موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٥ يونيو / حزيران ٢٠٢٢

التفرّغ للحياة الرسولية

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الثالث عشر من السنة: التفرّغ للحياة الرسولية (لوقا 9: 51-62)

الأحد الثالث عشر من السنة: التفرّغ للحياة الرسولية (لوقا 9: 51-62)

 

النص الإنجيلي (لوقا 9: 51-62)

 

51 ولَمَّا حانَت أَيَّامُ ارتِفاعه، عَزَمَ على الاتِّجاهِ إِلى أُورَشَليم. 52 فأَرسلَ رُسُلاً يَتَقَدَّمونَه، فذَهبوا فدَخَلوا قَريَةً لِلسامِريِّين لِيُعِدُّوا العِدَّةَ لِقُدومِه 53 فلَم يَقبَلوه لِأَنَّه كانَ مُتَّجِهاً إِلى أُورَشَليم. 54 فلمَّا رأَى ذلكَ تِلميذاهُ يَعقوبُ ويوحنَّا قالا: ((يا ربّ، أَتُريدُ أَن نَأمُرَ النَّارَ فتَنزِلَ مِنَ السَّماءِ وتَأكُلَهم؟)) 55 فالتَفَتَ يسوعُ وانتَهَرَهما. 56 فمَضَوا إِلى قَريَةٍ أُخرى.57 وبَينَما هُم سائرون، قالَ لَه رَجُلٌ في الطَّريق: ((أَتبَعُكَ حيثُ تَمْضي)). 58 فقالَ لَه يسوع: ((إِنَّ لِلثَّعالِبِ أَوجِرَة ولِطُيورِ السَّماءِ أَوكاراً، وأَمَّا ابنُ الإِنسان فلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه)). 59 وقالَ لآخَر: ((اِتْبَعْني!)) فقال: ((إِيْذَنْ لي أَن أَمضِيَ أَوَّلاً فَأَدفِنَ أَبي)). 60 فقالَ لَه: ((دَعِ المَوتى يَدفِنونَ مَوتاهم. وأَمَّا أَنتَ فَامضِ وبَشِّرْ بمَلَكوتِ الله)). 61 وقالَ لَه آخَر: ((أَتبَعُكَ يا ربّ، ولكِنِ ائذَنْ لي أَوَّلاً أَن أُوَدِّعَ أَهلَ بَيتي)). 62 فقالَ لَه يسوع: ((ما مِن أَحَدٍ يَضَعُ يَدَه على المِحراث، ثُمَّ يَلتَفِتُ إِلى الوَراء، يَصلُحُ لِمَلَكوتِ الله)).

 

 

مقدمة

 

يروي إنجيل الأحد الثالث عشر من السنة (لوقا 9: 51-62) حوار يسوع في مسيرته نحو أورشليم مع ثلاثة رجال يريدون اتباعه من أجل التفرغ للحياة الرسولية. فما هي الشروط التي يطلبها يسوع للسير معه؟ المسيرة إلى اورشليم أساسية في رواية إنجيل لوقا، إذ تنتهي قصة يسوع في أورشليم مع ذبيحته وظهوراته وصعوده (24: 36 -53، أعمال 1: 4 -13)؛ فمن اورشليم تبدأ الشهادة للإنجيل المقدس للمسيرة إلى اورشليم السماوية وهذا يتطلب مسيرة مع يسوع دون تحفظ، دون رجوع والى الأبد.  ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 9: 51 – 62)

 

51 ولَمَّا حانَت أَيَّامُ ارتِفاعه، عَزَمَ على الاتِّجاهِ إلى أُورَشَليم.

 

