونه على هذا النحو: يشهد اليهود ليسوع (لوقا 4: 22) وقرنيليوس (أعمال 10: 22) وحنايا (أعمال الرسل 22: 12)، وعلى هذا النحو، تشهد الجماعة المسيحية للشمامسة الأولين (أعمال الرسل (6: 3) طيموتاوس (أعمال الرسل (16: 2) وديمتريوس (3 يوحنا 12، راجع 3: 6) وبولس نفسه (1 تسالونيقي 2: 10). ويشهد بولس من جهته لكنائس قورنتس (2 قورنتس 8: 3) وغلاطية (غلاطية 4: 15).

 

27 وأَنتُم أَيضًا تَشهَدون لأَنَّكُم مَعي مُنذُ البَدْء

 

 تشير عبارة  "أَنتُم أَيضًا تَشهَدون" إلى شَهادة التَّلاميذ الذين رافقوا يسوع في حياته منذ بدء خدمته الرسوليَّة كما ورد في تاريخ الجماعة المسيحيَّة الأولى: "هُناكَ رجالٌ صَحِبونا طَوالَ المُدَّةِ الَّتي أَقامَ فيها الرَّبّ يَسوعُ مَعَنا" (الرسل 1: 21)، لكنَّ في الوقت نفسه تشير الآية إلى شَهادة روح الحق الذي يفتح فَهمَهم لمعرفة المسيح معرفة عميقة، ويُذكِّرهم به كي يواصل تعليمه لهم فيُضفي هكذا على تبشير هؤلاء التَّلاميذ قوته الصَّحيحة وحقيقته البيّنة، كما ورد في أعمال الرسل "يَشهَدُ الرُّوحُ القُدُسُ الَّذي وهَبَه اللهُ لِمَن يُطيعُه" (أعمال الرسل 5: 32). والتَّلاميذ يشهدون للمسيح ويحملوا البشارة إلى أقاصي الأرض تلبية إلى طلبه: "تكونونَ لي شُهودًا في أُورَشَليمَ وكُلِّ اليهودِيَّةِ والسَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض (أعمال الرسل 1: 8). ويعلق القديس أوغسطينوس: "بفضل الرُّوح القُدُس لم يَعدْ بطرس الرَّسول يُنكر المسيح كما حدث عند الصَّلب، بل يشهد له محتملًا الآلام والاضطهادات من أجل اسمه بفرحٍ". أن الرُّوح القُدُس يُعطينا قوَّة لنشهد للمسيح ونحيا بحسب الحق. والشَّهادة تكون بسيرتنا فيظهر المسيح الذي يحيا فينا. وخير مثال على ذلك ما صرّح به بولس الرَّسول:" فقال من جهته: "نَحنُ جَميعًا نَعكِسُ صورةَ مَجْدِ الرَّبّ بِوُجوهٍ مَكشوفةٍ كما في مِرآة، فنَتَحوَّلُ إلى تِلكَ الصُّورة، ونَزدادُ مَجْدًا على مَجْد، وهذا مِن فَضْلِ الرَّبّ الَّذي هو روح" (2 قورنتس 3: 18). أمَّا عبارة "مَعي مُنذُ البَدْء" فتشير إلى التَّلاميذ الذين يشهدون للمسيح بفضل شركتهم مع المسيح، إذ أنَّهم رافقوه، وسمعوا تعليمه، وشاهدوا مجده على ما جاء في الكتب: "وأَنتُم شُهودٌ على هذه الأُمور" (لوقا 24: 48). ومن أجل نشر الإنجيل في العالم أجمع، أقام يسوع الرسل شهوداً له (أعمال 1: 8). ومن ثم عليهم أن يجاهروا رسمياً أمام الناس، بكل الأعمال التي حدثت، ابتداء من معمودية يوحنا حتى صعود يسوع، ولاسيما بقيامته التي جاءت مصداقاً على سيادته المطلقة (1: 22، 2: 32). ومن هنا تقوم سلطتنهم على اختبارهم الرُّوحي. حيث أنَّ الشَرط الأساسي للشَّهادة هو أن نكون مع المسيح، بمعنى أن نعرف الآب وأن نعرف يسوع. التِّلميذ الذي لم يعشْ مع المسيح ويختبره ويراه، لا يستطع أن يشهدَ له وعنه.

 

1/ 16 قُلتُ لَكم هذه الأَشياءَ لِئَلاَّ تَعثُروا

 

تشير عبارة "هذه الأَشياءَ" إلى الضيقات واضطهاد العَالَم لتلاميذه ولكنيسته والذي سيبدأ بطرد اليهود لتَّلاميذ يسوع من المجمع، ثم يصل الأمر بهم للقتل، وبعد هذا سيأتي الاضطهاد الرُّوماني ولن ينتهي اضطهاد العَالَم للكنيسة. والاضطهاد هو مقاومة العَالَم الإيمان، يسوع لكن يُرسل لهم الرُّوح القُدُس لتعزيتهم وتُشديدهم. أمَّا عبارة "تَعثُروا" باليونانيَّة σκανδαλίζω (معناه توقف إنسان عن السَّير حين يصطدم بحجر في طريقه) فتشير هنا إلى الشَك في مساندة المسيح لهم أو التخلِّي عنهم أو كراهيتهم لبعضهم البعض أو إلى الارتداد عن المسيح أو التَّوقف عن الكرازة بسبب الاضطهاد والمصاعب التي يُثيرها بغض نظر العالم ليسوع ولتلاميذه التي من شأنها أن تكون لإيمان التَّلاميذ شكًا وامتحانًا شاقًا. فقد يضعف إيمانهم، إذ "يُساقونَ إلى الحُكَّامِ والمُلوكِ مِن أَجل المسيح" (متى 10: 18). فالثّبات في الإيمان حتى النِّهاية هو شَهادة لدى جميع الأمم (متى 24: 14). لكن الشَك يجعل المؤمن يسقط حيث يمرّ في محنة يُمكنها أن تُبعدَه عن الرَّبّ. إذ أنَّ بغض العَالَم لهم يجعل المؤمنين يتساءلون عن حضور الله في كنيسته. لكن كلام يسوع يعبّر مسبقًا عن معنى العثار (الشَك) الحقيقي في المخطط الإلهي، ويمكن إذًا من التَّغلب على المحنة. ألم يقل يسوع "أهذا حَجَرُ عَثرَةٍ لكُم؟" (يوحنا 6: 61). ويسوع يقول هذه الأقوال حتى يكون تلاميذه على استعداد لمواجهة كراهيَّة العَالَم وإمكانيَّة الاستشهاد من اجل اسمه إذا لزم الأمر.

 

2 سيَفصِلونَكم مِنَ المَجامِع بل تأتي ساعةٌ يَظُنُّ فيها كُلُّ مَن يَقتُلُكم أَنَّهُ يُؤَدِّي للهِ عِبادة

 

تشير عبارة "سيَفصِلونَكم مِنَ المَجامِع" إلى رؤساء الدين اليهودي الذين كانوا يتَّخذون بعض التَّدابير لفصل فئة من المُذنبين في أيام يسوع. وعندئذٍ يُحرمون هؤلاء من الصَّلاة وكل الحقوق الدينيَّة والسِّياسيَّة والاحتفالات والعقوبات المدنيَّة حيث لا أحد منهم يقدر أن يشتري أو يبيع. فعلى سبيل المثال، والدا الأعمى الذي شفاه يسوع في القدس خافا أن يعترفا أن يسوع هو المسيح "لأَنَّ اليَهودَ كانوا قدِ اتَّفَقوا على أَن يُفصَلَ مِنَ المِجمَعِ مَن يَعتَرِفُ بِأَنَّه المسيح" (يوحنا 9: 22). ولكن لم يظهر تحريم المسيحيِّين من الدخول إلى المجمع إلاّ في أواخر القرن الأول. ومن المرجّح أن يوحنا الإنجيلي نسب إلى الماضي تدبيرًا حديثًا (يوحنا 9: 22). وقد تنبأ يسوع عن اضطهاد تلاميذه " اِحذَروا النَّاس، فسَيُسلِمونَكم إلى المَجالس، وَيجلِدونَكم في مَجامِعِهم" (متى 10: 17). ويصف لنا لوقا البشير أنواع العذابات التي تعرض لها بولس الرَّسول: إذ إضطهدوه، واتَّهموه، وجلدوه، وسجنوه، ونال شَهادة الاستشهاد في سبيل إيمانه (2 قورنتس 11: 22). ويعلق البابا يوحنا بولس الثّاني "تؤيّد هذه الآلام، بصورة فريدة، ما بينهم وبين الرَّبّ يسوع المسيح من شبه، ومعه من وحدة. "إِذا أبغَضَكُمُ العَالَم فَاعلَموا أَنَّه أَبغَضَني قَبلَ أَن يُبغِضَكم... ما كانَ الخادِمُ أَعظمَ مِن سَيِّده. إِذا اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكم أَيضًا... لا بَل سيَفعَلونَ ذلكَ كُلَّه بِكُم مِن أَجْلِ اسمي لأَنَّهم لا يَعرفونَ الَّذي أَرسَلني". (يوحنا 15: 18-21). أمَّا عبارة " يُؤَدِّي للهِ عِبادة" فتشير إلى ما ورد في تقليد حزب الغيورين "من أراق دم كافر مثل من قرّب ذبيحة". فاليهود الذين يعلمون ذلك يعتبرون نفوسهم انهم يدافعون عن الدين، ويعتقدون انهم يقومون بفريضة الله. وقيل في كتاب المدراش اليهودي "أن من قتل إنسان شرير مثل المسيحيِّين فكأنه قدَّم ذبيحة لله"، واستندوا في هذا إلى سفر كتاب الشَريعة: حينما قتل فِنْحاسُ بنُ أَلِعازارَ بنِ هارونَ الكاهِن الرَّجل الزَّاني فردَّ سخط الله عن الجماعة" (عدد 25: 1-11)، وكما حدث أيضا مع بولس الرَّسول قبل اهتداه يجول في البلاد يضطهد المسيحيِّين ويقتلهم تحت إرشاد وتوجيه رئيس الكهنة "أَمَّا أَنا فكُنتُ أَرى واجِبًا علَيَّ أَن أُقاوِمَ اسمَ يسوعَ النَّاصِريِّ مُقاوَمَةً شَديدة" (أعمال الرسل 26: 9-11). فقد اتَّخذت الاضطهادات طابعًا دينيًا. وقد تمّت هذه النَّبوءة عندما طرُد إسطفانس من المجمع ورُجِم بالحجارة حتى الموت (أعمال الرسل 7: 57-60). ويعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس، أسقف رافينا "ولَد الشُّهداء لحظةَ موتهم ويبدؤون حياتهم عند انتهائها؛ يحيَون عندما يُقتَلون ويُشعّون في السَّماء عندما نظنّ على الأرض أنّهم انطفأوا".

