موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النَّص الإنجيلي (مرقس 9: 30-37)
30 ومَضَوا مِن هُناكَ فمَرُّوا بِالجَليل، ولَم يُرِدْ أَن يَعلَمَ بِه أَحَد، 31 لِأنَّه كانَ يُعَلِّمُ تَلاميذَه فيَقولُ لَهم: ((إِنَّ ابنَ الإِنسانِ سيُسلَمُ إِلى أَيدي النَّاس، فيَقتُلونَه وبَعدَ قَتْلِه بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَقوم)). 32 فلَم يَفهَموا هذا الكلام، وخافوا أَن يَسألوه. 33 وجاؤوا إِلى كَفَرناحوم. فلَمَّا دخَلَ البَيتَ سأَلَهم: ((فيمَ كُنتُم تَتَجادَلونَ في الطَّريق؟)) 34 فظَلُّوا صامِتين، لِأنَّهم كانوا في الطَّريقِ يَتَجادَلونَ فيمَن هُو الأَكبَر. 35 فجَلَسَ ودَعا الاثَنيْ عَشَرَ وقالَ لَهم:( (مَن أَرادَ أَن يَكونَ أَوَّلَ القَوم، فَلْيَكُنْ آخِرَهم جَميعًا وخادِمَهُم)). 36 ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ طِفْلٍ فأَقامَه بَينَهم وضَمَّه إِلى صَدرِه وقالَ لَهم: 37 ((مَن قَبِلَ واحِدًا مِن أَمْثالِ هؤُلاءِ الأَطْفالِ إِكرامًا لِاسمِي فقَد قَبِلَني أَنا ومَن قَبِلَني فلم يَقبَلْني أَنا، بلِ الَّذي أَرسَلَني)).
مقدمة
يصف نص إنجيل مرقس (مرقس 9: 30-37) تعليم يسوع لتلاميذه حول آلامه المستقبلية وموته وقيامته وأهمية التواضع والخدمة كسمات للمجد الحقيقي. لا مجد القيامة دون موت. يُنبئ يسوع هنا للمرَّة الثَّانية علنيًا عن آلامه. وسبق في إعلانه الأوّل (مرقس 8: 27-35)، وسيتم الإعلان الثالث والأخير (مرقس 10: 32-34). ويُطالب يسوع في إعلانه الثاني تلاميذه الذين يطمعون بالعظمة والمراكز أن يتبعوه بروح الأطفال بالتواضع والخدمة ولدخول ملكوت الخلاص (مرقس 9: 30-37). ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.
أولًا: تحليل وقائع نص إنجيل مرقس (مرقس 9: 30-37)
30 ومَضَوا مِن هُناكَ فمَرُّوا بِالجَليل، ولَم يُرِدْ أَن يَعلَمَ بِه أَحَد
تشير عبارة "مَرُّوا بِالجَليل" إلى عبور يسوع وتلاميذه إلى الجليل بعد أن تركوا قيصريَّة فيلبُّس من أجل أن يبدأ يسوع جولته الأخيرة في منطقة الجليل قبل رحلته الختامية نحو أورشليم وبدء درب الآلام. يبدو أن يسوع كان ينتقل من مكان إلى آخر لإعداد تلاميذه للرَحْلَة النِّهائية لإورشليم. لقد ترك يسوع الجليل حيث الأمان والنَّجاة، وأخذ يصعد إلى أورشليم حيث العداوة والصَّلب. أمَّا عبارة "لَم يُرِدْ أَن يَعلَمَ بِه أَحَد" فتشير إلى رغبة يسوع في مراعاة السِّرية، لأنَّه لا يريد أن يعلم النَّاس بآلامه، إنَّما يريد أن ينفرد بتعليم هذه الأمور لتلاميذه فقط. وهناك سببٌ آخرٌ ورد في إنجيل يوحنا هو أن أعداء يسوع يراقبونه هناك في كل مكان لقتله "وجَعَلَ يسوعُ يَسيرُ بَعدَ ذلكَ في الجَليل، ولَم يَشَأْ أَن يَسيرَ في اليَهودِيَّة، لأَنَّ اليَهودَ كانوا يُريدونَ قَتلَه" (يوحنا 7: 1).
31 لِأَنَّه كانَ يُعَلِّمُ تَلاميذَه فيَقولُ لَهم: إِنَّ ابنَ الإِنسانِ سيُسلَمُ إِلى أَيدي النَّاس، فيَقتُلونَه وبَعدَ قَتْلِه بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَقوم.