تشير عبارة "لَمَّا حانَت أَيَّامُ" إلى اقتراب من أيام السنة الأخيرة من حياة المسيح على الأرض. وكل شيء يسير وفق خطة إلهية أزلية، فالأحداث لا تحصل من قبيل الصدفة.  وفي هذا النص انتهت خدمة المسيح في الجليل وبدأ الجزء الثاني من إنجيل لوقا الذي يتميَّز بمسيرة المسيح إلى اورشليم للصلب والموت مع ذكر أعماله في جولاته في بيريه (لوقا 9: 51-19: 28)، بينما اقتصرت أناجيل متى (19: 1) ومرقس (10: 1-21) ويوحنا (7: 14) على المسيرة إلى اورشليم فقط؛ أمَّا عبارة "ارتِفاعه" فتشير إلى بدء صعود يسوع إلى اورشليم لمواجهة أصحاب السلطة (لوقا 9: 51-62) ثم ارتفاعه على الصليب وموته وقيامته ثم صعوده إلى السماوات؛ وهذا الارتفاع ليس صدفة، إنما هو تتميم للسر الفصحي.  وقد استخدم هذا التعبير "ارتفاع" مع إيليا عند ارتفاعه إلى السماء (2 ملوك 2: 9-11)، وفي تمجيد "العبد المتألِّم "(أشعيا 42: 1) وعند صعود المسيح (أعمال 11: 1-2)، إذ قرُبت أيَّام السيِّد المسيح ليتمجَّد بدخوله إلى الآلام كعبدٍ ليعبُر إلى أمجاده صاعدًا إلي السماوات؛  أمَّا عبارة "عزَمَ" في اللفظة اليونانية πρόσωπον ἐστήρισεν   فمعناها الحرفي "قسّى وجهه"  أو ثبّت وجهه وهو تعبير عبري יָּשֶׂם אֶת־פָּנָיו (حزقيال 6: 2) يعني العزيمة القوية أمام الصعوبات القائمة، وهو تلميح إلى ما ورد في أشعيا " جَعَلتُ وَجْهي كالصَّوَّان" (أشعيا 50: 7).  تصلب الوجه ينبع من نظرات الوجه الحازمة، لانَّ الوجه لدى لوقا الإنجيلي له أهميته، لأنه يصف هوية الشخص. إنه أجمل تعبير عن يسوع الإنسان والإله الذي يُسلم ذاته لأبيه السماوي وللبشر ليُخلصهم فعزم عزما ثابتُ أن يذهب إلى اورشليم للآلام والموت. ولعلّ ظهرت على وجهه مؤشرات ذلك العزم. يسوع يفاجئنا بإرادته الحرة. فالمسيح عزم بحزمٍ في إتخذ قراره للاتجاه إلى أورشليم لعبور الموت بإرادته، إذ هو مُتيقّن أنَّ أعداءه يتآمرون عليه، ويحكمون عليه ويُصلب ويموت. بالرغم كل ذلك، لم يحيده مرارة الألم وموت الصليب عن قراره.  لقد جاء يسوع لهذه الساعة لخلاص البشر مُمجِّدًا إيانا معه وبه وفيه؛ فيسوع يُقرر المضي قُدُماً في مسيرته إلى اورشليم حيث سيتم السر الفصحى لتحقيق مصيره مهما كانت الظروف، كما جاء في أقواله: "ما مِن أَحَدٍ يَنتزِعُها مِنَّي بل إنّني أَبذِلُها بِرِضايَ. فَلي أَن أَبذِلَها ولي أَن أَنالَها ثانِيَةً وهذا الأَمرُ تَلَقَّيتُه مِن أَبي" (يوحنا 10: 19). توجه يسوع بعزيمة وإصرار إلى اورشليم ليستكمل رسالة الخلاصية، وهو في مسيرته نحو أورشليم. أمَّا عبارة "الاتِّجاهِ " πρόσωπον فتشير إلى مسيرة يسوع على الطريق المباشر (لوقا 13: 22) مجتازاً السامرة (لوقا 17: 11) ثم عبر الأردن إلى بيريه ثم إلى اورشليم (لوقا 18: 31).  وهذه العبارة "الاتِّجاهِ " تكرَّرت أربع مرات لأهميتها في هذا النص الإنجيلي.  وأمَّا عبارة " أُورَشَليم " فتشير إلى عاصمة يهوذا وفلسطين السياسية لزمن طويل. أول مرة ورد فيها اسم أورشليم هو في نقش مصري قديم يرجع إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وفيه تصب اللعنة على أمير هذه المدينة. وربما أن معنى هذا الاسم هو ((أساس السلام)) أو ((أساس الإله شاليم)) وتدعى هذه المدينة "ساليم"، في سفر المزامير (مزمور 76: 2)، لذا يرجح أن شاليم التي كان ملكي صادق ملكاً لها هي نفس أورشليم (تكوين 14: 18). أما أسماء أورشليم الأخرى فهي: -يبوس (قضاة 19: 10 و11) اريئيل (أشعيا 29: 1) مدينة العدل (أشعيا 1: 26) والمدينة (مزمور 72: 16) ومدينة القدس أو المدينة المقدسة (أشعيا 48: 2 ومتى 4: 5) أما أسماؤها في العربية فهي تسمّى بيت المقدس والمقدس والقدس الشريف، والاسم الغالب هو القدس.  يُبرزُ لوقا وجهاً مسيحيا إلى اورشليم. فأورشليم هي، في حياة يسوع، المركز الذي ينتهي إليه كلّ شيء: يُقدَّم يسوع فيها في الهيكل، ونفوس أمينة كسمعان الشيخ وحنة النبية تُدرك كيف تتعرّف إليه (لوقا 2: 22-28)، وفي الثانية عشرة من عمره، يصعد إليها ويُظهر حكمة بين العلماء (2: 41-50)، مما يُشكّل إعلاناً مستتراً عن ظهوره وذبيحته المستقبليّة. فأورشليم هي مقصد حياته: "لا ينبغي لنبيٍّ أن يهلك في خارج أورشليم" (13: 33). وهكذا يبرز لوقا بشكل ملفت للانتباه صعود يسوع نحو المدينة التي عليه أن ينجز فيها رحيله (9: 31، 9: 51، 13: 22، 17: 11، 18: 31، 19: 11 و28). وأمام الرفض النهائي الذي سيواجه رسالته، يعلن عن خرابها (19: 41-44، 21: 20-24) لكن ارتقاب الزمن الانتقالي، هو "زمن الوثنيين"، يفصل بوضوح بين حادث الخراب والتمام النهائي (21: 24-28). إذا كانت قصة يسوع تنتهي في أورشليم مع ذبيحته وظهوراته للرسل وصعوده إلى السماء (24: 36 -53، أعمال 1: 4 -13)، فإن تاريخ الشهادة بدأت من هنالك أيضاً. ففي أورشليم، ينال تلاميذ المسيح الروح القدس (أعمال 2). ومذ ذاك، فهم مرسلون لكي يحملوا الإنجيل من أورشليم إلى اليهودية، ثم إلى السامرة حتى أقاصي الأرض (لوقا 24: 47). وفي الواقع، إنهم يعلنون أولاً البشرى في اورشليم وهناك يؤسسون الجماعة المسيحية الأولى (أعمال 2 إلى 7).

 

52 فأَرسلَ رُسُلاً يَتَقَدَّمونَه، فذَهبوا فدَخَلوا قَريَةً لِلسامِريِّين لِيُعِدُّوا العِدَّةَ لِقُدومِه

 

تشير عبارة " فأَرسلَ رُسُلاً" إلى يسوع الذي أرسل تلاميذه كي يمهِّدوا وصوله إلى القرية؛ وكان أول حادث من حوادث سفره من الجليل مرورا بالسامرة، وغاية إرساله الرسل إعداد الحاجات المادية من مأوى وطعام للمسيح وأصحابه.  ولعله قصد يسوع أيضا أن ينبَّئ الرسل بمجيئه إليهم مسيحا، لأنه لم يَخفِ دعواه في السامرة صرَّح يسوع للمرأة السامرية انه المسيح: " أَنا هو، أَنا الَّذي يُكَلِّمُكِ"(يوحنا 4: 26).  أمَّا عبارة "يَتَقَدَّمونَه" في اللفظة اليونانية πρόσωπον (معناها أمام وجهه) فتشير إلى الاتجاه أو أمام وجهه. تكررت هذه اللفظة في الآية السابقة (51) وفي الآية اللاحقة (53) للدلالة على المعنى القدسي من رحيل يسوع إلى اورشليم وأهميته؛ أمَّا عبارة" قَريَةً لِلسامِريِّين " فتشير إلى العداوة بين اليهود والسامريين فكان اليهود يتجنّبون الاتصال بالسامريين وكانوا يكرهونهم بسبب فساد أصلهم واختلاف أفكارهم الدينية كما نستنتج من كلمات السامرية إلى يسوع “كَيفَ تسأَلُني أَن أَسقِيَكَ وأَنتَ يَهوديٌّ وأنا امرَأَةٌ سامِريَّة؟ لِأَنَّ اليَهودَ لا يُخالِطونَ السامِرِيِّين"(يوحنا 4: 9)؛ أمَّا يسوع فلم يكن لديه مثل تلك الأحقاد بل تخلى عن تلك المنازعات كما ورد في مثل السامري الرحيم (لوقا 10: 33-37)؛ ولا شك أنَّ لوقا يرى في ذلك مقدمة لرسالة فيلبس في السامرة (أعمال الرسل 8: 5-25)، لكن السامريون رفضوا استقبال يسوع، فتوجب عليه وعلى تلاميذه تجنّب المرور بالسامرة، بل بشرق الأردن، فيعبروا في أريحا (لوقا 19: 1) للوصول إلى اورشليم. أمَّا عبارة "لِلسامِريِّين" فتشير إلى السكان المتصلون بالمملكة الشمالية (2 الملوك الثاني 17: 29). وهم من السلالة الناتجة من تزاوج مع من تبقى من اليهود في السامرة مع غرباء من شعوب مختلفة لدى غزو الأشوريون مملكة الشمال سنة 721 ق.م. (2 ملوك 17: 24-41).  وفي كتابات العبرانيين المتأخرة التي جاءت بعد السبي كان معناها سكان إقليم السامرة الذي يقع في وسط فلسطين (لوقا 17: 11). وكان العداء مستحكماً بين اليهود والسامِريّين، ولم يكن اليهود يسمحون بأي علاقة اجتماعية أو دينية مع السامِريّين. وبعدما رفض زربابل اشتراكهم في بناء هيكل اورشليم أصبحوا أعداء اليهود. فبنى السّامريُّون هيكلاً على جبل جرزيم تحت قيادة سنبلط الحوروني ومنسَّى الكاهن، وهو واحد من بني يوياداع بن ألياشيب الكاهن العظيم صهراً لسنبلط (عزرا 4).  وفي زمن المسيح لم تكن عقائدهم اللاهوتية تختلف عن عقائد اليهود وخصوصاً عقائد الصدُّوقيين منهم، وكانوا مثلهم ينتظرون ((المسيا)) على أنهم لم يقبلوا من العهد القديم إلا أسفار موسى الخمسة. وقد قبل السَّامريُّون رسالة المسيح بعد أن رأوا الآيات العظيمة على يد فيلبس الشماس (أعمال الرسل 8: 4-25)، ولا تزال هناك جماعة قليلة من السامريين تقيم في نابلس (شكيم القديمة) وحولها. وهم يصعدون إلى جبلهم جرزيم ثلاث مرات في السنة: في عيد الفصح وعيد الأسابيع وعيد المظال، وهم يُعيّدون الأعياد الموسويّة، ويذبحون ذبائح دمويّة في عيد الفصح. أمَّا عبارة "لِيُعِدُّوا العِدَّةَ لِقُدومِه" فتشير إلى إعداد الحاجات الجسدية من مأوى وطعام له ولتلاميذه.  وتوكّد اللفظة اليونانية   ἑτοιμάσαι "لِيُعِدُّوا" على قرار يسوع بالمرور في ارض السامرة ـ لأنه يحب جميع البشر آيا كانوا؛ 