 

3 وسَيَفعلونَ ذلك لأَنَّهم لم يَعرِفوا أَبي، ولا عَرَفوني

 

تشير عبارة "سَيَفعلونَ ذلك" إلى محاولة غيرة العَالَم الفاسدة على تدبير موت التَّلاميذ كأنه في سبيل الحق، ولكن الحقيقة هي أنهم يجهلون الآب والابن؛ ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "قد أعطى الرَّبّ يسوع المسيح لتلاميذه دافعًا جديدًا للتعزية إذ قال لهم: "سَيَفعلونَ ذلك لأَنَّهم لم يَعرِفوا أَبي، ولا عَرَفوني"، أيّ أنّه يكفيكم كتعزية أن تفكّروا بأنّكم تتألّمون من أجلي ومن أجل أبي ". أمَّا عبارة "ولا عَرَفوني" فتشير إلى السَّبب الحقيقي لمحاولة قَتْل التَّلاميذ، لأنَّهم يجهلون الآب والابن كما صرّح بولس الرَّسول: " كُنتُ أَفعَلُ ذلِكَ بِجَهالَة، إِذ لم أَكُنْ مُؤمِنًا" (1 طيموتاوس 1: 13)، ولهذا تبقى خطيئتهم عليهم فتدينهم. "سيَفعَلونَ ذلكَ كُلَّه بِكُم مِن أَجْلِ اسمي لأَنَّهم لا يَعرفونَ الَّذي أَرسَلني" (يوحنا 15: 21). وأمَّا عبارة "لم يَعرِفوا أَبي، ولا عَرَفوني" فتشير إلى العَلاقة بين الآب والابن، حيث من رفض أن يعرف الابن، دلّ على انه يجهل الآب ويجهل ما قاله يسوع:" إِنَّ الَّذي أَرسَلَني هو معي لَم يَترُكْني وَحْدي لأَنِّي أَعمَلُ دائِمًا أَبَدًا ما يُرْضيه" (يوحنا 8: 29)، ومن يعرف الآب سيعرف ابنه، فالابن "هو شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه" (عبرانيِّين 1: 3).

 

4 "وقد قُلتُ لَكم هذهِ الأَشْياءَ لِتَذكُروا إِذا أَتَتِ السَّاعَة أَنِّي قلتُها لَكم. ولم أَقُلْها لَكم مُنذُ البَدْءِ لِأَنِّي كُنتُ معَكم"

 

عبارة "وقد قُلتُ لَكم هذهِ الأَشْياءَ" في الأصل اليوناني ἀλλὰ ταῦτα λελάληκα ὑμῖν (معناها لكني قد كلمتكم بهذا) تشير إلى عدم رغبة يسوع أن يحزن تلاميذه بهذه الأخبار الآن، ولكنه مضطر إلى تحذيرهم مسبقًا بأوقات آلامه كما تنبأ به: "أمَّا أَنتُم فَاحذَروا، فقد أَنبَأتُكم بِكُلِّ شَيء" (مرقس 13: 23). أمَّا عبارة "أَتَتِ السَّاعَة" فتشير إلى السَّاعة التي فيها يضطهدونكم، أي الزَّمن الذي يستطيع فيه الذين لا يعرفون يسوع ولا الله فيستخدمون وسائل العنف الظالمة كما ورد في الكتاب المقَدّس "لكِن هذه ساعتُكم! وهذا سُلطانُ الظَّلام!" (لوقا 22: 53). أمَّا عبارة "أَنِّي قلتُها لَكم" فتشير إلى التَّلاميذ الذين لم يفهموا كلام يسوع " مَنذُ الآن أُكَلِّمُكُم بِالأَمر قَبلَ حُدوثِه حتَّى إذا حدَثَ تُؤمِنونَ بِأَنِّي أَنا هو" (يوحنا 13: 19)، ولم يفهم التَّلاميذ أحداث حياة يسوع وتعاليمه في الأرض فهمًا تامًا إلاَّ في ضوء قيامته كما ورد في الكتاب المقَدّس "فلمَّا قامَ مِن بَينِ الأَموات، تذكَّرَ تَلاميذُه أَنَّه قالَ ذلك، فآمنوا بِالكِتابِ وبِالكَلِمَةِ الَّتي قالَها يسوع" (يوحنا 2: 22). أن التطابق بين أقوال يسوع والأحداث التي جرت سيحمل التَّلاميذ على مزيد من التَّفهم والإيمان (يوحنا 2: 21-22). أمَّا عبارة "لم أَقُلْها لَكم مُنذُ البَدْءِ لِأَنِّي كُنتُ معَكم" فتشير إلى عدم إبلاغ يسوع تلاميذه عن الصُّعوبات والاضطهادات سابقًا، لأنَّه كان معهم يحفظهم من الذِّئاب، ويُشجعهم حين يخافون، ويُقوِّيهم حين يضعفون، ويخفِّف عنهم كل ضيق، ويتلقَّى عنهم الهجمات ليحفظهم منها كما جاء في صلاته لآبيه السَّماوي "لَمَّا كُنتُ معَهم حَفِظتُهم بِاسمِكَ الَّذي وَهَبتَه لي" (يوحنا 17: 12).

 

5 "أَمَّا الآنَ، فإِنِّي ذاهِبٌ إلى الَّذي أَرسَلَني وما مِن أَحَدٍ مِنكُم يسأَلُني: إلى أَينَ تَذهَب؟

 

عبارة "أَمَّا الآنَ، فإِنِّي ذاهِبٌ إلى الَّذي أَرسَلَني" (ذاهب في الأصل اليوناني ὑπάγω ومعناها ارحل أو امضي) تشير إلى هدف ذَهابه، وهو الرَّحيل إلى الآب. والرَّحيل هو الموت، والموت ليسوع هو العودة إلى آبيه السَّماوي. أمَّا عبارة "ما مِن أَحَدٍ مِنكُم يسأَلُني: إلى أَينَ تَذهَب؟" (الفعل اليوناني تَذهَب ὑπάγεις معناه ُتنبِّه على فكرة رحيله) فتشير إلى سؤال بطرس سابقًا عن موته " يا ربّ، إلى أَينَ تَذهَب ὑπάγεις؟" (يوحنا 13: 36)، أو إلى سؤال توما: ((يا ربّ، إِنَّنا لا نَعرِفُ إلى أَينَ تَذهَب ὑπάγεις فكَيفَ نَعرِفُ الطَّريق؟) يوحنا 14: 5) لآنَّ ذَهاب يسوع أو رحيله وفكرة بقاء التِّلميذ في عالم معادٍ يُولِّد فيهم قلقًا، فيجتهد يسوع أن يُشدِّد عزائمهم مبينًا لهم أنَّ ذَهابه سيؤدي إلى اتِّحاد أوثق به وبالآب، كما أنَّ الرُّوح القُدُس سيقوم بحمايتهم.

 

6 لا بل مَلأَ الحُزنُ قُلوبَكم لأَنِّي قُلتُ لَكم هذهِ الأَشياء.

 

تشير عبارة " مَلأَ الحُزنُ قُلوبَكم" إلى حزن التَّلاميذ بسبب فراق يسوع لهم. فحضوره كان أكبر بمثابة عزاء لهم.  وحتى يزول الحزن، عليهم أن يفهموا المعنى العميق لهذا الذَهاب. فهذا الذَهاب أو الرَّحيل هو الموت والقيامة وعودة يسوع إلى الآب الذي يرسل روحه إليهم ليفيض مواهبه الغزيرة.

 

7 غَيرَ أَنِّي أَقولُ لَكُمُ الحَقّ: إِنَّه خَيرٌ لَكم أَن أَذهَب. فَإِن لم أَذهَبْ، لا يَأتِكُمُ المُؤيِّد. أمَّا إِذا ذَهَبتُ فأُرسِلُه إِلَيكُم

 

تشير عبارة " إِنَّه خَيرٌ لَكم أَن أَذهَب" إلى موت يسوع وقيامته فلو لم يمتْ المسيح لَمَا محا عنَّا خطايانا. ولو لم يمت لَمَا قام وقهر الموت، ولو لم يرجعْ إلى الآب لَمَا جاء الرُّوح القُدُس. فموت المسيح أتاح أن يعود إليهم بشكل آخر، ويرسل لهم روحه القدُّوس. وكان وجوده على الأرض محدودًا بمكان واحد وفي زمان واحد. أما ذَهابه فمعناه تواجده أصبح في كل العَالَم وفي كل الأزمنة من خلال الرُّوح القُدُس. ويعلق الطُّوباويّ يوحنّا هنري نيومان حول الرُّوح القُدُس المُؤيِّد بقوله: "يا إلهي، لديّ حماية مزدوجة ضدّ الخطيئة: أوّلًا، الخوف من تدنيس كلّ ما فيّ، بحضورك؛ وثانيًا، الثِّقة بأنّ هذا الحضور ذاته سيحميني من الشَرّ". أمَّا عبارة "أَمَّا إِذا ذَهَبتُ فأُرسِلُه إِلَيكُم" فتشير إلى ما قاله يسوع سابقًا لتلاميذه "المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم" (يوحنا 14: 26)، ويعلق القديس كيرلس أسقف الإسكندرية: "كانَ الزَّمنُ المناسبُ لإرسالِ الرُّوح القُدُس، ولحلولِه فينا، هو الزَّمنُ الذي فيه غادرَنا المسيحُ مخلِّصُنا عائدًا إلى الآب".

