موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٠ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٥

مِيلاد يسوع المسيح ودورُ يوسف البَار

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد الرّابع مِن المَجيء: مِيلاد يسوع المسيح ودورُ يوسف البَار (متى 1: 18-24)

الأحَد الرّابع مِن المَجيء: مِيلاد يسوع المسيح ودورُ يوسف البَار (متى 1: 18-24)

 

النص الإنجيلي (متى 1: 18-24)

 

18 أَمَّا أَصلُ يسوعَ المسيح فكانَ أنَّ مَريمَ أُمَّه، لَمَّا كانَت مَخْطوبةً لِيُوسُف، وُجِدَت قَبلَ أَن يَتَساكنا حامِلاً مِنَ الرُّوحِ القُدُس. 19 وكان يُوسُفُ زَوجُها باراًّ، فَلَمْ يُرِدْ أَن يَشهَرَ أَمْرَها، فعزَمَ على أَن يُطلِّقَها سِرّاً. 20 وما نَوى ذلك حتَّى تراءَى له مَلاكُ الرَّبِّ في الحُلمِ وقالَ له: ((يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إِلى بَيتِكَ. فإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، 21 وستَلِدُ ابناً فسَمِّهِ يسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم)). 22 وكانَ هذا كُلُّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ على لِسانِ النَّبِيّ: 23 ((ها إِنَّ العَذراءَ تَحْمِلُ فتَلِدُ ابناً يُسمُّونَه عمانويل)) أَيِ ((اللهُ معَنا)). 24فلمَّا قامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوم، فَعلَ كَما أَمرَه مَلاكُ الرَّبِّ فأَتى بِامرَأَتِه إِلى بَيتِه.

 

 

المُقَدِّمَةُ

 

يَصِفُ إِنْجِيلُ الأَحَدِ الرَّابِعِ (مَتَّى 1: 18–24) مَوْقِفَ القِدِّيسِ يُوسُفَ وَدَوْرَهُ المَحْوَرِيَّ تُجَاهَ مِيلَادِ يَسُوعَ المَسِيحِ، "عِمَّانُوئِيلَ"، أَيْ "اللهُ مَعَنَا"، ذَاكَ الَّذِي يَدْخُلُ شَخْصِيًّا فِي تَارِيخِ البَشَرِيَّةِ وَحَيَاتِهَا. فَسِرُّ المِيلَادِ الحَقِيقِيِّ يَكْمُنُ فِي أَنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ المَسِيحَ، كَلِمَةَ اللهِ الأَزَلِيَّ، صَارَ إِنْسَانًا وَسَكَنَ بَيْنَ النَّاسِ، لِيُعِيدَ وَصْلَ مَا انْقَطَعَ بَيْنَ اللهِ وَالإِنْسَانِ، وَيَتَضَامَنَ مَعَ البَشَرِيَّةِ فِي ضَعْفِهَا وَأَلَمِهَا، إِذِ اتَّخَذَ جَسَدًا قَابِلًا لِلْمَوْتِ، لِيَمُوتَ بِهِ عَنَّا وَمِنْ أَجْلِ خَلَاصِنَا.

 

وَهَكَذَا نَزَلَ يَسُوعُ إِلَيْنَا لِيَرْفَعَنَا إِلَى عُلَاهُ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسْتَحِيلِ عَلَيْنَا أَنْ نَصْعَدَ نَحْنُ إِلَى مَا لَا يُدْرَكُ. لِذَلِكَ يُعَدُّ سِرُّ المِيلَادِ رُكْنًا أَسَاسِيًّا مِنْ أَرْكَانِ الإِيمَانِ المَسِيحِيِّ، إِذْ فِيهِ أَصْبَحَ الرَّبُّ "عِمَّانُوئِيلَ" قَرِيبًا مِنَ الإِنْسَانِ، سَاكِنًا ومُتضامًا مَعَهُ وَمُشَارِكًا لَهُ مَسِيرَتَهُ. وَمِنْ هُنَا تَنْبُعُ أَهَمِّيَّةُ التَّعَمُّقِ فِي وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ، وَتَأَمُّلِ أَبْعَادِهِ اللَّاهُوتِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، وَاسْتِخْلَاصِ تَطْبِيقَاتِهِ العَمَلِيَّةِ فِي حَيَاةِ المُؤْمِنِ اليَوْمَ.

 

 

أولا: وقائع نص الإنجيلي وتحليله (متى 1: 18-24)

 

18 أَمَّا ميلاد يسوعَ المسيح فكانَ أنَّ مَريمَ أُمَّه، لَمَّا كانَت مَخْطوبةً لِيُوسُف، وُجِدَت قَبلَ أَن يَتَساكنا حامِلاً مِنَ الرُّوحِ القُدُس.

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "مِيلَاد" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ γένεσις إِلَى "تَكْوِينِ" يَسُوعَ المَسِيحِ وَأَصْلِ وُجُودِهِ التَّارِيخِيِّ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ المِيلَادُ وِلادَةً حَسَبَ الجَسَدِ وَالدَّمِ، أَوْ وِلادَةً شَرْعِيَّةً بِالتَّبَنِّي. وَإِنَّ أَمْرَ المِيلَادِ الشَّرْعِيِّ، الَّذِي يُثْبِتُهُ نَسَبُ (γένεσις) يَسُوعَ (مَتَّى 1: 1)، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ يُوسُفَ قَبِلَ يَسُوعَ فِي سُلَالَتِهِ وَأَدْخَلَهُ شَرْعِيًّا فِي بَيْتِ دَاوُدَ، كَمَا يَرِدُ فِي الإِنْجِيلِ: "تَرَاءَى مَلَاكُ الرَّبِّ لِيُوسُفَ فِي الحُلْمِ وَقَالَ لَهُ: قُمْ فَخُذِ الطِّفْلَ وَأُمَّهُ" (مَتَّى 2: 13).أَمَّا عِبَارَةُ "مَرْيَمَ أُمَّهُ» فَتُؤَكِّدُ أَنَّ يَسُوعَ وُلِدَ مِنْ مَرْيَمَ حَقًّا. وَلِمَاذَا وُلِدَ السَّيِّدُ مِنِ امْرَأَةٍ، أَوْ مِنْ عَذْرَاءَ؟ يُجِيبُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسُ قَائِلًا: "لَوْ تَجَنَّبَ المِيلَادَ مِنْهَا، لَظَنَنَّا أَنَّ المِيلَادَ مِنِ امْرَأَةٍ يُنَجِّسُهُ. وَلَكِنْ، مَا دَامَ جَوْهَرُهُ لَا يَتَدَنَّسُ، فَلَا خَوْفَ مِنَ المِيلَادِ مِنِ امْرَأَةٍ. انْظُرُوا، لَقَدْ وُلِدْتُ رَجُلًا، وَوُلِدْتُ مِنِ امْرَأَةٍ؛ فَأَنَا لَا أَحْتَقِرُ خَلِيقَتِي، بَلْ أَزْدَرِي بِالخَطِيئَةِ الَّتِي لَمْ أَجْبِلْهَا".

 

وَأَمَّا عِبَارَةُ "مَخْطُوبَةً" فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ μνηστευθείσης، وَهِيَ تُشِيرُ في التقليد اليهودي إِلَى مَرْحَلَةٍ تُعَادِلُ الزَّوَاجَ شَرْعِيًّا، وَلَيْسَتْ كَالخِطْبَةِ المَعْرُوفَةِ فِي تَقَالِيدِنَا الحَدِيثَةِ. وَكَانَتْ تَقْتَضِي فَتْرَةً، فِي الغَالِبِ نَحْوَ سَنَةٍ، تَبْقَى فِيهَا الفَتَاةُ فِي بَيْتِ أَبِيهَا (تَثْنِيَةُ الاِشْتِرَاعِ 20: 7)، وَيُعَدُّ عَدَمُ أَمَانَتِهَا فِي هَذِهِ المُدَّةِ زِنًى يُوجِبُ العِقَابَ. وَإِذَا أَبَى الخَطِيبُ إِتْمَامَ الوَعْدِ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَهَا كِتَابَ طَلَاقٍ حَسَبَ شَرِيعَةِ الزَّوَاجِ. وَفِي هَذِهِ الفَتْرَةِ حَمَلَتِ العَذْرَاءُ بِيَسُوعَ.

 

أَمَّا "يُوسُفُ" فَاسْمٌ عِبْرِيٌّ יוֹסֵף، مَعْنَاهُ "يَزِيدُ". وَهُوَ زَوْجُ مَرْيَمَ العَذْرَاءِ (مَتَّى 1: 16)، مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ، مِنْ بَيْتِ لَحْمٍ (مَتَّى 1: 20)، هَاجَرَ إِلَى النَّاصِرَةِ (لُوقَا 2: 4)، وَمَارَسَ مِهْنَةَ النِّجَارَةِ (مَتَّى 13: 55). وَمِنَ المُرَجَّحِ أَنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ يَسُوعُ خِدْمَتَهُ العَلَنِيَّةَ، إِذْ لَا يَرِدُ ذِكْرُهُ فِي أَحْدَاثِهَا، بَيْنَمَا يَسْتَمِرُّ ذِكْرُ مَرْيَمَ. وَقَدْ شَدَّدَ مَتَّى الإِنْجِيلِيُّ عَلَى رِسَالَةِ يُوسُفَ وَدَوْرِهِ، فَإِذْ هُوَ ابْنُ دَاوُدَ، يَقْبَلُ يَسُوعَ فِي سُلَالَتِهِ، فَيُصْبِحُ يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ شَرْعِيًّا، مَعَ أَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنْ عَذْرَاءَ، تَحْقِيقًا لِنُبُوءَةِ أَشَعْيَاءَ: "فَلِذَلِكَ يُؤْتِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا إِنَّ الصَّبِيَّةَ تَحْمِلُ فَتَلِدُ ابْنًا، وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ (أَشَعْيَاءَ 7: 14).

 

أَمَّا عِبَارَةُ "وُجِدَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَسَاكَنَا"، فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ πρὶν συνελθεῖν αὐτοὺς، وَتُشِيرُ إِلَى الفَتْرَةِ السَّابِقَةِ لِلسَّكَنِ الزَّوْجِيِّ. وَقَبْلَ أَنْ يَحْدُثَ ذَلِكَ، وُجِدَتْ مَرْيَمُ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، مِنْ غَيْرِ أَيِّ عِلَاقَةٍ زَوْجِيَّةٍ جَسَدِيَّةٍ. وَتُعَلِّمُ الكَنِيسَةُ أَنَّ مَرْيَمَ بَقِيَتْ عَذْرَاءَ قَبْلَ الوِلَادَةِ، وَفِي الوِلَادَةِ، وَبَعْدَ الوِلَادَةِ. وَيُرَجَّحُ أَنَّ أَمْرَ حَمْلِهَا ظَهَرَ بَعْدَ رُجُوعِهَا مِنْ زِيَارَتِهَا لأَلِيصَابَاتَ بَعْدَ نَحْوِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ (لُوقَا 1: 39)، فَعَرَفَتْ هِيَ وَيُوسُفُ سِرَّ مَا جَرَى، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَبْرَ إِخْبَارِهَا لَهُ، أَوْ عَبْرَ مَا تَنَاقَلَهُ الآخَرُونَ. وَهَكَذَا يَتَجَلَّى سِرُّ التَّجَسُّدِ الإِلَهِيِّ فِي طَاعَةِ يُوسُفَ، وَإِيمَانِ مَرْيَمَ، وَعَمَلِ الرُّوحِ القُدُسِ، خَلَاصًا لِلبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "حَامِلًا مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ"، فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ:  εὑρέθη ἐν γαστρὶ ἔχουσα ἐκ πνεύματος ἁγίου، وَمَعْنَاهَا الحَرْفِيُّ: وُجِدَتْ ذَاتَ بَطْنٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ. وَتُشِيرُ هَذِهِ العِبَارَةُ إِلَى عَمَلِ الرُّوحِ القُدُسِ الخَلَّاقِ فِي مَرْيَمَ، أَيْ إِلَى سِرِّ التَّجَسُّدِ الإِلَهِيِّ، حَيْثُ "الكَلِمَةُ صَارَ بَشَرًا" (يُوحَنَّا 1: 14)، وَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَدَخُّلٍ بَشَرِيٍّ. وَلَكِنَّ يُوسُفَ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ هَذَا السِّرَّ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ. إِنَّ الحَبَلَ بِيَسُوعَ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ يُعْلِنُ أَنَّ الطِّفْلَ لَيْسَ عَادِيًّا، بَلْ هُوَ "إِنْسَانٌ وَإِلَهٌ" فِي آنٍ مَعًا. فَهُوَ إِنْسَانٌ حَقًّا، لِأَنَّهُ وُلِدَ مِنِ امْرَأَةٍ، وَاتَّخَذَ مِنْهَا الطَّبِيعَةَ الجَسَدِيَّةَ، وَعَاشَ كَإِنْسَانٍ، وَخَبِرَ اخْتِبَارَاتِنَا وَكَفَاحَنَا فِي الحَيَاةِ، كَمَا يَقُولُ الرَّسُولُ: "لَقَدِ امْتُحِنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَنَا، مَا عَدَا الخَطِيئَةَ" (العِبْرَانِيِّينَ 4: 15). وَهُوَ إِنْسَانٌ قَادِرٌ أَنْ يَعِيشَ وَيَمُوتَ مِنْ أَجْلِ خَلَاصِ كُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ. وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ، يَسُوعُ هُوَ إِلَهٌ حَقٌّ، "الَّذِي فِيهِ يَسْكُنُ كُلُّ مِلْءِ اللَّاهُوتِ جَسَدِيًّا" (قُولُسِّي 2: 9)، وَهُوَ كَلِمَةُ اللهِ الأَزَلِيُّ: "فِي البَدْءِ كَانَ الكَلِمَةُ، وَالكَلِمَةُ كَانَ لَدَى اللهِ، وَكَانَ الكَلِمَةُ اللهَ" (يُوحَنَّا 1: 1). وَلَهُ السُّلْطَانُ وَالقُدْرَةُ أَنْ يُخَلِّصَنَا مِنَ الخَطِيئَةِ وَسُلْطَانِهَا (قُولُسِّي 2: 14). وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَمُوتَ يَسُوعُ عَنْ نَفْسِهِ، بَلْ عَنْ البَشَرِيَّةِ كُلِّهَا، لِأَنَّهُ بِلا خَطِيئَةٍ، وَلَيْسَ وَارِثًا لِلْخَطِيئَةِ الأَصْلِيَّةِ. وَبِكَوْنِهِ "آدَمَ الثَّانِيَ" وَمُخَلِّصَ العَالَمِ، اقْتَضَى التَّدْبِيرُ الإِلَهِيُّ أَنْ يُولَدَ مِنْ عَذْرَاءَ بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ، كَمَا أَعْلَنَ المَلَاكُ لِمَرْيَمَ: "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَيَنْزِلُ عَلَيْكِ، وَقُدْرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، لِذَلِكَ يَكُونُ المَوْلُودُ قُدُّوسًا، وَابْنَ اللهِ يُدْعَى" (لُوقَا 1: 35). وُلِدَ يَسُوعُ مِنْ عَذْرَاءَ لِيُولَدَ بِلا خَطِيئَةٍ، وَمِنْ مَخْطُوبَةٍ لِيَكُونَ اسْمُهَا مَصُونًا بَيْنَ النَّاسِ، وَلِتَنَالَ الحِمَايَةَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ خَطِيبِهَا، وَلِيَكُونَ أَمْرُ الزَّوَاجِ مُكَرَّمًا وَمُصَانًا، فَيَتَجَلَّى فِي سِرِّ المِيلَادِ تَدْبِيرُ اللهِ الحَكِيمُ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ القُدْسِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ، وَبَيْنَ الحَقِّ وَالمَحَبَّةِ.

