موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أيها الإخوة والأخوات
لا شيءَ في الحياة أهمّ من الخلاص من خطيئةٍ جسيمة. ومن أجسمِ الخطايا أننا الخطيئة المميتة تركنا دربَ الخلاص لدربِ الهلاك بتركِنا دربَ محبةِ الله (الذي لا يموت) لدربِ محبةِ الذات ومحبةِ البشر المائتين. فالبشر الذين يصفّقونَ للمسيح دون إيمانٍ يُذكَر، سيموتونَ غداً. فخلاصُنا إذاً هو في العودةِ إلى الدربِ الصحيحة. فدربُنا إلى الله، دربُ اللهِ إلينا، فهو الذي شقَّ الطريقَ لا نحنُ. فما كانت دربُ الله كما نسلكها فنبلغُ إليه، وهذه الدرب هي أنْ نكونَ لله من أجلِ البشر، يعني أنْ أُوصِلَ اللهَ إلى البشر وليس أنْ أُوصِلَ ذاتي إلى البشر.
فالمسيح المولود هو إنسانٌ بكلِّ معنى الكلمة "والكلمةُ صار جسداً" يقولُ القديسُ يوحنا. جسداً حقيقياً، جسداً طاهراً حقاً، جسداً مُحيياً. ليس جسداً كما يشاءُ البشر، إنما مرتبطٌ بأجسادٍ قد اختبرتْ بشاعةَ الخطيئة على مرِّ الأجيالِ والعصور، لذا علينا أنْ نحاربَ فينا ما قد جاء ليحاربه في العالم.
فنحنُ في الميلاد نرتبطُ بالمسيح رغِبنا بذلك أم لا، لذا ينبغي أنْ نحاولَ بفضلِ نعمتِهِ أنْ نتخلّى عن بشريَّتِنا الخاطئة، عن إنسانِنا العتيق، عن الأنانيةِ والدَنَسِ والبُغضِ والحقدِ والطمع، وحبّ الأنا وحبّ البشر ، لذا فنحنُ والمسيح من نَسَبٍ واحد، من عائلةٍ واحدة. فتاريخُهُ تاريخُنا، ورسالتُهُ رسالتُنا، فعلى كلٍّ منا أنْ يكونَ في مجالِ بناء الإيمان والخلاص "اذهبوا وتلمذوا جميعَ الأُمم" (متى 19:28).
فابنُ اللهِ في مذودِ بقرٍ. أَشْرَفُ عائلةٍ عرفَها التاريخ. عائلةٌ تضمُّ إلهاً وأُمَّ إله ترضى بمذودِ بقرٍ. يا لَها من أمثولةٍ لِمَن يؤلِّهونَ أنفسَهم والمالَ والمصلحةَ وأمجادَ العالم، غيرَ آبهين بتحذيرِ المسيح "لا يمكنكم أنْ تعبدوا ربَّيْن: الله والمال" (متى 24:6). فكلُّ مرةٍ نقفلُ بابَ قلبِنا في وجهِ المسيح، نقفلُهُ في وجهِ الفقير ونفتحُهُ في وجهِنا، فنرى أنفسَنا ولا نرى المسيح. إنه إيمانُنا. إنها القناعة والطاعة والطهارة والمحبة.
القناعة: تجعلُنا نقول مع ما قالَه الرسول بولس في رسالتِهِ الأولى إلى تلميذِهِ تيموثاوس:"إِنَّنا لم نَأتِ العالَمَ وَمَعَنا شَيء، ولا نَستَطيعُ أَن نَخرُجَ مِنه ومَعَنا شَيء" (1تيم7:6-8) وما أكثرُهم اليوم "فابنُ الإِنسان لَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه" (متى20:8).