 

8 وهو، مَتى جاءَ أَخْزى العالَمَ على الخَطيئِة والبِرِّ والدَّينونَة

 

عبارة "أَخْزى" في الأصل اليوناني  ἐλέγξει (معناها يوبِّخ أو يُدين أو يُقنع) تشير إلى التبكيت، أي الغلبة بالحجة حتى يسكت، أو توبيخ الرُّوح القُدُس العَالَم بشأن خطيئته ودعوته للتَّوبة، وقد يكون هذا التَّوبيخ سِرًّا (متى 18: 15) لمن لا يقاوم بعناد، وقد يكون هذا التَّوبيخ علنًا (طيطس 1: 9). وهذا التَّبكيت يؤدي إلى الحياة لمن لا يقاوم، ويؤدي إلى دينونة لمن يقاوم. فالرُّوح القُدُس الذي يُبكت، فتبكيته لا يؤدي إلى اليأس بل للتَّوبة والبِرِّ والسَّلام والتَّعزية لمن يطيعه؛ فالضمير يُوبخ الإنسان لو أخطأ، لكنه قد يقوده لليأس (هذا هو الفارق بين يهوذا وبطرس). والرُّوح القُدُس يستخدم للتبكيت الوعظ والتَّعليم والإرشاد والعمل الدَّاخلي. أمَّا عبارة " العَالَم" فتشير إلى اليهود المنغلقين في عالمهم الحرفي وبِرِّهم الذَّاتي والى والأمم التَّائهين وراء شهواتهم وفلسفاتهم وثنيتهم. العَالَم ظن انه انتصر على يسوع وبذلك اعتبره نبيًا دجالا ومجدّفًا، فتدخل الرُّوح ودفع التَّلاميذ إلى الشَّهادة، فقلب الوضع رأسًا على عقب: المسيح مات، ولكن الآب مجَّده حين أقامه، حينئذ تظهر الخطيئة في كل بشاعتها ونال العَالَم الحكم الذي يستحقه.

 

9 أَمَّا على الخَطيئَة فَلأَنَّهم لا يُؤمِنونَ بي

 

أمَّا عبارة "الخَطيئِة" في الأصل اليوناني ἁμαρτίας (جاءت كلمة خطيئة بدون أداة التَّعريف للتعميم وتعني الخطيئة لمن يخطئ الهدف) فتشير إلى خطيئة العَالَم التي هي قبل كل شيء رفض الإيمان بيسوع والابتعاد عن نوره.  ومن هذا المنطلق، فإن عدم الإيمان بالمسيح يُعد خطيئة. وفي هذا الصَّدد قال لهم يسوع: " لو لم آتِ وأُكَلِّمْهُم لَما كانَت عَليهِم خَطيئَة. ولكِن لا عُذْرَ لَهُمُ الآنَ مِن خَطيئَتِهم" (يوحنا 15: 22). فكانت خطيئة العَالَم كبيرة واستحق الدَّينونة "وإِنَّما الدَّينونَةُ هي أَنَّ النُّورَ جاءَ إلى العَالَم ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور لأَنَّ أَعمالَهم كانت سَيِّئَة" (3: 19-21). أمَّا عبارة " فَلأَنَّهم لا يُؤمِنونَ بي " فتشير إلى قوَّة الرُّوح القُدُس التي تفضح الخطيئة وتكشف طبيعتها الحقيقيَّة في صورة عدم الإيمان ممَّا يؤكد ما قاله يسوع لهم سابقا " لِذلك قُلتُ لكم: ستَموتونَ في خَطاياكم فإذا لم تُؤمِنوا بِأَنِّي أَنا هو تَموتون في خَطاياكم" (يوحنا 8: 24). إنَّ التَّحرر من الخطيئة والموت مرهون بالاعتراف في الإيمان بيسوع الذي يعرّف نفسه " أنا هو" تعبيرًا عن كيان يسوع الإلهي الذي هو في اتحاد مع الآب. فالإيمان هو المدخل لكل غفران الخطيئة بدم المسيح وبنعمته.

 

10 وأَمَّا على البِرّ فلأَنِّي ذاهِبٌ إلى الآب فلَن تَرَوني

 

تشير لفظة "البِرّ" في الأصل اليوناني δικαιοσύνης (معناها بِرّ أتت بدون أداة التَّعريف للتعميم) إلى الحق والعمل بحسب مشيئة الله. فالرُّوح القُدُس يزكِّي بِرّ المسيح ويشهد له. لقد كان طعام يسوع العمل بمشيئة آبيه السَّماوي كما صرّح يسوع: "طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه" (يوحنا 4: 34). أمَّا عبارة "فلأَنِّي ذاهِبٌ إلى الآب " فتشير إلى تأكيد يسوع بتوجّه نحو فكرة الذَهاب إلى الآب، بعد أن تمَّم الفداء، بجلوسه عن يمين الآب ومجَّد الطَّبيعة البشريَّة في جسده، لان ذَهابه سيوفّر للتلاميذ نعمة الحصول على المُعزِّي الرُّوح القُدُس. ومُهمَّة الرُّوح القُدُس على الأرض ستوجّه نحو القضايا الكبرى: الخطيئة والبِرّ والدينونة. أمَّا عبارة "فلَن تَرَوني" فتشير إلى عدم رؤية يسوع بالجسد، ولكنَّ حياته الأبديَّة ستكون ثابتة فيهم، كما وعد "وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إلى نِهايةِ العالَم" (متى 28: 20).

 

11 وأَمَّا على الدَّينونة فَلأَنَّ سَيِّدَ هذا العالَمِ قد دِين

 

لفظة "الدَّينونَة" في الأصل اليونان κρίσεως (معناها دينونة أتت بدون أداة التَّعريف للتعميم) تشير إلى النَّتيجة الحتميَّة لفعل الفداء الإلهي. انه كان من شأن الحكم على يسوع وتنفيذه الجائر أن يظهر لأعين النَّاس، وظهوره دليل على مكره وخطيئته، ولكن قيامة يسوع حكمت على سيِّد هذا العَالَم بشكل نهائي (يوحنا 12: 31-32) وبرهنت لنا عن عدل قضيَّة المسيح وعن حقه، وأثبت خطيئة العَالَم والحكم عليه. أمَّا عبارة "سَيِّدَ هذا العالَمِ قد دِين" فتشير إلى العَالَم الذي ظنَّ أن يسوع قد أُدين وحُكم عليه بالموت؛ ولكنَّ في الواقع، إنَّ يسوع بقيامته هزم روح الشَر الذي يسود العَالَم، وحكم على سيِّد هذ العَالَم حُكما نهائيًا كما جاء في الكتاب المقَدّس "الَيومَ دَينونَةُ هذا العَالَم. اليَومَ يُطرَدُ سَيِّدُ هذا العَالَم إلى الخارِج" (يوحنا 12: 31). إنَّ نصرة يسوع القائم من بين الأموات هي الضمان لدحر رئيس هذا العَالَم نهائيًا.  أمَّا عبارة " العَالَم " فتشير إلى العَالَم الحاضر بصفته المكان الذي تظهر فيه سيطرة القوات الشَريرة المُعادية للسِّيادة الإلهيَّة، تلك القوَّات المُجسَّمة في إنجيل يوحنا في أسماء متنوعة: إبليس (يوحنا 6: 7)، والشَيطان (يوحنا 13: 27)، ورئيس هذا العَالَم (يوحنا 14: 30).  إنَّ الرُّوح القُدُس سيُمجد يسوع ويُنر عقول تلاميذه ويُطلعهم على حقيقة أمر معلمهم، وأنه لم يكن الخاسر، بل كان قاهر الموت، فهو ابن الآب السَّماوي.

 

 12 "لا يَزالُ عِنْدي أَشْياءُ كثيرةٌ أَقولُها لَكم ولكِنَّكُم لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها

 

 تشير عبارة "أَشْياءُ كثيرةٌ" إلى الأشياء التي لم يقلها يسوع، وإن كان قد أخبرهم بكل شيء: "لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي" (يوحنا 15: 15)، بل يترك للرُّوح القُدس الذي يتابع تعليم الرُّسل في إدراك أعمق لمعنى كلام يسوع وتعليمه. أمَّا عبارة "لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها" فتشير إلى عدم مقدرة التَّلاميذ أن يحتملوا فكرة موت يسوع وتمجيده، فهم بحاجة إلى عطيَّة الرُّوح القُدُس إلى مواكبة التَّلاميذ في تعليم أمور الإيمان بتدرّج. ويعلق القديس هيلاريوس الأسقف: "فإنّنا في ضعفِنا لا نقدرُ أن نفهمَ لا الآبَ ولا الابنَ. فيأتي الرُّوحُ القدسُ لينيرَ إيمانَنا، وبوساطتِه نُدرِكُ سرَّ تجسُّدِ اللهِ الذي يصعُبُ فهمُه". أمَّا عبارة "الآنَ" فتشير إلى قبل إرسال الرُّوح القُدُس إلى التَّلاميذ وشهادته للمسيح وشرح أسراره كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "كَيْفَ أُطلِعتُ عَلى السِّرِّ بِوَحْيٍ كَما كَتَبتُه إِلَيكم بإِيجازٍ مِن قَبْلُ. فَتَستَطيعونَ، إِذا ما قَرَأتُم ذلك، أَن تُدرِكوا تَفَهُّمي سِرَّ المسيح، هذا السِّرَّ الَّذي لم يُطْلَعْ علَيه بَنو البَشَرِ في القُرونِ الماضِية وكُشِفَ الآن في الرُّوحِ إلى رُسُلِه وأَنبِيائِه القِدِّيسين، وهو أَنَّ الوَثَنِيِّينَ هم شرَكاءُ في المِيراثِ والجَسَدِ والوَعْد في المسيحِ يسوع، ويَعودُ ذلِك إلى البشارةِ " (أفسس 3: 3-7). فالرُّوح هو الذي يُعلم ويُذكر ويُعزي ويقوِّي.