 

53 فلَم يَقبَلوه لِأَنَّه كانَ مُتَّجِهاً إلى أُورَشَليم

 

تشير عبارة "لَم يَقبَلوه" إلى رفض أهل القرى استقبال يسوع من اجل المأوى والطعام. وقد زار المسيح السامرة قبل ذلك بسنتين ورحَّب السَّامريُون به، ولكنه لم يكن يومئذ متجهًا إلى اورشليم (يوحنا 4: 40). أمَّا عبارة " مُتَّجِهاً إلى أُورَشَليم" في الأصل اليوناني τὸ πρόσωπον αὐτοῦ ἦν πορευόμενον εἰς Ἰερουσαλήμ. (معناها وجهه كان متجهً نحو اورشليم) فتشير إلى المسيح كان صاعدً إلى هيكل اورشليم بعزمٍ ليحضر عيد المظال هناك (يوحنا 7: 14) ويقدم العبادة فيه، لكن السَّامريّون اعتبروا جبل جرزيم موضع العبادة الحقيقية. لذلك السّامريّون لا يُحبون اليهود وبالتحديد الصاعدين منهم للعبادة في اورشليم، لأنهم يعتقدون أن السجود ينبغي أن يكون عندهم في جبل جرزيم وليس في اورشليم (يوحنا 4: 20).  فالسامريون لم يرفضوا يسوع لشخصه المخلص، بل رفضوه نتيجة جهلهم بما لأورشليم من رمز ومكانة، ونتيجة تعصبهم لعقائدهم.  يا له من عَجَبٍ تنازل يسوع واتضاعه برضاه أن يكون ضيفا في بيت قرية سامرية رفض أهلها أن يبيت ضيفا عندهم ليلة واحدة.

 

54 فلمَّا رأَى ذلكَ تِلميذاهُ يَعقوبُ ويوحنَّا قالا: ((يا ربّ، أَتُريدُ أَن نَأمُرَ النَّارَ فتَنزِلَ مِنَ السَّماءِ وتَأكُلَهم؟ ))

 

تشير عبارة " فلمَّا رأَى ذلكَ تِلميذاهُ" إلى عِلم التلميذين يَعقوبُ ويوحنَّا مِمَن أرسلهم المسيح إلى القرية أو من مشاهدة إمارات العداوة التي أظهرها أهل القرية حين اقتربا منها.  أمَّا عبارة " أَن نَأمُرَ النَّارَ فتَنزِلَ مِنَ السَّماءِ وتَأكُلَهم؟ " فتشير إلى العقاب الذي انزله إيليا النبي لرسل الملك أخزيا، أعداء الرب (2 ملوك 1: 10-12). أذ عندما رفضت القرية السامرية استقبال تلاميذ يسوع، لم يُردْ يعقوب ويوحنا أن يكتفيا بنفض الغبار عن أقدامهما (لوقا 9: 5)، بل أرادا الانتقام بطلب من السيد المسيح لإنزال نار من السماء اقتداء بالنبي إيليا والتهام هذه القرية.  ولعلَّه بسبب هذا الروح المُتَّقد دعاهما المسيح “بُوَانرْجس" Βοανηργές,  وفي العبرية  בְּנֵי־רְגוֹשׂ أي اِبنيْ الرَعد (مرقس 3: 17). إن روح الشر والانتقام متأصلٌ في قلب الإنسان.  ووظيفة المسيح غير وظيفة إيليا النبي. فان الله أرسل إيليا ليُجري قضاءه على عشرة أسباط إسرائيل عقابًا لهم على تركهم عبادته تعالى والتمسك بعبادة بعل. أمَّا المسيح فأتى للخلاص لا للانتقام، لكن الرب لم يأت ليهلك بل ليخلص (متى 18: :11، ويوحنا 3: 7، 5: 45). ويخلصنا عن طريق استبدال قلب الحجر بقلب من لحم.  كما يقول الرب على لسان حزقيال النبي "ُعطيهِم قَلبًا آخَر، وأَجعَلُ فيهم روحًا جَديدًا، وأَنزِعْ مِن لَحمِهم قَلبَ الحَجَرِ وأُعْطيهِم قَلبًا مِن لَحْم" (حزقيال 11: 19). وهذا ما حدث مع السامريين لدى تبشير الشماس فيلبُّس لهم (أعمال الرسل 8: 5) ونزول الروح القدس عليهم لدى صلاة الرسولين بطرس ويوحنا عليهم (أعمال الرسل 8: 14-15). علَّنا نتبع خطى القديس الرسول بطرس وهو يناشد المسيحيين بحرارة " سِيروا سِيرةً حَسَنةً بَينَ الوَثنِيِّين " (1 بطرس 2: 12) وتوصية بولس الرسول وهو يناشد المسيحيين أن "يسالِموا جًميعَ النَّاسِ إِن أَمكَن، على قَدْرِ ما الأَمرُ بِيَدِهم" (رومة 12: 18)، بحيث يكونون حقاً أبناء الآب الذي في السماوات" (متى 5: 45).