تشير عبارة "يُعَلِّمُ تَلاميذَه" إلى يسوع الذي أراد أن يَحِدَّ من خدمته التَّعليمية إلى تلاميذه لكي يدِّربهم ويأهِّلهم لحمل الرِّسالة قبل أن يعود إلى السَّماء. ويدور موضوع تعليمه حول آلامه المُقبلة. وكانت أحداث الصَّليب تقترب، لذلك كان السَّيد المسيح يُنبِّه تلاميذه حتى لا يُفاجئهم لِمّا سوف يحدث له. ولكن كون السَّيد أخبرهم بما حدث، فهذا يعني انه يذهب للصَّليب الذي أتى من أجله بسلطانه وحرِّيته. أمَّا عبارة "إِنَّ ابنَ الإِنسانِ سيُسلَمُ إِلى أَيدي النَّاس" فتشير إلى إنباء يسوع مرة ثانية بآلامه، في حين أن الإنباء الأول ورد قبلاً (مرقس 8: 31). أمَّا عبارة "ابنَ الإِنسانِ" فهي لا تشير إلى إنسانية يسوع فحسب بل إلى المسيح الدَّيان الذي أعلنه النَّبي دانيال: "فإِذا بِمِثلِ آبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء فبَلَغَ إِلى قَديمِ الأَيَّام وقُرِّبَ إِلى أَمامِه. وأُوتِيَ سُلْطانًا ومَجدًا ومُلكًا فجَميعُ الشُّعوبِ والأُمَمِ والأَلسِنَةِ يَعبُدونَه وسُلْطانُه سُلْطانٌ أَبَدِيّ لا يَزول ومُلكُه لا يَنقَرِض"(7: 13-14). ويؤكد هذا اللَّقب أصالة يسوع السَّماوية والعمل الإلهي الذي يتوجب عليه أن يؤدِّيه، وهو آلامه وموته كما ورد في نبوءة أشعيا: "لقَد حَمَلَ هو آلاَمَنا وآحتَمَلَ أَوجاعَنا فحَسِبْناه مُصابًا مَضْروبًا مِنَ اللهِ ومُذَلَّلًا"(أشعيا 53: 4). فقد ذكر يسوع مرَّتين متداخلتين ومتناقضتين في ظاهرهما عن المسيح: فكرة ابن الإنسان المشارك في جلال الله، وفكرة العبد المتألم. وردت عبارة ابن الإنسان نحو 80 مرة في الإنجيل دلالة لأهميتها. أمَّا عبارة " سيُسلَمُ إِلى أَيدي النَّاس " فتشير إلى العمل الإلهي وليس إلى خيانة يهوذا، كما جاء في رسالة بولس الرَّسول" إِنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟" (رومة 8: 32). أمَّا عبارة " فيَقتُلونَه" فتشير إلى الإنباء الثَّاني بموت يسوع. يَعلم يسوع أنَّه سيموت في ذهابه إلى أورشليم، ومع ذلك يتَّجه نحو موته مستسلمًا لإرادة أبيه استسلاما كليًا. لِأنَّه كان يعلم ما ينتظره خلف الباب المظلم. لم يكن إعلان يسوع بألآمه وموته وقفًا على يسوع فحسب، إنما أيضًا على مصيرنا. إذا أردنا إتباع يسوع، توجب علينا أن نعبر طريق الموت لبلوغ الحياة. وهنا لا يعطي مرقس الإنجيلي أهميَّة لحياة يسوع، بل لموته. أمَّا عبارة "ِثَلاثَةِ أَيَّامٍ" فتشير إلى تعبير خاص بإنجيل مرقس (8: 31؛ 10: 34)، للدلالة على اليوم الثَّالث من قتله. وأمَّا متى الإنجيلي فيقول في اليوم الثَّالث (16: 21) حيث أنَّ اليوم الثَّالث له مدلول كتابي مطابق للواقع الذي عاشه يسوع بين مساء الجمعة وصباح الأحد (متى 6: 1-3). وتشدِّد إنباءات يسوع بآلامه وقيامته على مُخطَّط الله وطاعة المسيح لمشيئة الله في هذه الأحداث. ليس هذا الأمر مصيرًا محتومًا أن يتحمل يسوع مُكرهًا، وليس أيضا أمام حدثٍ طارئً حصل بالصَّدفة، إنَّما يسوع نظر إلى هذه الآلام وتقبلها مسبقًا، وهذا الأمر دلالة على حبِّه للآب كما جاء في قوله: "وما ذلِكَ إِلاَّ لِيَعرِفَ العَالَم أَنِّي أُحِبُّ الآب وأَنِّي أَعمَلُ كما أَوصاني الآب" (يوحنا 14: 31). أمَّا عبارة " يَقوم" فتشير إلى القيامة، السِّر الفصحي، وقد أخبر المسيح بقيامته من بين الأموات مرّات عديدة قبل صلبه وموته ودفنه (مرقس 8: 31 و 9: 9 و 31 و 10: 34 و 14: 58). لكن التَّلاميذ لم يُدركوا هذه الأقوال تمامًا إلاّ بعد قيامته من بين الأموات. وقيامة المسيح إحدى الدَّعائم الأساسية القويمة التي بُنيت عليها مناداة الرُّسل، فكان محور تبشيرهم أن المسيح قد قام من بين الأموات كما جاء في سفر أعمال الرُّسل: "يَسوعُ هذا قد أَقامَه اللّه، ونَحنُ بِأَجمَعِنا شُهودٌ على ذلك"(أعمال الرسل 2: 32). فالقيامة هي ركن إيماننا. هل نحن مقتنعون حقًا بهذه الحقيقة ومؤمنون أن يسوع هو حي اليوم؟
32 فلَم يَفهَموا هذا الكلام، وخافوا أَن يَسألوه
تشير عبارة "لَم يَفهَموا" إلى قلة إدراك التَّلاميذ لكلام يسوع حول آلامه. الفهم كلمة أساسية في إنجيل مرقس وقد تطرَّق مرقس إليها كثيرًا (مرقس 6: 52، و7: 18، 8: 17-18، 9: 10، 10: 38)؛ بالرَّغم من ذلك لم يُدرك التَّلاميذ معنى الآلام إلاَّ على ضوء القيامة. ولم يفهموا أن الصَّليب هو طريق المجد، لِأنَّهم لم يريدوا أن يفهموا، ولأنَّ لهم رأي مُخالف فيما يخص المسيح المنتظر. وكلما اطعنا يسوع نستطيع أن نفهم رسالته. ويعلق البابا فرنسيس "هذا كله يذكّرنا بأن منطق الله مغاير لمنطق البشر. ولهذا السَّبب إن اتباع الله يتطلب ارتدادًا عميقًا من جانب الإنسان، ويتطلب تبدلًا جذريًا في طريقة التَّفكير والعيش، ويتطلب انفتاح القلب على الإصغاء، كي تنيرنا كلمة الله وتبدِّلنا من الدَّاخل". أمَّا عبارة "خافوا أَن يَسألوه" فتشير إلى خوف التَّلاميذ من توجيه أسئلتهم إلى يسوع عن نبوءته بخصوص آلامه وموته، لِأنَّهم