 

19 وكان يُوسُفُ زَوجُها باراًّ، فَلَمْ يُرِدْ أَن يَشهَرَ أَمْرَها، فعزَمَ على أَن يُطلِّقَها سِرّاً.

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "زَوْجُهَا" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ ἀνὴρ (وَمَعْنَاهَا: رَجُلٌ) إِلَى خَطِيبِهَا حَسَبَ الاِصْطِلَاحِ اليَهُودِيِّ فِي زَمَنِ الخِطْبَةِ، لِأَنَّ الخَطِيبَ كَانَ يُعَدُّ عِنْدَهُمْ كَالزَّوْجِ. فَيُوسُفُ هُوَ رَجُلُ مَرْيَمَ العَذْرَاءِ حَسَبَ طَرِيقَةِ الزَّوَاجِ فِي البِيئَةِ اليَهُودِيَّةِ، حَيْثُ إِنَّ الخُطْوَةَ الأُولَى فِي الزَّوَاجِ تَقُومُ بِمُجَرَّدِ مُوَافَقَةِ الأُسْرَتَيْنِ عَلَى الاِرْتِبَاطِ، أَمَّا الخُطْوَةُ الثَّانِيَةُ فَتَتِمُّ بِإِذَاعَةِ الأَمْرِ عَلَنًا، فَيُصْبِحُ العَرُوسَانِ مُرْتَبِطَيْنِ بِرِبَاطٍ شَرْعِيٍّ لَا يَنْفَصِمُ إِلَّا بِالمَوْتِ أَوْ بِالطَّلَاقِ. وَأَمَّا الخُطْوَةُ الثَّالِثَةُ فَهِيَ المُسَاكَنَةُ وَإِتْمَامُ العَلَاقَةِ الزَّوْجِيَّةِ الجَسَدِيَّةِ. وَبِمَا أَنَّ مَرْيَمَ وَيُوسُفَ كَانَا فِي مَرْحَلَةِ الخُطْوَةِ الثَّانِيَةِ، أَيْ فِي وَضْعِ الزَّوَاجِ الشَّرْعِيِّ مِنْ دُونِ مُسَاكَنَةٍ، فَإِنَّ الرِّبَاطَ الَّذِي يَجْمَعُهُمَا لَمْ يَكُنْ يُفْسَخُ إِلَّا بِالطَّلَاقِ الشَّرْعِيِّ. وَمِنْ هُنَا يَتَّضِحُ ثِقَلُ المَوْقِفِ الَّذِي وَجَدَ يُوسُفُ نَفْسَهُ فِيهِ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "بَارًّا" فَتُشِيرُ إِلَى رَجُلٍ عَادِلٍ، يَسْلُكُ فِي مَا هُوَ مُسْتَقِيمٌ أَمَامَ اللهِ، وَيَحْفَظُ الفُرُوضَ وَالطُّقُوسَ وَأَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ اليَهُودِيَّةِ بِغَيْرَةٍ وَأَمَانَةٍ (لوقا 2: 21–24). وَقَدْ تَجَلَّى بِرُّ يُوسُفَ، لا فِي تَشَدُّدٍ نَامُوسِيٍّ، بَلْ فِي طَاعَتِهِ الْوَاثِقَةِ لِمَا أَمَرَهُ بِهِ مَلَاكُ الرَّبِّ، إِذْ قَبِلَ مَخَطَّطَ اللهِ وَأَخْضَعَ إِرَادَتَهُ لِمَشِيئَتِهِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ هٰذَا التَّدْبِيرَ فِي بَدَايَتِهِ. فَالْبِرُّ الْحَقِيقِيُّ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حِفْظِ الشَّرِيعَةِ بِحَرْفِيَّتِهَا، بَلْ فِي الْإِصْغَاءِ لِمَشِيئَةِ اللهِ وَقَبُولِ مَخَطَّطِهِ الْخَلَاصِيِّ. يُوَضِّحُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينوسُ "أَنَّ الْبِرَّ لَيْسَ فِي التَّمَسُّكِ بِحَرْفِ النَّامُوسِ، بَلْ فِي خُضُوعِ الْقَلْبِ لِمَشِيئَةِ اللهِ. فَالْعَادِلُ، بِحَسَبِهِ، هُوَ الَّذِي يَثِقُ بِاللهِ وَيُسَلِّمُ لَهُ أَمْرَهُ، حَتَّى حِينَ لَا يَفْهَمُ تَدْبِيرَهُ فَهْمًا كَامِلًا. وَيَقُولُ: "لَيْسَ البِرُّ فِي أَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ فِي الإِيمَانِ الَّذِي يَعْمَلُ بِالْمَحَبَّةِ" (رُومِيَة 5: 1؛ غَلاطِيَة 5: 6). وَهٰكَذَا يَظْهَرُ يُوسُفُ بَارًّا، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْكُم، بَلْ رَحِمَ، وَلَمْ يُدَافِعْ عَنْ حَقِّهِ، بَلْ ائْتَمَنَ اللهَ عَلَى حَيَاتِهِ وَسُمْعَتِهِ، فَكَانَ بِذٰلِكَ شَرِيكًا فِي سِرِّ التَّجَسُّدِ، لَا بِالْكَلَامِ، بَلْ بِالطَّاعَةِ.

 

وَأَمَّا قَوْلُ الإِنْجِيلِ: "فَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْهَرَ أَمْرَهَا، فَعَزَمَ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا سِرًّا"، فَيُشِيرُ إِلَى وَاقِعِ الخِطْبَةِ الَّتِي كَانَتْ بِمَثَابَةِ زَوَاجٍ شَرْعِيٍّ. وَلِأَنَّ المَخْطُوبَةَ عِنْدَ اليَهُودِ تُعَامَلُ كَالمُتَزَوِّجَةِ، كَانَ لِيُوسُفَ، بِحَسَبِ الشَّرِيعَةِ وَالعُرْفِ، خِيَارَانِ مَشْرُوعَانِ:

الأَوَّلُ: أَنْ يُشْهِرَ أَمْرَهَا، أَيْ أَنْ يُحَاكِمَهَا أَمَامَ الشُّيُوخِ، فَتُرْجَمَ حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى، وَهَذَا يُعَدُّ تَطْبِيقًا حَرْفِيًّا لِلْعَدْلِ الشَّرْعِيِّ، كَمَا يَرِدُ فِي الكِتَابِ: "وَإِذَا كَانَتْ فَتَاةٌ عَذْرَاءُ مَخْطُوبَةً لِرَجُلٍ، فَصَادَفَهَا رَجُلٌ فِي المَدِينَةِ فَضَاجَعَهَا، فَأَخْرِجُوهُمَا كِلَيْهِمَا إِلَى بَابِ تِلْكَ المَدِينَةِ وَارْجُمُوهُمَا بِالحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَا…" (تَثْنِيَةُ الاِشْتِرَاعِ 22: 23–24).

 

وَالثَّانِي: أَنْ يُطَلِّقَهَا سِرًّا، وَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ ἀπολῦσαι (أَيْ: يَتْرُكُهَا أَوْ يَتَخَلَّى عَنْهَا)، وَذَلِكَ بِإِعْطَائِهَا كِتَابَ طَلَاقٍ أَمَامَ شُهُودٍ مِنْ دُونِ ذِكْرِ عِلَّةٍ، لِئَلَّا يُشَهِّرَ بِهَا، عَمَلًا بِمَا وَرَدَ فِي الشَّرِيعَةِ: "إِذَا اتَّخَذَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَتَزَوَّجَهَا، ثُمَّ لَمْ تَنَلْ حُظْوَةً فِي عَيْنَيْهِ… فَلْيَكْتُبْ لَهَا كِتَابَ طَلَاقٍ، وَيُسَلِّمْهَا إِيَّاهُ، وَيَصْرِفْهَا مِنْ بَيْتِهِ" (تَثْنِيَةُ الاِشْتِرَاعِ 24: 1). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ إِيرُونِيمُوسُ قَائِلًا: "ِنْ لَمْ يَتَخَلَّ عَنْهَا، يُحْسَبُ يُوسُفُ مُذْنِبًا حَسَبَ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فَقَطْ مَنْ يَرْتَكِبُ الخَطِيئَةَ يَتَحَمَّلُ وِزْرَهَا، بَلْ أَيْضًا مَنْ يَرَاهَا وَلَا يَتَّخِذُ مَوْقِفًا مِنْهَا". وَلِأَنَّ يُوسُفَ كَانَ رَجُلًا بَارًّا، فَقَدْ نَوَى أَنْ يَتَّخِذَ الخِيَارَ الثَّانِيَ. هَكَذَا فَكَّرَ يُوسُفُ فِي فَسْخِ الخِطْبَةِ مِنْ دُونِ فَضِيحَةٍ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْحِقَ بِخَطِيبَتِهِ مَرْيَمَ أَيَّ أَذًى. وَفِي ذَلِكَ، وَضَعَ يُوسُفُ الإِنْسَانَ أَوَّلًا، أَيْ مَرْيَمَ، وَلَيْسَ الشَّرِيعَةَ بِحَرْفِيَّتِهَا، لِأَنَّ "السَّبْتَ جُعِلَ لِأَجْلِ الإِنْسَانِ، لَا الإِنْسَانُ لِأَجْلِ السَّبْتِ" (مَرْقُسَ 2: 27). فَالبِرُّ الحَقِيقِيُّ، فِي نِهَايَةِ الأَمْرِ، هُوَ الاِنْفِتَاحُ عَلَى مَشِيئَةِ الرَّبِّ، وَقَبُولُ تَدْبِيرِهِ فَوْقَ كُلِّ نَصٍّ وَقَانُونٍ.