 

55 فالتَفَتَ يسوعُ وانتَهَرَهما.

 

تشير عبارة "انتَهَرَهما" إلى تعنيف يسوع يعقوب ويوحنا بسبب رغبتهما الانتقام من القرية، لكن يسوع رفض طلبهما، وان كانت علة طلبهما جيدة وهي محبتهما له، لكن يسوع وبِّخًهما مذكرا إياهما "ِأَنَّ ابْنَ الإِنسانِ جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه" (لوقا 19: 10)؛ يسوع لا يرضى بأضرار الجسد ولا الانتقام. إنه طويل الأناة، ينتظر توبة الجميع في الوقت المناسب، لان الحقيقة تتسرب إلى قلب البشر ببطء. وبالفعل قَبلت السامرَّة الإيمان فيما بعد (أعمال الرسل 8: 5-25). ويُعلِّق يوحنا الذهبي الفم بقوله "من يقبل الإيمان عن خوف سرعان ما يتركه، أما من يقبله خلال الحب فيثبت فيه".  وروح الانتقام والإفناء والقتل هي من سمات الشر وليس من روح الله القدوس الذي يسكب المحبة في قلوبنا. لان يسوع جاء يضم الجميع ويغفر ويُرحِّب.  وهكذا حرَّم يسوع هنا الاضطهاد الديني. ويعلق المجمع الفاتيكانيّ الثاني "لا نستطيع أن ندعو الله أبا الجميع إذا رفضنا أن نسلك اخوياً تجاه الناس المخلوقين على صورة الله (تكوين 1: 27). فعلاقة الإنسان بالله الآب وعلاقته بإخوته البشر مرتبطتان إلى حد أن الكتاب يقول: "مَن لا يُحِبّ لم يَعرِفِ الله لأَنَّ اللّهَ مَحبَّة" (1يوحنا 4: 8) "بيان حول علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية"، العدد 5). ويضيف بعض المخطوطات كلمات يسوع " لا تعلمان من أي روح أنتما". تشير هذه العبارة إلى اعتقاد التلميذين ما أتياهما من محبتهما للمسيح وغيرتهما لمجده، لكن المسيح حكمَ أنه من باب الانتقام طلب التلميذين خراب القرية، ونسيا أنه يجب على التلميذ أن يكون كمعلمه من اللطف والعفو بعيدين عن الانتقام "لا تُقاوِموا الشِّرِّير ..." (متى 5: 39-44). والجدير بالذكر أن يوحنا الرسول رجع إلى السامرة بعد مدة وأظهر روحا خلاف ذلك قاصدا أن يمنح السَامريِّين البركات الروحية (أعمال الرسل 8: 25).

 

56 فمَضَوا إلى قَريَةٍ أُخرى.

 

تشير هذه الآية إلى الذهاب إلى قرية أخرى وفقا لوصيته "إِن لم يَقبَلوكم ولم يَستَمِعوا إِلى كلامِكم، فاخرُجوا مِن ذاكَ البَيتِ أَو تِلكَ المَدينة، نافِضينَ الغُبارَ عن أَقدامِكم" (متى 10: 14). لكن لا نستطيع أن نتحقق إلى أية قرية ذهب يسوع بعد ذلك. 

 

57 وبَينَما هُم سائرون، قالَ لَه رَجُلٌ في الطَّريق: ((أَتبَعُكَ حيثُ تَمْضي)).

 

تشير عبارة "قالَ لَه رَجُلٌ في الطَّريق" إلى كاتب كما وضّح متى الإنجيلي "فَدنا مِنْه كاتِبٌ وقالَ لَه: ((يا مُعَلِّم، أَتبَعُكَ حَيثُ تَمضي" (متى 8: 18-20). أمَّا عبارة "أَتبَعُكَ حيثُ تَمْضي" فتشير إلى الإسراع في إتباع يسوع دون النظر إلى النتيجة. أمَّا عبارة "أَتبَعُكَ" فتشير إلى السير في طرق الله، تلك الطرق التي من خلالها قاد الله شعبه زمن الخروج، وتلك التي يخطُّها ابن الله، ليأتي بجميع البشر إلى الخلاص. فعبارة ((أَتبَعُكَ حيثُ تَمْضي تشير إلى المعنى الروحي بالإضافة إلى المعنى الحرفي أي إتّباع المسيح "حيثما يذهب" (رؤيا 14: 4، يوحنا 8: 21-22). وعندما يتبع المرء يسوع يتحقق وعده القائل: " مَن أَرادَ أَن يَخدُمَني، فَلْيَتْبَعْني وحَيثُ أَكونُ أَنا يَكونُ خادِمي" (يوحنا 12: 26).

 

58 فقالَ لَه يسوع: ((إِنَّ لِلثَّعالِبِ أَوجِرَة ولِطُيورِ السَّماءِ أَوكاراً، وأَمَّا ابنُ الإِنسان فلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه)).

 