يرفضون فكرة آلامه، إذ لم يكن ممكنًا للفكر البشري أن يتقبل قيام ملكوت الله على خشبة العار، لذلك لم يدركوا أن موته كان أعظم فعل حب من ناحية، ومن ناحية أخرى لِأنَّه زجرهم في آخر سؤالهم له (مرقس 8: 32، 33). خوف التلاميذ هو العائق الحقيقي للدخول في المخطط الإلهي. إنّ مصدر الخوف يكمّن في الاختلاف بين طموحاتنا وتعليم يسوع. وبالإضافة إلى ذلك، كان التَّلاميذ منشغلين بآمالهم ومطامعهم في السُّلطة السِّياسية ومراكزهم في الملكوت الأرضي الذي سيؤسسه السَّيد المسيح (مرقس 10: 35-45). وأعرب التلاميذ عن قلقهم وخوفهم ممَّا يمكن أن يحدث لهم لو مات يسوع. وبناء على ذلك، فَضَّلوا عدم الكلام عن توقعاته. بكلمة أخرى لم يفهم التلاميذ كلمات يسوع ولا يريدون فهمها وكانوا خائفين أن يسألوه. فهل تسألنا عمَّا هو مصدر مخاوفنا الكثيرة الّتي تسكن قلوبنا؟ تسود هذه المخاوف، لأنَّنا لا نفهم الطّريق الّذي يسلكه إلهنا وتمتلئ قلوبنا بالخوف. ما هو الخوف الّذي يمنعنا من أنّ نسأل يسوع عما لا نفهمه؟ ما هو الحل لخوفنا؟ طّريقنا هو طّريق يسوع سائرين خلفه في طريقه، واضعين مخاوفنا وأسئلتنا وكلماتنا أمامه.
33 وجاؤوا إِلى كفرنا حوم. فلَمَّا دخَلَ البَيتَ سأَلَهم: فيمَ كُنتُم تَتَجادَلونَ في الطَّريق؟
تشير عبارة "كفرناحوم" في الأصل اليوناني Καφαρναούμ وهي مشتقة من العبريَّة כְּפַר־נַחוּם (معناها قرية ناحوم) إلى قرية واقعة على الشاطئ الشِّمالي الغربي لبحيرة طبرية (متى 4: 13-16). انتقل يسوع إليها من مدينة النَّاصرة في وقت مبكر من خدمته العلنيَّة جاعلًا منها مركزًا له حتى أنها دعيت " مدينته " (مرقس 2: 1)؛ وفيها شفى حماة بطرس المحمومة (مرقس 1: 29-31). وصبحت مركزًا لتنقلاته في الجليل. أمَّا عبارة "البَيتَ" فتشير إلى بيت بطرس في كفرناحوم، الذي أصبح هذا البيت في زمن الرُّسل الموضع الذي تجتمع فيه الجماعة المسيحية الأولى (مرقس 1: 29)؛ أمَّا عبارة "سأَلَهم" فلا تشير إلى جهل يسوع بالأمر، بل من اجل أن يجعل من جواب التَّلاميذ مُقدَّمة لِمَا أراد بيانه لهم. أمَّا عبارة "فيمَ كُنتُم تَتَجادَلونَ في الطَّريق؟" فتشير إلى انشغال التَّلاميذ بآمالهم ومطامعهم في السُّلطة السِّياسية في المملكة التي سيؤسسها السَّيد المسيح، لأنَّ الصُّورة كانت مطبوعة في أذهانهم أن المسيح سيكون ملكًا عظيمًا، ويقيم مملكته على أنقاض مملكة الرُّومان، ويُعيد إلى إسرائيل سالف الأمجاد. ويُعلق القديس ايرونيموس: " ناقش التَّلاميذ في الطَّريق من يكون رئيسًا، أمَّا المسيح نفسه فنزل ليُعلمنا التَّواضع. فإن الرِّئاسات تجلب التَّعب، أمَّا التَّواضع فيهِب الرَّاحة".
34 فظَلُّوا صامِتين، لِأنَّهم كانوا في الطَّريقِ يَتَجادَلونَ فيمَن هُو الأَكبَر
تشير عبارة "فظَلُّوا صامِتين" إلى صمت التلاميذ على سؤال يسوع، لأنهم لم يستمعوا إلى كلمة الصليب وآلام يسوع وموته. كان التلاميذ يخجلون من الكشف عن عدم فهمهم وعن حقيقة تساؤلهم "من هو الأكبر بينهم؟". لكن يسوع لا يتوقف عند صمت التلاميذ وخوفهم. أمَّا عبارة " يَتَجادَلونَ فيمَن هُو الأَكبَر" فتشير إلى جدال عقيم في المطامع البشريَّة، والأمجاد الدُّنيويَّة والمناصب الموهومة، من سيكون السَّيد والزَّعيم المُطاع. لكن ملكوت الله قائم على مملكة روحيَّة، على الوداعة والتَّواضع والخدمة والبذل والتَّفاني والعطاء. هذه المناصب كلّها من الّله، فلا يجوز التَّكبّر في إشغالها، إذ هي ليست للمصلحة الخاصّة، وإنَّما للخير العام، ويُعلق القديس أوغسطينوس: " دُخان الكبرياء غطّى عيونهم. نقرأ بالفعل: "َتَجادَلونَ فيمَن هُو الأَكبَر "لكنّ الرَّبّ الطَّبيب كان حاضرًا؛ فكبح كبرياءهم... وكشف لهم في طفل مثال التَّواضع... لأنّ الكبرياء خطيئة كبيرة، هو الخطيئة الأولى، أصل كلّ خطيئة". فالتلاميذ يتحدثون العظمة في الملكوت الأرضي بدل التحدث عن آلامه يسوع وموته. أما عبارة "مَن هُو الأَكبَر" فتشير إلى عدم فهم التلاميذ بعد المعنى الحقيقي لرسالة يسوع، حيث كان تفكيرهم ما زال مركزًا على السلطة والمجد الشخصي. لعب المسالة الهرمية في المناصب دورًا هامًا في حياة الجماعات اليهودية. وهذا الرُّوح يدل على عدم فهم التَّلاميذ تعليم يسوع، لأنَّ المطامع البشرية والأمجاد الدُّنيوية والمناصب لا مكان لها في مملكة يسوع. حيث أنَّ سُلّم القيم في العَالَم يتعارض مع سُلّم قيم الإنجيل. نجد في العَالَم التَّسلط والسِّيادة، في حين في الإنجيل نجد الخدمة والتَّواضع، الأول يكون الأول حين يكون خادم الجميع وعبدًا لهم على خطى يسوع: "ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس" (مرقس 10: 45). تختلف كلمات التلاميذ جذريًا عن كلمات السيّد الرّبّ. بينما هو يتحدث عن تسلّيم حياته؛ يتحدث التلاميذ عن العظمة ومكانتهم فوق الآخرين. فإنَّ طموحنا نحن المسيحيِّين يجب أن يكون من اجل الملكوت وخدمتنا فيه وليس من اجل مراكزنا ورُتْبنا.