 

13 "فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث"

 

 تشير لفظة "الحَقِّ" في العهد القديم إلى الشَريعة كما ورد في سفر المزامير "عَلِّمْني يا رَبُّ طرقكَ فأَسيرَ في حَقِّكَ" (مزمور 86: 11). فالحق عند اليهود تعني السُّلوك بحسب الشَريعة حرفيًا. أمَّا في العهد الجديد فتشير إلى المسيح الذي هو "الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة"(يوحنا 14: 6)؛ في حين أنَّ كلمة الحق عند اليونانيِّين الفلاسفة تعني تحرير الفكر من الجهل؛ الحق في مفهوم يسوع ليس امر نعرفه، بل أسلوب حياة جديدة وطريقة جديدة للتفكير وللحُب. أمَّا عبارة "أَرشَدكم إلى الحَقِّ كُلِّه" فتشير إلى هبة الرُّوح القُدُس التي تُفهم التَّلاميذ الحق المُتجلي في الابن المُتجسّد، يسوع المسيح على الرَّغم من أنَّ المسيح أطلع تلاميذه: "على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي" (يوحنا 15: 15)، فإنهم ما زالوا عاجزين عن فهم أبعاد رسالته.  ولكن بهذا المفهوم فإن الحق الذي يُعلمنا إيَّاه الرُّوح القُدُس هو إعلان المسيح لنا وإعلان عمله وأقواله. وكما أنَّ المسيح يستند دائمًا إلى الآب الذي أرسله، كذلك الرُّوح يستند إلى الابن، ولن يكون هناك وحي جديد غير الذي كشفه يسوع المسيح. فلا وحي جديد يحمله الرُّوح إلى الكنيسة، بل هو الوحي الواحد الذي أُعطي في يسوع المسيح، وما زال الرُّوح يوصله إلى المؤمنين كما جاء في تعليم يسوع "جَميعُ ما هو لي فهو لَكَ وما هو لَكَ فهو لي" (يوحنا 17: 10).  أمَّا عبارة "لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع " فتشير إلى الرُّوح القُدُس الذي يُعلن ويُفسر الكلام والأعمال والحوادث حول إعلان الله النِّهائي للإنسان. فإن الرُّوح القُدُس يأخذ مِمَّا للمسيح ويُخبر، ولا يقول كلامًا غير ما قاله المسيح. فالمسيح والرُّوح القُدُس على اتفاق. هناك اتفاق تام بين الأقانيم. وما يريده الآب يريده الابن ويريده الرُّوح القُدُس. لكن هناك توزيع للأدوار بين الأقانيم. فالآب يريد أن الجميع يخلصون. والابن ينفِّذ عملية الخلاص والفداء. والرُّوح القُدُس يرشد الكنيسة ويقودها للسَّماء.  ويعلق القديس هيلاريوس الأسقف: "واحدٌ هو اللهُ الآبُ الذي منه كلُّ شيء. واحدٌ هو يسوعُ المسيح، الذي به كلُّ شيء. واحدٌ هو الرُّوح القُدُس، هبةُ اللهِ في الكلّ".  وأمَّا عبارة "يُخبِرُكم بِما سيَحدُث" فتشير إلى الرُّوح القُدُس الذي يشهد لإتمام قصد الله في المستقبل ويخبر كيفيَّة التَّعامل مع نهاية الأزمنة التي تبدأ في صَلب يسوع وقيامته ويمتد إلى انقضاء الدهر، إذ يجعل التَّلاميذ الذين سبق لهم أن شاركوا يسوع في حياته في الأرض (يوحنا 15: 27) يتفهَّمون حقيقة يسوع ومعنى أعماله ومعنى الأشياء في صلتها به تفهمًا تدريجيًا.  وهذا الأمر لا يتطلب منا معرفة الأمور المستقبلية بل أن ندع روح الحق يقودنا بفطنة لمعرفة معنى تاريخ الخلاص.  ويعلق القديس باسيليوس الكبير: "الذين لهم شركة الرُّوح يتمتعون به قدر ما تسمح طبيعتهم (للمتأهلين وحدهم)، وليس قدر ما يستطيع هو أن يهب نفسه في الشَركة". الرُّوح يُرشدنا إلى ما يجب فعله في المستقبل للحصول على الخلاص، والرُّوح سيخبر التَّلاميذ بما حدث للمسيح بعد صعوده، ويُخبرنا بما لنا من مجد معد في السَّماء كما جاء في رسائل بولس الرَّسول: " ما لم تَرَهُ عَيْنٌ ولا سَمِعَت بِه أُذُنٌ ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَر، ذلكً ما أَعدَّه اللهُ لِلَّذينَ يُحِبُّونَهفلَنا كَشَفَه اللهُ بِالرُّوح، لأَنَّ الرُّوحَ يَفحَصُ عن كُلِّ شَيء حتَّى عن أَعماقِ الله"(1 قورنتس 2: 9-10)، والرُّوح القُدُس سيكشف أيضا ليوحنا الرَّسول ما رآه وسجله في سفر الرُّؤيا.

 

14 "سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه

 

تشير عبارة "سيُمَجِّدُني" إلى الرُّوح القُدُس الذي يُمجّد المسيح بقدر ما يُهدي التَّلاميذ تدريجيًا إلى معرفة الحقيقة المُتجليَّة فيه، حيث ينجز عمله القائم على تمجيد الآب. وهكذا تظهر وحدة الوحي التي لا يُمكن ُنقضها. فالآب ُيمجِّد الابن، والابن يُمجِّد الآب، والرُّوح يُمجِّد الابن. كل أقنوم يّمجِّد الآخر.  أمَّا عبارة "يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه" فتشير إلى الوحي الواحد الذي نقله يسوع، والرُّوح ينقله أيضًا. كل شيء ينطلق من الآب في الابن بوساطة الرُّوح القُدُس. وهذا هو عمل ثالوثي واحد.

 

15 جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي ولِذلكَ قُلتُ لَكم إِنَّه يأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم

 

تشير عبارة "جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي" إلى علاقة الوَحدة والمَحبَّة بين الأقانيم الثّلاثة الإلهيَّة. تتقاسم الأقانيم كل شيء بينها، وتشترك في الأخذ والعطاء، ويؤكد يسوع ذلك بقوله "جَميعُ ما هو لي فهو لَكَ وما هو لَكَ فهو لي وقَد مُجِّدتُ فيهِم" (يوحنا 17: 10). فكل ما يُخبرنا به الرُّوح القُدُس عن مجد المسيح هو يخصُّ مجد الآب أيضًا. والرُّوح القُدُس يُعرفنا باستمرار عن الآب والابن وعَلاقة الآب بالابن التي هي موضوع خلاصنا. ونستنتج من هنا لَما كان الابن بسبب ولادته الأزلية، يملك كل ما يملكه الآب، إلا الأبوة، وجب أن يملك الابن أيضا القدرة على نفخ الروح. وهكذا الرُّوح القدس ينبثق من الآب والابن كمن مبدأ واحد. في هذا الصدد يقول القديس كيرلس الإسكندري: "الروح القدس هو من ذات جوهر الآب والابن". ويوضح يوحنا الدمشقي أنَّ الروح القدس ينبثق من الآب بواسطة الابن" (الإيمان القويم 1:8:12). فالروح القدس هو عطية محبة الآب والابن المتبادلة. (أعمال الرسل 2: 38).  أمَّا عبارة "يأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم" فتشير إلى المجد الحقيقي ليس هو تجلِّي قدرة الآب والابن، بل تجلِّي وحدة حبّهما التي للتلاميذ نصيب فيها. فنحن نسجد للثالوث في الأقانيم، وللوحدة في الجوهر، وللتساوي في الجلال.

 

 

 ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (يوحنا 17: 11-19)

 

بعد دراسة وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 15: 26-27 و16: 1-15) يمكن الاستنتاج أنه يتمحور حول نقطتين: مُهمَّة الرُّوح القُدُس وحلوله يوم العَنْصَرة.

 

1. مُهمَّة الرُّوح القُدُس (يوحنا 15: 26-27)

 

في آخر أوقات يسوع التي قضاها مع تلاميذه على الأرض كان يُنبِّههم من الاضطهاد، ويُخبرهم إلى أين هو ذاهب، ومتى يتركهم ولماذا. ولكنَّه يؤكد لهم انه لن يتركهم وحدهم، بل يُرسل إليهم الرُّوح القُدُس لكيلا يتزعزع إيمانهم. فكلمة الرُّوح القُدُس مُشتقَّة من لفظة "روح" ترجمة للفظة العبريَّة "רוּחַ" ومعناها نفس، هواء، ريح. أمَّا روح وقدس فهما صفتان الهيتان يشترك فيها الأقانيم الثّلاثة. وبجمع هاتين اللفظتين يدل الكتاب المقَدّس والليتورجيا واللاهوت على أقنوم الرُّوح القُدُس. وهو روحٌ ينبثق من الآب، ولكن ليس بذات الطَّريقة التي يصدر بها الابن، فالابن يصدر بالولادة أمَّا الرُّوح القُدُس يصدر بالانبثاق "رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب " (يوحنا 15: 26)؛ وعليه فإن "الرُّوح القُدُس" اسم علم مَن نعبده ونمجِّده مع الآب والابن كما جاء في توصيات المسيح للرسل: "عَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوح القُدُس" (متى 28: 19). وان إنجيل يوحنا يتكلّم عن الرُّوح على أنَّه شخص يتميّز عن الآب والابن ولكنَّه، مع الآب والابن، يسكن في المؤمنين ويعمل فيهم (يوحنا 14:16 -19). ويشير الكتاب المقَدّس إلى الرُّوح القُدُس برموز كثيرة واهمها، الماء، (1 قورنتس 12: 13) والنَّار (لوقا 3: 16)، والغمام (لوقا 9: 35)، والرِّيح، وتنتمي هذه الرُّموز إلى عَالَم الطَّبيعة. إنها تشير خاصة إلى حضور وإلى نمو لا يُقاوم، متجهًا دومًا نحو العمق.