تشير عبارة ((إِنَّ لِلثَّعالِبِ أَوجِرَة ولِطُيورِ السَّماءِ أَوكاراً، وأَمَّا ابنُ الإِنسان فلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه)) إلى حب الربح الدنيوي. يطلب يسوع من الكاتب أن ينظر في الأسباب التي حملته على طلبه إتباعه، فإن كانت غايته دنيوية حب الربح الدنيوي، فلن يحصل عليها في اتباعه. مطلوب من المدعو أن يحسب ما يكلف إتباع يسوع ثم يعتمد. يعلق العلامة القدّيس ألفونس ماري دو ليغوري "أيّها الإنسان، إذا كنت تبغي حياةً سهلة من وراء اتباع يسوع، فأنت مخطئ لآن يسوع جاء إلى الأرض ليعلِّم الفقر. ومن أجل ذلك، اختار أن يكون أكثر فقرًا من الثعالب والطيور التي تملك على الأقلّ مأوى؛ في هذا العالم، لا يملك شبرًا من الأرض، حيث يستطيع أن يستريح، وأراد من تلاميذي أن يتشبّهوا به" (العظة الثامنة لتساعيّة الميلاد) ، أمَّا عبارة "ابنُ الإِنسان" فتشير إلى يسوع كونه إنسان مثل سائر الناس (حزقيال 2: 1-3)، أو بالأحرى هو ذاك الآتي على سحاب السماء (دانيال 7: 13). ففي هذا التقليد الرؤيوي يأتي ابن الإنسان في اليوم الأخير ليدين الخاطئين ويُخلّص الأبرار.  فلقب " ابن الإنسان" ورد في الإنجيل وعلى لسان يسوع. وفضلته الجماعة المسيحية الأولى على سائر الألقاب ليسوع الناصري، لان هذا اللقب يُرينا في يسوع ذلك الذي استبق الدينونة بسلطانه مخلصاً الخاطئين (متى 9: 6) وفاتحا الزمن المسيحاني (متى 12: 8).  كما يرتبط هذا اللقب مع لقب "العبد المتألم " فيضم الصليب إلى المجد (مرقس 8: 31)، هذا ما لم يستطع اليهود أن يفهموه لأنَّهم انتظروا مسيحا مُمجَداً؛ أمَّا عبارة " فلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه" فتشير إلى عيش يسوع الفقر بنفسه، فيم يكن بيت له ولا لتلاميذه (لوقا 5: 29). تشير الآية إلى يسوع الذي هو في مسيرة دائمة لا تتوقف حتى الصليب، وإلى هنا يطلب من يعمل الشريعة أن يتبعه على الدوام.  يعلق القدّيس ايرونيموس "خادم يسوع المسيح لا يملك شيئًا خارجًا عن يسوع المسيح، بل أكثر من ذلك، خادم يسوع المسيح لا يريد أن يملك شيئًا خارجًا عن يسوع المسيح".

 

59 وقالَ لآخَر: ((اِتْبَعْني!)) فقال: ((إيذان لي أَن أَمضِيَ أَوَّلاً فَأَدفِنَ أَبي)).

 

تشير عبارة "اِتْبَعْني! " إلى مبادرة يسوع في دعوة رجل لاتِّباعه بعكس الرجل الأول حيث هو الذي يُقدِّم نفسه لإتِّباع يسوع.  أما عبارة “إيذان لي أَن أَمضِيَ أَوَّلاً فَأَدفِنَ أَبي" فتشير إلى تباطىء الرجل في اخذ القرار بإتباعه يسوع بسبب حزنه على وفاة أبيه؛ ويقدم اعتذاره بتأجيل الدعوة، لانَّ عليه واجب مقدس وتقوي يفرض على البنين أن يؤمِّنوا دفن لائق لوالديهم.  "فقد قالَ موسى: ((أَكرِمْ أَباكَ وأُمَّكَ" (مرقس 7: 10). توقَّف هذا الرجل بين ما يجب عليه للمسيح وما يجب عليه لأهل بيته.  انفرد لوقا الإنجيلي في ذكر هذه الآية.

 

60 فقالَ لَه: ((دَعِ المَوتى يَدفِنونَ مَوتاهم. وأَمَّا أَنتَ فَامضِ وبَشِّرْ بمَلَكوتِ الله)).

 

تشير عبارة "دَعِ المَوتى يَدفِنونَ مَوتاهم" إلى جواب المسيح الذي أراد أن يمتحن الرجل الذي طلب إتباعه كما امتحن الشاب الغني بقوله له "إِذا أَرَدتَ أَن تكونَ كامِلاً، فاذْهَبْ وبعْ أَموالَكَ وأَعْطِها لِلفُقَراء، فَيكونَ لكَ كَنزٌ في السَّماء، وتَعالَ فاتبَعْني " (متى 19: 21). يريد يسوع مِن الذين يتبعونه أن يكون إتباعه في المقام الأول ولا عذر للمتباطئ.  أما عبارة " الموتى " فلا تشير فقط إلى المعنى الحقيقي وهم المتوفون حقا، إنما أيضا إلى المعنى المجازي وهم الموتى روحياً الخطأة الذين لا يهتمون إلاّ بأمور هذه الحياة منكبّين على أمور الدنيا، (متى 8: 22).  ولذلك فان عبارة "دَعِ المَوتى يَدفِنونَ مَوتاهم " فتشير إلى التبشير الذي يأتي في المركز الرئيسي، وطقوس الدفن الموتى يأتي في المركز الثانوي، وإنَّ التبشير بالملكوت هو الأمر الجوهري الذي لا يحتمل أي تأخير، وله أولوية على أسمى ما تستطيع الحياة أن تعطي حتى إذا كانت المطالب مختصة بعائلة الشخص نفسه.

 

61 وقالَ لَه آخَر: ((أَتبَعُكَ يا ربّ، ولكِنِ ائذَنْ لي أَوَّلاً أَن أُوَدِّعَ أَهلَ بَيتي)).

 

تشير عبارة "أَتبَعُكَ يا ربّ، ولكِنِ ائذَنْ لي أَوَّلاً أَن أُوَدِّعَ أَهلَ بَيتي" إلى تردّد الرجل لاتباع يسوع بسبب المحبة العائلية. ويذكِّرنا هذا الكلمات بحوار إيليا النبي مع تلميذه اليشاع بن شافاط الذي رَكَضَ وَراءَ إِيليَّا وقالَ لَه: ((دَعْني اقبِّلُ أبي وأمي، ثُمَّ أَسيرُ وَراءَكَ" (1ملوك 19: 20). ترك أيليا تلميذه يودّع ذويه، لكن يسوع يتطلب أكثر من إيليا، إذ يصرِّح " مَن أَتى إِلَيَّ ولَم يُفَضِّلْني على أَبيهِ وأُمِّهِ وامَرأَتِه وبَنيهِ وإِخوَتِه وأَخواتِه، بل على نَفسِه أَيضاً، لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً " (لوقا 14: 26).

 

 

62 فقالَ لَه يسوع: ((ما مِن أَحَدٍ يَضَعُ يَدَه على المِحراث، ثُمَّ يَلتَفِتُ إلى الوَراء، يَصلُحُ لِمَلَكوتِ الله)).

 

تشير عبارة "ما مِن أَحَدٍ يَضَعُ يَدَه على المِحراث، ثُمَّ يَلتَفِتُ إلى الوَراء" إلى مثل الفلاح الذي لا ينجح إذ لم يقم بواجبه عملا وفكرا. فالفلاح الذي يديه في العمل ولكن أفكاره في موضع آخر لا يحسن عمله في حراثة حقله. وغاية المسيح من هذا المثل حمل الإنسان الذي طلب أن يتبعه أن يمتحن نفسه وينظر في قصده من ذلك حاثا إياه على العزم بترك كل شيء لأجل ملكوت الله، لأنه "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر" (متى 6: 24). المطلوب أن يختار المدعو لإتباع الرب ما يشاء في الحال ويعزم عليه. أمَّا عبارة "يَلتَفِتُ إلى الوَراء" فتشير إلى عدم الانتباه للعمل وتفضيل شيء آخر عليه. والنظر إلى الوراء في الروحانيات معناه العودة إلى العالميات مثل امرأة لوط (التكوين 19: 26). أمَّا عبارة "يَصلُحُ لِمَلَكوتِ الله" فتشير إلى دخول إلى الملكوت أو إعلان الملكوت (لوقا 4: 43).