35 فجَلَسَ ودَعا الاثَنيْ عَشَرَ وقالَ لَهم: ((مَن أَرادَ أَن يَكونَ أَوَّلَ القَوم، فَلْيَكُنْ آخِرَهم جَميعًا وخادِمَهُم)).
تشير عبارة "جلَسَ" إلى ما يفعله المعلِّمون اليهود حين يُلقون الدُّروس على تلاميذهم. أمَّا عبارة " الاثَنيْ عَشَرَ " فتشير إلى الرُّسل الذين أصبحوا "الاثَنيْ عَشَرَ". أمَّا عبارة "مَن أَرادَ أَن يَكونَ أَوَّلَ القَوم، فَلْيَكُنْ آخِرَهم جَميعًا وخادِمَهُم" فتشير إلى درس هام حول التواضع. إن مقياس العظمة الذي المبني على التَّواضع والخدمة، لانَّ مملكة يسوع قائمة على التَّواضع والخدمة. وف الواقع، صار يسوع بآلامه أخر القوم وخادمهم. فالتَّواضع فضيلة ضد الكبرياء والأنانيَّة والغرور وحب الذَّات، وهي فضيلة عظيمة في عين الرَّبّ كما جاء في سيرة بولس الرَّسول: "مَخافَةَ أَن أَتَكَبَّرَ بِسُمُوِّ المُكاشَفات، جُعِلَ لي شَوكَةٌ في جَسَدي: رَسولٌ لِلشَّيطانِ وُكِلَ إِلَيه بِأَن يَلطِمَني لِئَلاَّ أَتَكبر" (2 قورنتس 12: 7). "فالتَّواضع زينة الملائكة، والكبرياء قبح الشَّياطين " كما قال وليام جنكن. تتطلب الرِّئاسة الرُّوحيَّة التَّواضع الممزوج حبًا، ويعلق القديس يوحنا سابا: "البس التَّواضع كل حين، وهو يجعلك مسكنًا لله". بينما تجعلنا الكبرياء نقدِّر مراكزنا ورتبنا أكثر من تقديرنا للخدمة. العظمة عند أهل العَالَم تقوم على التَّسلط. في حين العظمة عند يسوع هي التَّواضع والخدمة والمحبة وإعطاء الغير ما يحتاجون إليهم. ويعلق سِلوانُس الرَّاهب الرُّوسي: "لو فهم العَالَم قوّة الكلمات التي قالها المسيح: "تعلّموا منّي اللَّطف والتَّواضع" (متى11: 29)، لوضع جانبًا كلّ علم آخر، ليكتسب هذه المعرفة السَّماويّة". وفي الواقع المسيح "لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس" (مرقس 10: 45)، ويُعلق القديس أوغسطينوس: "هكذا خدم، وهذا هو مثل الخدّام الذي طلب منّا أن نكون عليه" (عظة بمناسبة سيامة أسقف). وهنا نتذكّر قول الرَّبّ يسوع المسيح: "فمَن رَفَعَ نَفَسَه وُضِع، ومن وَضَع نَفسَه رُفِع (متى23: 12). وكما قالت أيضًا مريم أم يسوع في نشيدها للقديسة اليصابات: تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي لِأنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة" (لوقا 1: 47-48). ويُعلق يعقوب الرَّسول "إنَّ اللهَ يُكابِرُ المُتَكَبِّرين ويُنعِمُ على المُتَواضِعين" (يعقوب 4: 6). والخدمة هي ليست أيديولوجيَّة، لِأنَّها لا تخدم أفكارًا إنَّما أفرادًا، هي الاهتمام بالآخرين وخدمتهم. فهي تعني بشكلٍ كبير الاهتمام بالضّعفاء في عائلاتنا ومجتمعنا وشعبنا. والضُّعفاء هم الوجوه المُتألّمة التي يدعونا يسوع للنظر إليها ومحبّتها بشكل ملموس. وبالتالي أن نكون مسيحيِّين يعني أن نخدم كرامة الإخوة. نحن مدعوّون جميعًا للاهتمام ببعضنا البعض بمحبّة. على مثال يسوع الذي كان خادمًا للجميع وقال: "هكذا ابنُ الإِنسانِ لم يأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفسِه جَماعَةَ النَّاس" (متى 20: 28). ليست الوظيفة على الأرض هي الأمر الحاسم في الحصول على المقعد في السَّماء، وإنَّما استعمال الوظيفة كخدمة. هذه الخدمة تَخدُمُ الآخرين؛ ولكن هناك نوع آخر من الخدمة يجب تجنبه وهي "الخدمة" التي "تستخدِم" الآخر. يقول البابا فرنسيس "هناك شكل من أشكال ممارسة الخدمة يكون لمصلحة "ما هو لي"، باسم "ما هو لنا. خدمة كهذه تعمل على تهميش "ما هو لك"، مُولّدةً ديناميكيَّة استبعاد واستعباد" (البابا فرنسيس في عظته في كوبا 2015). ومن هذا المنطلق، على التَّلاميذ أن يبدِّلوا نظرتهم إلى العظمة. كبير القوم في نظر المسيح هو أكثرهم خدمة واتضاعًا وأقربهم إلى الطُّفوليَّة الرُّوحيَّة. ولا ننسى أن أول وصيَّة من وصايا الملكوت هي الخدمة والتَّواضع.