 

ينطلق عمل الرُّوح القُدُس دائمًا من الباطن، ونتعرّف عليه أيضًا من الباطن: "أَنتُم فتَعلَمون أَنَّه يُقيمُ عِندكم ويَكونُ فيكم" (يوحنا 14: 17). وتختصر وثيقة المجمع الفاتيكاني الثّاني "نور الشُّعوب " مُهمَّة أرسال الرُّوح القُدُس في الجماعة الأولى " ولمّا أُنجزَ العملُ الذي كلَّف الآبُ ابنَه بتحقيقه على الأرض (يوحنا 17: 4)، أُرسِل الرُّوح القُدُس، في يومِ العَنْصَرة، لكي يُقدِّسَ الكنيسةَ باستمرار، فيَكفَلَ للمؤمنين الوصولَ إلى الآبِ بالمسيحِ في وحدَةِ الرُّوح (أفسس 2: 18). وبه يُعطي الآبُ الحياةَ للذين ماتوا بالخطيئة، إلى يومِ يَبعثُ في المسيحِ أجسادَهم المائتَةَ" (رومة 8: 10-11). (نور الشُّعوب، رقم 4).  ويستخدم يوحنا البشير في هذا النَّص الإنجيلي لقبين للروح القدس وهما: المُؤيِّد وروح الحَق.

 

1.1. روح المُؤَيِّدُ

 

عندما يعلن يسوع مجيء الرُّوح القُدُس يُسميه المُؤَيِّدُ وباللغَّة اليونانيَّة الباراقليط (παράκλητος)، أي المحامي أو المُعزّي. وتحمل كلمة "المُؤيِّد" أيضًا في طياتها عمل العون والتَّشجيع والتَّعزية والدفاع. ويوحي إلينا هذه اللقب طبيعة المعركة، إذ سيأتي الرَّبّ للدِّفاع عن أحبائه. الإنسان هو دومًا مُهدَّد ومُعرَّض لمجابهة الشَر والشَقاء وإبليس: أي الخطيئة والمعاناة والشَيطان. ويعي يسوع هذه الأمور ويأخذ على عاتقه الدفاع عن الإنسان كي يُخلَّصه من براثن الخطيئة والموت والشَيطان. فالرُّوح القُدُس يحلّ محلّ المسيح بعد قيامته ليؤيِّد التَّلاميذ (يوحنا 14:26)، وليجعلهم يفهمون الواقع العميق لعمل المسيح، وليكشف لهم معنى هذا الزَّمن السِّريّ الذي يعيشونه: زمن حضور جديد للربّ، زمن اتحاد جديد معه (يوحنا 16:13-15) ويساعدهم على فهم ٍمتجدّدٍ لكلماته كما أعلن يسوع لهم: " ولكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوح القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم " (يوحنا 14: 26). إذ يرسل الآب مُؤيِّدا أي روحه القدوس ليُثبِّت التَّلاميذ على شَهادتهم منتهى الدهر. وباختصار، مُهمَّة المُؤيِّد موجّهة نحو القضايا الكبرى: الخطيئة والبِر والدَّينونة. إنَّه يؤيدنا، وذلك بأنه يُبكت العالم على الخطيئة والبِرّ والديَّنونة.

 

أ) يخزي العَالَم على الخطيئة

 

تفضح قوَّة الرُّوح القُدُس الخطيئة وتكشف طبيعتها الحقيقيَّة في صورة عدم إيمان كما ورد في الكتاب: "أَمَّا على الخَطيئَة فَلأَنَّهم لا يُؤمِنونَ بي" (يوحنا 15: 9).  فالرُّوح القُدُس أفحم العَالَم بشأن الخطيئة، وبيَّن أنَّ الخطيئة كانت في رفضه للمسيح. فعلينا ألاَّ نكون بالخطيئة شركاء الذين حكموا على المسيح بصَّلب جديد له كما جاء في رسالة العبرانيِّين "يَصلِبونَ ابنَ اللّهِ ثانِيَةً" (عبرانيِّين 6: 6). الرُّوح القُدُس يبكت الإنسان على خطاياه، بقصد أن يعطى معونة والغفران للخاطئ ليتخلص من خطيته "الرُّوحَ أَيضًا يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا" (رومة 8: 26) ويجعله في شركة مع المسيح. فكل مَن يؤمن بالمسيح وتكون له هذه الشَركة، يرفع المسيح عنه خطاياه: " ودَمُ يسوعَ ابنِه يُطَهِّرُنا مِن كُلِّ خَطيئَة" (1 يوحنا 1: 7). فالخطيئة هي داء البشريَّة. والمسيح أتى لرّفع الخطيئة عن كلِّ من يؤمن به. وهذا هو المدخل للمسيحيَّة الرُّوح القُدُس يدعو للإيمان بالمسيح، فلا أحد يستطيع أن يقول المسيح رب إلاّ بالرُّوح القُدُس (1 قورنتس 12: 3)، والإيمان الحَي بالمسيح هو الطَّريق الوحيد للتوبة وغفران الخطايا والخلاص.

 

ب) يخزي العلم على البِرِّ

 

 يبكِّت الرُّوح القُدُس الإنسان على الخطيئة. ثم يبكته على البِرِّ. " وأَمَّا على البِرّ فلأَنِّي ذاهِبٌ إلى الآب" (يوحنا 15: 10).  لماذا يبكته على البِرِّ؟ لأنَّه لم يستخدم البِرِّ، أي عمل الخير. كان البِرّ بحسب المفهوم اليهودي هو الالتزام بالشَريعة. والعيب لم يكن في الشَريعة، بل فيمن ينفذ الشَريعة حيث أنَّ العَالَم كان غارقًا في عباداته الوثنيَّة وفجوره وزناه. فالمسيح فضح بِرّ اليهود الكاذب، إذ صلبوه، وفضح فساد القانون الرُّوماني، إذ حكم عليه بالموت ظلمًا. وبعد المسيح فقد تغيَّر مفهوم البِرّ. فالمسيح وحده هو البار والذي ظهر بِرّه في ذَهابه إلى آبيه وجلوسه عن يمينه، وقبول الآب له.

 

من ناحية، يبكت الرُّوح القُدُس المؤمن على عدم وجود بِرّ في حياته أو بشعوره بالبِرّ الذاتي، ومن ناحية أخرى يُثبِّت المؤمن في المسيح، ويُثبِّت حياة المسيح فيه، فيكون قادرًا على عمل أعمال البِرّ. فمن آمن بالمسيح يجب أن يمارس أعمال بِرّ إيجابيَّة، إيمان عامل بمحبة أي يكون له نفس البِرّ الذي للمسيح كما عاش بولس الرَّسول "أَستَطيعُ كُلَّ شيَءٍ بِذاكَ الَّذي يُقوِّيني" (فيلبي 4: 13). وقد بيّن الرُّوح القُدُس للعالم أن البار القدُّوس هو المسيح الذي أقامه ألاب من بين الأموات. فقبله الآب وأدخله المجد السَّماوي واظهر إمكانيَّة الحصول على البِرّ لأي أنسان يؤمن بالمسيح.

 

بعد التَّوبة يبدأ الرُّوح القُدُس في دعوتنا للعيش في بِرّ المسيح عن طريق التَّمثل به والثّبات فيه (2 قورنتس 1: 21) فتكون لنا حياة المسيح فنعمل أعمال البِرّ. ويقوم بِرّنا ليس فقط بتجنُّب الخطيئة فحسب (يوحنا 8: 46)، إنما بالتَّجدُّد الرُّوحي الباطني بنعمة المسيح وحياته فينا كما جاء في توصيات بولس الرَّسول " تَشتَدُّوا بِروحِه، لِيَقْوى فيكمُ الإِنسانُ الباطِن، وأَن يُقيمَ المسيحُ في قُلوبِكم بالإِيمان" (أفسس 3: 16-17).  فالرُّوح القُدُس يُذكِّرنا بأقوال المسيح ويُعلِّمنا وصاياه (يوحنا 14: 26)، ويُقنعنا أننا قادرين على السلوك في بِرّ المسيح ليس بقدرتنا بل بحياة المسيح فينا، الذي وإن لم نراه بالجسد، لكنَّه يعطينا حياته وبِرّه كما اختبره بولس الرَّسول: " فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ. وإِذا كُنتُ أَحْيا الآنَ حَياةً بَشَرِيَّة، فإِنِّي أَحْياها في الإِيمانِ بِابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن ًاجْلي"(غلاطية 2: 20). القرار قرارنا والاختيار اختيارنا: أن نحيا في بِرّ المسيح أو نحيا مهزومين. فنحن في المسيح قادرون على غلبة الخطيئة والسلوك في البِرّ.

 

ج) يخزي العَالَم على الدَّينونة

 

"أَمَّا على الدَّينونة فَلأَنَّ سَيِّدَ هذا العَالَم قد دِين" (يوحنا 15 :11)؛ وبهذا المفهوم صارت الدَّينونة الآن بحسب مفهوم الرُّوح القُدُس هي رفض المؤمن للخلاص والبِرّ والمجد الأبدي، وإصراره على عدم التَّوبة. يبكت الرُّوح القُدُس النَّاس لأنَّهم رفضوا الخلاص وأطاعوا الشَيطان "منِ ارتَكَبَ الخَطيئَة كانَ مِن إِبْليس (1 يوحنا 3: 8)، ومن يرفض الخلاص يظل عبدًا للشيطان " كُلُّ مَن يَرتَكِبُ الخَطيئَة يَكونُ عَبْدًا لِلخَطيئَة"(يوحنا 8: 34). ومن المؤكِّد أن الله سيَدين كلَّ من ظل تابعًا للشَّيطان (رؤية 19: 20)؛ أمَّا المؤمنين فصاروا مُبرَّرين مجانًا بنعمة الفداء كما جاء في تعليم بولس الرَّسول:" بُرِّروا مَجَّانًا بِنِعمَتِه، بِحُكمِ الفِداءِ الَّذي تَمَّ في المَسيحِ يَسوع "(رومة 3: 24). والرُّوح يدين من يزال يعتذر بأن الخطيئة أقوى منه. والدينونة على إبليس كانت نتيجة طبيعيَّة لظهور بِرّ المسيح.