 

التلميذ المنقسم بين فكره وعلمه لا يصلح أن يكون شريكا للمسيح ورسله في بناء الملكوت الذي أبتدأ تأسيسه. المسيح لا يقبل تلميذا قلبُه منقسمٌ بين الله والعالم. أمَّا عبارة " ِمَلَكوتِ الله " فتشير إلى المحور الرئيسي لرسالة يسوع في الإنجيل "َيَجِبُ عَلَّي أَنَّ أُبَشِّرَ سائرَ الـمُدُنِ أَيضاً بِمَلَكوتِ الله، فإِنِّي لِهذا أُرسِلْت"(لوقا 4: 43). وفي الواقع، وردت عبارة ملكوت الله أو ملكوت السماوات في العهد الجديد أكثر من مئة مرة وقد شرحها يسوع مرارا مستخدما الأمثلة. وتفيد عبارة ملكوت الله عدة معان: حياة التقوى في القلب "فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه" (متى 6: 33) والنظام الذي أتى به  المسيح "تُوبوا ، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّمَوات   (متى 4: 17) ومجد المسيح وسلطانه "ألحَقَّ أَقولُ لكم: مِنَ الحاضِرينَ ههُنا مَن لا يَذوقونَ الموتَ حتَّى يُشاهِدوا ابنَ الإِنسانِ آتِياً في مَلَكوتِه" (متى 16: 28) وسلطان الله على الكل "لِيَأتِ مَلَكوتُكَ لِيَكُنْ ما تَشاء في الأَرْضِ كما في السَّماء"  (متى 6: 10) والحالة السماوية " سَوفَ يَأتي أُناسٌ كَثيرونَ مِنَ المَشرِقِ والمَغرِب، فَيُجالِسونَ إِبراهيمَ وَإِسحقَ ويَعقوب على المائِدةِ في مَلَكوتِ السَّمَوات" (متى 8: 11).

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 9: 51-62)

 

انطلاقا من هذه الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي وتحليله (لوقا 9: 51-62)، نستنتج انه يتمحور حول اتباع يسوع من خلال التفرّغ للحياة الرسولية. واتّباع يسوع، في الواقع، لا يعني اعتناق تعليم أدبي وروحي فحسب، وإنما مشاركته في مصيره أيضاً ومجده: "ها قد تَرَكْنا نَحنُ كُلَّ شيءٍ وتَبِعناك، فماذا يكونُ مَصيرُنا؟" (متى 19: 27). فمن أراد أن يتبع المسيح عليه أن يشاركه أولاً في تجاربه وآلامه. ويطالب يسوع بالتجرد الكامل، بزهد في المال والطمأنينة. وبترك الأقارب (متى 8: 19-22)، دون ما مقاسمة أو رجعة (لوقا 9: 61-62).  ومن مقابلة الرجال الثلاثة الذين اقبلوا إلى المسيح ليتبعوه بمبادرة منه أو منهم طالبهم بالتفرغ للحياة الرسولية من خلال ثلاثة شروط: إتباعه دون تحفظ ودون رجوع وإلى الأبد. 

 

الشرط الأول: إتباع يسوع دون تحفظ:

 

الحياة الرسولية تتطلب التفرغ للمسيح دون تحفظ. تقدم الرجل الأول وبادر في عرض نفسه للحياة الرسولية "أَتبَعُكَ حيثُ تَمْضي" (لوقا 9: 57). عقله في المسيح، لكن قلبه في الضمانات البشرية فهو منقسم. يُعلِّق القديس أوغسطينوس على هذا الرجل "أراد هذا الإنسان أن يتبع المسيح لكن يسوع أكَّد له أنه كان يطلب ما لنفسه لا لما هو ليسوع المسيح كما جاء في تعليم بولس الرسول "يَسعى إلى ما يَعودُ على نَفْسِه، لا إلى ما يَعودُ على يسوعَ المسيح" (فيلبي 2: 21)، وفي هذا الصدد يقول الرب إذ يقول: لَيسَ مَن يَقولُ لي ((يا ربّ، يا ربّ)) يَدخُلُ مَلكوتَ السَّمَوات" (متى 7: 21).

 

بيّن يسوع لهذا الرجل الذي يُريد أن يتبعه أن الحياة الرسولية لا تكمن في الضمانات البشرية من بيت ومال وسلطة واستقرار ومجد أرضي، بل الزهد بالذات "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفسهِ ويَحمِلْ صَليبَهُ كُلَّ يَومٍ ويَتبَعْني"(لوقا 9: 23)، يعلق جان تولير الراهب الدومينكانيّ "كيف لنا أن نتبع الله في الحقيقة: كلّ شيء واضح ولكي نقومَ بذلك فعلينا أن نتخلّى عن كلّ ما ليس فيه الله"(العظة 64).  إنه التجرد من كل ضمانة بشرية ومشاطرته مصيره حتى التضحية. فقدّم يسوع شهادة التجرّد التام من الأشياء، إلى حدّ عدم امتلاك مكاناً يضع عليه رأسه على مخطى معلمه: "وأَمَّا ابنُ الإِنسان فلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه (لوقا 9: 58). وأما اتباع الإنسان المال فإنه يفقد ذاته، لأنه يجعل الإنسان المتمسك به عبدًا؛ "فهو يُعْمي أَبْصارَ الحُكَماء" (تثنية الاشتراع 16: 19). وتعلق القدّيسة تيريزا الطفل يسوع " تذكّر، يا رب، حين كنت غريبًا على الأرض، لم تكن تملك شيئًا؛ لا، ولا حتّى حجرًا. ولا ملجأ لك، مثل عصفور السماء. يا يسوع! تعالَ إليّ، تعالَ وألقِ رأسك، تعالَ، فإنّ نفسي مستعدّة لاستقبالك، يا مخلّصي الحبيب. إرْتَحْ في قلبي، إنّه لكَ" (قصيدة "يسوع حبيبي، تذكّر!").

 

لا يجد من يريد أن يتبع المسيح الضمان المطلق سوى في ربّه، يعلق القدّيس إقليمنضُس الإسكندريّ "الرب هو الطريق الذي يسلكه كلّ مَن لديه قلب طاهر، ونعمة الله لا تنسكب في النفوس التي تكبّلها الممتلكات الماديّة وتمزّقها"(عظة بعنوان: فَمَن يَقدِرُ أَن يَخلُص؟)، لانَّ الحياة الرسولية تتطلب التجرد التام والاستعداد للتنازل عن كل شيء آخر يعتمد المرء عليه لإعطائه الضمان سوى ربه، وإذ يركِّز قلبه في المسيح الذي ينبغي فلا يسمح لأي شيء يجرفه عن الحياة الرسولية، أو يقبل في حياته أي تجزئة أو تحفظ، بل يترك كل شيء ليسعي وراء الإنجيل والرسالة الرسولية. ويُعلق العلامة القدّيس يوحنّا الصليب راهب كرملي "كلّما ابتعدت عن أمور الأرض، كلّما اقتربت من أمور السماء وكلّما وجدت الغِنى في الله" (آراء وأمثال).