 

20 وما نَوى ذلك حتَّى تراءَى له مَلاكُ الرَّبِّ في الحُلمِ وقالَ له: ((يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إِلى بَيتِكَ. فإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ «وَمَا نَوَى ذٰلِكَ» فِي الأَصْلِ الْيُونَانِيِّ ταῦτα δὲ αὐτοῦ ἐνθυμηθέντος، وَمَعْنَاهَا: "وَبَيْنَمَا هُوَ يُفَكِّرُ فِي هٰذَا الأَمْرِ"، إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ يُوسُفَ لَمْ يَكُنْ نَاتِجًا عَنْ غَضَبٍ أَوْ طَيْشٍ، بَلْ عَنْ تَرَوٍّ وَتَفْكِيرٍ عَمِيقٍ فِي كَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ. فَيُوسُفُ لَا يَحْكُمُ بِعَجَلَةٍ، بَلْ يَسْعَى إِلَى تَمْيِيزِ الصَّوَابِ أَمَامَ وَاقِعٍ مُؤْلِمٍ وَمُرْبِكٍ. وَفِي أَثْنَاءِ هٰذَا التَّمْيِيزِ الدَّاخِلِيِّ، يَكْشِفُ الْمَلَاكُ لِيُوسُفَ أَفْكَارَهُ، وَيُرِيهِ أَنَّ مَعْضِلَتَهُ وَقَلَقَهُ وَنِيَّتَهُ الْخَيِّرَةَ مَعْرُوفَةٌ أَمَامَ اللهِ. وَيُؤَكِّدُ أُوغسطِينوسُ أَنَّ اللهَ رَأَى نِيَّةَ يُوسُفَ قَبْلَ فِعْلِهِ، فَسَبَقَهُ بِنُورِ الإِعْلَانِ. فَالْمَلَاكُ لَمْ يَأْتِ لِيُغَيِّرَ قَلْبَ يُوسُفَ، بَلْ لِيُنِيرَهُ؛ لِأَنَّ قَلْبَهُ كَانَ أَصْلًا مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ. وَهٰكَذَا يَتَجَلَّى مَبْدَأٌ رُوحِيٌّ أَسَاسِيٌّ: أَنَّ اللهَ يُنِيرُ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ بِصِدْقٍ فِي مَعْرِفَةِ وَاجِبَاتِهِمْ وَفِي عَمَلِ مَشِيئَتِهِ. لِذٰلِكَ، يَتَوَجَّبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَرَوَّى قَبْلَ أَنْ نَحْكُمَ عَلَى أَحَدٍ، وَأَنْ نَتْرُكَ مَجَالًا لِنُورِ اللهِ لِيَعْمَلَ فِي قُلُوبِنَا، فَالتَّمْيِيزُ الصَّامِتُ يَسْبِقُ الإِرْشَادَ الإِلَهِيَّ، وَالْقَلْبُ الْمُنْفَتِحُ هُوَ أَوَّلُ مَوْضِعٍ لِإِعْلَانِ مَشِيئَةِ اللهِ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "مَلَاكُ الرَّبِّ" فَتُشِيرُ إِلَى تَدَخُّلِ اللهِ نَفْسِهِ فِي هَذَا الظَّرْفِ الحَاسِمِ (تَكْوِين 16: 7). فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْتَظَرَ مِنْ أَيِّ زَوْجٍ أَنْ يُصَدِّقَ حَقِيقَةَ الحَبَلِ البَتُولِيِّ مَا لَمْ يُعْلَنَ لَهُ إِلَهِيًّا سِرُّ هَذَا الأَمْرِ غَيْرِ الاِعْتِيَادِيِّ. وَهُنَا يَجِبُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ "مَلَاكِ الرَّبِّ" وَبَيْنَ المَلَائِكَةِ عُمُومًا. فَالمَلَائِكَةُ كَائِنَاتٌ رُوحِيَّةٌ حَيَّةٌ خَلَقَهَا اللهُ لِتَنْفِيذِ مَشِيئَتِهِ فِي العَالَمِ: يَحْمِلُونَ رَسَائِلَهُ إِلَى النَّاسِ (لُوقَا 1: 26)، وَيَحْمُونَ شَعْبَهُ (دَانِيَال 6: 22)، وَيُقَدِّمُونَ التَّشْجِيعَ (تَكْوِين 16: 7)، وَيُرْشِدُونَ (خُرُوج 14: 19)، وَيُوقِعُونَ العِقَابَ (2 صَمُوئِيل 24: 16)، وَيَحْرُسُونَ الأَرْضَ (زَكَرِيَّا 1: 10)، وَيُحَارِبُونَ قُوَّاتِ الشَّرِّ (2 مُلُوك 6: 16). وَالجَدِيرُ بِالذِّكْرِ أَنَّ الإِنْجِيلَ ذَكَرَ اسْمَ المَلَاكِ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَى مَرْيَمَ، وَهُوَ جِبْرَائِيلُ، فِي حِينِ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ المَلَاكِ الَّذِي ظَهَرَ لِيُوسُفَ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "الحُلْمِ" فَتُشِيرُ إِلَى وَسِيلَةٍ إِلَهِيَّةٍ يُكَلِّمُ بِهَا الرَّبُّ يُوسُفَ ابْنَ دَاوُدَ، وَيَكْشِفُ بِهَا حُضُورَهُ فِي الحَيَاةِ الشَّخْصِيَّةِ. وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الحُلْمِ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى خَمْسَ مَرَّاتٍ: الحُلْمُ الَّذِي يُنَبِّهُ المَجُوسَ لِئَلَّا يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ (مَتَّى 2: 12)؛ وَالحُلْمُ الَّذِي يُنَبِّهُ يُوسُفَ لِلْهُرُوبِ إِلَى مِصْرَ (مَتَّى 2: 13)؛ وَالحُلْمُ الَّذِي يَأْمُرُهُ بِالعَوْدَةِ مِنْ مِصْرَ (مَتَّى 2: 20، 22)؛ وَأَخِيرًا حُلْمُ زَوْجَةِ بِيلاطُسَ (مَتَّى 27: 19)، الَّتِي تُحَذِّرُ زَوْجَهَا مِنَ التَّعَرُّضِ لِيَسُوعَ البَارِّ. وَكَانَتِ الأَحْلَامُ فِي الشَّرْقِ تُعْتَبَرُ وَسِيلَةً لِلإِعْلَانِ الإِلَهِيِّ، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى اليَوْمِ. أَمَّا ظُهُورُ المَلَاكِ لِمَرْيَمَ فَكَانَ فِي اليَقَظَةِ، لِأَنَّ تَسْلِيمَ إِرَادَتِهَا وَإِظْهَارَ إِيمَانِهَا كَانَا جَوْهَرِيَّيْنِ فِي التَّدْبِيرِ الإِلَهِيِّ، بَيْنَمَا ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي الحُلْمِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِحَاجَةٍ إِلَّا إِلَى قَبُولِ الإِعْلَانِ بِالإِيمَانِ. يَرَى أُورِيجَانِسُ أَنَّ الْحُلْمَ لَمْ يُعْطَ لِيُوسُفَ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ إِيمَانًا مِنْ مَرْيَمَ، بَلْ لِأَنَّ رِسَالَتَهُ مُخْتَلِفَةٌ: فَمَرْيَمُ نَالَتِ الْبِشَارَةَ لِتَقْبَلَ، أَمَّا يُوسُفُ فَنَالَهَا لِيَحْمِي. فَالإِعْلاَنُ الإِلَهِيُّ جَاءَهُ فِي الْحُلْمِ، لِأَنَّهُ رَجُلُ الْعَمَلِ الصَّامِتِ، لا رَجُلُ الْكَلاَمِ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "ابْنَ دَاوُدَ" فَتُشِيرُ إِلَى الصِّيغَةِ العِبْرِيَّةِ בֶּן־דָּוִד، الدَّالَّةِ عَلَى سُلَالَةِ دَاوُدَ، وَتُؤَكِّدُ أَنَّ المَوْلُودَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ دَاوُدَ المُنْتَظَرُ، وَأَنَّ دَاوُدَ هُوَ أَبُوهُ حَسَبَ الجَسَدِ. وَبِمُنَادَاةِ المَلَاكِ لِيُوسُفَ بِهَذَا اللَّقَبِ، يُذَكِّرُهُ بِمَوَاعِيدِ اللهِ لِدَاوُدَ، وَيُهَيِّئُ قَلْبَهُ لِقَبُولِ تَحْقِيقِهَا مِنْ خِلَالِ خَطِيبَتِهِ مَرْيَمَ، وَيُؤَكِّدُ لَهُ أَنَّ مَا يُؤْمَرُ بِهِ لَا يُنَاقِضُ هَذَا الاِنْتِظَارَ المَسِيحَانِيَّ. أَمَّا قَوْلُ المَلَاكِ: "لَا تَخَفْ" فَيُعَبِّرُ عَنْ كَشْفِ اللهِ لِأَعْمَاقِ قَلْبِ يُوسُفَ، وَعَنْ عِلْمِهِ بِحَيْرَتِهِ وَأَلَمِهِ. فَاللهُ لَا يَتْرُكُ الإِنْسَانَ فِي الضِّيقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْتَحَ لَهُ بَابَ الرَّجَاءِ. لِذَلِكَ يُشَجِّعُ المَلَاكُ يُوسُفَ عَلَى أَنْ لَا يَشُكَّ، وَأَنْ يَتَّكِلَ عَلَى اللهِ الَّذِي يُبَرِّرُ الإِنْسَانَ ذَا الضَّمِيرِ الصَّالِحِ مِنْ كُلِّ تُهْمَةٍ بَاطِلَةٍ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "امْرَأَتِكَ" فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَرْيَمَ لَيْسَتِ امْرَأَةً زَانِيَةً وَلَا امْرَأَةً عَادِيَّةً، بَلْ هِيَ "امْرَأَتُكَ" بِإِرَادَةِ اللهِ نَفْسِهِ. فَالْخِطْبَةُ فِي الطَّقْسِ الْيَهُودِيِّ كَانَتْ تَمْنَحُ نَفْسَ الْحُقُوقِ وَالِالْتِزَامَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لِلزَّوَاجِ، مَا عَدَا الْعَلَاقَةَ الزَّوْجِيَّةَ الْجَسَدِيَّةَ، الَّتِي تَتِمُّ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالْمُسَاكَنَةِ. وَلِذٰلِكَ، يَدْعُو الْمَلَاكُ مَرْيَمَ "امْرَأَتَكَ"، دَلَالَةً عَلَى بَرَاءَتِهَا، وَتَأْكِيدًا لِشَرْعِيَّةِ رَابِطَتِهَا بِيُوسُفَ، وَاسْتِحْقَاقِهَا هٰذِهِ النِّسْبَةَ أَمَامَ النَّامُوسِ وَأَمَامَ اللهِ. وَبِهٰذَا يُدْعَى يُوسُفُ مِنَ اللهِ أَنْ يَدْخُلَ فِي التَّارِيخِ الخَلَاصِيِّ دُخُولًا وَاعِيًا، وَأَنْ يَتَسَلَّمَ هٰذِهِ الْمَسْؤُولِيَّةَ وَهٰذِهِ الأُبُوَّةَ الشَّرْعِيَّةَ بِالإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ قَائِلًا:"هُنَا يَدْعُو الْخَطِيبَةَ زَوْجَةً، كَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَدْعُوَ الْمَخْطُوبِينَ أَزْوَاجًا قَبْلَ الزَّوَاجِ… أَمَّا قَوْلُهُ: ‹خُذْهَا›، فَمَعْنَاهُ أَنْ تَحْفَظَهَا فِي بَيْتِكَ؛ فَقَدْ كَانَ نَاوِيًا أَنْ يُفَارِقَهَا، وَالآنَ يُؤْمَرُ أَنْ يَسْتَعِيدَهَا كَوَدِيعَةٍ مِنَ اللهِ"(عِظَات على إنجيل متّى 1).

 

أَمَّا عِبَارَةُ "كُوِّنَ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ" فَتُؤَكِّدُ أَنَّ وِلَادَةَ يَسُوعَ تَمَّتْ بِقُوَّةِ اللهِ. فَقَدْ صَارَ ابْنُ اللهِ ابْنَ الإِنْسَانِ حَقًّا، مِنْ دُونِ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي الطَّبِيعَةِ الفَاسِدَةِ الَّتِي تُثْقِلُ الجِنْسَ البَشَرِيَّ. وَهَكَذَا أَصْبَحَ حَمَلَ اللهِ الَّذِي لَا عَيْبَ فِيهِ، ذَبِيحَةً لَائِقَةً تُقَدَّمُ عَنْ خَطَايَا العَالَمِ. وَقَدْ رَدَّ تَرْتُلْيَانُوسُ عَلَى أَحَدِ الهَرَاطِقَةِ الَّذِينَ اسْتَنْكَرُوا فِكْرَةَ إِلَهٍ يُحْبَلُ بِهِ وَيُولَدُ فِي الضَّعْفِ قَائِلًا: "لَمْ يَكْتَفِ السَّيِّدُ المَسِيحُ بِأَنْ يُحِبَّ العَالَمَ، بَلْ مَعَ الإِنْسَانِ أَحَبَّ أَيْضًا أُسْلُوبَ المَجِيءِ إِلَى العَالَمِ".

 

21 وستَلِدُ ابناً فسَمِّهِ يسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم.