 

قيامة المسيح هي الضمان لدحر رئيس هذا العَالَم، لأنَّ الرُّوح القُدُس أبطل الحُكم الذي صدر بحق المسيح من قِبل العَالَم ومن يتحكَّم بالعَالَم، وتحديدًا الشَيطان الرَّجيم، فأظهر المسيح غلبته على الشَيطان كما أعلن المسيح "الَيومَ دَينونَةُ هذا العَالَم. اليَومَ يُطرَدُ سَيِّدُ هذا العَالَم إلى الخارِج"(يوحنا 12: 31). أظهر دينونة المسيح للشَّيطان، فصار المسيح الذي غلب الشَيطان ديانًا للأحياء والأموات.

 

يبكت الرُّوح القُدُس المؤمن الذي مازال يدّعي أن إبليس له سلطان عليه، لذلك يبكت من لا زال خائفًا من أحكام ودينونة العَالَم الذي رئيسه إبليس بعد أن ظهر أن أحكامه باطلة. ويحاول الإنسان أن يتحجج بأن إبليس هو سبب الخطيئة، وأنه لا يسلك في البِرّ بسبب قوَّة إبليس، ولكن السَّيد يعلن بصراحة أن إبليس قد دِين وأن لنا سلطان أن ندوسه كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "فإِنَّ الرُّوحَ أَيضًا يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا"(رومة 8: 26).  نحن بلا عذر فالرُّوح "يَجودُ بنِعمَةٍ أَعظَم" (يعقوب 4: 6).  فالرُّوح القُدُس ثبَّتنا في المسيح فصرنا كاملين، فصار الشَيطان غير قادر أن يشتكي علينا. وصار لنا نحن المؤمنين سلطانُ عليه. لأنَّ قوَّة الرُّوح القُدُس أعظم بكثير من قوَّة هذا العدو المهزوم. بالرُّوح القُدُس حصلنا على إدانة الخطيئة، وهزيمة إبليس، وانتصار بِرّ الله (يوحنا 16: 8-11). نحن إذًا بلا عذر.

 

بتعبير آخر، فان عمل الرُّوح القُدُس يقوم على تقديم البرهان للعالم على الخطيئة وإقناعه بخطيئته، وإظهار إمكانيَّة الحصول على بِرّ الله لأي إنسان مؤمن، وإظهار دينونة المسيح للشَّيطان، سيِّد هذا العَالَم. ومن هذا المنطلق، يعطي يسوع الرَّجاء لتلاميذه عن طريق الرُّوح القُدُس المُؤيِّد، فالرُّوح القُدُس يعطي القوَّة لتحمل البغض والشَر في العَالَم، والكراهيَّة والعداء الذي سيحمله الكثيرون للمسيح. أن هذا الأمر معزٍ بصفة خاصة لمن يواجهون الاضطهاد.

 

1.2 روح الحق

 

لا يُطلق يسوع على الرُّوح القُدُس لقب روح" المُؤيِّد" بل أيضا بلقب آخر وهو "روح الحق". أن "الحقّ" بحسب فكر الإنجيلي هو يسوع ذاته (يوحنا 14: 6)، وهو قريبٌ منا ويتحدث إلينا عن يسوع، ويقوم بتكرار كلمات يسوع نفسها الذي هو الكلمة الأخيرة والنهائية، التي نحتاجها لخلاصنا. لهذا السبب، لا يتحدث عن نفسه (يوحنا 15: 26) ولا يتحدث من ذاته (يوحنا 16: 13) بل ما سمعه هو نفسه. فهو روح الحق (يوحنا 16: 13).

 

يشير هذا اللقب إلى عمل التَّعليم والإنارة والتَّذكير والتَّحرير الذي يقوم به الرُّوح. ومع روح الحق لا سبيل إلى الخوف والتَّخبط والضلال. لا يفهم التَّلاميذ كل الحقائق التي تفوه بها يسوع، فروح الحق يرشدهم إلى الحق كله كما وعد يسوع: "أَرشَدكم إلى الحَقِّ كُلِّه (يوحنا 15: 13) ويُحرِّرهم (يوحنا 8: 32)، ويشهد لإتمام قصد الله في المستقبل، ويُمجد الآب بإعلان عمله (يوحنا 15: 14-15).

 

لا يتكلم الرُّوح القُدُس عن نفسه. إنَّه يعلن ويُفسِّر أهميَّة الأعمال والحوادث وأقوال السَّيد المسيح. وقد أعلن يسوع إرساليَّة الرُّوح القُدُس (يوحنا 16: 1-15) كي يكونوا تلاميذه على استعداد للمواجهة حتى الاستشهاد بسبب كراهيَّة العَالَم وبغضه. إن الرُّوح القُدُس سيخبرهم بالمستقبل. أي بطبيعة إرساليتهم، وبالمقاومة التي سيوجهونها وبالنَّتيجة النِّهائيَّة لجهودهم. ولم يفهم التَّلاميذ تمامًا هذه الوعود إلى أن جاء الرُّوح القُدُس بعد موت المسيح وقيامته. حينئذ أعلن الرُّوح القُدُس للتَّلاميذ الحقائق التي سجلوها في الأسفار التي شكلت كتاب العهد الجديد.

 

مُهمَّة روح الحق تحرير المؤمن وتقويته. حيث أنَّه القوَّة الوحيدة القادرة على وقف تيّار الشَرِّ وإعاقته والتَّصدّي له، إذ يعطي القوَّة لتحمل البغض والشَر في العَالَم، والكراهيَّة والعداء الذي يحمله الكثيرون للمسيح وأتباعه. إن هذا الأمر مُعزٍّ خاصة لمن يواجهون الاضطهادات. وقد تنبأ يسوع عن صعوبة الحياة المسيحيَّة. ونقرأ في أعمال الرُّسل عن أنواع العذابات التي تعرَّض إليها بولس الرَّسول، إذ قام اليهود باضطهاده، واتهموه، وجلدوه، وسجنوه، ونال شَهادة الاستشهاد في سبيل إيمانه.

 

يصطدم نشر الإنجيل اليوم بنفس الصُّعوبات والمحاولات التي تسعى إلى خنقه. حيث أنَّ المسيحي هو عرضة للشَّكِّ والاتِّهام والاضطهاد. فهو بحاحة إلى الرُّوح القُدُس، المُؤيِّد. وكلما ازددنا تعطشا للحق، ازددنا شَهادة له. يتوجب على الإنسان أن يكون مع المسيح حتى يُصبح الإنسان شاهدًا. يعني إن يعرف الآب وان يعرف الابن. هذه هو الشَرط الأساسي كي يصبح الإنسان شاهدًا على مثال المسيح نفسه الشاهد الأمين الصَّادق (رومة 1: 5) ليس لمجد الآب وكماله فقط، بل لإرساليته (أي المسيح) الإلهية ولتعميم ملكوته.

 

1.3 روح القُدُس

 

يأتي الرُّوح من الله ويوجَّه نحو الله فهو روحُ قدُس، لأنَّه منبثق من الله القدوس ويمنح القداسة. إذ يقدَّس الإنسان في اتجاهات ثلاثة الخلاص، والشَّهادة والتَّقديس:

 

1) الخلاص، يقيم روحُ الله رسلا. فنرى صيادي السَّمك يتحوَّلون فجأة إلى "صَيَّادَيْ بَشر" (متى 4: 19)، فيصبحون لا أهلا للإتيان بأعمال خارقة في الجُرأة والقوَّة فقط، بل يتمتعون أيضأ بشخصيَّة جديدة تُمكِّنهم من القيام بدور قيادي وإتمام رسالة الخلاص. ولا ينزل الرُّوح فقط، بل يستقر (أشعيا 11: 2)، وفيه سوف يُفجِّر كل مواهبه: "حكمة وفهم" (خروج 35: 31) و"مشورة وقوَّة" و"معرفة ومخافة الله"، وستكون هذه المواهب فاتحة لعهد قداسة وخلاص (أشعيا 11: 9). وإن كانت الكلمة "تنمو وتنتشر" في الجماعة المسيحيَّة الأولى (أعمال الرُّسل 6: 7)، فترجع القوَّة الداخليَّة لهذا الانطلاق إلى الرُّوح كما جاء في سيرة الجماعة المسيحيَّة الأولى: " وأَمَّا التَّلاميذ فكانوا مُمتَلِئينَ مِنَ الفَرَحِ ومِنَ الرُّوح القُدُس" (أعمال الرسل 13: 52).

 

2) الشَّهادة: ترتبط الشهادة في إنجيل يوحنا بفيض الرُّوح. الرّوح يشهد للابن الإلهي ولإتمامه سرّه الفصحي، وفي ذات الوقت التلاميذ، وهم بمثابة شهود عيّان (أعمال الرسل 1-2). فهناك مثلا شهادة يوحنا المعمدان: "شَهِدَ يوحَنَّا قال: "رَأَيتُ الرُّوحَ يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ كأَنَّه حَمامَة فيَستَقِرُّ علَيه. وأَنا لَم أَكُنْ أَعرِفُه، ولكِنَّ الَّذي أَرسَلَني أُعَمِّدُ في الماءِ هو قالَ لي: إِنَّ الَّذي تَرى الرُّوحَ يَنزِلُ فيَستَقِرُّ علَيهِ، هو ذاكَ الَّذي يُعَمِّدُ في الرُّوحِ القُدُس. وأَنا رأَيتُ وشَهِدتُ أَنَّه هو ابنُ الله" (يوحنا 1: 32-34). كما أن يسوع قد شهد لأبيه السَّماوي بكل حياته (يوحنا 5: 41)، كذلك تلاميذه وأتباعه عليهم أن يؤدُّوا الشَهادة للرَّب (يوحنا 15: 27). واليّوم شهادتنا كمؤمنين بسرّ يسوع الفصحي الّذي يجد ملئه في فيض رّوحه علينا، فما علينا إلّا أن نكون شهوداً عن سخائه وعطية رّوحه القدوس لنا بناء على توصية يسوع "مَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي وأَنتُم أَيضاً تَشهَدون لأَنَّكُم مَعي مُنذُ البَدْء" (يوحنا 15: 26-27).