 

نستنتج مما سبق أن اتباع يسوع ليس طريقا سهلا دائما، بل يقتضي كلفة باهظة وتضحية عظيمة ودون استقرار أو أمان في العالم، فلم يكن ليسوع مكان يُسمِّيه بيته. ولذلك من يريد أن يتبع الرب بِغْية كرامة أرضيَّة أو نفع مؤقَّت أو طلبا للاستقرار، يُعلن له السيد المسيح أنَّ الثعالب التي تعيش في البرِّيَّة لها أوْجِرة ترتبط بها، وفيها تستريح، والطيور التي تهيم في الجَو لها أوْكار تعود إليها من حين إلى آخر، أما ابن الإنسان فليس له راحة، ولا موضع استقرار.  يريد يسوع ممن يتبعه أن يكون مستعداً دوما وجاهزاً باستمرار، ساهراً متأهباً دوما للرحيل والتوجه إلى حيث يريد يسوع لا إلى حيث هو يريد أن يجد راحة واستقرارًا. لذلك فالرجل الأول لا يصلح للحياة الرسولية إلا إذا كان قلبه دون تحفظ ودون ضمانات بشرية.  لنتبع وصية القدّيس بُطرس دامِيان "علينا أن نتخلّى عن ممتلكاتنا ونترفّع عن أهوائنا إن أردنا أن نتبع حقُّا من "لَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه" (العظة رقم 9).

 

الشرط الثاني: أتباع يسوع دون رجوع

 

لا تتطلب الحياة الرسولية التفرغ للمسيح دون تحفظ فقط بل دون رجوع أيضا.  دعا يسوع رجل ثان للتفرغ للحياة الرسولية، إذ "قالَ لآخَر: ((اِتْبَعْني!)) " (لوقا 9: 59). يعُلق البابا بندكتس السادس عشر: " أتبعني هي دعوة لإتّباعه: فبالخروج فقط من ذواتنا للسير مع الرب وصنع مشيئته تكمُن الحرية الحقيقية!" (مقابلة عامة 9 أيار 2012).

 

فهذا الرجل لم يطلب أن يتبع الرب مثل الرجل الأول، لكن الرب دعاه للتلمذة، فأجابه في صراحة "إيذان لي أَن أَمضِيَ أَوَّلاً فَأَدفِنَ أَبي" (لوقا 9: 59). فكر هذا الرجل مع يسوع، لكن قلبه عند أبيه فهو منقسم ومتواني، إذ أن عليه التزامات وضرورات يؤجل بسببها إتباعه للرب.  فجعل دفن أبيه "أولًا"، بينما يلزم أن يكون الله "أولا".  فهو إنسان حسن النِيَّة ومشتاق للحياة الرسولية، لكن يُعيقه واجب عائلي ضروري في نظر الناس، ألا وهو الاهتمام بوالده حتى يدفنه.

 

كان جواب المسيح "دَعِ المَوتى يَدفِنونَ مَوتاهم. وأَمَّا أَنتَ فَامضِ وبَشِّرْ بمَلَكوتِ الله" (لوقا 9: 60). علِّمه الرب أن يكون الله في المقدِّمة ويأتي بعده الإنسان. لا يمنع الرب أن نبكي ونَدفن موتانا، لكنه يضع التقوَى الدينيَّة في المرتبة الأولى ثم تليها الارتباطات العائليَّة. ويعلق القديس أمبروسيوس " ليُترك الموتى (روحيًا) أن يدفنوا موتاهم، أما المُختارون فليتبعوه"

 

ليس هناك أيّ دافع على الصعيد الإنساني يصرف المدعو عن خدمة الإنجيل. لا يرضى الرب من تابعه بانشغاله عنه بأهله وذويه. وهذا ما يوكِّده يسوع بقوله "دَعِ المَوتى يَدفِنونَ مَوتاهم " (لوقا 9: 60).  فالتبشير يأتي في المركز الرئيسي، وطقوس دفن الموتى تأتي في المركز الثانوي، كما يتضح ذلك من تعليم يسوع " مَن أَتى إِلَيَّ ولَم يُفَضِّلْني على أَبيهِ وأُمِّهِ وامَرأَتِه وبَنيهِ وإِخوَتِه وأَخواتِه، بل على نَفسِه أَيضاً، لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذا" (لوقا 14: 26).  فان اتباع يسوع والتبشير بالملكوت هو الأمر الجوهري الذي لا يحتمل أي تأخير، وله أولوية حتى على المطالب المختصة بعائلة الشخص نفسه. ويعلِّق القديس أوغسطينوس على ذلك بقوله " وصيَّة أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ (أفسس 6: 2)، تُلزم محبَّة من ولدنا، لكنه لا يُفضل عمَّن خلقنا".  كان الرب يسوع صريحا مع الذي دعاه، ولم يتردَّد، كونه ابن الله، في أن يطلب الولاء الكامل، فحتى دفن الموتى لم يكن له الأولوية في نظره على مطالب الدعوة والحياة الرسولية في إتباع يسوع. 

 

الشرط الثالث: إتباع يسوع إلى الأبد

 

لا تتطلب الحياة الرسولية التفرغ للمسيح بتحفظ ودون رجوع إنما أيضا إلى الأبد.  يعلن يسوع هذا المطلب في قوله لمن لرجل ثالث أراد أن يتبعه: "ما مِن أَحَدٍ يَضَعُ يَدَه على المِحراث، ثُمَّ يَلتَفِتُ إلى الوَراء، يَصلُحُ لِمَلَكوتِ الله" (لوقا 9: 62). الرجل الثالث يده على المحراث، ولكن عينه إلى الوراء.  فهو رجل منقسم. إنّ صورة من يضع يده على المحراث، وبعد ذلك يلتفت إلى الوراء مأخوذة من المجتمع الفلسطيني القديم. أرضنا الفلسطينية غير مُنفّذة للماء وحجريّة. إذا التفت الحارث إلى الوراء ولو للحظة واحدة، يعمل ثلم خاطئ. فهذا الرجل يشتاق أن يتتلمذ للرب ويتبعه، لكن مع حنين إلى الماضي. أراد أولًا أن يودِّع الذين في بيته" ائذَنْ لي أَوَّلاً أَن أُوَدِّعَ أَهلَ بَيتي"، وهذا الشرط شبيه ما طلبه إيليا من تلميذه اليشاع (1 ملوك 19: 19-21).