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "سَتَلِدُ" إِلَى أَنَّ يَسُوعَ سَيُولَدُ مِنِ امْرَأَةٍ حَقًّا، فَهُوَ لَا يَحْتَقِرُ جِنْسَ البَشَرِ، بَلْ يَكْرَهُ الخَطِيئَةَ الَّتِي شَوَّهَتْهُ. فَفِي سِرِّ التَّجَسُّدِ، يَتَّحِدُ اللهُ بِطَبِيعَتِنَا البَشَرِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَّحِدَ بِفَسَادِهَا، مُؤَكِّدًا أَنَّ الخَلَاصَ لَا يَتِمُّ بِاِزْدِرَاءِ الإِنْسَانِ، بَلْ بِتَقْدِيسِهِ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "يَسُوعُ"، فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ Ἰησοῦν، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ اللَّفْظِ العِبْرِيِّ יְהוֹשׁוּעַ / יוֹשִׁיעַ، وَمَعْنَاهَا: "الرَّبُّ يُخَلِّصُ". وَيُعَبِّرُ هَذَا الاِسْمُ عَنْ هُوِيَّةِ المَوْلُودِ وَرِسَالَتِهِ، إِذْ إِنَّهُ "هُوَ الَّذِي يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ" (مَتَّى 1: 21). وَهَذَا مَا أَعْلَنَهُ بُطْرُسُ، هَامَةُ الرُّسُلِ، قَائِلًا: "لَا خَلَاصَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ مَا مِنِ اسْمٍ آخَرَ تَحْتَ السَّمَاءِ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ نَنَالُ بِهِ الخَلَاصَ" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 4: 12). وَقَدْ أَسَاءَ كَثِيرٌ مِنَ اليَهُودِ فَهْمَ مَعْنَى الخَلَاصِ، إِذْ حَصَرُوهُ فِي التَّحَرُّرِ مِنَ الرُّومَانِ أَوْ مِنْ مِحَنٍ زَمَنِيَّةٍ وَقَتِيَّةٍ، وَمَا زَالَ هَذَا الفَهْمُ السَّطْحِيُّ قَائِمًا عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ إِلَى اليَوْمِ. وَيَتَجَلَّى هَذَا الاِلْتِبَاسُ فِي كَلَامِ تِلْمِيذَيْ عِمْوَاسَ: "كُنَّا نَحْنُ نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَيَفْتَدِي إِسْرَائِيلَ" (لُوقَا 24: 21). إِلَّا أَنَّ خَلَاصَ يَسُوعَ أَعْمَقُ وَأَشْمَلُ، إِذْ يَسْتَهْدِفُ جِذْرَ المَأْسَاةِ الإِنْسَانِيَّةِ، أَيْ الخَطِيئَةَ نَفْسَهَا.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "فَسَمِّهِ يَسُوعَ" فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ المَلَاكَ مَنَحَ يُوسُفَ البَارَّ كَرَامَةَ مُمارَسَةِ الأُبُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، مِنْ خِلَالِ تَسْمِيَةِ الطِّفْلِ، فَيَدْخُلُ بِذٰلِكَ فِي عَلاقَةِ حِرَاسَةٍ وَمَسْؤُولِيَّةٍ مَعَ الابْنِ الَّذِي أُوكِلَ إِلَيْهِ، مَعَ أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ مِنْ زَرْعِهِ الجَسَدِيِّ، لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الطِّفْلِ كَانَتْ، وَفْقَ الشَّرِيعَةِ، مِنْ حَقِّ الأَبِ. وَبِهٰذَا العَمَلِ الطَّاعِي، يُدْعَى يُوسُفُ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ فِي صُلْبِ التَّارِيخِ الخَلَاصِيِّ، وَأَنْ يَتَسَلَّمَ أُبُوَّةً لَا بِالدَّمِ، بَلْ بِالإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ. وَتَكْشِفُ هٰذِهِ التَّسْمِيَةُ أَيْضًا عَنْ دَوْرِ يُوسُفَ الجَوْهَرِيِّ فِي إِدْخَالِ الطِّفْلِ شَرْعِيًّا فِي سُلَالَةِ دَاوُدَ، فَيَكُونُ يَسُوعُ، بِحَسَبِ النَّامُوسِ، ابْنَ دَاوُدَ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ حُبِلَ بِهِ بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ. وَهٰكَذَا يَتَحَقَّقُ فِي شَخْصِهِ وَعْدُ اللهِ المَسِيحَانِيُّ. يُعَلِّمُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينوسُ "أَنَّ الأُبُوَّةَ الحَقِيقِيَّةَ لَا تُقَاسُ بِالرَّابِطَةِ الجَسَدِيَّةِ، بَلْ بِالرَّابِطَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالأَمَانَةِ لِمَشِيئَةِ اللهِ. فَحِينَ أُمِرَ يُوسُفُ أَنْ يُسَمِّيَ الطِّفْلَ "يَسُوعَ"، لَمْ يَكُنْ ذٰلِكَ مُجَرَّدَ إِجْرَاءِ اسْمِيٍّ، بَلْ عَمَلًا تَأْسِيسِيًّا أُقِيمَتْ بِهِ أُبُوَّتُهُ الشَّرْعِيَّةُ، وَأُدْخِلَ الطِّفْلُ فِي بَيْتِ دَاوُدَ بِحَقٍّ وَنَامُوسٍ". فَيَكُونُ يُوسُفُ، بِمُجَرَّدِ طَاعَتِهِ لِلأَمْرِ الإِلَهِيِّ، شَرِيكًا فِي إِعْلَانِ الاسْمِ الَّذِي بِهِ يَتِمُّ الخَلَاصُ، لَا بِالْكَلاَمِ، بَلْ بِالْفِعْلِ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "يَسُوعَ" فَتُشِيرُ إِلَى عَلامَةِ حُضُورِ اللهِ الخَلَاصِيِّ الفِعْلِيِّ فِي وَسَطِ شَعْبِهِ، فِي شَخْصِ يَسُوعَ ابْنِ اللهِ. وَإِذْ إِنَّ العَهْدَ القَدِيمَ قَدْ نَسَبَ إِلَى المَسِيحِ أَلْقَابًا كَثِيرَةً تُعَبِّرُ عَنْ رَجَائِهِ وَمُرْتَجَاهُ، فَإِنَّ اسْمَ "يَسُوعَ" ذَاتَهُ لَمْ يَكُنْ مِنِ اخْتِيَارٍ بَشَرِيٍّ، بَلْ إِعْلَانًا إِلَهِيًّا خَلَاصِيًّا. فَقَدْ أُعْلِنَ هٰذَا الِاسْمُ أَوَّلًا عَلَى لِسَانِ المَلَاكِ جِبْرَائِيلَ لِلْعَذْرَاءِ مَرْيَمَ قَبْلَ أَنْ تَحْبَلَ بِهِ، قَائِلًا: "هَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا، وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ" (لوقا 1: 31)، لِيُعْلِنَ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي لَيْسَ مُجَرَّدَ مَسِيَّا مُنْتَظَرٍ، بَلِ الرَّبَّ الَّذِي يَخْلُصُ شَعْبَهُ. وَيُبَيِّنُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينوسُ أَنَّ اسْمَ "يَسُوعَ" لَيْسَ مُجَرَّدَ تَعْرِيفٍ شَخْصِيٍّ، بَلْ إِعْلَانُ رِسَالَةٍ؛ فَهُوَ الِاسْمُ الَّذِي يَحْمِلُ فِي ذَاتِهِ مَا سَيَصْنَعُهُ حَامِلُهُ، لأَنَّ "يَسُوعَ" يَعْنِي: الرَّبُّ يُخَلِّصُ. وَهٰكَذَا يَكُونُ الاسْمُ نُبُوءَةً مُسْبَقَةً، وَالْحَيَاةُ تَحْقِيقًا لِمَا أُعْلِنَ، فَالَّذِي دُعِيَ مُخَلِّصًا هُوَ بِالْفِعْلِ مَنْ يَخْلُصُ. وَبِنُطْقِ هٰذَا الِاسْمِ بِالإِيمَانِ، نَدَعُهُ يَعْمَلُ فِينَا، فَنَنْخَرِطُ نَحْنُ أَيْضًا فِي مَسِيرَةِ الخَلَاصِ الكُبْرَى، حَيْثُ يَصِيرُ اسْمُ يَسُوعَ لَيْسَ لَقَبًا نَنْطِقُهُ فَحَسْبُ، بَلْ حَيَاةً نَعِيشُهَا.

 

أَمَّا قَوْلُ الإِنْجِيلِ: "يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ"، فَيُشِيرُ إِلَى أَنَّ خَلَاصَ يَسُوعَ لَيْسَ سِيَاسِيًّا وَلَا ظَرْفِيًّا، بَلْ رُوحِيٌّ وَجِذْرِيٌّ، إِذْ يُحَرِّرُ الإِنْسَانَ مِنْ مَحَبَّةِ الخَطِيئَةِ، وَمِنْ سُلْطَانِهَا وَقُوَّتِهَا، وَيُخَلِّصُهُ مِنْ عُقُوبَتِهَا، وَيُصَالِحُهُ مَعَ اللهِ الآبِ. فَبَيَانُ الخَلَاصِ يَقِفُ فِي صُلْبِ بَدَايَةِ العَهْدِ الجَدِيدِ، لِأَنَّهُ مَا دَامَ الإِنْسَانُ خَاضِعًا لِسُلْطَانِ الخَطِيئَةِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْبِ المَسِيحِ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "شَعْبَهُ" فَتُشِيرُ أَوَّلًا إِلَى اليَهُودِ، كَمَا يَقُولُ الرَّسُولُ بُطْرُسُ: "أَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مَلَكِيٌّ، وَأُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، وَشَعْبٌ اقْتَنَاهُ اللهُ لِتُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى نُورِهِ العَجِيبِ" (1 بُطْرُسَ 2: 9). ثُمَّ تَتَّسِعُ هَذِهِ الدَّائِرَةُ لِتَشْمَلَ جَمِيعَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، كَمَا شَهِدَ بُولُسُ وَبَرْنَابَا: "فَقَدْ أَوْصَانَا الرَّبُّ قَائِلًا: جَعَلْتُكَ نُورًا لِلأُمَمِ، لِتَحْمِلَ الخَلَاصَ إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 13: 47). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ قَائِلًا: "شَعْبُهُ لَيْسُوا اليَهُودَ وَحْدَهُمْ، بَلْ كُلُّ الَّذِينَ يَقْتَرِبُونَ إِلَيْهِ وَيَقْبَلُونَ المَعْرِفَةَ الصَّادِرَةَ عَنْهُ".

 

22 وكانَ هذا كُلُّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ على لِسانِ النَّبِيّ:

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "لِيَتِمَّ" إِلَى تَحْقِيقِ النُّبُوءَةِ تَحْقِيقًا كَامِلًا وَتَامًّا، كَمَا أَكَّدَ الرَّبُّ يَسُوعُ نَفْسُهُ: "مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ، بَلْ لِأُتَمِّمَ" (مَتَّى 5: 17). فَأَقْوَالُ العَهْدِ القَدِيمِ لَا تَبْقَى وُعُودًا مُؤَجَّلَةً، بَلْ تَبْلُغُ مَلْءَ مَعْنَاهَا فِي العَهْدِ الجَدِيدِ. وَلِذَلِكَ تَتَكَرَّرُ هَذِهِ العِبَارَةُ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى نَحْوَ عِشْرِينَ مَرَّةً بِالصِّيغَةِ: "لِيَتِمَّ مَا قَالَ الرَّبُّ"، مُعْلِنَةً أَنَّ تَارِيخَ الخَلَاصِ وَاحِدٌ، وَأَنَّ العَهْدَيْنِ مُرْتَبِطَانِ رِبَاطًا لَا يَنْفَصِمُ. وَبِمَا أَنَّ العَهْدَ القَدِيمَ هُوَ كَلَامُ اللهِ وَإِعْلَانُ مَشِيئَتِهِ، فَإِنَّ تَحْقِيقَهُ فِي يَسُوعَ يَعْنِي أَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ بَدَأَتْ تَتِمُّ فِعْلِيًّا فِي شَخْصِهِ مُنْذُ أَوَّلِ لَحْظَاتِ التَّجَسُّدِ، أَيْ مُنْذُ أَنْ حُبِلَ بِهِ. فَفِي يَسُوعَ لَا يَبْدَأُ عَهْدٌ جَدِيدٌ يَلْغِي مَا سَبَقَهُ، بَلْ عَهْدٌ يُكْمِلُ وَيُظْهِرُ مَعْنَاهُ الأَعْمَقَ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "مَا قَالَ الرَّبُّ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ" فَتُبَيِّنُ بُعْدَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ فِي الوَحْيِ الإِلَهِيِّ: فَالرَّبُّ هُوَ مَصْدَرُ النُّبُوءَةِ وَصَاحِبُ الكَلِمَةِ، أَمَّا النَّبِيُّ فَهُوَ الأَدَاةُ وَالنَّاطِقُ بِاسْمِ اللهِ. وَهَذَا التَّعْبِيرُ يُؤَكِّدُ أَنَّ مَا يَرِدُ فِي الأَسْفَارِ النَّبَوِيَّةِ لَيْسَ فِكْرًا بَشَرِيًّا، بَلْ إِعْلَانٌ إِلَهِيٌّ تَارِيخِيٌّ يَبْلُغُ كَمَالَهُ فِي المَسِيحِ. وَهَذَا هُوَ أَوَّلُ اسْتِشْهَادٍ يَسُوقُهُ مَتَّى الإِنْجِيلِيُّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحْقِيقِ النُّبُوءَاتِ فِي أَحْدَاثِ حَيَاةِ يَسُوعَ الجَوْهَرِيَّةِ، ثُمَّ يَتْبَعُهُ بِاسْتِشْهَادَاتٍ أُخْرَى مِثْلَ: (مَتَّى 1: 22؛ 2: 15؛ 4: 14؛ 8: 17؛ 13: 35؛ 21: 4؛ 27: 9)، لِيُظْهِرَ أَنَّ المَسِيحَ لَيْسَ حَدَثًا مُنْفَصِلًا عَنْ تَارِيخِ إِسْرَائِيلَ، بَلْ هُوَ ذِرْوَةُ التَّدْبِيرِ الإِلَهِيِّ وَتَحْقِيقُ الوَعْدِ فِي مِلْئِهِ.

 

23 ها إِنَّ العَذراءَ تَحْمِلُ فتَلِدُ ابناً يُسمُّونَه عِمَّانوئيل)) أَيِ ((اللهُ معَنا).

 

تُشِيرُ عبارة " ها إِنَّ العَذراءَ تَحْمِلُ فتَلِدُ ابناً " الى الآية التي وردت في زمنٍ تاريخيٍّ دقيق، هو زمن الملك آحاز (حوالي 735–732 ق.م)، حين كانت مملكة يهوذا مهدَّدة من تحالف أرام وإسرائيل. في هذا السياق، يُعطي الله علامة (אוֹת للملك ولبيت داود، لا مجرّد حلٍّ سياسيّ، بل وعدًا خلاصيًّا: «هَا العَذْرَاءُ تَحْمِلُ وَتَلِدُ ابْنًا". فالعلامة لا تكمن فقط في الولادة، بل في طريقة الولادة نفسها، أي الحمل ن عذراء، الذي يتجاوز المنطق البشري ويكشف تدخّل الله المباشر في التاريخ. فَمِيلادُ يَسُوعَ لَيْسَ ذِكْرَى عَابِرَةً، بَلْ إِعْلَانٌ دَائِمٌ: إِنَّ اللهَ لَمْ يَعُدْ إِلَهًا بَعِيدًا، بَلْ إِلَهًا مَعَنَا، وَلِأَجْلِنَا، وَفِي وَسَطِنَا.