 

طالما كان يسوع يعيش بينهم، لم يخشوا شيئًا، فكان هو بالنِّسبة إليهم الرُّوح الباراقليط الحاضر دائمًا للدفاع عنهم وإنقاذهم من مضايقهم (يوحنا 17: 32). أما بعد رحيله عنهم، فإن الرُّوح سوف يحلّ محله، ليكون لهم الباراقليط (يوحنا 14: 16). وإذ يتميز الرُّوح القُدُس عن يسوع، إلاّ أنه لن يتكلم باسمه الخاص، وإنما دائمًا عن يسوع الذي لا ينفصل عنه والذي "سوف يُمجده" (يوحنا 16: 13-14). كذلك سوف يُذكّر الرُّوح التَّلاميذ بأعمال المسيح وأقواله، ويُعطيهم نعمة فهمها (يوحنا 14: 26)، وسوف يُسبغ عليهم القوَّة حتى يشهدوا لقدرة الله، ويواجهوا العَالَم باسم يسوع ويكتشفوا معنى موته، وليؤدُّوا شَهادة السَّر الإلهي الذي تحقق من خلال هذا الحدث؛ إنّ موهبة الرُّوح القُدُس هي التي تؤهّل للرِّسالة وتقوّي شهادتنا بجعلها صريحة وشُجاعة. والرُّوح القدس يُحي فينا أكثر إذا شهدنا للمسيح كما صرّح يسوع " ومَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي" (يوحنا 15: 26).

 

3) التَّقديس: الرُّوح القُدُس لا يشهد فقط بل يقدّس أيضًا (2 قورنتس 1: 22)، لأنَّه روح الله القدُّوس. ويقوم عمل الرُّوح القدس في تقريبنا إلى الله، ووضعنا في صلة حيَّة معه، وفي إدخالنا إلى أعماقه المقَدّسة. وهو يكفل للمؤمن التَّبنّي الإلهي وافتداء الجسد الذي كان عبدًا للخطيئة (رؤيا 8:20-22). وهكذا يُصبح الجسد روحيًا بالقيامة (1قورنتس 15:44)، فالرُّوح القُدُس الذي يُحيي ويقدّس، يتّحد اتحادًا حميمًا بالمسيح حيث يقول بولس الرسول: نتقدّس في المسيح. أو: نتقدّس في الرُّوح القُدُس (رومة 15:16). فهبة الرُّوح القُدُس هي حضور مجد الرَّبّ فينا، الذي يُحوِّلنا إلى صورته. لذلك فإن بولس لا يفصل ما بين المسيح والرُّوح، ما بين الحياة "في المسيح" والحياة "في الرُّوح". الحياة للمسيحي "هي المسيح" (غلاطية 2، 20). فمن يكون "في يسوع المسيح" (رومة 8: 1) يسلك في سبيل "الرُّوح" (رومة 8:5). ولذا يدعونا الرُّوح إلى محاربة الجسد "فإِذا كُنَّا نَحْيا حَياةَ الرُّوح، فلْنَسِرْ أَيضًا سيرَةَ الرُّوح" (غلاطية 5: 25)، ولا نحزن الرُّوح بخطايانا كما يوصي بولس الرَّسول "ولا تُحزِنوا رُوحَ اللّه القُدُّوسَ الَّذي به خُتِمتُم لِيَومِ الفِداء"(أفسس 5: 18).

 

أجمل مثال على تلك التقديس هي الطوباوية مريم بوادري كما عرّفها البابا فرنسيس يوم إعلانها قديسة فقال: "اختبرتُ بشكل قويّ الأخت مريم بواردي، المتواضعة والأُميّة المحبَّة الأزليّة بين الآب والابن والتي تفيض فينا بواسطة الرُّوح القُدُس (رومة 5:5) فعرفت أن تقدم نصائح وشروحات لاهوتيّة بوضوح فائق، كثمرة للحوار المُستمرّ مع الرُّوح القُدُس. لقد جعلتها الطَّاعة للرُّوح القُدُس أيضًا أداة لقاء وشركة مع العَالَم المسلم".

 

لا نتردَّد أن نلجأ إلى الرُّوح القُدُس، المُؤيِّد، وروح الحق، في ظلام التَّجارب والشَك واليأس، وفي طلب التَّفهم الأعمق لإسرار الله كما يوضِّح بولس الرَّسول: " فلَنا كَشَفَه اللهُ بِالرُّوح، لأَنَّ الرُّوحَ يَفحَصُ عن كُلِّ شَيء حتَّى عن أَعماقِ الله. فمَن مِنَ النَّاسِ يَعرِفُ ما في الإِنسانِ غَيرُ روحِ الإِنسانِ الَّذي فيه؟ وكذلِكَ ما مِن أَحَدٍ يَعرِفُ مما في اللهِ غيرُ رُوحِ اللّه " (1قورنتس 2: 10-11). 

 

2) حلول روح القُدُس في العَنْصَرة

 

يصف القديس لوقا أحد العَنْصَرة في سفر أعمال الرسل (2: 1-13) مُبيّنا أنَّ العَنْصَرة المسيحيَّة تختلف عن العَنْصَرة اليهوديَّة بمضمونها وعلاماتها ورسالتها.

 

(1) مضمون العَنْصَرة:

 

"لَمَّا أَتى اليَومُ الخَمْسون" كان اليهود يحتفلون بعد الفصح بخمسين يومًا بعيد العَنْصَرة، عيد الحصاد (خروج 23: 16) وكان يدعى عيد الأسابيع הַשָּׁבֻעוֹת (خروج 34: 22). ثم أصبح العيد في القرن الثّاني قبل الميلاد ذكرى نزول الشَريعة على جيل سيناء بعد خروج الشَعب من مصر، لأنَّ الشَريعة أعطيت خمسين يوما من بعد الفصح اليهودي. ومنها جاء الاسم اليوناني للعيدπεντηκοστή (معناها خمسون)، وفي الإنكليزيَّة Pentecost. أمَّا لفظة عِنصرة فهي لفظة عبرانيَّة עצרה ومعناها الاجتماع. وهو عهد بين الله والشَعب العهد القديم، وهو أحد الأعياد السَّنويَّة الثّلاثة الكبرى عند اليهود مع عيد الفصح وعيد المظال. في عيد العنصرة يحتفل اليهود بعطيَّة الشَّريعة وبنبوءة الأنبياء بفيض الروح على كل جسد كما جاء في نبوءة يوئيل "وسيَكونُ بَعدَ هذه أَنِّي أُفيضُ روحي على كُلِّ بَشَر فيَتَنَبَّأَ بنوكم وبَناتُكم ويَحلُمُ شُيوخُكم أَحْلاماً ويَرى شُّبانُكم رُؤًى " (يوئيل 3: 1).

 

في حين تقوم العَنْصَرة المسيحيَّة على أنَّ الرَّبّ يسوع قد صُلب في الفصح، وصعد إلى السَّماوات بعد أربعين يوما، وبعد عشرة إيام من صعوده أي بعد خمسين يومًا من الفصح حلَّ الرُّوح القُدُس على التَّلاميذ تتميمًا لنبوءة يوئيل 3: 1). فالعَنْصَرة هي تتويج للفصح المسيحي، لآنَّ المسيح بعد إن أنهى عمله على الأرض، وانتقل إلى يمين الآب، أرسل الرُّوح القُدُس للجماعة الرَّسوليَّة لكي يُنير أذهانهم فيفهموا الكتب المقَدّسة ويدركوا أقوال الرَّبّ يسوع التي ألقاها عندما كان معهم.

 

هناك فرق آخر، في العَنْصَرة المسيحيَّة مع العنصرة اليهودية حيث نجد عهدًا جديدًا لا مع شعب واحد كما هو في العَنْصَرة اليهوديَّة، بل مع البشريَّة كلها من الأقطار الأربعة. ورأى لوقا البشير في تجمع المسيحيِّين بقلب واحد في يوم العَنْصَرة صورة تجمع الكنيسة، بعكس برج بابل حيث تشتت البشريَّة (تكوين 11: 1). كما رأى لوقا في " امتلاء جميع أعضاء الجماعة المسيحيَّة الأولى مِنَ الرُّوح القُدُس" (أعمال الرسل 2: 4)، تتميمًا لنبوءة يوئيل عن فيض الرُّوح القُدُس على الجميع دون تمييز (يوئيل3: 2). وفي يوم عنصرة المسيحية وُلدت الكنيسة في أورشليم، أمّ الكنائس كلّها، وانطلقت للتَّبشير بالإنجيل الطَّاهر لجميع الشُّعوب والشهادة للمسيح عبر جميع الأزمنة.

 

يقارن ايرونيموس العَلاَّمة بين العَنْصَرة اليهوديَّة والمسيحيَّة فيقول: "هناك سيناء وهنا صهيون... هناك الجبل المتزلزل وهنا البيت المهتز، هناك الجبل المتَّقد بالنَّار، وهنا الألسنة من نار.... هناك الرُّعب الصَّاخب، وهنا أصوات ألسنة كثيرة ... هناك رنين الأبواق، وهنا نغمات بوق الإنجيل". فالعَنْصَرة بمثابة اعتماد للرُّسل بالرُّوح القُدُس قبل ابتداء مهمتهم التَّبشيريَّة كما أنَّ المسيح اعتمد بالرُّوح على يد يوحنا المعمدان قبل حياته بالكرازة العلنيَّة.

 

(2) علامات العَنْصَرة:

 

أعلن الله عن حلول الرُّوح القُدُس بثلاث علامات منظورة: "دَوِيٌّ وأَلسِنَةٌ والتَّكلم بلغات غَيرِ لُغَتِهِم.

 

العلامة الأولى: "دَوِيٌّ كَريحٍ عاصِفَة" (أعمال الرسل 2: 2 أ)، وهو بمثابة صوت من هبوب الرِّيح "مَلأَ جَوانِبَ البَيتِ" (أعمال الرسل 2: 2ب، وهذا الصَّوت يُذكرنا في الرَّعد لدى تجلي الله لموسى في جبل سيناء (الخروج 19: 16)، والبيت أو العِليَّة هو مكان اجتماع وصلاة لجماعة الرُّسل. قد يعمل الله في حياتنا بطرق صاخبة كما في يوم العَنْصَرة أو قد يتحدث إلينا بهمس هادئ كما حدث مع إيليا النَّبي (1 ملوك 19: 11).