 

فهذا الرجل غير جادٍ وغير ناضج في إتباع المسيح، يده إلى الإمام ونظره إلى الوراء فهو منقسم، يريد أن يتبع المسيح، وفي نفس الوقت يحِنّْ للعالم. يبدأ ولا يكمل. الله يريد يد الإنسان ونظره إلى الإمام وإلى الأبد، ولا يلتفت إلى الوراء حتى لا يصير عمود ملح كزوجة لوط التي خلصت بخروجها من سدوم مع لوط وبنتيها، لكنها لم تكمل الطريق بل "اَلتَفَتَتِ اَمرَأَةُ لُوطٍ إلى وَرائِها فصارَت نُصْبَ مِلْح" (التكوين 19: 26).

 

لا يمكن لأيّ أحد أو أي شيء أن يوقف الإنسان ولا حتّى للحظة واحدة في مسيرته لكي ينظر إلى الماضي؛ فلا يجوز الحنين إلى ما ترك. التعلق العاطفي بالأهل أو الأقارب أو الأصدقاء أو الأحباب لا يترك مجالا في قلب الإنسان لحب يسوع واتباعه وهو الذي يقول "مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي" (متى 10: 37). فالتعلق بالأهل يجعل استمرار العلاقة مع يسوع مستحيلا.

 

من الواضح أنَّ من يضع يده على المحراث، لا بُد وأن ينظر للأمام للسير في خط مستقيم غير ملتو، ومن ينظر للخلف يلتوى منه خط السير. ومن هذا المنطلق يحثنا يسوع على الجهاد الروحي بلا توقُّف ولا تراجع لانَّ "الَّذي يَثبُتُ إلى النِّهايَةِ فذاكَ الَّذي يَخلُص"(متى 24: 13).  ومثالنا على ذلك هو السيد المسيح نفسه، فبالرغم من انه كان يعرف أنه سيواجه الاضطهاد والموت في اورشليم إلا أنه اتجه بثبات وعزمٍ نحوها "ولَمَّا حانَت أَيَّامُ ارتِفاعه، عَزَمَ على الاتِّجاهِ إلى أُورَشَليم"(لوقا 9: 51). ويُعلق العلاَّمة القدّيس بونافَنتورا الراهب الفرنسيسكاني " إذا أردنا أن نبلغ الكمال، من المهمّ أن نتخلّى عن كلّ افتراض فكريّ. لا ينال الكمال إلاّ الذي يرغب فيه، ولا يرغب فيه سوى الذي يلهبه الرُّوح القدس الذي أرسله المسيح إلى الأرض. لذا، قال الرَّسول بولس إنّ هذه الحكمة السريّة "كَشَفَها لَنا اللهُ بِالرُّوح" (1قورنتس 2: 10)"(مسار النفس في الله، 7).

 

لا بدَّ أنَّ تتميز دعوتنا في اتباع المسيح بمثل هذا العزم والتصميم، فنتجه بثبات نحو دعوتنا ورسالتنا وحياتنا الرسولية، مهما كانت المخاطر الكامنة التي تنتظرنا هناك. فإتباع يسوع ليس معناه حياة خالية من المتاعب، بل الاستعداد لخدمة الملكوت على الدوام والخضوع الكامل ليسوع حتى الموت كما يقول القديس ميشيل كريكويتس مؤسس جمعية آباء قلب يسوع " اتبع يسوع دون تحفظ، وبمحبة، ودوما. وهذا يذكّرنا قول القدّيس بولس "يَهُمُّني أَمرٌ واحِد وهو أَن أَنْسى ما ورائي وأَتَمطَّى إلى الأَمام فأَسْعى إلى الغاية، لِلحُصولِ على الجائِزَةِ الَّتي يَدْعونا اللّهُ إِلَيها مِن عَلُ لِنَنالَها في المسيحِ يسوع" (فيلبي 3، 13-14). واليوم علينا أن نتساءل عن مدى عمق الرابط بين طريق يسوع وطريقنا كتلاميذ مؤمنين بمعلمهم. كل تلميذ مدعو للسير في نفس الطريق نحو أورشليم وبشكل يومي. فهل يمكننا أن نسير بعزم وإصرار في طريق الحياة لنتبع المسيح بالرغم كل الصعوبات والحواجز؟

 

 

خلاصة

 

التفرغ للحياة الرسولية هي دعوة وتتطلب من الإنسان حياته ووقته. إنها انفصال عن ذاته وعن ماضيه.  إنها اقتلاع من أرضه، وافتراق عن أهله، إنها دعوة للعمل في الحياة الرسولية هو العمل الذي لا يتقدمه عمل، ولا ينوب عنه عمل، ولا يمكن إرجاؤه، ولا تعطي له مهلة، ولا ينظر معه إلى الوراء.  انه التخلي عن ماضيه من أجل مثال أعلى أفضل. يريد منا يسوع التكريس الكامل له، وليس الالتزام الجزئي، فلا يجوز أن ننتقي ونختار بعضا من أفكاره ونتبع ما نريد.

 

إننا مدعوّون، لكِن لا مُرغَمون كي لا نجد أنفسنا أمام تناقض: علينا أن نستعمل حريّتنا لكي نتحرّر. وعطاء الذات في الحبّ هو عمل حريّة بكل معنى الكلمة: هنا في الحياة الرسولية الواقع لا يستطيع الإنسان التصرّف بممتلكاته، ولا بوقته، ولا بقوّته، ولا حتى بكيانه. فبمقدار ما نتحرر من ذاتنا نصبح فعلاً ذاتنا. وهذا ما حقّقه السيّد المسيح في مسيرته نحو اورشليم للصلب والموت تتميمًا لإرادة الآب السماوي. وتعلق القدّيسة تيريزا -بينيديكت الصليب (إيديث شتاين) "فإذا قَبِلنا أن نضعَ أيدينا بيدَيّ يسوع، وإذا أجبنا بكلمة "نعم" على طلبه "اتبعني"، أصبحنا مُلكًا له وباتَ الدربُ معبّدًا لتمرّ فينا حياته الإلهيّة. وهذه هي بداية الحياة الأبديّة فينا" (المغارة والصليب).

 

 

دعاء

 

أعطنا، أيّها الربّ الإله، أن يكون الاهتمام بشخصك وبنشر ملكوتك هو الأول والآخر في حياتنا. ونسألك، أن تعضد حرّيتنا في التفرغ للحياة الرسولية، حتّى لا تفشل أمانتنا لك في الخدمة السخيّة للإخوة. يا مريم أمّنا، حرّرينا من كل عقبة تُعيق سيرنا وراء ابنك يسوع. آمين".