36 ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ طِفْلٍ فأَقامَه بَينَهم وضَمَّه إِلى صَدرِه وقالَ لَهم
تشير عبارة "طِفْلٍ" إلى ولد ربما أحد عائلة بطرس، والطِّفل هو مثال البراءة والطُّهر والكمال الخلقي والاستسلام، وعدم الطموح إلى السُّلطة والمناصب بل اتخاذ المركز الأخير. فالطِّفل لا يعتبر نفسه أكثر مما هو عليه، ولا يبحث عن عظمة فارغة. لذا علَّم يسوع تلاميذه أن يرحبوا بالأولاد "دَعوا الأَطفالَ يأتونَ إِليَّ، لا تَمنَعوهم، فلِأَمثالِ هؤلاءِ مَلَكوتُ الله " (لوقا 18: 16). وكان هذا شيئا جديد في المجتمع الذي كان يعامل فيه الأولاد كمواطنين من الدَّرجة الثَّانية. في ذلك الوقت، كان الأطفال يعتبرون غير مهمين أو أقل شأنًا في المجتمع، ومعروف أنَّ الطِّفل في العهد القديم كان رمزَ الضَّعف وعدم الأهميَّة. ولكن من لا وزن لهم في عيون النَّاس، المستضعفون في الأرض، لهم قيمة كبيرة في عيون الله. أمَّا عبارة "فأَقامَه بَينَهم وضَمَّه إِلى صَدرِه" فتشير إلى معاملة يسوع مع الأطفال، وهكذا كيف ينبغي على التَّلاميذ أن يقبلوا الأطفال ببساطة. ويُعلق القديس أوغسطينوس: "عندما كلّم الرَّبّ رسله لكي يُشدّدهم في التَّواضع، قدّم لهم مثل الطِّفل".
37 مَن قَبِلَ واحِدًا مِن أَمْثالِ هؤُلاءِ الأَطْفالِ إِكرامًا لِاسمِي فقَد قَبِلَني أَنا ومَن قَبِلَني فلم يَقبَلْني أَنا، بلِ الَّذي أَرسَلَني
تشير عبارة "قَبِلَ" إلى إصغاء وخضوع لكلمة يسوع ورسله. أمَّا لفظة القبول في لغة إنجيل متى فمعناها الضِّيافة، حيث أنها لا تشير إلى قبول طفل بل مرسل يسوع (متى 10: 40). ننتقل في الإنجيل من الطِّفل إلى التَّلميذ والعكس بالعكس، لان العلاقة كبيرة بينهما. أمَّا عبارة " مَن قَبِلَ واحِدًا مِن أَمْثالِ هؤُلاءِ الأَطْفالِ إِكرامًا لِاسمِي فقَد قَبِلَني أَنا" فتشير إلى تأكيد يسوع أن الطِّفل يُمثِّل يسوع نفسه. يسوع هو من يُقبَل في شخص الطِّفل. فاذا قبلتم طفلا قبلتم يسوع. فالطِّفل هو علامة حضور المسيح. والمسيح يعتبر نفسه واحدًا من هؤلاء الأطفال. واكتشف بولس الرَّسول هذه الحقيقة على طريق دمشق " أَنا يسوعُ الَّذي أَنتَ تَضطَهِدُه" (أعمال الرسل 9: 5). هذه مسؤوليَّة عظيمة لكل واحد منَّا. الطِّفل كبير في عين الله، نقبله باسم المسيح ونخدمه. ويًعلق البابا فرنسيس: "إن الاختلاف الأساسي بين الله والإنسان هو الكبرياء. فالله لا يعرف الكبرياء وهو شعور متجذر لدينا نحن البشر. إننا صغار ونسعى لأن نكون كبارًا وأوَّلين، فيما الله لم يتردد في أن يصبح واحدًا من الآخِرين. بعد أن دعا يسوع التَّلاميذ أن يتواضعوا ويصيروا خداما "صغارا"(متى 18: 3) يدعوهم الآن إلى قبول الأطفال. فالطِّفل أصبح علامة حضور يسوع وقدوة للتلميذ الحقيقي للمسيح". أمَّا عبارة " لِاسمِي " فتشير إلى حب وإكرام ليسوع وتقديرًا له استنادًا إلى قوله تعالى: "كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40). أمَّا عبارة "مَن قَبِلَني فلم يَقبَلْني أَنا، بلِ الَّذي أَرسَلَني " فتشير إلى المساواة بين المُرسِل والمرسَل، وهو أمرٌ كان مألوفا في الدِّين اليهودي. وإذا كان الرَّسول يساوي مُرسِله، فليس ذلك نظرًا لشخصيته، بل بحكم المهمة أو الوظيفة أو الكلام الذي أوكل إليه من قبل مُرسِله. وباتخاذ الطِّفل كمثل للتلاميذ شجع يسوع كل الوالدين والمعلمين والمُربِّين وكل من يُوكل إليهم أمر الصِّغار والأطفال والمستضعفين والفقراء والمساكين والمهملين والمرضى. ، وهذا هو جوهر دعوة المسيح.
ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (مرقس 9: 30-37)
بعد دراسة وقائع النَّص الإنجيلي (مرقس 9: 30-37) يمكننا الاستنتاج أنَّها تتمحور حول يسوع الذي يريد منا أن نتَّخذ موقف الأطفال كي نصبح تلاميذه حقيقيِّين وندخل ملكوته. ومن هنا نتناول موضوع "الأطفال" كعلامة وقدوة للتلميذ الحقيقي للمسيح. لماذا إتَّخذ يسوع الأطفال قدوة للتلميذ الحقيقي؟ كيف نعيش كالأطفال كي نكون تلاميذ حقيقيِّين للمسيح؟
1- لماذا إتَّخذ يسوع الأطفال قدوة للتلميذ الحقيقي؟
اتخذ يسوع الأطفال قدوة للتلميذ الحقيق لتواضعهم وطواعيتهم وضعفهم.
ا) التَّواضع
الطِّفل هو رمز التَّواضع، والتَّواضع هو أولًا الاعتدال، والاعتدال هو المناقض للزهو وحب الظُّهور. إن الإنسان المعتدل بعيد عن الادّعاءات الكاذبة والتَّصنع والتَّمثيل والغرور كما يقول بولس الرَّسول: "لا تَذهَبوا في الاعتِدادِ بأنفسكم (رومة 12: 3). فالتواضع يشتمل على عدم الادعاءات الكاذبة بل على الاعتراف بأنَّ المرء أمام الله "لا شيء" معتمدًا على نعمة الله.
التَّواضع يناقض الكبرياء فهو موقف الإنسان الخاطئ أمام الله القدير والقدُّوس، لانَّ المتواضع يعترف بأن ما لديه قد ناله من الله كما يقول بولس الرَّسول: "وأَيُّ شَيءٍ لَكَ لم تَنَلْه؟" (1 قورنتس 4: 7)، والمتواضع ما هو إلاّ عبد ضعيف كما أوضّح يسوع من خلال شفاء عبد قائد المائة (لوقا 7: 1-10)، وهو بذاته عَدَمٌ (غلاطية 6: 3)، أو خاطئ (لوقا 5: 8). ومثل هذا المتواضع الذي ينفتح لنعمة الله، يُمجِّده الله (1 صموئيل 2: 7).
أخيرًا لنا مثال تواضع المسيح، الذي خلَّصنا ببذل ذاته، ودعا تلاميذه لخدمه إخوتهم بدافع المحبَّة (لوقا 22: 26-27) ليتمجّد الله في الجميع (1 بطرس 4: 10-11). وبهذا التَّواضع "نعود مثل الأطفال" (متى 18: 3)، ونوافق على الولادة "من جديد" لبلوغ الملكوت السَّماوي كما أعلن يسوع: " ما مِن أَحَدٍ يُمكِنَه أَن يَدخُلَ مَلَكوتَ الله إِلاَّ إِذا وُلِدَ مِنَ الماءِ والرُّوح."(يوحنا 3: 5).
نستنتج مما سبق أنَّ سرّ العظمة الحقيقيَّة هو أن "نصير صغارًا " مثل الأطفال (متى 18: 4). ذلك هو التَّواضع الحقيقي الذي دونه لا يمكن أن نصير أبناء الآب السَّماوي. المتواضع يجعل خضوعه لله صبورًا ووديعًا. فالتَّلاميذ الحقيقيون هم "أصغر الصِّغار" الذين شاء الآب أن يكشف لهم، أسراره الخفيَّة (متى 11: 25-26). وفي لغة الإنجيل يبدو لفظ " صغير" ولفظ " تلميذ" كلمتين مترادفتين (متى 10: 42، ومرقس 9: 41). فطوبى لمن يقبل واحدًا من هؤلاء الصِّغار كما صرَّح يسوع: "ومَن قَبِلَ طِفْلًا مِثلَه إِكْرامًا لاسمي، فقَد قَبِلَني أَنا"(متى 18: 5). وباختصار، يوضح يسوع أن من يسعى لأن يكون الأول يجب أن يكون خادمًا للجميع. هذا يمثل رسالة المسيح حول التواضع.
الطِّفل ليس علامة للتلميذ الحقيقي في تواضعه فحسب، إنَّما الطِّفل في المفهوم المسيحي هو قيمة في حَدِّ ذاته. فقد اتخذ يسوع الطِّفل قدوة للتلميذ الحقيقي "ِإن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات "(متى 18: 3)، وذلك لمميزتين: للطواعيَّة والضَّعف.
الطِّفل هو أسهل انقيادًا وأكثر طواعيَّة وأقل مقاومة من الرَّجل في تجاوبه مع عمل المسيح الخلاصي. إن صاحب المزامير لكي يعبّر عن استسلامه الممتلئ ثقة بالله، لم يجد صورة أفضل من صورة الطِّفل الصَّغير نائمًا في حضن أمه "مِثْلَ مَفْطوم عِندَ أُمِّه مِثْلَ مَفْطوم هكذا نَفْسي علَيَّ" (مزمور 131: 2).
لم يتردّد الله في اختيار بعض الأطفال بمثابة أول المستفيدين بوحيه والمرسلين للبشارة بخلاصه. فصموئيل الصَّغير يقبل كلمة الله ويبلّغها بأمانة (1 صموئيل 13)، وداود أصغر إخوته يُميِّز أفضل من إخوته الكبار (1 صموئيل 16: 131)، ودانيال الشَّاب يظهر بتخليصه سوسنّة، انه أكثر حكمة من شيوخ إسرائيل (دانيال 13: 44-50).