 

العلامة الثّانية "ظَهَرَت أَلسِنَةٌ كأَنَّها مِن نارٍ" (أعمال الرسل 2: 3): فاللسان يدلُّ على الكلام، والنَّار تدل على الله. وهكذا صار كلامُ الرُّسل كلامَ الله بما فيه من قوَّة تُحرق خبث الإنسان وتُشعل في قلبه محبَّة للآخرين. كما على جبل سيناء أكَّد الله على صدق وصلاحيَّة شريعة العهد بنار من السَّماء (خروج 19: 16)، كذلك في يوم العَنْصَرة أكَّد الله على صِدق وصلاحيَّة خدمة الرُّوح القُدُس بالسَّنة النَّار. وعلى جبل سيناء نزلت النَّار من السَّماء على موضع واحد، أمَّا في اليوم الخمسين فنزلت ألسنة النَّار على مؤمنين كثيرين، رمزًا إلى حضور الله في حياة الإنسان الذي صار متاحًا لكل من يؤمن به دون تمييز أو تفرقة. والجدير بالذكر أن الريح والنَّار هما من علامات الظهور الإلهي اللتين ظهرتا يومّ تسليم الشريعة لموسى ظهرتا أيضًا في العِلّية في حدث العنصرة.

 

العلامة الثّالثة: هي "التَّكلم بلغات غَيرِ لُغَتِهِم" (أعمال الرسل 2: 4). العَنْصَرة نفسها مُعجزة ونتيجة لهذه المعجزة، ابتدأ الرُّسل يتكلمون "بألسِنة" ليُخبروا بعجائب الله. والتَّكلم "بألسِنة" هي نوع من نبوءة. ويُحذر بولس الرَّسول من مزايداتها قائلا: "إِنِّي، والحَمدُ لله، أَتَكلَّمُ بِلُغاتٍ أَكثَرَ مِمَّا تَتكلَّمونَ كُلُّكُم، ولكِّني أُوثِرُ أَن أَقولَ وأَنا في الجَماعةِ خَمسَ كلَمِاتٍ بِعَقْلي أُعلِّمُ بِها الآخَرين على أَن أَقولَ عَشَرَةَ آَلافِ كَلِمَةٍ بِلُغات" (1 قورنتس 14: 18-19).  "التَّكلم بلغات غَيرِ لُغَتِهِم" تعني أنَّ البشارة وصلت إلى جميع الشُّعوب في لغاتهم. والأمم الاثني عشرة المذكورة في النَّص ترمز إلى المعمورة. وهذا هو البُعد الشُّمولي لرسالة الكنيسة. ليست المسيحيَّة مقصورة على جنس دون آخر أو جماعة من النَّاس دون أخرى. فالمسيح يُقدّم الخلاص لكلِّ إنسان بغض النَّظر عن جنسيته أو هويته. وهذا ما تفعله الكنيسة اليوم حين تنقل الكتاب المقَدّس إلى لغَّات العَالَم كله.

 

(3) رسالة العَنْصَرة:

 

العَنْصَرة تكملة أو ثمرة قيامة المسيح وصعوده. بالعَنْصَرة يقوم المسيح بدور ربٍ يقدّس ويؤيد الكنيسة بروحه. والكنيسة الواحدة المجتمعة بالرُّوح القُدُس هي التي تتكلم بكلِّ اللغات (أعمال الرسل 2: 33). ويرسل السَّيد المسيح الرُّوح القُدُس لرسله كي يكونوا شهودًا له إلى أقاصي الأرض انطلاقا من اورشليم. ومن هذا المنطلق، عاد كل واحد الذي حلّ عليه الرَّوح إلى موطنه حاملا أخبار الخلاص السَّارة. وهكذا أعدَّ الله السَّبيل لانتشار الإنجيل في قلب العَالَم وإعادة وحدة البشريَّة التي تفكَّكت في برج بابل (تكوين 11: 1-9)، وذلك من خلال رسالة الكنيسة التي تتابع رسالة مؤسسها يسوع المسيح إلى جميع المعمورة.

 

 

الخلاصة

 

بعد أن قدَّم يسوع لتلاميذه طريقًا يبدو في غاية الصُّعوبة، إذ طالبهم أن يثبتوا فيه كالأغصان في الكرمة (يوحنا 15: 5-9)، وسألهم أن يبذلوا نفوسهم حتى الموت، كما بذل هو ذاته من أجل العَالَم، وكشف لهم أخيرًا عن بغض العَالَم واضطهاده لهم... هذا كله صار أشبه بطريق ضيق لا يقدر إنسان ما أن يسلكه، لهذا عزَّهم بوعده بإرسال روحه القدوس الباراقليط، المرشد الحقيقي الذي يحملهم إلى كمال حق المسيح ويُثبتهم فيه، ويهبهم قوَّة الشَّهادة له المجد.

 

يُشدّد الإنجيلي يوحنا على تحقيق الوعد بإرسال الرُّوح القُدُس الذي سيخلف يسوع ويُؤمّن حضوره مع التَّلاميذ ويكون فيهم ويقودهم إلى الحقّ كلّه، فيتمّم كل ما بدأ به يسوع بواسطة الرسل الذين سيؤلفون نواة الكنيسة الأولى التي تتحوّل بفعل حلول هذا الرُّوح إلى كنيسة شاهدة للمسيح ولبشارته الخلاصيّة.

 

باختصار، نجد أن العاملين في قضيَّة خلاص الإنسان هم: الإنسان نفسه والرَّبّ يسوع والشَيطان. فالله يسعى لخلاص الإنسان، والشَيطان يسعى لهلاكه، والإنسان حرٌّ في أن يختار طريق البِرّ أو طريق الشَر. والرُّوح القُدُس أتى ليجذب ويوجِّه الإنسان نحو الفداء، وذلك بأن يبكته على خطاياه، وعلى رفضه للمسيح البار الحقيقي مصدر بِرّه وعلى تبعيته للشَّيطان الذي تمَّت هزيمته. والرُّوح القُدُس لا يبكت فقط بل يعطي أيضا قوَّة وعون على طاعة الله، وقوته أقوى من قوَّة إبليس. فمن رفض الرُّوح القُدُس أغلق باب التَّوبة. ولذا قال الرَّبّ "مَن قالَ كَلِمَةً على ابنِ الإِنسانِ يُغفَرُ له، أَمَّا مَن قالَ على الرُّوح القُدُس، فَلَن يُغفَرَ لَه لا في هذهِ الدُّنيا ولا في الآخِرة" (متى 12: 32).

 

 

دعاء

 

أيها ألاب السَّماوي، أطلب إليك، باسم ابنك يسوع المسيح، أن ترسل روحك القدوس لكي نتجدَّد روحًا وعقلا وقلبًا، فنستوعب كلمات الإنجيل وننتصر على قوى الشَر والشرير ونثمر أثمار الحق والعدالة والقداسة ونكون شهود للمسيح وإنجيله في عالمنا. لك المجد إلى الأبد.  أمين.

 

 صلاة لعيد العَنْصَرة (صلاة جماعة تيزية)

 

تعال، أيّها الإله الحيّ، واجعل أرواحنا هياكل لروحك القدّوس.

عمّد كنيستك كلّها بالنَّار، كي تزول الانقسامات، وكي تقف أمام العَالَم عمودًا ودعامةً لحقّك.

امنحنا ثمار روحك القدّوس: المَحبَةُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق وّالأمانة.

اجعل روحك القدّوس يتحدّث بصوت خُدّامك، عندما يعظون بكلمتك، هنا وفي كلّ مكان.

أرسل روحك القدّوس، المُعزّي، إلى كل من يواجهون الشَدائد، أو من هم ضحايا شرّ البشر.

احفظ جميع الشُّعوب وقادتها من البغض والحروب، وابني جماعة حقيقيَّة بين الشُّعوب، بقوَّة روحك.

 يا أيّها الرُّوح القُدُس، يا ربّ الحياة ومصدرها، يا مانح المواهب السَّبعة. قدّسنا، أيّها المعزّي.

 يا روح الكلمة والفهم، ويا روح المشورة والقوَّة. قدّسنا، أيّها المعزّي.  يا روح المعرفة والتَّقوى، يا روح الطَّاعة للربّ. قدّسنا، أيّها المعزّي.

 

 

قصة واقعيَّة

 

كان الكاهن الإيطالي فولفيو بريشاني في التَّاسعة من عمره عندما توفي والده. أبعده الألم الشَديد عن الله والكنيسة، وأصبح فولفيو شابًا شيوعيّا وقال مؤكدًا "كنت مقتنعًا بأن الشُّيوعيَّة ستغيّر العَالَم". عمل جاهدا، بالمنشورات وبالعضويّة. وأصبح أمين عام لاتحاد الشَباب الشُّيوعي الإيطالي. وهكذا تم انتخابه إلى الأمانة العامة للحزب. درس كيفيّة تجنيد الشَباب.

 

كان هناك قلق إزاء الحركات الكاثوليكيّة التي كانت تنتزع أعضاءه وأصبح مديرًا لحركة الشَباب الشُّيوعي. اهتم بحركة التَّجدد بالرُّوح القُدُس لمعرفة وفهم كيفيّة جذبهم للشباب. لكن هذا اللقاء الذي كان مصحوبًا بالصَّلاة والتَّراتيل فتح قلبه. وعندما بلغ من العمر الرَّابعة والعشرين طلب دخول المعهد الاكليريكي وأصبح كاهنًا ومندوب حركة التَّجدُّد بالرُّوح القُدُس للشَّباب. ويوضح عمل الرُّوح القُدُس فينا بقوله "تتركز ثقافة عيد العَنْصَرة التي تتحدث عنها جماعة التَّجدد بالرُّوح القُدُس على التَّثبيت، لأنه إذا كان الرُّوح فينا، يمكننا أن نصبح جنود المسيح في خدمة الكنيسة". تستند جاذبيّة هذه الحركة على ثلاثة عوامل: الثِّقة بالكنيسة والشَغف بكلمة الله والأسرار المقَدّسة، وبالصَّلاة المستمرّة والفَرِحَة.