الطاعة: تتجلّى في البشارة "لَقَد نَزَلتُ مِنَ السَّماء لأَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني" (يو38:6) وقال أيضاً"أَعْطُوا ما لقيصرَ لقيصرَ وما للهِ لله" (مر17:12) فطريقُنا ودربُنا إليه هو الطاعة لمشيئتِهِ. أنظروا يوسفَ البتول، بطاعتِهِ اكتشف قولَ الربّ. إنها طاعة الإيمان. فالطاعة هي من الإيمان، والإيمان هو الطاعة. فالمبادرة هي دائماً في يدِ الله لأنَّ الإيمانَ الحقيقي يدفعُ بالإنسان إلى الطاعة، وليس أنْ تكونَ الطاعةُ نظرية أو عاطفية بل إيمانٌ حقيقي نابع من القلب. إنه التزام... إنه نعمةَ النِعَم. يا لَيتَنا نتعلَّمُ الإيمانَ في طاعتِنا كما كان مار يوسف.
الطهارة: طريقُنا إلى القداسةِ والنقاء والشفافية. يقولُ الكتاب المقدس "أَنَّه لَيسَ لِلزَّاني ولا لِمُرتَكِبِ الفَحْشاءِ ولا لِلجَشعَ مِيراثٌ في مَلكوتِ المسيحِ واللّه" (أفسس5:5).
المحبة: تركَ يسوعُ السماء. إنه دربُهُ إلينا، فجاء إلينا ومات عنّا على الصليب. فطريقُنا إليه المحبة. محبةُ الله تجعلُكَ أنْ تصمتَ أمامَ الذين يكذبونَ ويسرقونَ لكي يُدركوا أنهم سرقوا وكذبوا وقالوا. إنه طريقُ الهلاك الأكيد. فلا الدرب يكون للحقدِ والضغينة "فكلُّ مَملَكةٍ تَنقَسِمُ على نَفْسِها تَخْرَب" (متى25:12).
فدربُنا إلى الله، دربُ اللهِ إلينا، ونقول "مَن سارَ على الدربِ وصل".
والإنسانُ المؤمن تطرَّقَ إلى اكتشافِ حقيقةِ الله. فقبلَ الميلاد كان اللهُ يكشفُ عن ذاتِهِ عِبْرَ أعمالِهِ وأقوالِ الأنبياء. وكثيراً ما كان يظهرُ كالمَلِكِ المقتَدِر والسيّدِ المطلَق. فالإلهُ الحقيقي كان في نظرِهِم حيال الآلهة الوثنية، الله ذلك الذي يَغلُب ولا يُغلَب، وهذه العقلية لمْ تَمُتْ لحدِّ الآن "أنَّ إلَهنا هو الأقوى" وفي نيَّتِهِم هو الأصحّ. وكان يستولي عليهم الرعبُ كما حدث للنبي إشعيا إذ قال:"قدوسٌ، قدوسٌ، قدوسٌ، ربُّ القوّات. الأرضُ كلُّها مملوءةٌ من مجدِهِ..... امتلأَ البيتُ دُخاناً. وَيلٌ لي، قد هَلَكتُ لأني رجُلٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْن" (اشعيا 3:6-5) وهذا ما حدثَ لموسى لمّأ تراءى له الربُّ في العُلَّيقة. نعم، يعتقدُ الكثيرونَ أنَّ اللهَ مَلِكٌ رهيبٌ وسيّدٌ عظيمٌ ليس إلاّ، فيبثّون تديّنهم على الخوف، لكنَّ الله في الميلاد كشفَ لنا عن ذاتِهِ الحقيقية أنه رحومٌ ومُحبّ.