يصف لوقا الإنجيلي يسوع مثال في مرحلة طفولته: كان الصَّبي مطيعًا لأبويه، وفي الوقت نفسه المُستقلّ عنهما في تبعيته لأبيه السَّماوي (لوقا 2: 43-51). ليس التَّواضع أن يشعر الإنسان بانه كبير أو عظيم، بل أن يحاول أن يتصاغر أو يخفي عظمته.
ج) الضَّعف
ضعف الطِّفل هو احدى سمات التلميذ الحقيقي. فالطِّفل بحاجة إلى حماية أهله ورعايتهم ومحبّتهم، فهو قاصر الإمكانيّات ويحتاج عنايةَ الآخرين من حولِه. وهذا الضَّعف يجعله شخص له حظوة لدى الله كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "ما كانَ في العَالَم مِن ضُعْف فذاكَ ما اختارَه اللهُ " (1 قورنتس 1: 27-28). إن الرَّبّ نفسه هو حامي اليتيم، والمدافع عن حقوقه (مزمور 68: 6)، وهو لا يستطيع شيئًا بدون النِّعمة الإلهيَّة كما صرّح يسوع المسيح "ِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئًا"(يوحنا 15: 5).
معرفة الإنسان ضعفه يجعله أن يعامل نفسه بما تستوجبه هذه المعرفة. فالطِّفل يسال ويريد أن يعرف، ولا يخجل من السُّؤال والإقرار بعدم المعرفة، وهكذا ينمو في المعرفة يومًا بعد يوم. ومعرفة الإنسان ضعفه تقوده أيضا إلى عدم المطالبة باستقلاله عن الرَّبّ ووالديه. وكما أن الطِّفل لا يقدر أن يعيش وحده وينتظر كل شيء من أمه، كذلك حالتنا مع الله.
الطفل يُمثل الضعفاء والمهمشين. هو الطِّفل بحاجة مستمرة لمساعدة الآخرين كونه ضعيف وغير مكتفي ذاتيًا وغير مكتمل، وهو يعتمد ويتكل على غيره، وعلى من يُحبّونه ويهتمّون به، ولا يُفكّر أن يواجه الحياة بنفسه ولأجل نفسه. وما يلفت نظر بولس الرَّسول، في الطِّفل، هو حالة عدم الاكتمال المتمثّلة فيه “لَمَّا كُنتُ طِفْلاً، كُنتُ أَتَكلَّمُ كالطِّفْل وأُدرِكُ كالطِّفْل وأُفكِّرُ كالطِّفْل" (1 قورنتس 13: 11). ولكيلا يُترَك كريشة في مهبّ الرِّيح كما يقول بولس الرسول "لم نَبْقَ أَطْفالاً تَتقاذَفُهم أَمْواجُ المَذاهِب وَيعبَثُ بِهِم كُلُّ رِيح فيَخدَعُهمُ النَّاسُ ويَحتالونَ علَيهم بِمَكرِهِم لِيُضِلُّوهم"(أفسس4: 14)، فهو بحاجة لتربية حازمة وإبقائه تحت الوصاية (غلاطية 4: 1-3). ولذا يطالب بولس الرَّسول المسيحيِّين للسَّعي وراء نموّهم الذَّاتي، ليبلغوا معًا " القامةَ الَّتي تُوافِقُ كَمالَ المسيح" (أفسس 4: 12-16)، ويوصيهم "ألا تَكونوا أَيُّها الإِخوَةُ أَطفالا في الرَّأي، بل تَشَبَّهوا بِالأَطفالِ في الشَّرّ، وكونوا راشِدينَ في الرَّأي" (1 قورنتس 14: 20). ويُعلق القدّيس مكسيموس الطُّورينيّ :" نعني بالطُّفولة، تلك التي تأتي من البساطة، لا من العمر. إنّ الطِّفل لا ضغينة لديه، وهو لا يعرف الخداع، ولا يجرؤ أن يضرب"(العظة 58) كما جاء في موضع آخر في إنجيل متى: "إِن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات. فمَن وضَعَ نفسَه وصارَ مِثلَ هذا الطِّفل، فذاك هو الأَكبرُ في مَلَكوتِ السَّموات" (متى 18: 3).
2- كيف نعيش كالأطفال كي نكون تلاميذ حقيقيِّين للمسيح؟
يبارك يسوع الأطفال، ويقدمهم لنا كقدوة (مرقس 10: 15-16)، من أجل أن نتمثَّل بهؤلاء الصِّغار، الذين يكشف لهم الله عن ذاته، والذين هم وحدهم يدخلون الملكوت (متى 11: 25)، لا بدَّ لنا من أن نتخرَّج من مدرسة المسيح "المعلم الوديع والمتواضع القلب" (متى 11: 29). فاذا عشنا تواضع الأطفال نسير على خطى يسوع المعلم.
هذا المعلم ليس إنسانًا فحسب، بل هو أيضًا الرَّبّ الذي جاء ليُخلِّص الخطأة، متخذًا جسدًا يُشبه جسدهم (رومة 38). إنه أبعد ما يكون عن البحث عن مجده (يوحنا 8: 5)، حتى بلغ به التَّواضع إلى حدّ غسل أرجل تلاميذه (يوحنا 13: 14-16)، وهو الذي مع مساواته لله، تجرَّد من ذاته حتى الموت، كما جاء في قول بولس الرَّسول: "فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب" (فيلبى 2: 6-8).