 

عِبَارَةُ "العَذْرَاءُ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ παρθένος، وَفِي العِبْرِيَّةِ הָעַלְמָה، إِلَى فَتَاةٍ عَذْرَاءَ، قَدْ تَكُونُ مَخْطُوبَةً وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مُتَزَوِّجَةٍ. وَقَدِ انْطَبَقَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ تَمَامًا عَلَى القِدِّيسَةِ مَرْيَمَ، الَّتِي حُفِظَتْ فِي عَذْرَاوِيَّتِهَا بِقُوَّةِ اللهِ وَنِعْمَتِهِ. أَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ: "هَا إِنَّ العَذْرَاءَ تَحْمِلُ فَتَلِدُ ابْنًا"، فَيُشِيرُ إِلَى نُبُوءَةِ أَشَعْيَاءَ (7: 14)، الَّتِي أُوحِيَ بِهَا نَحْوَ سَنَةِ 740 قَبْلَ المِيلَادِ. وَتُعَدُّ هَذِهِ أَوَّلَ نُبُوءَةٍ مِنْ سِلْسِلَةِ نُبُوءَاتٍ يَسْتَشْهِدُ بِهَا مَتَّى الإِنْجِيلِيُّ لِيُثْبِتَ أَنَّ فِي المَسِيحِ تَتَحَقَّقُ نُبُوءَاتُ العَهْدِ القَدِيمِ، وَأَنَّهُ هُوَ المَسِيَّا المُنْتَظَرُ.

 

وَأَمَّا عِبَارَةُ "عِمَّانُوئِيلَ" فَتَرْجِعُ إِلَى نَصِّ أَشَعْيَاءَ العِبْرِيِّ עִמָּנוּ אֵל، وَمَعْنَاهَا: "اللهُ مَعَنَا" (أَشَعْيَاءَ 7: 14). ويقول القديس أوغسطينوس " لو لم يكن معنا، لما استطعنا أن نكون معه". وَيَحْمِلُ هَذَا اللَّقَبُ دَلَالَةً لَاهُوتِيَّةً عَمِيقَةً، إِذْ يُعْلِنُ طَبِيعَةَ المَسِيحِ نَفْسِهَا: فَفِي شَخْصِهِ يَكُونُ اللهُ حَاضِرًا فِي وَسَطِ شَعْبِهِ، يَحْمِيهِمْ، وَيَهْدِيهِمْ، وَيَسُوسُهُمْ بِمَحَبَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ. يعلق لذهبيّ الفم "لم يقل الكتاب إنّه دُعِيَ عِمَّانوئيل عبثًا، بل ليُعلِن أنَّ الله لم يَعُد بعيدًا عن البشر، بل صار حاضرًا بينهم بالجسد"(عظة على إنجيل متّى، 5).  وَقَدْ تَنَبَّأَ أَشَعْيَاءُ بِمَوْلِدِ "عِمَّانُوئِيلَ"، أَيْ المَسِيحِ المُنْتَظَرِ، قَبْلَ مِيلَادِهِ بِنَحْوِ سَبْعَةِ قُرُونٍ. وَكَانَتْ تِلْكَ النُّبُوءَةُ، فِي سِيَاقِهَا التَّارِيخِيِّ الأَوَّلِ، تَتَعَلَّقُ بِمَلِكٍ جَدِيدٍ يَخْلُفُ المَلِكَ آحَازَ، إِلَّا أَنَّهَا، فِي ضَوْءِ التَّدْبِيرِ الإِلَهِيِّ، صَارَتْ رَمْزًا وَإِعْلَانًا مَسِيحَانِيًّا عَمِيقًا عَنِ الحَبَلِ البَتُولِيِّ وَمَجِيءِ يَسُوعَ "عِمَّانُوئِيلَ". وَلِذَلِكَ يَقُولُ الإِنْجِيلُ: "وَكَانَ هَذَا كُلُّهُ لِيَتِمَّ مَا قَالَ الرَّبُّ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ" (مَتَّى 1: 22). وَهَذِهِ النُّبُوءَةُ هِيَ الأُولَى فِي سِلْسِلَةٍ طَوِيلَةٍ يَسْتَخْدِمُهَا مَتَّى الإِنْجِيلِيُّ لِيُثْبِتَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ المَسِيحُ المُنْتَظَرُ. وَقَدْ وَرَدَتِ الاِقْتِبَاسَاتُ الصَّرِيحَةُ مِنَ العَهْدِ القَدِيمِ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى نَحْوَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ مَرَّةً، هَذَا فَضْلًا عَنِ التَّلْمِيحَاتِ الكَثِيرَةِ، مِمَّا يُظْهِرُ عُمقَ رَبْطِهِ بَيْنَ الوَحْيَيْنِ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "اللهُ مَعَنَا" فَتُشِيرُ أَيْضًا إِلَى التَّرْجَمَةِ السَّبْعِينِيَّةِ لِنَبُوءَةِ أَشَعْيَاءَ، حَيْثُ تُرْجِمَ الاِسْمُ العِبْرِيُّ עִמָּנוּ אֵל إِلَى اليُونَانِيَّةِ Ἐμμανουήλ وَمِنْهَا إِلَى العَرَبِيَّةِ. وَيَكْشِفُ هَذَا الإِعْلَانُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ اللهُ الحَاضِرُ فِي وَسَطِ شَعْبِهِ، وَأَنَّ المَسِيحَ هُوَ الرَّبُّ المُتَجَسِّدُ، كَمَا يُؤَكِّدُ مُقَدِّمَةُ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا: "وَالكَلِمَةُ صَارَ بَشَرًا فَسَكَنَ بَيْنَنَا" (يُوحَنَّا 1: 14). وَنَحْنُ، فِي عُمْقِ حَاجَتِنَا الخَلَاصِيَّةِ، بِحَاجَةٍ إِلَى مُخَلِّصٍ يَكُونُ إِلَهًا كَامِلًا وَإِنْسَانًا كَامِلًا فِي آنٍ مَعًا، وَلَا نَجِدُ هَذَا الاِتِّحَادَ العَجِيبَ إِلَّا فِي شَخْصِ يَسُوعَ المَسِيحِ، الَّذِي هُوَ حَقًّا "عِمَّانُوئِيلَ"، أَيْ "اللهُ مَعَنَا".  وَيُضِيفُ الْقِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الْفَمِ أَنَّ عِبَارَةَ «اللهُ مَعَنَا» تَعْنِي: "مَعَنَا فِي ضَعْفِنَا، مَعَنَا فِي فَقْرِ طَبِيعَتِنَا الْبَشَرِيَّةِ، مَعَنَا لا بِالرَّمْزِ، بَلْ بِالْحَقِيقَةِ". وَبِاخْتِصَارٍ، فَإِنَّ اسْمَ «عِمَّانُوئِيل» – «اللهُ مَعَنَا» – يَعْنِي حُضُورَ اللهِ الْحَقِيقِيَّ فِي التَّارِيخِ، وَاتِّحَادَ اللهِ بِالإِنْسَانِ، وَسُكْنَى اللهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ، وَإِعْلَانَ أُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ الْمُتَجَسِّدِ.

 

24 فلمَّا قامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوم، فَعلَ كَما أَمرَه مَلاكُ الرَّبِّ فأَتى بِامرَأَتِه إِلى بَيتِه

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "فَفَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلَاكُ الرَّبِّ" إِلَى تَجَاوُبِ يُوسُفَ الكَامِلِ مَعَ مَشِيئَةِ اللهِ، إِذْ تَخَلَّى عَنْ خِطَطِهِ الشَّخْصِيَّةِ، وَأَخْضَعَ إِرَادَتَهُ لِإِرَادَةِ اللهِ، فَدَخَلَ فِي طَاعَةٍ صَامِتَةٍ مُثْمِرَةٍ، وَتَمَّمَ إِجْرَاءَاتِ الزَّوَاجِ كَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ. يُشَدِّدُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ عَلَى أَنَّ عَظَمَةَ يُوسُفَ لَا تَكْمُنُ فِي الأَقْوَالِ، بَلْ فِي الفِعْلِ، إِذْ يَقُولُ إِنَّ الإِنْجِيلِيَّ لَمْ يَذْكُرْ جِدَالًا وَلَا تَسَاؤُلًا، بَلْ: «فَعَلَ كَمَا أُمِرَ»، لِأَنَّ الطَّاعَةَ الحَقِيقِيَّةَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى بُرْهَانٍ بَعْدَ أَنْ يُعْلِنَ اللهُ مَشِيئَتَهُ. وَيُضِيفُ الذَّهَبِيُّ الفَمِ أَنَّ يُوسُفَ، حِينَ أَطَاعَ، لَمْ يَخْسَرْ شَيْئًا مِنْ كَرَامَتِهِ، بَلْ دَخَلَ فِي تَدْبِيرٍ إِلَهِيٍّ يَفُوقُ العَقْلَ، فَصَارَ خَادِمًا لِسِرِّ الخَلَاصِ دُونَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَهُ. أَمَّا أُورِيجَانُوسُ، فَيَرَى فِي طَاعَةِ يُوسُفَ تَحَوُّلًا دَاخِلِيًّا عَمِيقًا: مِنْ مَنْطِقِ الشَّرِيعَةِ الحَرْفِيَّةِ إِلَى مَنْطِقِ الرُّوحِ. فَالحُلْمُ لَمْ يُلْغِ عَقْلَ يُوسُفَ، بَلْ نَقَّاهُ، وَرَفَعَهُ مِنْ مُسْتَوَى الحُكْمِ الظَّاهِرِ إِلَى قِرَاءَةِ مَا يَصْنَعُهُ اللهُ فِي الخَفَاءِ. وَهَكَذَا تُصْبِحُ الطَّاعَةُ هُنَا فِعْلَ إِيمَانٍ يَرَى مَا لَا يُرَى.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "فَأَتَى بِامْرَأَتِهِ إِلَى بَيْتِهِ" فَتُشِيرُ إِلَى احْتِضَانِ يُوسُفَ لِمَرْيَمَ، وَحِفْظِهَا فِي بَيْتِهِ، وَعَدَمِ تَخَلِّيهِ عَنْهَا، بَعْدَمَا كَانَ قَدْ عَزَمَ سَابِقًا أَنْ يُفَارِقَهَا سِرًّا. لَكِنَّهُ، بِإِطَاعَتِهِ لِلْوَحْيِ الإِلَهِيِّ، اخْتَارَ الطَّرِيقَ الثَّالِثَ الَّذِي أَرَادَهُ اللهُ، رَافِضًا الخِيَارَيْنِ الآخَرَيْنِ: إِمَّا الطَّلَاقَ، وَإِمَّا تَعْرِيضَهَا لِحُكْمِ الرَّجْمِ. إِنَّ حُلْمَ يُوسُفَ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ تَعْزِيَةٍ نَفْسِيَّةٍ، بَلْ تَثْبِيتًا إِلَهِيًّا لِبِشَارَةِ المَلَاكِ لِمَرْيَمَ، فَأَزَالَ عَنْهُ كُلَّ شَكٍّ، وَأَكَّدَ لَهُ عِفَّتَهَا وَدَعْوَتَهَا. وَهَكَذَا مَضَى يُوسُفُ لِيَأْخُذَهَا إِلَى بَيْتِهِ، وَيُقِيمَ عُرْسَ الزَّوَاجِ، مُقَدِّمًا لَهَا العِنَايَةَ وَالحِمَايَةَ الوَاجِبَةَ، وَصَائِنًا سُمْعَتَهَا، وَمُشَارِكًا فِي سِرِّ التَّجَسُّدِ بِطَاعَتِهِ الصَّامِتَةِ وَأَمَانَتِهِ الأَمِينَةِ. يَشْرَحُ الذَّهَبِيُّ الفَمِ أَنَّ "أَخْذَ مَرْيَمَ إِلَى بَيْتِهِ" لَيْسَ مُجَرَّدَ إِجْرَاءٍ قَانُونِيٍّ، بَلْ إِعْلَانًا عَلَنِيًّا عَنْ بَرَاءَتِهَا، إِذْ وَضَعَ يُوسُفُ نَفْسَهُ دِرْعًا يَحْمِيهَا مِنْ أَلْسِنَةِ الِاتِّهَامِ وَمِنْ قَسْوَةِ المُجْتَمَعِ. وَيُؤَكِّدُ أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَأْخُذْهَا بِدَافِعِ الشَّهْوَةِ، بَلْ بِدَافِعِ الأَمَانَةِ، لِيَكُونَ شَاهِدًا عَلَى العِفَّةِ، وَحَارِسًا لِلسِّرِّ. أَمَّا القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسُ فَيُبْرِزُ البُعْدَ اللَّاهُوتِيَّ لِهَذَا الحَدَثِ، فَيَقُولُ إِنَّ الزَّوَاجَ بَيْنَ يُوسُفَ وَمَرْيَمَ كَانَ زَوَاجًا حَقِيقِيًّا، لَا جَسَدِيًّا، بَلْ قَائِمًا عَلَى الشَّرَاكَةِ فِي المَحَبَّةِ وَالطَّاعَةِ. فَكَمَا أَنَّ الكَنِيسَةَ عَرُوسٌ لِلْمَسِيحِ دُونَ فَسَادٍ، هَكَذَا كَانَتْ مَرْيَمُ زَوْجَةً لِيُوسُفَ دُونَ أَنْ تُـمَسَّ بِبَتُولِيَّتِهَا. وَمِنْ هُنَا يَرَى أُوغُسْطِينُوسُ أَنَّ يُوسُفَ أُعْطِيَ اسْمَ الأَبِ، لَا بِالطَّبِيعَةِ، بَلْ بِالمَسْؤُولِيَّةِ.