فالله، الإلهُ الحقيقي، هو ذلك الذي تجسّد في يسوعَ المسيح، ومِنْ ثَمَّ فإنه إلهُ المحبةِ، والقريبُ منّا، المتَّخِذْ صورتَنا، الحاني علينا، الحامل خطايانا، الغافر آثامَنا. إنه الحنانُ المطلَق الذي أرادَ أنْ يعيدَنا إليهِ، فتغلغلَ في الزمن هو الأزلي، وفي الخليقةِ هو الخالق، وفي عالمِ الكائنات هو الكائنُ بالذات رادَأ
، وفي عالمِ الخطيئة هو القدوس. إلهُنا الذي ظهرَ للبشرِ بصورةِ بشرٍ، يسوعَ المسيح. عَرَفْنا المسيح، فعَرَفنا أنَّ له قلبٌ إلهي في جسمٍ بشريّ، وقلبٍ بشري في جسمٍ إلهي. وهو إلهٌ مغرَمٌ بالإنسان، في إنسانٍ مغرَمٍ بالله. وإلهٌ يصافحُ إنسان، في إنسانٍ يصافحُ الله. فهو حقٌّ ونور وحياةٌ وخلاصٌ لجميعِ الناس المختلفين. هو محورُ التاريخ وحياةِ البشر، وهو محور حياتِنا، ولا مجالَ آخر يتمحور حول حياتِنا، لا المال ولا الملذّات. فالإلهُ تأنَّسَ، ليس لذاتِهِ بل للغير، ونحنُ لِمَن نحنُ، لذاتِنا فننكمش، أم لغيرِنا فننتفخ؟.
فاللهُ زارَنا واستقبلَنا، ولكن كيف سنستقبله عندما يزورنا في الأحداث، في القريب المحتاج، في الافخارستيا، وفي حوادثَ كثيرة؟ لقد أطلَّ علينا بوجهٍ بشريّ، وهو لا يزالُ منذ ذلك الحين - ومن خلالِنا نحن البشر - يطلُّ على الجميع بوجهِ المحبّينَ من البشر. فالميلاد هو ميلادُ السلامِ والأمان والحبّ، وهذه كلُّها حَمَلَها المسيحُ بولادتِهِ. فالسلام مشروطٌ بتمجيدِ الله. فمجِّدوا اللهَ، تجدوا السلام.
ماذا يعني "مجِّدوا الله"؟ يعني أنْ تجعلوا اللهَ يتمجَّد فيكم بالأعمالِ الصالحة. لذا علينا أنْ نعترفَ بالحقّ كما فعلها قائدُ المائة إذ مجَّدَ اللهَ وقال:"حقاً هذا الرجلُ كان بارّاً" (لوقا47:23) وأنْ نعطيَ ثمراً كثيراً في حياتِنا، وننبذَ إرضاء الغرائز، كما جاءَ في سفرِ أعمال الرسل "قَبَضَ المَلِكُ هيرودُسُ على بَعضِ أَهلِ الكَنيسة لِيُوقِعَ بهِمِ الشَّرَّ، فقَتَلَ بِحَدِّ السَّيفِ يَعقوبَ أَخا يوحَنَّا... وكانَ الشَّعبُ يصيح "هذا صَوتُ إِله لا صوتُ إنسان" ضرَبَ مَلاكُ الرَّبِّ هيرودسَ مِن وَقتِه لأَنَّه لم يُمَجِّدِ الله. فأَكلَه الدُّود ولَفَظَ الرُّوح" (أع 1:12-2و22-23).
لذا علينا أنْ نجعلَ من أنفسِنا هياكلَ الروح القدس، ونُرضيَ الله في كلِّ شيء، ونُسعفَ الجميعَ، ونعملَ على نشرِ بشارةِ الخلاص. فتمجيدُ الله هو السلام. فكيف يكونُ السلام وهناك خَرْقٌ لحقوقِ الإنسان واحتيالٌ واحتكار، وهناك بغضٌ وكراهيةٌ وانتقام، وهناك تكبُّرٌ وتبجُّحٌ واستبداد، وهناك عدم قول الحقيقة والظنُّ بالآخرين حينما ننقل الكلام، وهناك حريةٌ بشرية وحرصٌ لا مثيلَ له على المصالحِ الشخصية والعشائرية والطائفية والمذهبية، وهناك عدمُ اطمئنانٍ للغد.
فمجِّدوا اللهَ، تجدوا السلام... هذا هو الميلاد، أنَّ اللهَ فتح لنا دربَ السماء، فبإمكاننا أنْ نقول: مجداً للهِ في العلى، وعلى الأرضِ السلام ... وكلُّ عامٍ وأنتم بخير ... وميلاد مجيد.
ولد المسيح هاليلويا ... ولد المسيح هاليلويا ... ولد المسيح هاليلويا