يسوع هو المسيح المتواضع الذي تنبأ عنه زكريا "هُوَذا مَلِكُكِ آتيًا إِلَيكِ وَديعًا راكِبًا على أَتان وجَحْشٍ ابنِ دابَّة " (متى 21: 5). إنَّه مسيح المتواضعين، الذي يعلن أنهم سعداء "طوبى لِلوُدَعاء "(متى 5: 4). في شخص يسوع لا تظهر القدرة الإلهيَّة التي من دونها لَمَا كنَّا في الوجود فحسب، إنما أيضا تظهر المحبة الإلهيَّة، التي من دونها لكنا قد هلكنا جميعًا (لوقا 19: 10). هذا التَّواضع هو "علامة المسيح" كما يقول القديس أوغسطينوس، هو تواضع ابن الله، تواضع المحبَّة.
لا بَدَّ من إّتباع طرق هذا التَّواضع "الجديد"، لكي نمارس وصيَّة المحبة الجديدة (أفسس 4: 2) "حيث التَّواضع هناك المحبة"، يقول أوغسطينوس. إن الذين "يتحلَّوْن بثوب التَّواضع في علاقاتهم المتبادلة" (1 بطرس 5: 5)، يبحثون عن منفعة الآخرين، ويجلسون في المكان الأخير كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "على كُلٍّ مِنكم أَن يَتواضَعَ ويَعُدَّ غَيرَه أَفضَلَ مِنه" (فيلبي 2: 3-4).
يضع بولس الرَّسول التَّواضع في قائمة ثمار الرُّوح، إلى جانب الإيمان (غلاطية 5: 22-23)؛ التواضع والإيمان هما في الواقع مرتبطتان إحداهما بالأخرى، من حيث إن كليهما يعبّران عن استعداد للانفتاح نحو الله مثل ثقة الطِّفل نحو والديه. للخضوع بثقة لنعمته وكلمته تعالى، لا بدّ أنَّ يتَّخذ الإنسان خطوات حاسمة ليتحلى بالتَّواضع الذي هو أعظم جانب من الأهميَّة في أعين الرَّبّ (2 قورنتس 12: 7). ولخصت القديسة تريزا الطِّفل يسوع كيفيَّة العيش الطُّفولة الرُّوحيَّة بهذه الخاطرة: "الكمال يبدو لي سهلًا: يكفي الإنسان أن يَقرّ بعدمه وأن يُلقي بنفسه مثل طفل بين ذراعيّ الله".
الخلاصة
يجمع النَّص الإنجيلي (مرقس 9: 30-37) بين التبشير بآلام المسيح وموته وقيامته وبين الدعوة للتواضع وخدمة الآخرين كطريقة للعيش بحسب تعليم المسيح. أعلن يسوع للمرة الثانية عن آلامه وموته، لكن تلاميذه لم يدركوا كلامه بل كانوا يناقشون حول من هو الأعظم، منهمكين بالمنصب. فعلَّمهم يسوع أن الرِّئاسة خدمة الخدمة تقوم على التَّواضع، والرُّؤساء خدام الشَّعب.
دعم يسوع قوله بالعمل، لكي يثبت مصداقيَّة مفهومه، حينما قام بمبادرة عملية مبيِّنًا مفهـوم السُّلطـة لديه، حينما غسـل أرجـل تلاميـذه خـلال عشاءه الفصحـي الأخيـر (يوحنا 4: 12-13)؛ وسبـق وقـال: "إن ابنُ الإِنسانِ لم يأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفسِه جَماعَةَ النَّاس" (متى 20: 28). وطلـب من رسلـه أن يقتـدوا به قائلًا " أَنتُم تَدعونَني ((المُعَلِّمَ والرَّبّ)) وأَصَبتُم فيما تَقولون، فهكذا أَنا. فإِذا كُنتُ أَنا الرَّبّ والمُعَلِّمَ قد غَسَلتُ أَقدامَكم، فيَجِبُ علَيكُم أَنتُم أَيضًا أَن يَغسِلَ بَعضُكم أَقدامَ بَعْض فقَد جَعَلتُ لَكُم مِن نَفْسي قُدوَةً لِتَصنَعوا أَنتُم أَيضًا ما صَنَعتُ إِلَيكم" (يوحنا 13: 13-15).
قدّم يسوع لنا الطِّفل مثال التَّواضع والخدمة "مَن أَرادَ أَن يَكونَ كَبيرًا فيكم، فَلْيَكُنْ لَكُم خادِمًا" (مرقس 43:10). "إِذا دُعيتَ إِلى عُرْس، فلا تَجلِسْ في المَقعَدِ الأوّل، فَلرُبَّما دُعِيَ مَن هو أَكرَمُ مِنكَ، فَيَأتي الَّذي دَعاكَ ودَعاه فيقولُ لَكَ: أَخْلِ المَوضِعَ لِهذا. فتَقومُ خَجِلًا وتتَّخِذُ المَوضِعَ الأَخير. ولكِن إِذا دُعيتَ فامَضِ إِلى المَقعَدِ الأَخير، واجلِسْ فيه، حتَّى إِذا جاءَ الَّذي دَعاكَ، قالَ لكَ: قُمْ إِلى فَوق، يا أَخي. فيَعظُمُ شَأنُكَ في نَظَرِ جَميعِ جُلَسائِكَ على الطَّعام. فمَن رفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَه رُفِع" (لوقا 8:14).
دعاء
أيها الآب السَّماوي، نسألك باسم يسوع، أن تحررنا من روج الصمت السلبي وتحفظنا من المطامح، ومن روح العَالَم والكبرياء، وان تمنحنا روح الطُّفولة لكي نفهم معنى درب التَّواضع والخدمة والتَّفاني، فنكون حقًا تلاميذ المسيح المقرَّبين لدي المسيح وملكوته السَّماوي. يا يسوع الوديع والمتواضع القلب، اجعل قلبنا مثل قلبك.