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 1: 18-24)

 

بَعْدَ دِراسَةٍ مُوجَزَةٍ لِوَقائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ وَتَحْلِيلِهِ (مَتّى 1: 18–24)، نَسْتَنْتِجُ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ دَوْرِ يُوسُفَ فِي مِيلادِ يَسُوعَ، إِذْ بِفَضْلِهِ يُصْبِحُ يَسُوعُ مِنْ سُلالَةِ داوُدَ، وَبِذلِكَ يَتَحَقَّقُ الْوَعْدُ الإِلَهِيُّ لِمَرْيَمَ: "وَيُولِيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ عَرْشَ أَبِيهِ داوُدَ" (لوقا 1: 32). وَعَلَيْهِ، فَإِنَّ النَّصَّ الإِنْجِيلِيَّ يَكْشِفُ أَرْبَعَ حَقائِقَ دِينِيَّةٍ أَساسِيَّةٍ، هِيَ:

 

الحَقِيقَةُ الأُولَى: انْتِمَاءُ يَسُوعَ إِلَى سُلالَةِ داوُدَ

 

إِنَّ عَلاقَةَ يُوسُفَ بِالطِّفْلِ تَتَمَثَّلُ فِي تَأْمِينِ الأُبُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَهُ، وَبِالتَّالِي تَأْمِينِ انْتِمَائِهِ إِلَى سُلالَةِ داوُدَ. فَلَفْظَةُ "مِيلاد" (γένεσις) يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الْوَارِدَةُ فِي إِنْجِيلِ مَتّى (1: 18)، هِيَ نَفْسُهَا اللَّفْظَةُ الَّتِي اسْتُخْدِمَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى نَسَبِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ (γένεσις) فِي مُسْتَهَلِّ إِنْجِيلِ مَتّى: "كِتابُ مِيلادِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (مَتّى 1: 1).

 

إنّ القصّة التي يوشك متّى على سردها عن نسب يسوع (متى 1: 18-24) هي جزء من تاريخ يمتدّ آلاف السنين، وهي تروي تاريخ عهد الله وأمانته للوعد الذي قطعه لإبراهيم، وعدٌ تجدّد مرارًا عبر العصور، بالرغم من كلّ شيء.

 

وَهَذَا النَّسَبُ هُوَ نَسَبُ يَسُوعَ، يَبْدَأُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَيَمُرُّ بِداوُدَ، وَيَنْتَهِي عِنْدَ يُوسُفَ. وَبِمَا أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ ابْنَ يُوسُفَ حَسَبَ الْجَسَدِ، كَانَ لَازِمًا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ يُوسُفُ شَرْعِيًّا، وَأَنْ يَتَّخِذَهُ ابْنًا لَهُ بِالتَّبَنِّي. وَبِهَذَا الاِعْتِرَافِ الشَّرْعِيِّ، يُصْبِحُ انْتِمَاءُ يَسُوعَ إِلَى نَسْلِ داوُدَ حَقِيقِيًّا، عَلَى الرَّغْمِ مِنَ الْحَبَلِ الْبَتُولِيِّ. وَهَكَذَا يَفِي اللهُ بِوَعْدِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي كِتَابِ الْمَزَامِيرِ:"مِنْ ثَمَرَةِ بَطْنِكَ أُجْلِسُ عَلَى الْعَرْشِ الَّذِي لَكَ"(مَزْمُور 132: 11). وَبِهَذَا التَّدْبِيرِ دَخَلَ يَسُوعُ إِلَى التَّارِيخِ الْبَشَرِيِّ، وَأُدْمِجْنَا فِيهِ نَحْنُ أَيْضًا فِي عَلاقَةٍ بُنُوِيَّةٍ مَعَ الآبِ. وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ سَاوِيرُوسُ الأَنْطَاكِيُّ قَائِلًا:  "إِنَّ هَذَا الَّذِي كَانَ قَبْلَ الدُّهُورِ مُسَاوِيًا لِلآبِ فِي الأَزَلِيَّةِ، هُوَ نَفْسُهُ الَّذِي حُسِبَ فِي الأَنْسَابِ حَسَبَ الْجَسَدِ. فَإِذْ هُوَ إِلَهٌ فِي الْحَقِيقَةِ، صَارَ فِي آخِرِ الأَزْمِنَةِ إِنْسَانًا بِلا تَغْيِيرٍ، وَقَدْ أَظْهَرَهُ مَتّى مُشْتَرِكًا فِي طَبِيعَتِنَا، لِئَلَّا يَقُولَ أَحَدٌ إِنَّهُ ظَهَرَ كَخَيَالٍ أَوْ وَهْمٍ"، كَمَا كَانَ يَدَّعِي مَذْهَبُ الْغُنُوصِيَّةِ. وَأَمَّا الْقِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الْفَمِ فَيَشْرَحُ سَبَبَ سَمَاحِ يَسُوعَ لِنَفْسِهِ أَنْ يُدْعَى "ابْنَ داوُدَ"، قَائِلًا: "ذَلِكَ لِيَجْعَلَكَ ابْنَ اللهِ! سَمَحَ لِعَبْدٍ أَنْ يَصِيرَ لَهُ أَبًا، حَتَّى يَكُونَ لَكَ أَنْتَ، أَيُّهَا الْعَبْدُ، الرَّبُّ أَبًا لَكَ…! وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ لِتُولَدَ أَنْتَ حَسَبَ الرُّوحِ، وَوُلِدَ مِنِ امْرَأَةٍ لِكَيْ تَكُفَّ عَنْ أَنْ تَكُونَ ابْنًا لاِمْرَأَةٍ".

 

 

الحَقِيقَةُ الثَّانِيَةُ: حَبَلُ مَرْيَمَ بِيَسُوعَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُس

 

أَكَّدَ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ أَنَّ حَبَلَ يَسُوعَ فِي أَحْشَاءِ الْقِدِّيسَةِ مَرْيَمَ تَحَقَّقَ بِقُوَّةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، الَّذِي هَيَّأَهَا وَقَدَّسَهَا لِيَحِلَّ فِيهَا كَلِمَةُ اللهِ، الاِبْنُ الْوَحِيدُ. وَيُبَيِّنُ إِنْجِيلُ مَتّى أَنَّ حَبَلَ مَرْيَمَ بِيَسُوعَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، أَيْ لَيْسَ مِنْ زَرْعِ بَشَرٍ، هُوَ حَدَثٌ فِعْلِيٌّ تَمَّ قَبْلَ أَنْ تَتَسَاكَنَ مَعَ يُوسُفَ، إِذْ يَقُولُ: "لَمَّا كَانَتْ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، وُجِدَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَسَاكَنَا حَامِلًا مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (مَتّى 1: 18).

 

وَقَدْ تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ مَرَّتَيْنِ فِي نَفْسِ الفصل (مَتّى 1: 18، 20)، مِمَّا يُؤَكِّدُ مَا وَرَدَ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا بِشَأْنِ حَبَلِ مَرْيَمَ بِقُدْرَةِ الرُّوحِ، إِذْ قَالَ الْمَلاَكُ لَهَا: "إِنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ سَيَنْزِلُ عَلَيْكِ، وَقُدْرَةَ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، لِذَلِكَ يَكُونُ الْمَوْلُودُ قُدُّوسًا، وَابْنَ اللهِ يُدْعَى" (لُوقَا 1: 35).

 

وَيُؤَكِّدُ إِنْجِيلُ لُوقَا أَيْضًا أَنَّ مَرْيَمَ حَبِلَتْ بِيَسُوعَ حَبَلًا بَتُولِيًّا مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ (لُوقَا 1: 31). وَلَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا أَنْ يَتَحَقَّقَ مِيلادُ الْمَسِيحِ إِلَّا مِنْ عَذْرَاءَ، لِأَنَّ اللهَ كَانَ قَدْ سَبَقَ وَوَعَدَ آدَمَ وَحَوَّاءَ قَائِلًا: "وَأَجْعَلُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا، فَهُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تُصِيبِينَ عَقِبَهُ" (التَّكْوِين 3: 15).

 

وَيَعُودُ ذَلِكَ إِلَى حَقِيقَةٍ لَاهُوتِيَّةٍ أَسَاسِيَّةٍ، وَهِيَ تَوَارُثُ الْخَطِيئَةِ الأَصْلِيَّةِ مِنْ آدَمَ. وَلِمَا كَانَ لَازِمًا أَنْ يَكُونَ الْفَادِي الْمُخَلِّصُ بِلاَ خَطِيئَةٍ "مِنْ وِلادَتِهِ إِلَى مَوْتِهِ"، حَتَّى يَسْتَطِيعَ أَنْ يُكَمِّلَ فِدَاءَ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِيلادُهُ، أَوَّلًا، مِنِ امْرَأَةٍ عَذْرَاءَ مِنْ دُونِ تَدَخُّلِ الرَّجُلِ، وَثَانِيًا، أَنْ يَكُونَ إِلَهًا مُتَجَسِّدًا؛ وَإِلَّا لَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُفْدِيَ الْجِنْسَ الْبَشَرِيَّ كُلَّهُ، وَأَنْ يَهَبَهُ حَقَّ الْمُشَارَكَةِ فِي حَيَاتِهِ الأَبَدِيَّةِ ذَاتِهَا.

 

وَيُعْتَبَرُ الْحَبَلُ الْبَتُولِيُّ إِحْدَى مُعْطَيَاتِ تَقْلِيدِ عَائِلَةِ مَرْيَمَ وَيُوسُفَ، ثُمَّ تَقْلِيدِ الرُّسُلِ. وَيَشْكُلُ الْحَبَلُ الْبَتُولِيُّ مَوْضُوعَ بَشَارَةِ الْمَلاَكِ لِيُوسُفَ، لِأَنَّهُ كَانَ يُعَانِي مِنِ اضْطِرَابٍ نَفْسِيٍّ فِي مَوْقِفِهِ تُجَاهَ مَرْيَمَ خَطِيبَتِهِ. فَأَتَى اللهُ لِيَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يَهَبَ لِهَذَا الطِّفْلِ "كِيَانَهُ الاِجْتِمَاعِيَّ"، وَذَلِكَ بِإِطْلَاقِ اسْمٍ عَلَيْهِ، فَيُدْخِلَهُ فِي سُلالَتِهِ، إِذْ قَالَ لَهُ الْمَلاَكُ: "يَا يُوسُفَ ابْنَ داوُدَ، لا تَخَفْ أَنْ تَأْتِيَ بِامْرَأَتِكَ مَرْيَمَ إِلَى بَيْتِكَ، فَإِنَّ الَّذِي كُوِّنَ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَسَتَلِدُ ابْنًا فَسَمِّهِ يَسُوعَ" (مَتّى 1: 20–21).

 

وَقَدْ يَجِدُ الإِنْسَانُ صُعُوبَةً فِي قَبُولِ مَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ الرَّسُولِ بُولُسَ: "فَلَمَّا تَمَّ الزَّمَانُ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا لِامْرَأَةٍ" (غَلاطِيَة 4: 4)، وَمُفَادُهُ أَنَّ الرَّبَّ نَفْسَهُ يُحْبَلُ بِهِ وَيُولَدُ مِنِ امْرَأَةٍ. وَقَدْ رَدَّ الْعَلاَّمَةُ تَرْتُلِيَانُوسُ عَلَى مَنْ كَانَ يَرْتَعِشُ مِنْ فِكْرَةِ إِلَهٍ يُحْبَلُ بِهِ وَيَمُرُّ بِآلاَمِ الْوِلادَةِ وَيُغْسَلُ وَيُقَمَّطُ بِاللَّفَائِفِ، قَائِلًا: "لَمْ يَكْتَفِ السَّيِّدُ الْمَسِيحُ بِأَنْ يُحِبَّ الْعَالَمَ، بَلْ إِنَّهُ أَحَبَّ مَعَ الإِنْسَانِ أَيْضًا أُسْلُوبَ الْمَجِيءِ إِلَى الْعَالَمِ". وَهَكَذَا نُؤَكِّدُ أَنَّ الْحَبَلَ بِيَسُوعَ فِي أَحْشَاءِ الْقِدِّيسَةِ مَرْيَمَ تَحَقَّقَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ، الَّذِي هَيَّأَهَا وَقَدَّسَهَا لِيَحِلَّ فِيهَا كَلِمَةُ اللهِ، الاِبْنُ الْوَحِيدُ، حَبَلًا لَيْسَ مِنْ زَرْعِ بَشَرٍ، إِذْ تَحَقَّقَ وَهِيَ مَخْطُوبَةٌ لِلْقِدِّيسِ يُوسُفَ.

 

 

الحَقِيقَةُ الثَّالِثَةُ: اسْمُ يَسُوعَ – "عِمَّانُوئِيل"

 

أَعْطَى اللهُ ابْنَهُ الْوَحِيدَ يَسُوعَ لِلْعَالَمِ، كَمَا جَاءَ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا: "فَإِنَّ اللهَ أَحَبَّ الْعَالَمَ حَتَّى إِنَّهُ جَادَ بِابْنِهِ الْوَحِيدِ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونَ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يُوحَنَّا 3: 16). وَقَدْ أَنْبَأَ النَّبِيُّ أَشَعْيَا عَنِ اسْمِ هَذَا الطِّفْلِ قَائِلًا: "عِمَّانُوئِيل"، وَمَعْنَاهُ "اللهُ مَعَنَا"(أَشَعْيَا 7: 14)، وَيَقُومُ خَلَاصُ الشَّعْبِ عَلَى حُضُورِهِ الْخَلَاصِيِّ (مَزْمُور 46: 8). وَلِأَنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ هُوَ اللهُ الَّذِي ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّ "اللهَ مَعَنَا" لَيْسَ مُجَرَّدَ شِعَارٍ، بَلْ حَقِيقَةٌ خَلَاصِيَّةٌ، يَجِدُ فِيهَا الإِنْسَانُ الشَّرِكَةَ الْحَقِيقِيَّةَ مَعَ اللهِ.

