موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٨ يونيو / حزيران ٢٠٢٤

الراعي ... شاهد وشهيد

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
المونسنيور بيوس قاشا، راعي كنيسة السريان الكاثوليك في بغداد

المونسنيور بيوس قاشا، راعي كنيسة السريان الكاثوليك في بغداد

 

عالم اليوم مليء بهموم الحياة، وكثيرة هي الأمور المغرية والخدّاعة والتي تريد من عالمنا أن نبتعد عن أساس حياتنا مع الله الذي أحبنا حتى الموت. وهو يطلب منّا (عالمنا) أن نتعلّق كثيراً بعالم اليوم في التفتيش عن الأموال وجمعها، وعن الثروات وتكديسها، من أجل الحريات الإباحية والشهوات واللذات جسدية كانت أم دنيوية، والتشبّث بالسلطة وحب الظهور والكبرياء والأنانية المصلحية والتي تقودنا إلى استغلال الآخرين في عالم الفساد وربما التسلط، وكل ذلك يقودنا إلى الضياع وفقدان القيم الأخلاقية والإنسانية والروحية والكثير من الثوابت الإيمانية عبر الضجيج والصخب العالمي المليء بأصوات عديدة وغريبة.

 

أمام كل ذلك لا زالت رسالة التبشير تدعونا إلى التوبة لأنها ثمرة الإيمان، فهي تمنح الإنسان السلام الداخلي وتحمينا من تجارب الدنيا كما انتصر المسيح على الشيطان وتجاربه عبر إيمانه بأن رسالة الآب السماوي رسالة إلهية سماوية وهي نابعة من عمل الروح القدس.

 

والتحدي الكبير الذي نواجهه في حياتنا العالمية هو الفتور الذي يجعلنا نكتفي عن يسوع أو الكتابة عنه، هو الفتور في الأخلال والقيم، هو الفتور في الإيمان وفي إكمال رسالة السماء، هو الفتور في الصوم والصلاة واعتبار كل هذه الأمور قد أكملناها يوم كنّا صغاراً وهذه ربما جعلت كثيراً من المؤمنين أن يتركوا الكنيسة لأنهم ربما فقدوا ثقتهم بمصداقيتها وبرجالها وبتعاليمها إذ لا ترى هذه الشريحة الإيمان الأكير عبر أعمالهم وتصرفاتهم الغير مسؤولة.

 

من المؤسف، إنها خسارة كبيرة وهي إنشغال الكثير من رجال الكنيسة بأمور عديدة ليست من واجبهم ولا من رسالتهم، فتهمل أموراً أساية وضرورية لرسالتهم الراعوية المقدسة والتي يحملونها. وقد سبق معلّمنا في ذلك وأعلمنا حينما قال "مَرْثَا، مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا" (لوقا 41:10-42).

 

فالنشاطات الراعوية والفعاليات الكنسية ومهما كان نوعها وحجمها إذا لا ترتوي بإيمان الإنسان وبصلاته لا تستطيع أن تعطي ثمراً كبيراً. إنها رسالة عمل وليست رسالة رعية. نعم، ربما هي ضرورية ولكن ليس بضرورة عيش الإيمان في مسيرة الحياة وتقديس أبناء الرعية عبر الذبيحة اليومية التي يحتفل بها راعي الرعية، فقليلاً قليلاً يبرد الإيمان وتفقد الصلاة طريقها ولا يبقى الراعي إلا إنساناً عادياً بأعماله وأخاف أن تبرد حرارة حبه لرسالته. فمن المؤسف فَقَدَ المدعو إلى رسالة راعوية خاصة حرارته الإيمانية وأخذ يسير حسب منظور العولمة المزيفة، وأصبح ينام دون أن يبالي بمسيرة الحياة فيأتي الذئب ويخطف ويقتل وخلال الوقت الحاضر إذ الكثير من رجال الإيمان لا يتكلمون إلا عن هموم الدنيا المادية البحتة، عن البناء والاستثمار، عن المنظمات الأجنبية ومساعداتهم ومشاريعهم، عن الأموال والنقود، عن الهجرة وكيف يجب أن نهاجر وأمور أخرى دنيوية وإن كانت ضرورية فهي زائلة، وهذه كلها لا صلة لها بالرسالة الروحية والراعوية التي يحملونها ومن أجلها كرّسوا حياتهم ورسالتهم الإيمانية الراعوية، هذه هي بداية الكرازة والتبشير بيسوع المسيح وهم أرض خصبة لثمار يانعة وإلا ما الفائدة وجودهم على رأس الرعية وهو مهمِل لرسالته الإيمانية الراعوية فلا توجد حياة إيمانية خصبة ومثمرة دون التعلق بالمسيح الفادي وكل شيء يزاد لنا بعد ذلك.

 

والتعلق بالمسيح الحي ما هو إلا ركيزة لحياتهم المسيحية الإيمانية الراعوية عبر علاقة حيّة بين الله الآب وأبيهم وهذه العلاقة هي نعمة مجانية من الله تُعطى لمن يختار هذه الحياة ويحيا في حضور الرب دائماً. والرب يقول "لاَ تَطْلُبُوا أَنْتُمْ مَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَشْرَبُونَ وَلاَ تَقْلَقُوا، فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا أُمَمُ الْعَالَمِ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَبُوكُمْ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ. بَلِ اطْلُبُوا مَلَكُوتَ اللهِ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ" (لوقا 29:12-31) لربما نسينا هذا المَثَل أو تناسينا. إنه المثال الأمين لمسيرة الحياة الراعوية.

 

من المؤسف أحياناً حينما يتكلم المدعو ويكون حديثه عن الأمور الروحية والصلاة والعمل بها فيسخر البعض من طرح هكذا مواضيع ويعتبرونها تافهة لا مجال للحديث عنها وقد مرّ عليها الدهر والزمان ولا تنسجم مع التطور العلمي الحالي ومع الثقافة العصرية السائدة والتي تدعو غالباً إلى نبذ القيم الأخلاقية والتعاليم الدينية وتتمسك بقشور الحياة كغسل الأباريق، وهذا ما يدعو إلى الحزن والقلق. ويبقى شعبنا بعيداً عن الثقافة الإيمانية لأننا نحن أردنا ذلك.

 

نعم، إنه التيار العلماني وقد حذّرنا منه البابا فرنسيس، فهو يغزو كنائسنا وكبارنا وشعبنا وهذا ما يجعل الجميع ينحرف عن المسيرة الأمينة والرسالة الراعوية المقدسة، ويجعلنا نستغني عن الله ونبتعد عن حبه ورسالته المقدسة، وهو الذي سبق وأعلمنا عبر يوحنا الحبيب "إِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُبْغِضُكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِي قَبْلَكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ، بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ، لِذلِكَ يُبْغِضُكُمُ الْعَالَمُ" (يوحنا 18:15-19). فالرسالة الراعوية الإيمانية تتطلب من المدعو أن يسير عكس التيار، تيار العالم، وليس أن يتبع ويتشبّه به ويعمل ما يشاء وما يُطلَب منه، وبهذه العلامة مع المسيح الحي يجد المدعو نفسه منتصراً رغم صعوبة مسيرة حياته.

 

ختاماً، أرجو أن لا ينسى المدعو رسالته الراعوية المقدسة وحياته الإيمانية الروحية أي أن يكون شاهداً للمسيح الحي من خلال حياته وتواضعه ونقاوة قلبه وحقيقة إيمانه، ويعمل من أجل رسالته شاهداً وشهيداً وخاصة في هذا الزمن القاسي. ولنقل "ما أطيب نير الرب"... نعم وآمين.