 

فَقَدْ تَجَلَّى اللهُ فِي هَذَا الطِّفْلِ يَسُوعَ، فَصَارَ "عِمَّانُوئِيل"، أَيْ "اللهَ مَعَنَا"(مَتّى 1: 23)، وَفِيهِ أُنْجِزَ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ يَشُوعَ بْنَ نُونٍ: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ وَأَنْ يُعْلِنَ ذَاتَهُ بِصِفَتِهِ "الرَّبَّ" الْمُخَلِّصَ (تَثْنِيَةُ الاِشْتِرَاعِ 31: 7–8). فَـ"اللهُ مَعَنَا"، أَيْ "عِمَّانُوئِيل"، هُوَ الرَّبُّ الَّذِي جَعَلَ نَفْسَهُ وَاحِدًا مِنَّا، لِكَيْ يَكُونَ مَعَنَا دَائِمًا، وَيَصِيرَ "أَخًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ" (رُومَة 8: 29)، وَيَعِيشَ فِي وَسَطِنَا لِيَرْفَعَ طَبِيعَتَنَا الْبَشَرِيَّةَ وَيُخَلِّصَنَا.

 

وَمَعَ أَنَّ النُّبُوءَةَ أَشَارَتْ إِلَى اسْمِ "عِمَّانُوئِيل"، فَإِنَّ الْمَلاَكَ أَمَرَ يُوسُفَ أَنْ يُسَمِّيَ الطِّفْلَ "يَسُوعَ"، أَيْ "اللهُ يُخَلِّصُ" (مَتّى 1: 21). وَالاِسْمُ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ يُعَبِّرُ دَائِمًا عَنْ رِسَالَةِ الشَّخْصِ وَدَعْوَتِهِ. فَاسْمُ "يَسُوعَ"، وَبِالْعِبْرِيَّةِ "يَشُوعַ" (יוֹשׁוּעַ)، وَمَعْنَاهُ "الرَّبُّ يُخَلِّصُ"، يُلَخِّصُ جَوْهَرَ رِسَالَتِهِ الْخَلَاصِيَّةِ، كَمَا فَسَّرَهُ مَتّى الإِنْجِيلِيُّ: "لأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ" (مَتّى 1: 21). وَذَلِكَ لأَنَّ الإِنْسَانَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ نَتَائِجِ الْخَطِيئَةِ. وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الْفَمِ قَائِلًا: "لَيْسَ شَعْبُهُ هُمُ الْيَهُودُ وَحْدَهُمْ، بَلْ يَشْمَلُ كُلَّ الَّذِينَ يَقْتَرِبُونَ إِلَيْهِ وَيَتَقَبَّلُونَ الْمَعْرِفَةَ الصَّادِرَةَ عَنْهُ".

 

وَالْخَلَاصُ، بِهَذَا الْمَعْنَى، لا يَقُومُ بِهِ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، كَمَا أَكَّدَ ذَلِكَ بَعْضُ الْكَتَبَةِ قَائِلِينَ: "فَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ؟" (مَرْقُس 2: 7). وَهَكَذَا تَبَيَّنَ لِيُوسُفَ أَنَّ الطِّفْلَ الَّذِي كُلِّفَ بِأَنْ يُؤَمِّنَ لَهُ الاِنْتِمَاءَ إِلَى سُلالَةِ داوُدَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اللهُ الْمُخَلِّصُ. وَلَمْ يُضَفْ إِلَى اسْمِهِ اسْمُ أَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الأُسَرِ الشَّهِيرَةِ (سِيرَاخ 51: 30)، بَلْ أُضِيفَ إِلَيْهِ اسْمُ مَوْطِنِهِ الصَّغِيرِ: "يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ" (يُوحَنَّا 19: 19).

 

وَقَدِ اهْتَمَّ مَتّى الإِنْجِيلِيُّ بِتَوْضِيحِ أَنَّ أَحْدَاثَ حَيَاةِ يَسُوعَ هِيَ تَحْقِيقٌ لِنُبُوءَاتِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، إِذْ قَالَ:
"كَانَ هَذَا كُلُّهُ لِيَتِمَّ مَا قَالَهُ الرَّبُّ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ" (مَتّى 1: 22). فَاسْتَشْهَدَ بِنُبُوءَةِ أَشَعْيَا: "هَا إِنَّ الْعَذْرَاءَ تَحْمِلُ فَتَلِدُ ابْنًا، يُسَمُّونَهُ عِمَّانُوئِيل، أَيْ: اللهُ مَعَنَا" (مَتّى 1: 23؛ أَشَعْيَا 7: 14). وَمِنَ الاِسْمَيْنِ مَعًا، "عِمَّانُوئِيل" وَ"يَسُوعَ"، نَفْهَمُ أَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ الرَّبُّ الْمُتَجَسِّدُ: اللهُ الَّذِي حَضَرَ فِي التَّارِيخِ لِيُخَلِّصَ الإِنْسَانَ.

 

وَمَعَ أَنَّ التَّفْسِيرَ التَّارِيخِيَّ لِنُبُوءَةِ أَشَعْيَا قَدْ يَرْبِطُهَا بِمَوْلِدِ حِزْقِيَّا بْنِ آحَازَ، وَأَنَّ لَفْظَةَ παρθένος قَدْ تُتَرْجَمُ أَيْضًا بِمَعْنَى "صَبِيَّةٍ"، فَإِنَّ الْغَرَضَ الْجَوْهَرِيَّ لِلنُّبُوءَةِ يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ، لِيُعْلِنَ مِيلادَ نَسْلٍ دَاوُدِيٍّ يَحْمِلُ حُضُورَ اللهِ نَفْسِهِ بَيْنَ شَعْبِهِ. فَـ"عِمَّانُوئِيل" يُشِيرُ إِلَى طَبِيعَةِ يَسُوعَ الإِلَهِيَّةِ، كَمَا أَعْلَنَ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيُّ: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ بَشَرًا فَسَكَنَ بَيْنَنَا" (يُوحَنَّا 1: 14). وَهُوَ "عِمَّانُوئِيل" حَقًّا (مَتّى 1: 23)، وَلَنْ يَتِمَّ مَعْنَى "اللهِ مَعَنَا" بِشَكْلٍ كَامِلٍ إِلَّا مِنْ خِلَالِ مَوْتِهِ وَقِيَامَتِهِ، إِذْ "اِبْنُ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ، بَلْ لِيَخْدِمَ وَيَفْدِيَ بِنَفْسِهِ جَمَاعَةَ النَّاسِ" (مَتّى 20: 28)، و"لَنْ يَكُونَ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ" (لُوقَا 1: 33). وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّ حُضُورَهُ الزَّمَنِيَّ سَيَنْتَهِي، إِذْ يَنْبَغِي أَنْ يُغَادِرَ خَاصَّتَهُ (يُوحَنَّا 13: 33)، لِيُعِدَّ لَهُمْ الْمَنَازِلَ الْكَثِيرَةَ فِي بَيْتِ الآبِ، كَمَا قَالَ: "فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ… وَإِذَا ذَهَبْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَقَامًا، أَرْجِعُ فَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، لِتَكُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا حَيْثُ أَنَا أَكُونُ" (يُوحَنَّا 14: 2–3).

 

 

الحَقِيقَةُ الرَّابِعَةُ: عَلاقَةُ يُوسُفَ بِمَرْيَمَ وَبِيَسُوعَ

 

أَوَّلًا: عَلاقَةُ يُوسُفَ بِمَرْيَمَ

 

إِنَّ يُوسُفَ هُوَ خَطِيبُ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ، كَمَا جَاءَ فِي إِنْجِيلِ مَتّى: "لَمَّا كَانَتْ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ" (مَتّى 1: 18).
وَقَدْ سَبَقَ لُوقَا الإِنْجِيلِيُّ فَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَائِلًا: "عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةً لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ، وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ" (لُوقَا 1: 27). وَكَخَطِيبٍ لِمَرْيَمَ، لَمْ يَتَّخِذْ يُوسُفُ مَوْقِفَ التَّشْهِيرِ بِهَا، "فَلَمْ يُرِدْ أَنْ يُشْهِرَ أَمْرَهَا" (مَتّى 1: 19)، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُمْكِنًا حَسَبَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَسْمَحُ بِفَسْخِ الْخِطْبَةِ رَسْمِيًّا فِي حَالَةِ خِيَانَةِ الْخَطِيبَةِ. إِلَّا أَنَّهُ "عَزَمَ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا سِرًّا" (مَتّى 1: 19)، فَيُعِيدُ إِلَيْهَا حُرِّيَّتَهَا الْكَامِلَةَ لِتَسْلُكَ الطَّرِيقَ الْمَحْفُوفَةَ بِالأَسْرَارِ الَّتِي أَدْخَلَهَا اللهُ فِيهَا. وَقَدْ مَرَّ يُوسُفُ بِأَزْمَةٍ دَاخِلِيَّةٍ فِي تَقَبُّلِ مَا يَطْلُبُهُ اللهُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ وَجَدَ نَفْسَهُ أَمَامَ حَقِيقَةٍ جَدِيدَةٍ وَجَذْرِيَّةٍ تَفُوقُ تَوَقُّعَاتِهِ، وَيُحَقِّقُهَا الرَّبُّ بِطَرِيقَةٍ لَمْ تَخْطُرْ عَلَى بَالِهِ.

 

وَيُفَسِّرُ مَتّى الإِنْجِيلِيُّ تَصَرُّفَ يُوسُفَ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ "كَانَ بَارًّا" (مَتّى 1: 19). وَهَذَا "الْبِرُّ" الَّذِي يَتَحَدَّثُ عَنْهُ مَتّى لا يَقُومُ عَلَى التَّطَابُقِ الْقَانُونِيِّ مَعَ الشَّرِيعَةِ وَلا عَلَى مُجَرَّدِ الإِنْصَافِ تُجَاهَ مَرْيَمَ، بَلْ عَلَى مَا تَعْنِيهِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، أَيْ الْمُطَابَقَةِ مَعَ الْقَصْدِ الإِلَهِيِّ وَالْمَشِيئَةِ الرَّبَّانِيَّةِ. وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ عَزِيزَةٌ عَلَى مَتّى الإِنْجِيلِيِّ، إِذْ تَرِدُ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً فِي إِنْجِيلِهِ، وَيَسْتَعْمِلُهَا لِوَصْفِ هَابِيلَ الْبَارِّ (مَتّى 23: 35)، أَيْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ الأَمِينِ لِلهِ، الَّذِي يَنْتَظِرُ تَدَخُّلَ اللهِ فِي حَيَاتِهِ وَحَيَاةِ شَعْبِهِ.

 

وَبِنَاءً عَلَى وَحْيِ مَلاَكِ الرَّبِّ لَهُ، "فَفَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ، فَأَتَى بِامْرَأَتِهِ إِلَى بَيْتِهِ" (مَتّى 1: 24). فَقَدْ كَشَفَ الْمَلاَكُ لِيُوسُفَ السِّرَّ الَّذِي مَلَأَ مَرْيَمَ، وَالْعَظَائِمَ الَّتِي صَنَعَهَا فِيهَا رُوحُ اللهِ. وَبِذَلِكَ تَغَيَّرَتْ نَظْرَةُ يُوسُفَ إِلَيْهَا: فَالْحَقِيقَةُ نَفْسُهَا الَّتِي دَفَعَتْهُ سَابِقًا إِلَى الاِبْتِعَادِ عَنْهَا فِي السِّرِّ، هِيَ ذَاتُهَا الَّتِي تَدْعُوهُ الآنَ إِلَى التَّرْحِيبِ بِهَا وَالأَخْذِ بِيَدِهَا. وَمَا أَبْعَدَهُ عَنْهَا فِي الْمَاضِي صَارَ الآنَ سَبَبًا لِقُرْبٍ أَعْمَقَ وَوَحْدَةٍ أَكْثَرَ رُسُوخًا.

 

وَلِكَوْنِهِ رَجُلًا بَارًّا، اخْتَارَ يُوسُفُ أَنْ يَضَعَ ثِقَتَهُ بِاللهِ أَكْثَرَ مِنْ ثِقَتِهِ بِنَفْسِهِ وَبِأَفْكَارِهِ وَمَخَاوِفِهِ. وَهَكَذَا، فَمَا إِنِ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ حَتَّى امْتَثَلَ لِمَا سَمِعَهُ، فَتَمَّ عَمَلُ اللهِ فِي حَيَاتِهِ. وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ إِيرُونِيمُوسُ عَلَى ضَرُورَةِ اسْتِمْرَارِ خِطْبَةِ يُوسُفَ الْبَارِّ لِمَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ قَائِلًا: "أَوَّلًا: لِكَيْ يُنْسَبَ يَسُوعُ إِلَى الْقِدِّيسِ يُوسُفَ، قَرِيبِ الْقِدِّيسَةِ مَرْيَمَ، فَيَظْهَرَ أَنَّهُ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ مِنْ نَسْلِ داوُدَ، مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا.ثَانِيًا: لِكَيْ لا تُرْجَمَ الْقِدِّيسَةُ مَرْيَمُ طِبْقًا لِلشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ كَزَانِيَةٍ، فَقَدْ سَلَّمَهَا الرَّبُّ إِلَى الْقِدِّيسِ الْبَارِّ، الَّذِي عَرَفَ بَرَاءَةَ خَطِيبَتِهِ، وَأَكَّدَ لَهُ الْمَلاَكُ سِرَّ حَبَلِهَا بِالْمَسِيحِ الْمُخَلِّصِ.
ثَالِثًا: لِكَيْ تَجِدَ الْقِدِّيسَةُ مَرْيَمُ مَنْ يُشَارِكُهَا فِي تَرْبِيَةِ يَسُوعَ وَرِعَايَتِهِ، خَاصَّةً أَثْنَاءَ هُرُوبِهِمْ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ".

 

ثَانِيًا: عَلاقَةُ يُوسُفَ بِيَسُوعَ

 

أَطْلَعَ مَلَاكُ الرَّبِّ يُوسُفَ عَلَى دَوْرِهِ الْمُحَدَّدِ تُجَاهَ يَسُوعَ، أَلَا وَهُوَ تَأْمِينُ انْتِمَائِهِ إِلَى بَيْتِ دَاوُدَ، وَذَلِكَ بِاتِّخَاذِ مَرْيَمَ امْرَأَةً لَهُ، كَمَا قَالَ لَهُ الْمَلَاكُ: "يَا يُوسُفَ ابْنَ دَاوُدَ، لا تَخَفْ أَنْ تَأْتِيَ بِامْرَأَتِكَ مَرْيَمَ إِلَى بَيْتِكَ" (مَتّى 1: 20).
فَامْتَثَلَ يُوسُفُ لِإِرَادَةِ اللهِ، وَاتَّخَذَ مَرْيَمَ زَوْجَةً لَهُ، "فَأَتَى بِامْرَأَتِهِ إِلَى بَيْتِهِ" (مَتّى 1: 24). وَمِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ، أَصْبَحَ يَسُوعُ ابْنَ مَرْيَمَ ابْنًا لِيُوسُفَ شَرْعًا. وَهَكَذَا أَعْطَى يُوسُفُ لِيَسُوعَ سُلالَةً شَرْعِيَّةً. فَيُوسُفُ هُوَ "أَبُو" يَسُوعَ، كَمَا يَرِدُ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا: "وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورَشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ" (لُوقَا 2: 41). وَتُؤَكِّدُ ذَلِكَ الْعَذْرَاءُ مَرْيَمُ نَفْسُهَا، قَائِلَةً لِيَسُوعَ: "يَا بُنَيَّ، لِمَ صَنَعْتَ بِنَا ذَلِكَ؟ فَأَنَا وَأَبُوكَ نَبْحَثُ عَنْكَ مُتَلَهِّفَيْنِ" (لُوقَا 2: 48).

 

وَهُنَا يَثُورُ التَّسَاؤُلُ: كَيْفَ يَكُونُ يَسُوعُ ابْنَ يُوسُفَ، وَبِالتَّالِي ابْنَ دَاوُدَ، عَلَى الرَّغْمِ مِنَ الْحَبَلِ الْبَتُولِيِّ؟
إِنَّ يُوسُفَ هُوَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ، وَحِينَ يَنْسُبُ إِلَيْهِ الْمَسِيحَ شَرْعًا، يُصْبِحُ يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ بِالْحَقِيقَةِ. فَبِاعْتِرَافِ يُوسُفَ الشَّرْعِيِّ بِيَسُوعَ ابْنًا لَهُ، يَصِيرُ ابْنُ مَرْيَمَ هُوَ نَفْسُهُ ابْنَ دَاوُدَ الْحَقِيقِيَّ. وَبِذَلِكَ يُتِمُّ الرَّبُّ وَعْدَهُ بِأَنْ يُقِيمَ لِدَاوُدَ سَلِيلَ الْمُلْكُوتِ الأَبَدِيِّ. وَهَكَذَا يَعْقِدُ يَسُوعُ عَلاقَةً بُنُوِيَّةً حَقِيقِيَّةً مَعَ يُوسُفَ، فَيُعْرَفُ مِنَ الآنَ فَصَاعِدًا بِأَنَّهُ "ابْنُ يُوسُفَ" (مَتّى 13: 55). وَيُعَرِّفُ فِيلِبُّسُ نَثَنَائِيلَ عَلَى هُوِيَّةِ يَسُوعَ قَائِلًا: "وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ: يَسُوعَ ابْنَ يُوسُفَ مِنَ النَّاصِرَةِ" (يُوحَنَّا 1: 45).

 

وَكَيْفَ أَصْبَحَ يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ؟ تَمَّ ذَلِكَ مِنْ خِلَالِ عَمَلَيْنِ أَسَاسِيَّيْنِ قَامَ بِهِمَا يُوسُفُ:

 

أَوَّلًا: "فَأَتَى بِامْرَأَتِهِ إِلَى بَيْتِهِ" (مَتّى 1: 24)، فَجَعَلَ مَرْيَمَ زَوْجَةً لَهُ حَسَبَ الْعُرْفِ الْيَهُودِيِّ، وَبِذَلِكَ اعْتَرَفَ شَرْعًا بِأُبُوَّتِهِ لِلطِّفْلِ الْمُزْمَعِ أَنْ يُولَدَ.

 

ثَانِيًا: إِطْلَاقُ الاِسْمِ عَلَى الطِّفْلِ، وَفْقَ أَمْرِ الْمَلَاكِ: "وَسَتَلِدُ ابْنًا فَسَمِّهِ يَسُوعَ" (مَتّى 1: 21).
وَإِطْلَاقُ الاِسْمِ فِي التَّقْلِيدِ الْكِتَابِيِّ يُعَبِّرُ عَنْ السُّلْطَةِ الأُبُوِيَّةِ، وَيُثْبِتُ أَنَّ الَّذِي يُسَمِّي هُوَ الأَبُ الشَّرْعِيُّ.

 

وَيَرْبِطُ إِنْجِيلُ لُوقَا تَسْمِيَةَ الطِّفْلِ بِفِعْلِ الْخِتَانِ، إِذْ يَقُولُ: "وَلَمَّا حَانَ يَوْمُ تَطْهِيرِهِمَا حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى، صَعِدُوا بِهِ إِلَى أُورَشَلِيمَ لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ" (لُوقَا 2: 22). وَالْخِتَانُ هُوَ الْفِعْلُ الرَّسْمِيُّ الَّذِي يُدْخِلُ بِهِ أَبُو الْعَائِلَةِ ابْنَهُ، بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ وِلادَتِهِ، فِي عَهْدِ إِسْرَائِيلَ. وَهَكَذَا كَانَ عَلَى يُوسُفَ أَنْ يُؤَمِّنَ لِيَسُوعَ سُلالَةً شَرْعِيَّةً. وَبِفَضْلِ تَبَنِّي يُوسُفَ لِيَسُوعَ، أَصْبَحَ ابْنُ مَرْيَمَ هُوَ ابْنَ دَاوُدَ الْحَقِيقِيَّ، لَا بِالْوِلادَةِ الْجَسَدِيَّةِ، بَلْ بِالتَّبَنِّي الشَّرْعِيِّ. وَهَكَذَا يُتِمُّ الرَّبُّ وَعْدَهُ بِأَنْ يُعْطِيَ لِدَاوُدَ سَلِيلَ الْمُلْكُوتِ الأَبَدِيِّ، فَيَصِيرُ دَاوُدُ أَبًا لِيَسُوعَ بِالتَّبَنِّي، لا بِالْوِلادَةِ الْبَشَرِيَّةِ.

 

وَيُقَدِّمُ إِنْجِيلُ مَتّى إِثْبَاتًا تَارِيخِيًّا لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ، إِذْ يُظْهِرُ أَنَّ يُوسُفَ تَبَنَّى يَسُوعَ عَلَى الرَّغْمِ مِنَ الْحَبَلِ الْبَتُولِيِّ، مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ فِي آنٍ مَعًا ابْنُ اللهِ وَابْنُ دَاوُدَ. وَهَذِهِ الأَحْدَاثُ نَقَلَهَا مَتّى الإِنْجِيلِيُّ عَنْ عَائِلَةِ يَسُوعَ، مُسْتَخْدِمًا نُصُوصَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ لِتَأْكِيدِ تَحَقُّقِهَا. وَهَكَذَا أَتَمَّ يُوسُفُ رِسَالَتَهُ بِأَمَانَةٍ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ، وَهُوَ الرُّوحُ نَفْسُهُ الَّذِي أَيَّدَ إِيمَانَهُ وَعَمَلَهُ، فَجَعَلَ مِنْ طَاعَتِهِ الصَّامِتَةِ خِدْمَةً خَلَاصِيَّةً فِي تَدْبِيرِ اللهِ.

 

 

الخُلاصَةُ

 

يُساعِدُنا اخْتِيارُ يُوسُفَ لِمَهَمَّةِ الأَبِ الْمُعْلَنِ لِيَسُوعَ، وَالْحَامِي لِبَتُولِيَّةِ مَرْيَمَ، عَلَى أَنْ نَفْهَمَ كَيْفَ أَنَّ مَرْيَمَ نَفْسَهَا كَانَتْ امْرَأَةً فَاضِلَةً، غَنِيَّةً بِالنِّعْمَةِ. وَيَدْعُوهَ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ "الْبَارَّ"، وَهَذَا اللَّقَبُ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْفَضَائِلِ مُجْتَمِعَةً. فَالْبَارُّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا، وَلِذَلِكَ نَرَى فِي يُوسُفَ، فِي الْمَقَامِ الأَوَّلِ، إِيمَانَهُ الْحَيَّ.

 

فَقَدْ آمَنَ بِأُلُوهِيَّةِ الطِّفْلِ الَّذِي ظَهَرَ عَلَى الأَرْضِ فَقِيرًا وَمُتَّضِعًا، وَآمَنَ بِهِ عَلَى الرَّغْمِ مِنَ الاِتِّضَاعِ الَّذِي يُحِيطُ بِهِ. وَمَنَحَهُ هَذَا الإِيمَانُ، كَمُكَافَأَةٍ، كَشْفَ أَسْرَارِ الْعَلِيِّ، الَّتِي نُقِلَتْ إِلَيْهِ مِنْ خِلَالِ الْمَلاَكِ، خُصُوصًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُومَةِ مَرْيَمَ. فَقَدْ آمَنَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: "إِنَّ الَّذِي كُوِّنَ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (مَتّى 1: 20)، فَلَمْ يَخَفْ أَنْ "يَأْتِيَ بِامْرَأَتِهِ إِلَى بَيْتِهِ" (مَتّى 1: 24).

 

وَمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، أَنَّهُ كَانَ مَدْعُوًّا أَنْ يُؤْمِنَ بِمَا يَتَعَذَّرُ تَصَوُّرُهُ بَشَرِيًّا: أُمُومَةِ عَذْرَاءَ، وَتَجَسُّدِ ابْنِ اللهِ، وَشَرْعِيَّةِ يَسُوعَ كَابْنٍ لِدَاوُدَ. وَبِفَضْلِ إِيمَانِهِ وَطَاعَتِهِ، اسْتَحَقَّ يُوسُفُ أَنْ تَتِمَّ هَذِهِ الأَسْرَارُ الْعَظِيمَةُ تَحْتَ سَقْفِ بَيْتِهِ.

 

فَهُوَ حَقًّا "الْوَكِيلُ الأَمِينُ الْعَاقِلُ الَّذِي يُقِيمُهُ سَيِّدُهُ عَلَى عَائِلَتِهِ" (لُوقَا 12: 42)، كَانَ يَقِظًا كُلِّيًّا لِلرَّبِّ، مُسْتَعِدًّا دَائِمًا لِإِيمَاءَاتِهِ، مُنْحَنِيًا لِخِدْمَتِهِ. وَيَكْشِفُ هَذَا التَّكْرِيسُ عَنْ مَحَبَّةٍ كَامِلَةٍ، إِذْ أَحَبَّ يُوسُفُ الرَّبَّ "مِنْ كُلِّ قَلْبِهِ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِهِ، وَمِنْ كُلِّ ذِهْنِهِ، وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِهِ" (مَرْقُس 12: 30).

 

لِذَلِكَ، لِنَسْتَعِدَّ لِمِيلادِ الرَّبِّ بِشَجَاعَةِ الإِيمَانِ، وَلِنُقَدِّمْ لَهُ قُلُوبَنَا، فِي اتِّحَادٍ رُوحِيٍّ مَعَ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ وَالْقِدِّيسِ يُوسُفَ. وَبِعَوْنِهِمَا، وَعَلَى مِثَالِهِمَا، دَعُونَا نَخْضَعْ لِعَمَلِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، لِيُقَدِّسَنَا إِلَهُ السَّلاَمِ كُلِّيًّا، فَنُصْبِحَ عَلامَةَ رَجَاءٍ وَأَدَاةَ خَلَاصٍ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ.

 

 

دُعَاء

 

اِمْنَحْنَا، أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلَهُ، فَضِيلَةَ صَمْتِ يُوسُفَ، وَشَجَاعَتَهُ، وَإِيمَانَهُ، وَرَجَاءَهُ،

لِكَيْ نَعْرِفَ حَقِيقَةَ سِرِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ الْمُتَجَسِّدِ بَيْنَنَا،

وَنَحْيَا فِي اتِّحَادٍ وَثِيقٍ مَعَهُ،

وَنُوَاجِهَ الظُّرُوفَ الصَّعْبَةَ وَالشَّدَائِدَ بِبَأْسٍ وَثَبَاتٍ،

مُسْتَنِدِينَ إِلَى كَلِمَةِ الرَّبِّ وَمَوَاعِيدِهِ. آمِينَ.